الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو استمرار لإسلام إبراهيم عليه السلام.
2 -
الإسلام دعوة عالمية وتحاربه قوى كافرة، فما هي آداب الدعوة إلى الإسلام؟ وما هو أدب العقوبة إذا عاقبنا؟ وما هي خصائص الدعاة؟.
3 -
إن الله يأمر بالعدل ويأمر بالإحسان، ما هو المثل لذلك؟ فإذا وجدنا أن هذه المعاني تتعرض لها المجموعة الأخيرة من هذا القسم أدركنا صلة هذه المجموعة بقسمها.
وأدركنا صلة هذه المجموعة بالمحور فتدبّر الآن تفسير المجموعة.
التفسير:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي إنه كان وحده أمة من الأمم؛ لكماله في جميع صفات الخير قانِتاً لِلَّهِ أي خاشعا مطيعا حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان إلى ملة الإسلام وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نفى عنه الشرك تكذيبا لكفار قريش لزعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ أي اختصه واصطفاه للنبوة وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى الإسلام لله وحده بالعبادة والشريعة
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج إليه في إكمال حياته الطيبة، من نبوة وأموال وأولاد، وذكر حسن، وخلود على ألسنة أهل التوحيد، وقبول في قلوب الناس جميعا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي لمن أهل الجنة.
هذا هو النموذج للمسلم الكامل، وما أعطاه الله نموذج للحياة الطيبة التي وعدها عباده الصالحين.
هذا النموذج مستجمع لخصال الخير: خاشع، مطيع، مائل عن كل دين إلا دين الإسلام، موحّد، شاكر للنعمة، مستقيم على صراط الله، صالح، وجزاؤه الحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء الحسن في الآخرة.
هذا هو النموذج الكامل للمسلم، والنموذج الكامل للدخول في الإسلام كله، ومن ثم جعله الله قدوة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كذلك من إكرامه في الدنيا ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال ابن كثير: أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً .. وقال النسفي: في (ثم) تعظيم منزلة نبينا عليه الصلاة والسلام
وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة اتباع رسولنا ملته.
وإذن فالنموذج للمسلم الكامل إبراهيم عليه السلام، وبعثة رسولنا عليه الصلاة والسلام إنما هي تجديد لدين إبراهيم، وإحياء له في التوحيد والقدوة، ولما كان عند اليهود (عقدة السبت) لدرجة أنهم يرفضون أي دين لا يعظم السبت، ويعتبرون عدم تعظيم السبت علامة على بطلان أي دين، بيّن الله عز وجل في هذا المقام هذا الموضوع، واختيار هذا المقام لتبيان هذا الموضوع؛ لأن إبراهيم لم يكن جزءا من عمله تعظيم السبت، ولأن هذا المثال نموذج على ما يمكن أن يجادل فيه بعض الخلق، والأمر اللاحق هو توجيه حول قضية الدعوة والجدال فيها. فمجيء هذا الموضوع في هذا المقام مفهوم الحكمة، وهو بيان لموقف الإسلام من السبت. فليس السبت جزءا من إسلامنا، ولا من شريعتنا، ولا مما أمر الله به أمتنا.
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي فرض عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي على اليهود، وهل اختلافهم فيه سابق على فرضيته أو بعد فرضيته بأن حفظه بعضهم وضيعه آخرون، أو الاختلاف فيه هو بعد بعثة المسيح عليه السلام؟ أقوال، وفي كل الأحوال يكون المعنى إنما فرض السبت على بني إسرائيل، ويدخل فيه أن بعضهم عظمه وبعضهم لم يعظّمه، كما فعلت القرية التي مسخ الله قسما من أهلها. ويمكن أن يكون المراد- والله أعلم- أن الله ألزمهم بيوم يعظمون الله فيه، واختار لهم الجمعة دون إلزام، فطرح بعضهم فكرة السبت، فرفضها قوم وقبلها آخرون، فألزمهم الله إياها، وسنتعرض للموضوع في الفوائد وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إن كان في التعظيم وعدمه، فيكون المعنى: وهو يحكم بينهم يوم القيامة، فيجازي كل واحد من الفريقين بما هو أهله، وإن كان في اليوم المفضّل فإن المعنى: أن الله سيبين للجميع أن اليوم المفضّل عنده هو الجمعة.
ثم يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وارث ملة إبراهيم عليه السلام. الداعية إلى الإسلام، وهو خطاب لكل فرد من أمته يعلّمه كيفية الدعوة إلى الإسلام: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ قال النسفي: إلى الإسلام بِالْحِكْمَةِ أي بالمقالة الصحيحة المحكمة، وهو الدليل الموضح للحق، المزيل للشبهة، أو بالخطاب المناسب لكل إنسان بحسبه وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ قال ابن كثير:
أي بما فيه (أي القرآن) من الزواجر والوقائع بالناس، وذكّرهم بها ليحذروا بأس الله.
وقال النسفي في تفسير الموعظة الحسنة: وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها، وتقصد ما ينفعهم فيها.
وقد يكون المراد بالحكمة والموعظة الحسنة القرآن. أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وقد يراد بالموعظة الحسنة أن يخلط الرغبة بالرهبة، والإنذار بالبشارة وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، وهو ردّ على من يأبى المناظرة في الدين ولكن من يستطيع مثل هذا المقام في الجدال؟؟ وهو التزام الطريقة الحسنى فيه، رفقا ولينا بما يعظ النفوس، ويوقظ القلوب، ويجلو العقول، والجدال غالبا ترافقه إثارة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم، إنما أنت نذير عليك البلاغ، وعلينا الحساب، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، ولمّا كانت الدعوة إلى الله تقابل في كثير من الأحيان بالإيذاء قال تعالى:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي إن صنع بكم صنيع سوء: من قتل، أو نحوه، فقابلوه بمثله، ولا تزيدوا عليه وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ أي ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فالمماثلة في استيفاء الحق عدل، والصبر إحسان،
ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي مقامه دائما الإحسان وَاصْبِرْ هذا عزم من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر ليدلل أن مقام الصبر هو الأرقى وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بتوفيقه وتثبيته، هذا إخبار منه تعالى بأن الصبر لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته وقوّته وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكفار إن لم يؤمنوا، أو على من خالفك؛ فإن الله قدّر ذلك، أو على المؤمنين وما فعل بهم، فإنهم وصلوا إلى مطلوبهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أي في غمّ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي من مكرهم.
والمعنى: ولا يضيقن صدرك من مكرهم، فإنه لا ينفذ عليك مهما أجهدوا أنفسهم في عداوتك، وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك، ومؤيدك ومظهرك، ومظفرك بهم. وهذا كله مفهوم من الآية الأخيرة
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي معهم بتأييده ونصره، ومعونته وهديه، وهذه معيّة خاصة، والذين اتقوا: هم الذين يجتنبون المحرمات. والمحسنون: هم الذين يفعلون الطاعات، فهؤلاء الله وليّهم، فهو ولي من اجتنب السيئات، وفعل الطاعات، وقد قالوا: من اتقى في أفعاله، وأحسن في أعماله، كان الله معه في أحواله. ومعيته: نصرته في المأمور، وعصمته من المحظور.
وواضح أن الآيات الأخيرة قد وضعت دستورا للدعوة والدعاة، وقد تحدث صاحب الظلال في أجواء هذا الدستور فقال:
(إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله. لا لشخص الداعي ولا لقومه. فليس للداعي من دعوته إلا أن يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.
والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها. فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة، فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة. ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
وبالجدال بالتي هي أحسن. بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له ولا تقبيح حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما يختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها.
والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها. في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر.
ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين. فلا ضرورة للّجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله.
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل
بالحجة. فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازا لكرامة الحق، ودفعا لغلبة الباطل، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع، فالإسلام دين العدل والاعتدال، وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.
فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في أنفس الناس. والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد ولا يثق أنها دعوة الله. فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله، والعزة لله جميعا. ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون، ويعتدى عليهم فلا يردون؟!.
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل، فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر، حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، في الحالات التي قد يكون العفو فيها الصبر أعمق أثرا، وأكثر فائدة للدعوة. فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر. فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها، فالقاعدة الأولى هي الأولى.
ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال، وضبط للعواطف، وكبت للفطرة، فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ* وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ.
فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس، والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره.
ويوصي القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي وصية لكل داعية من بعده- ألا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون، فإنما عليه واجبه يؤديه، والهدى والضلال بيد الله، وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال. وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله، فالله حافظه من المكر والكيد، لا يدعه للماكرين الكائدين، وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه).