الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي وما منعنا من إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك، ولاستحقوا العذاب المستأصل. لأن سنة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية، فأجيب إليها، ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال. وذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا: ناقة صالح لأن آثار هلاك ثمود معروفة معلومة. فقال وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ باقتراحهم مُبْصِرَةً أي آية بينة فَظَلَمُوا بِها أي فكفروا بها، فنزل بهم ما نزل وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً إن أريد بالآيات ما يقترحه الكافرون يكون المعنى: لا نرسلها إلا تخويفا بين يدي نزول العذاب العاجل، كالطليعة والمقدمة، فإن لم يتعظوا وقع عليهم، وإن أريد بالآيات ما يحدثه الله عز وجل من حوادث كالزلازل وغيرها يكون المعنى: أنه تعالى يفعل ما يتعظ به الآخرون وينزجرون. وقد ذكر ابن كثير أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه. وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات فقال عمر: أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وإن أريد بالآيات ما يظهره الله على يد رسله كالمعجزات يكون المعنى: وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة.
كلمة في السياق:
بدأ المقطع بقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا
…
وسار المقطع كما رأينا حتى قال: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا .... فإذا نظرنا إلى مقدمة المقطع، وهذه الآية، عرفنا أن هذا القرآن كاف في إقامة الحجة، ومن نفر منه فإن شيئا ما لن ينفعه، وأن الخوارق التي يظن بعض الناس أنها لو كانت لأثرت في إيمان هؤلاء النافرين لا تؤثر؛ لأن مسألة الكفر والإيمان أكبر وأعقد مما يتوهمه المتوهمون، ومن ثم يذكّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بموضوعين كل منهما مبدوء بقوله تعالى: وَإِذْ أي واذكر إذ ..
1 -
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك
أحاط بالناس علما وقدرة فكلهم في قبضته فلا تبال بهم، وامض لأمرك، وبلغ ما أرسلت به، ولا تلتفت إلى إبائهم ونفورهم وكلامهم. قال ابن كثير في الآية:(يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرّضا له على إبلاغ رسالته، ومخبرا بأنه قد عصمه من الناس؛ فإنه القادر عليهم، وهم في قبضته، وتحت قهره وغلبته). فالإشارة إلى إحاطة الله علما بالناس إشارة إلى عدل الله في الهداية والإضلال، وإشارة إلى ضرورة التبليغ لتقوم الحجة، وإشارة إلى التوكل مع التبليغ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما فيها قال:(هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به) وهكذا فسّر ذلك بليلة الإسراء مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد، وغير واحد. وقوله تعالى إِلَّا فِتْنَةً أي إلا اختبارا وامتحانا. ونحن نعلم أن ناسا رجعوا عن دينهم بسبب حادثة الإسراء والمعراج بعد ما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحتمل قلوبهم وعقولهم ذلك. فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا لآخرين. وكما جعل الله الإسراء فتنة وابتلاء واختبارا فكذلك جعل ذكر شجرة الزقوم في القرآن. ومن ثم قال:
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ أي جعلناها فتنة للناس، فإنهم حين سمعوا بقوله إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ (الدخان: 43) جعلوها سخرية فكيف ينبت في النار الشجر، كأنهم يعجّزون القدرة الإلهية عن ذلك. قال أبو جهل سخرية:(هاتوا لنا تمرا وزبدا، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا) وإنما وصفت الشجرة بأنها ملعونة إما لأن الملعونين يأكلونها، أو لأن العرب تقول لكل طعام مكروه ملعونا. أو لأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان
من الرحمة وَنُخَوِّفُهُمْ أي ونخوف الكافرين بالوعيد والعذاب والنكال فَما يَزِيدُهُمْ أي التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي إلا تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال وذلك من خذلان الله لهم. قال النسفي: فكيف يجاب قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟ فكأنه ربط بين هذه الآية وما قبلها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً
وهكذا اتضح أن موضوع الهداية والضلال موضوع بعيد الغور فالله عز وجل يبتلي الناس بأنواع من الابتلاءات ليتمحص الإيمان الصافي وأهله، والله عز وجل أعلم إذ يهدي ويضل، والكافرون لا يستفيدون من شئ، والله محيط بكل شئ، ولنلاحظ
الصلة بين الآية التي هي مقدمة المقطع: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً ونهاية هذه الآية فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فلا القرآن ينفعهم، ولا الآيات تنفعهم، ولا ما يحدث حولهم ينفعهم. فموضوع الهداية والضلال ترتبط به أمور وأمور، والله هو المحيط علما بكل شئ ثم يأتي الموضوع الثاني المبدوء بكلمة إذ.
2 -
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ أي واذكر إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أبى أن يسجد افتخارا على آدم واحتقارا له قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي أأسجد له وهو طين، أي وأصله طين
قالَ الشيطان أَرَأَيْتَكَ أي أخبرني هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي فضّلته، لم كرّمته علي وأنا خير منه. فحذف ذلك اختصارا لدلالة ما تقدم عليه لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستولينّ عليهم ولأضلنهم ولأستأصلنهم بإغوائهم إِلَّا قَلِيلًا وهم المخلصون، وإنما علم الملعون ذلك إما بالإعلام أو لأنه رأى أنه خلق شهواني، أو لأنه رأى أنواعا من مثله على الأرض من قبل فاستدل بفعلهم على احتمالات ما يفعلونه
قالَ اذْهَبْ أي امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية، ثم أعقبه بذكر ما جرّه سوء اختياره فقال: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً أي وافرا موفرا عليكم، لا ينقص لكم منه شئ
وَاسْتَفْزِزْ أي استزلّ واستخف مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي: بوسوستك، وكل داع يدعو إلى معصية الله فهو صوت للشيطان يتكلم بلسانه وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي وصح عليهم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي بكل راكب وماش من أهل الفساد. أي واحمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجالتهم ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه قال ابن كثير: وهذا أمر قدري وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أما المشاركة فى الأموال فيدخل في ذلك جمعها من خبث، وإنفاقها في حرام. ويدخل في ذلك ما حرموه من أنعامهم من البحائر والسوائب، ويدخل في ذلك ما ابتدعوه من أنظمة كافرة في شئون المال. وأما المشاركة في الأولاد فيدخل فيه كل مولود ولدته أنثى عصي الله فيه بتسميته بما يكرهه الله. أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو بقتله، أو بوأده. فكل ما عصي الله فيه أو به، أو أطيع الشيطان فيه أو به، فهو مشاركة وَعِدْهُمْ أي المواعيد الكاذبة: من شفاعة الآلهة، والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وإيثار العاجل على الآجل، وجعلهم يعيشون على الآمال الكاذبة
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً الغرور هو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي: يد بتبديل الإيمان، ولكن بتسويل العصيان وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي حافظا ومؤيدا ونصيرا، يتوكل عليه المؤمنون فيحفظهم. فمن تحقق بالعبودية لله، وتوكل على الله، نجا من سلطان الشيطان.
وبهذا تكون قضية الإضلال والهداية قد توضحت بعض جوانبها في هذا السياق. ولم يبق عندنا من المقطع إلا خاتمته، التي فيها تذكير، ومعالجة للنفور، وتعريف على الله، وتذكير بعقوباته وقهره، وإقامة حجة على وحدانيته، ووجوب إفراده بالعبادة، وهي معان تأتي على نسق واحد مع معاني المقطع.
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي أي يجري ويسيّر، إما بالرياح، وإما بالآلات، وكلها خلقه لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني الرزق والربح إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم، ورحمته بكم، فهذا يقتضي منكم شكرا وإسلاما، لا كفرا وعصيانا
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أي إذا أصبحتم في وضع تخافون فيه الغرق في البحر ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ أي ذهب عن أوهامكم كل من تدعونه في حوادثكم إلا أياه وحده، أو ضل من تدعونه من الآلهة عن إغاثتكم، ولكن الله وحده الذي ترجون هو الذي يجيب، فإذا كان الأمر كذلك فكيف تشركون به، وتدعون معه غيره اعتقادا وسلوكا وتعاطفا ومودة؟ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي عن التوحيد والإخلاص بعد الخلاص، أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له، وعبادته وحده دون غيره وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي للنعم أي سجيته هذه، ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً الحاصب: هي الريح ترمي بالحصباء أي الحجارة. والمعنى: أفحسبتم بخروجكم إلى البر أنكم أمنتم من انتقامه وعذابه، والأقطار كلها في قدرته سواء، وله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب من أسباب الهلاك، فليس جانب البحر وحده مختصا به، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر الخسف: وهو تغييب تحت التراب، والغرق تغييب تحت الماء، وإن لم يصبكم الهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الهلاك. فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان. ثم قال تعالى: ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي ناصرا يرد ذلك عنكم،