الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فتلك نعمة من أجلّ نعمه تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي لدلالة واضحة على الله وقدرته وعنايته لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي يفهمون الكلام ومعناه، ويسمعونه سماع إنصاف وتدبّر، لأنّ من لم يسمع بقلبه فكأنه لا يسمع
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ أي في الإبل والغنم والبقر والماعز لَعِبْرَةً أي لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي بطون النعم مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ أي فضلات وَدَمٍ لَبَناً أي نسقيكم من بين هذا وهذا لبنا خالِصاً لا أثر فيه لدم ولا فرث، لا في اللون ولا في الطعم ولا في الرائحة سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في الحلق، وفي هذه الآية معجزة عظيمة زائدة على الإعجاز العام في القرآن، سنراها في الفوائد، ولما ذكر الله نعمته على خلقه باللبن وكونه شرابا سائغا ثنّى بتذكير الناس بما يتخذونه من أشربة مما خلق، والفعل فعله، من أجل أن يحرّك في أنفسهم الشعور بنعم
الله
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ أي من عصيرها تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً أي خمرا وَرِزْقاً حَسَناً كالخل والدبس والنقيع، وفي الآية كلام كثير سنراه في الفوائد إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي لدلالة واضحة على الله الذي خلق لهذا الإنسان ما خلق، ولكن هذه الآية يدركها أصحاب العقول، لذلك قال: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وناسب ذكر العقل هاهنا لذكر السكر الذي حرّمه الله على هذه الأمة صيانة لعقولها.
ثم ذكّر الله تعالى بآية أخرى ونعمة أخرى وَأَوْحى رَبُّكَ أي ألهم وهدى وأرشد إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً تأوين إليها وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي مما يعرش الناس، أي يرفعون من سقوف البيوت، أو ما يبنون للنحل من الأماكن التي تعسل فيها
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي وألهمها أن كلي من كل الثمرات فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ: أي فإذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل الله لا تضلين فيها ذُلُلًا أي مذللة لك أي مسهّلة عليك، فهي ترعى حيث شاءت ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ هو العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ منه أبيض وأصفر وأحمر، وخروجه من بطونها يكون عن طريق فمها فِيهِ أي في العسل شِفاءٌ لِلنَّاسِ لم يقل فيه الشفاء للناس لأنه ليس شفاء من كل داء، بل فيه شفاء للناس من أدواء تعرض لهم، وقد ألفت المؤلفات الكثيرة، شرقية وغربية في العسل كدواء كما سنرى في باب الفوائد إِنَّ فِي ذلِكَ أي في مجموع ما مرّ من هداية النحل، إلى الشفاء بما يخرج منه لَآيَةً ولكن لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أما الذي لا يتفكر فإنه قد أعمته الألفة عن رؤية الآية فلم يعد يشعر بما تدلّ عليه، ثم قال تعال:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ فتذكروا نعمته عليكم في ذلك ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ فاعرفوه بصفة الإحياء والإماتة وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي إلى أخسه وأحقره وهو الهرم لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي لينسى ما يعلم، أو لئلا يعلم زيادة علم على علمه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عليم بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل، أو إلى الإفناء من الإحياء، قدير على تبديل ما يشاء كما يشاء من الأشياء، بعد أن ذكّرهم في الآيات السابقة على هذه الآية بمجموعة من نعمه عز وجل ذكّرهم هنا بكمال قدرته وتصرفه، وعجزهم وقهرهم تحت سلطانه؛ ليدركوا افتقارهم في كل حال إليه، فهم مفتقرون إلى نعمه، مفتقرون إليه، ثم قال تعالى
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ رزق هذا أكثر من هذا، وجعل هذا مالكا وهذا مملوكا، وهذا لا يملك شيئا.
وسنرى حكمة ذلك في باب الفوائد فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي فما الذين فضّلوا بالرزق- وهم الملّاك- برادي رزقهم أي: بمعطين رزقهم لمملوكيهم فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فيستووا مع عبيدهم في الرزق، أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ هذه حجتهم وفلسفتهم ذكرها الله عز وجل في عدم رد ما فضلوا به على مماليكهم أنهم لو فعلوا لجحدوا نعمة الله عليهم الذي فضّلهم على غيرهم، وبهذا أقام الله الحجة على المشركين فهو مثل ضربه الله لهم معناه: أنتم لا ترضون أن تسووا بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء، وتعتقدون أنني راض عن ذلك. والآية تحتاج إلى كلام كثير سنراه في الفوائد.
وهكذا بدأت هذه المجموعة بالتذكير بنعم الله ثم بالتذكير بقهره، ثم بإقامة الحجة على المشركين لتحرير التوحيد، والآن تعود للتذكير بالنعمة، وتقرير التوحيد بآن واحد
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً.
قال ابن كثير: «يذكر الله تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم. ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا، وجعل الإناث أزواجا للذكور، ثم ذكر الله تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة: وهم: أولاد البنين) وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي من المطاعم والمشارب، وهذا من كمال نعمته عليكم، وإذ كان الأمر كذلك فكيف تشركون. ومن ثم قال: أَفَبِالْباطِلِ الباطل هو الشئ الذي لا حقيقة له يُؤْمِنُونَ أي يصدّقون وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ التي يحسونها ويتنعّمون بها يَكْفُرُونَ يضيفونها إلى غيره ولا ينسبونها إليه، وهذا دأب المشركين خلال العصور، ومن ذلك ملاحدة عصرنا الذين يخلعون على الطبيعة خصائص الإلهية، ويجعلونها هي الخالقة الرازقة.
وبعد أن ذكّر الله بنعمه، وأقام الحجة على المشركين أخبر عن المشركين، وماذا يفعلون؟ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً فالله هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده، وغيره لا يملك أن يرزق أدنى شئ وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي لا يملكون الرزق، ولا يمكنهم أن يملكوه، ولا يتأتى ذلك منهم، ومن كان كذلك فكيف يعبد؟ ولا شك أن الذين يعبدون من دون الله ما يعبدون
يفلسفون ذلك ويموّهونه، ويحاولون تقريبه إلى الأذهان بضرب الأمثال. ولذلك قال تعالى:
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره، ثم ضرب الله مثلين لإبطال شركهم وإقامة الحجة عليهم.
المثل الأول: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ أي مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرّف، وبين حر مالك قد رزقه الله مالا فهو يتصرف فيه وينفق منه ما يشاء، فهل يستوي هذا مع هذا؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهرا واضحا بيّنا لا يجهله إلا غبي، قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ بأن الحمد والعبادة لله. قال مجاهد عن هذا المثل: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى فهل يستوي هذا وهذا؟
المثل الثاني: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ الأبكم: هو الذي ولد أخرس فلا يفهم ولا يفهم وَهُوَ كَلٌّ أي ثقل وعيال وكلفة عَلى مَوْلاهُ أي على من يلي أمره ويعوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ أي يبعثه لا يَأْتِ بِخَيْرٍ فلا تنجح مساعيه، فحيثما يرسله ويصرفه في مطلب أو حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجاح هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي ومن هو سليم الحواس نفّاع ذو كفايات، مع رشد وديانة، فهو يأمر الناس بالعدل والخير وَهُوَ أي في نفسه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على سيرة صالحة ودين قويم، وهذا مثل آخر للوثن وللحق تعالى، يعني: أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء، ولا يقدر على شئ بالكلية، فلا مقال ولا فعال، وهو مع هذا كلّ على من يتولاه، والله عز وجل يفيض على عباده من آثار رحمته، فينزل وحيا ويرسل رسلا، وينزل كتبا تعرّف الناس على العدل الخالص، وله الصفات العليا والأسماء الحسنى، فكيف يشرك المشركون؟ ولمّا كان هذان المثلان قد ذكرا من باب تقريب المعاني إلى الأذهان، وقد يترتب عليه في الأذهان الكليلة تصور لا يليق بالعظمة، أتبع الله ذلك بآية تتحدث عن عظمة الله بما يخلع القلوب
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه وَما أَمْرُ السَّاعَةِ في قرب كونها، وسرعة
قيامها، مع أنها تغيير لنظام الكون كله إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أي إلا كرجع طرف أو الأمر أقرب من ذلك. وفسر بعضهم (أو) هنا بمعنى بل. والمعنى بل أمر الساعة
أقرب من لمح البصر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق، وهذا بعض مقدوراته. أخبر تعالى بذلك عن كمال علمه في علمه غيب السماوات والأرض، واختصاصه بعلم الغيب، فلا اطّلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء، وعن كمال قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع، وأنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
ثم يعود السياق إلى تعداد نعم الله.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ فهذه وسائل الإدراك لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أنه جل جلاله ركّب فيكم هذه الأشياء لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه، واجتلاب العلم الذي يوصل إلى شكر المنعم، وعبادته والقيام بحقوقه، فماذا فعل الناس فيها؟ استعملها الكثيرون فأفادتهم، ولكن لم يحققوا بها ما خلقت له، وهو الوصول إلى الشكر، والقليل هم الذين شكروا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (سبأ: 13)
ثم لفت نظرهم إلى آيات من آيات الله أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ أي مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك فِي جَوِّ السَّماءِ أي في هواء السماء والمراد بها السماء لغة وهي جهة العلو ما يُمْسِكُهُنَّ في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إِلَّا اللَّهُ بقدرته فإنه الخالق لكل شئ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فالمؤمن هو الذي يرى آيات الله في هذه الظاهرة
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً السكن:
هو الذي يسكن إليه الإنسان، وينقطع إليه من بيت أو إلف لما يسببه له ذلك من سكينة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً المراد بذلك قباب الجلود وهي معروفة قديما، ويدخل في ذلك بيوت الشعر كذلك، لأنها من جلود الأنعام تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل، والظعن: الارتحال.
منّ الله عليهم بالخيام التي يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها في إقامتهم في السفر والحضر، ومن ثم قال: وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أي قراركم في منازلكم، والمعنى أنها خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر وَمِنْ أَصْوافِها أي أصواف الغنم وَأَوْبارِها أي وأوبار الإبل وَأَشْعارِها أي وأشعار المعز أَثاثاً أي متاعا