الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (1) دل ذلك على أن العلم ينبغي الاستزادة منه. وقال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2)، دل ذلك على فضل العلم وأهله، كما أن الآية حددت نوعاً من أنواع العلوم التي ينبغي الاستزادة منها وطلب الزيادة وهو العلم بالله وصفاته ووحيه وقال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3). دل ذلك على فضل العلم وأهله كما دل على نوع العلم الذي تطلب الاستزادة منه وطلب الزيادة وهو العلم الذي تعقبه الخشية من الله تعالى وأول ذلك العلم بالكتاب والسنة، فهما العلم الذي جاءنا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ففسروا المراد بالعلم الذي يعقب خشيةً من الله وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (4)، دل ذلك على أن أهل العلم هم الذين يفضلون الآخرة على الدنيا، ويقومون بواجب النصيحة للخلق.
وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (5)، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (6).
دل ذلك أن العالم هو الذي رأى أن القرآن هو الحق وأنه يهدي إلى صراط الله، وأنه هو الذي يرى بقلبه أن القرآن معجزات واضحات.
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (7) أي ويرفع الذين أوتوا العلم درجات على غيرهم، فدل ذلك على فضل العلم، وقال تعالى:
(1) طه: 114.
(2)
آل عمران: 18.
(3)
فاطر: 28.
(4)
القصص: 80.
(5)
سبأ: 6.
(6)
العنكبوت: 49.
(7)
المجادلة: 11.
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1). دل ذلك على أن طلب العلم وتعليم العلم جهاد.
وقال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (2) أطلق الدراسة وقيد التعليم للإشعار بأن دراسة الرباني متعددة وأن محل تركيزه في التعليم ينبغي أن يكون على القرآن.
* * *
إن علوم الدنيا يشترك فيها البر والفاجر، وقد يزيد الرجل العادي في علوم الدنيا على أهل العلوم الربانية.
3 -
* روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، فالعلم الذي يتمحض للدنيا من مثل معرفة قوانين الكون المادية، ومن مثل الخبرة بالصناعة والتجارة والزراعة والسياسة الدنيوية المحضة والحياة الاقتصادية المحضة يشترك فيه البر والفاجر وهو مطلوب من المسلمين كفروض كفائية وقد يتقن الكافر في هذه الشؤون ما لا يتقنه المسلم.
وقد أثبت الله للكافرين في هذه الشؤون علماً فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (3){فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} (4).
دل ذلك على أن العلم الذي حضَّ عليه الإسلام بشكل أولي هو العلم الشرعي ومع أن العلوم الدنيوية فروض كفائية لكن المسلم يأخذها غير غافل عن الآخرة، وغير مهمل للعلوم الشرعية.
(1) التوبة: 122.
(2)
آل عمران: 79.
3 -
رواه مسلم في صحيحه، 43 - كتاب الفضائل (4/ 1836) 38 - باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره من معايش الدنيا.
(3)
الروم: 7.
(4)
النجم: 29: 30.
نقول هذا ليُعلم أن الإسلام فيه حضٌّ على العلوم الدنيوية المرتبطة بالآخرة، ولكن عامة نصوصه تحضُّ على العلوم الشرعية لأنها هي الجانب الذي هو محل الغفلة من الناس وهي الجانب الذي هو محل التكليف العيني في حق كل إنسان، ومع أن بعض العلوم الشرعية من باب فروض الكفايات ولكن هذه الفروض تختلف عن غيرها من فروض الكفايات الدنيوية بأنها لابد منها لإقامة الدين وإيصال فروض العين لكل مسلم.
* * *
إنه لا يقوم الإنسان بحمل الأمانة التي تَحمّلها وحُمِّلها، وهي القيام بالتكليف الإلهي إلا بالخروج من الجهل والظلم، وذلك لا يكون إلا بالعلم والعدل، وإنما بُعث الرسل عليهم الصلاة والسلام ليعلموا الإنسان وليزكوه فيتحقق بالعلم وبالعدل.
فكما أنه بالميزان يقوم الناس بالقسط، فكذلك يقوم بالقرآن القسط، وهكذا فالطريق للعدل هو العلم، وبذلك يخرج الإنسان من الظلم والجهل، والعلم الذي يخرج به الإنسان من الظلم والجهل هو العلم الذي بُعث به الأنبياء ويتمثل في الرسالة الخاتمة: بالكتاب والسنة وما ينبثق عنهما وما يخدمهما ويدخل في ذلك علوم اللغة العربية وأصول الفقه وعلوم القرآن وعلوم السنة والفقه والعقائد والأخلاق.
(1) الأحزاب: 72.
(2)
البقرة: 151.
(3)
الحديد: 25.
والعلم في الإسلام على ستة أحوال:
فريضة وواجب وسنة ومندوب ومكروه وحرام.
والفريضة نوعان عينية وكفائية، ومن الفروض العينية معرفة الإسلام إجمالاً ومعرفة ما يجب على الإنسان تطبيقه منه تفصيلاً وما يستلزم ذلكن ومن الفروض الكفائية كل العلوم التي تحتاجها إقامة الدين والدنيا، والواجب من العلوم هو ما كان دون الفريضة وفوق السنة، كحفظ شيء من القرآن زائد على ما هو فرض، والمسنون من العلوم هو علم الكتاب والسنة حفظاً وفهماً، والمندوب هو التبحر في كل علم مفروض كفاية أو عيناً، والمكروه من العلوم ما أدى إلى مكروه، ويدخل في ذلك كل ما يعتبر من اللغو الذي لا فائدة منه، والحرام من العلوم هو ما كان حراماً بعينه، كالسحر أو ما أدى إلى حرام.
والعَالِم الكامل هو من وَرِثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والعمل والحال والصفة والهيئة وقام بتعليم الكتاب والسنة وتزكية الأنفس.
والعلم الشرعي الأخروي هو علم الكتاب، وعلم السنة التي هي شارحة الكتاب، فالله عز وجل وصف كتابه بقوله:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (1) فهناك من أرجع الضمير في (إنه) على القرآن، فالقرآن هو علم الساعة، ومن ههنا كان علم الكتاب والسنة هو العلم الشرعي المطلوب وكذلك كل ما انبثق عنهما مما يحقق مقاصدهما ثم أحاط بذلك مما يخدمهما أو يفصّل في شيء عن مقاصدهما فهذا أشرف العلم عند أهل الآخرة، وأهله أفضل الناس وأشرفهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
4 -
* روى أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن العلماء ورثة الأنبياء
…
".
ولقد انعكس الأمر حتى عند بعض المتدينين لانتكاس القلوب والعياذ بالله.
(1) الزخرف: 61.
4 -
أحمد في المسند (5/ 196).
الترمذي (5/ 49) 42 - كتاب العلم، 19 - باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وهو حديث حسن.
والعلم مطلقاً هو معرفة كل شيء، فهو المقدمة لإقامة الدين أو لإعمار الدنيا وسياستها، وقد مر معنا أن في الإسلام علوماً مفروضة فرض عين على كل مسلم، وهي العلوم التي يطالب بها المسلم للقيام بحق التكليف الرباني عليه، وتختلف من شخص لشخص على حسب الطاقة والمسؤولية. والظروف التي يواجهها، وهناك علوم مفروضة فرض كفاية وهي كل علم اختصاصي مفيد تحتاجه إقامة الدين أو إعمار الدنيا على ضوء الدين، وهذا النوع من العلوم المفروضة فرض كفايةن تُطالب بها الأمة بمجموعها، بمعنى أن على الأمة أن تخرج من أبنائها مَنْ يغطون احتياجاتها في كل علم من العلوم المفروضة فرض كفاية وما أكثر ذلك، وإذا تعين مسلم للقيام بفرض من فروض الكفاية فقد أصبح هذا الفرض في حقه فرض عين فهو آثم إن لم يتعلمه، وأي علم فرطت فيه الأمة فإن الأمة بمجموعها تكون آثمة بسبب ذلك، ويسقط الإثم عمن يبذل استطاعته، ويتأكد الإثم في حق الذي يستطيع ولا يفعل أو لا يبذل جهداً في ذلك، ولعل أهم ما يجب أن ينصب عليه التخطيط للأمة الإسلامية هو أن نُحْصي فروض الكفاية في حق كل بلد وقرية، وفي حق كل قطر أو مجموعة أقطار وفي حق العالم الإسلامي، وفي حق الأمة الإسلامية جميعاً والمسلمين حيث كانوا، ويسار في سياسة تعليمهم لإقامة فروض العين وفروض الكفاية، نقول هذا للتأكيد على أن الإسلام قد حضَّ على العلوم الدينية والعلوم الدنيوية وطالب أهل ذلك أن يخلصوا في كل العلوم لله عز وجل، وعندئذ تصبح العلوم كلها أخروية.
* * *
ولكن من طبيعة العلوم الدنيوية أن ترى الناس مندفعين إليها وعاكفين عليها.
ثم إن العلوم الدنيوية ذات نفع محسوس وبالتالي فنها تغري وتخدع وتغر، ومن ثم انصبت النصوص على الحضِّ على العلوم الدينية حتى لا يظن الظان أن العلوم الدنيوية هي الأفضل، بل العلوم الدينية هي الأفضل، لأنه إذا قام الدين قامت الدنيا، وإذا لم يقم فلا دين ولا دنيا، فالدين الصحيح هو الذي تقوم به الدنيا قياماً سليماً لأنه هو الذي يحدد الفرائض وهو الذي يعلّم الناس أن يضعوا الأمور في مواضعها ويعرِّف الناس على صيغ العدل الكاملة وبدون ذلك لا تقوم دنيا.
- الشريعة الإسلامية هي التي تعلّ العدل الاجتماعي ولذلك فرضت الزكاة، وهي التي تقيم العدل القضائي ولذلك فرض القصاص، وهي التي تعاقب على أي اعتداء على المجتمع ولذلك شرعت الحدود.
والشريعة هي التي تقيم العدل في العلاقات الاقتصادية المتوازنة، ولذلك أجازت البيع وحرمت الربا، وهي التي تقيم العدل على مستوى الأسرة والمجتمع والحكم، وهي التي تقيم العدل في باطن الإنسان وظاهره، ومن تأمل الشريعة عرف أنها كلها عدل وأنه لا مطمع بإقامة عدل كامل إلا بها، والعدل مطلب يتطلع إليه كل سويّ.
والشريعة الإسلامية هي التي تحدد الفرائض المطلوبة من كل فرد على حدة، ومن الأمة بمجموعها ومن الإنسان والناس، والفرائض كثيرة منها الفرائض نحو الله ومنها الفرائض نحو الناس، ومنها فروض العين وفروض الكفاية، ومنها فروض يطالب بها ظاهر الإنسان ومنها فروض يطالب بها باطنه، وكل ذلك مرتبط بعضه ببعض.
والشريعة الإسلامية هي التي تعرّفك كيف تضع الأمور مواضعها فيتحقق الفرد بصفة الحكمة ويتحقق المجموع بهذ الصفة، فهي التي تعرّفك كيف تتعامل مع الآباء، وهي التي تعرّفك كيف تضع الأمور في مواضعها في قضايا الحكم والسياسة وقضايا العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وعلاقة الناس ببعضهم، ثم هي التي تعرّف قلبك كيف يكون على مقتضى الحكمة، وأخلاقك كيف ينبغي أن تكون، لذلك قلنا إنه إذا لم يقم الدين الحق فإن الدنيا نفسها تكون في حالة شقاء ومصداق ذلك في كتاب الله:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (1) ولذلك ولغيره كانت العلوم الدينية أشرف من العلوم الدنيوية، لأنه بها يقوم الدين والدنيا وهذا من حكمة الحضّ على التفقه في دين الله.
* * *
إن الدنيا بالنسبة للآخرة لا تساوي شيئاً، وإذا كانت الدنيا بالنسبة للآخرة هذا شأنها
(1) طه: 123، 124.
فالعلوم التي لا توصل الإنسان إلى النجاة في الآخرة لا تساوي شيئاً، ومن ههنا انصب التذكير والحض على تعلم العلوم الدينية، سواء كانت مفروضة فرض عين أو فرض كفاية، هذا مع أنه قد رأينا أن كل ما تحتاجه إقامة الدنيا على ضوء الشريعة هو من فرائض الكفاية التي تصبح في حق بعض الأشخاص فريضة عينية، لكنها مع ذلك تأتي في الدرجة الثانية.
* * *
وقولنا إن العلوم الدنيوية تأتي في الدرجة الثانية إنما هو في الشرف والفضل عند الله وعند أهل الإيمان، وليست بالضرورة في الأجر، فقد يؤجر الإنسان على إقامة فرض كفاية دنيوي أكثر بكثير من أجره على فرض كفاية ديني.
فمثلاً من فروض الكفاية الدينية تعلّم علم القراءات ومن فروض الكفاية في عصرنا تعلّم علوم الذرة ولو قدر أن بعض المسلمين توجهوا بإخلاص نحو هذه العلوم الكفائية الدنيوية وفتح الله عليهم بها، وترتب على ذلك أن وُجِدَ وضعٌ جديد قَويَ به الإسلامُ والمسلمون مع ضرورة كل من العلمين علم القراءات وعلم الذرة، ترى أن القائمين بفرض الكفاية هذين أكثر أجراً؟ ربما كا الثاني أعظم أجراً. إنه لا يبعد أن يكون القائم ببعض فروض الكفاية الدنيوية أكثر أجراً من القائم بفرض من فروض الكفاية في العلوم الدينية إذا صحت النيات، ولكن على العموم فعلوم الشريعة أشرف وأفضل وأكثر أجراً، وكلما كان العلم أقرب إلى اللب كان أفضل، ويتناقض كلما ابتعدنا عن الغايات إلى الوسائل مع أن الجميع فرض كفاية.
فالاختصاص والتبحر في علم الكتاب والسنة والفقه وأصوله أفضل من الاختصاص في علوم اللغة، مع أن علوم اللغة لابد منها لفهم الكتاب والسنة وإدراك كيفية استنباط الأحكام.
* * *
وعلى كل الأحوال سواء كان العلم فرض عين أو فرض كفاية وسواء كانت فروض الكفاية دينية أو دنيوية، فإذا صحت النية فإنَّ العلم من أفضل العبادات، لأنه في العلوم
الدينية شرط الوجود للعبادة والعبودية، كما أنه شرط صحة القبول، وهو في أمور الدنيا شرط الإتقان والإحكام والتطوير الصالح.
* * *
وإذا كانت إقامة الدين والدنيا من باب فروض الكفايات، فإنَّ التبحر في هذه العلوم مندوب إليه، كما نص على ذلك ابن عابدين - من فقهاء الحنفية - في حاشيته، وتأمل كيف أنه لو أحكمنا هذه الفكرة، فكرة إيجاد المختصين المتبحرين في كل علم ديني أو دنيوي كيف يكون حال المسلمين؟ ثم كيف يكون حال هذا العالم؟
* * *
وكما أن هناك فروضاً عينية وكفائية علمية، فهناك فروض كفائية علمية عملية، فالعلم يسبق العمل، وقد كنا حاولنا أن نبرز هذا المعنى وأن ندلل عليه في رسالة تحت عنوان:(فلنتذكر في عصرنا ثلاثاً) وكان مما ذكرناه في هذه الرسالة ما يلي:
من أهم الأفكار الموجهة للمسلم في حياته وللأمة الإسلامية في سيرها فكرة فروض العين وفروض الكفاية، فمن خلال استقراء لنصوص الشريعة، ومعانيها ومبانيها وروحها، وصل العلماء إلى أن الفروض قسمان: فروض عينية ويطالب بها كل مسلم، وفروض كفائية يطالب بها المسلمون ..
وكلا النوعين من الفروض ينقسم إلى قسمين: إلى فروض عملية، وفروض علمية:
فالصلاة مثلاً، لها جانب نظري علمي هو من باب فروض العين، وكذلك الجانب التطبيقي منها وهو من فروض العين وإتقان علم الطب فريضة كفائية وأن يقوم الطبيب المختص بالخدمة فرض كفائي آخر.
إن فهم فكرة فروض العين وفروض الكفاية من أهم ما يطالب به الفرد وتطالب به الأمة، لأنه بمقدار ما يستوعب المسلم ما هو مفروض عليه فرض عين، وبمقدار ما يستوعب فروض الكفاية التي تطالب بها الأمة ويعمل لإقامتها، وبمقدار ما تستوعب الأمة فروض
الكفايات وتعمل من أجل تحقيقها يقوم الإسلام قياماً كاملاً، وأي قصور في إقامة فروض العين وفروض الكفاية من الناحية النظرية أو العملية يترتب عليه ضرر للأمة وللأفراد.
إن بعض فروض العين له طابع الاستمرار والديمومة وقد تطرأ على أصل الحكم طوارئ بسبب العوارض، وبعض فروض العين يستجد بسبب من بعض المستجدات أو بسبب من بعض الظروف، وقل مثل ذلك في فروض الكفايات، فكثير من فروض الكفايات تطالب بها الأمة بسبب من مستجدات تحدث.
فمثلاً عندما تكون الفطرة سليمة والقلب صالحاً فإن ما يطالب به المسلم في باب تزكية النفس كفريضة عينية أقل مما يطالب به مسلم وجد في بيئة مريضة فوجدت بسبب ذلك أمراض نفسية عنده، مثل هذا فريضة العين في حقه نظرياً وعملياً تختلف عن الإنسان الأول، وفروض الكفاية في بيئة بدوية تختلف عن فروض الكفاية في بيئة مدنية، وفروض الكفاية في عصر الطيران والذرة والكهرباء تختلف عن عصر آخر .. ومن ههنا فإن فهم فروض العين وفروض الكفاية في كل عصر وبيئة مهم لأهل كل عصر وبيئة.
ولنبدأ الموضوع من أوله:
لحظ العلماء أن هناك نصوصاً تتحدث عن فرائض يطالب بها الفرد من مثل:
5 -
* ما رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، ومن مثله قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (1) فقد أكدت المطالبة الفردية بذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2) بينما هناك فرائض لا يمكن أن ينفذها كل فرد فهي مطلب تطالب به الجماعة ككل من مثل قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} (3) فقد ذكر في هذه السورة بعض الحدود، وبالضرورة العقلية فإنه لا يطالب
5 - ابن ماجه (1/ 81) المقدمة 17 - باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، قال في الزوائد: إسناده ضعيف وقال السيوطي سئل النووي عن هذا الحديث، فقال: إنه ضعيف، أي سنداً. وإن كان صحيحاً، أي معنى. وقال المزي: هذا الحديث روى من طرق تبلغ رتبة الحسن، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب".
(1)
البقرة: 183.
(2)
البقرة: 185.
(3)
النور: 1.
كل فرد بإقامة حد الزنى على كل من زنى، وأمثال ذلك في الشريعة كثير من مثل قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1) ومن مثل قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) ومن مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (3).
ومن مثل ما ذكرناه استنبط العلماء أن هناك فروضاً عينية يطالب بها كل مكلف وهناك فروض كفائية تُطالب بها الأمة.
* * *
إن إحصاء فروض الكفاية ومعرفة فروض العين من أهم الأمور في حق الفرد أو في حق الأمة، بل يجب أن يكون ذلك هو البداية ولذلك فنه من المهم بالنسبة للدعاة والعاملين للإسلام بل وللعاملين في حقل تطوير الأمة أن يحصوا هذه الأمور وأن يعمموها وأن يعملوا على تحقيقها في أرض الواقع، هذا مع ملاحظة أنه لا يستطيع فرد في الغالب أن يحيط بفروض الكفاية فلابد من تضافر جهود كثيرة ليصار إلى الإحصاء والتحديد .. وأنا سأحاول في هذه الكلمة القصيرة أن أضع اليد على نقاط علام.
* * *
هناك عدد من القواعد نستطيع أن نستهدي بها في موضوع فروض الكفايات:
أولاً: إن كل ما تحتاجه إقامة الدين والدنيا هو من فروض الكفايات.
ثانياً: كل ما تحتاجه عملية أداء الحقوق إلى أصحابها هو من فروض الكفايات.
ثالثاً: كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن ذلك فروض الكفاية فالوسائل الموصلة إلى كل فرض منها تدخل في الفروض الكفائية، فإذا اعتبرنا هذه القواعد الثلاث
(1) البقرة: 178.
(2)
البقرة: 234.
(3)
البقرة: 216.
- وهي من البدهيات عند العلماء - هادية لنا في بحثنا عن فروض الكفايات فكم هي فروض الكفايات؟
إن باستطاعتنا من خلال هذه القواعد الثلاث فقط أن نسجل عشرات الألوف من فروض الكفاية، فإذا عرفنا أن بعض فروض الكفايات لها جانب علمي نظري ولها جانب علمي تطبيقي، وأن الجانب العلمي تدخل فيه عشرات العلوم، وأن الجانب التطبيقي يحتاج إلى عشرات الاختصاصات ندرك سعة دائرة المطلوب .. ولنضرب أمثلة تخدم ما نحن فيه:
العلوم التي تحتاجها عملية استخراج البترول كثيرة، والأدوات التي تحتاجها هذه العملية كثيرة، والعلوم والصناعات التي تؤمن هذه الوسائل كثيرة واستخراج البترول من البر أو البحر له علومه ووسائله، وإذا استخرج البترول فهناك تكريره وتسويقه وهناك المواد المتفرعة عنه، وكل مادة لها استعمالاتها وتتوضع حول ذلك صناعات كثيرة والصناعات تحتاج إلى أسواق وتسويق، وكل ذلك يحتاج إلى اختصاصات، وأنابيب البترول وصناعاتها وتركيبها والاستفادة منها وتثمير الأموال واستثمارها بما يحقق مصلحة الأمة، كل ذلك فروض متتالية يأخذ بعضها برقاب بعض.
حاول أن تستقصي هذه السلسلة من المطلوبات والخبرات والأدوات والوسائل التي تتوضع حولها فإنك تصل إلى مئات من فروض الكفاية في هذا الجانب فقط، وعلى مستوى قطر من الأقطار.
فإذا نظرت إلى هذا كله من خلال احتياجات الأمة الإسلامية كلها في واقعها وأقطارها، فإنك تصل إلى أنه يجب أن يوجد عشرات الألوف من المختصين وأهل الخبرة في هذا الشأن وحده لتغطية احتياجات الأمة الإسلامية في كل مكان.
فإذا عممت مثل هذا التحليل على الزراعات والصناعات والتجارات عسكرياً ومدنياً وأدخلت في الصناعات صناعة الأدوية، وصناعة أدوات الصحة، وصناعة السلاح والعتاد، وصناعة وسائل النقل الجوية والبحرية والبرية .. فهل تستطيع أن تحصي إحصاءً دقيقاً هذه الفروض؟
فإذا عرفت أن العلم سابق العمل، فكم من فروض الكفايات أنت بحاجة إليها علمياً؟ وكم ينبغي أن تكون برامج التعليم والتنمية ضخمة ومتعددة لتغطي مثل هذا؟
وهذا كله بعض ما تحتاجه إقامة الحياة الدنيا.
* * *
دعنا الآن نضرب أمثلة على بعض ما تحتاجه إقامة الدين من فروض الكفايات:
إن الدين لا يقوم قياماً كاملاً إلا إذا قام كل مسلم بواجبه ووجدت دولة مسلمة تقيم الإسلام؛ لان مهمة الدولة المسلمة في تعريفات الفقهاء إقامة الدين والدنيا، وقد ضربنا أمثلة على بعض فروض الكفايات التي تحتاجها إقامة الدنيا ولنر بعض ما تحتاجه إقامة الدين.
هناك علوم لابد منها لبقاء الإسلام واستمراره، من ذلك علوم اللغة العربية، المنطق، أصول الفقه، علم العقائد، علم الفقه، علم الأخلاق والسلوك، وعلم التفسير وعلوم القرآن، علم السنة وعلوم الحديث، السيرة وحياة الصحابة، رواة الحديث وطبقات العلماء، التاريخ الإسلامي، علم القراءات، العلوم التي تقتضيها إقامة الحجة على الآخرين، حاضر الأمة الإسلامية وواقع المسلمين، العلوم التي يحتاجها الوعي السياسي الإسلامي
…
هذه العلوم وأمثالها تحتاج إلى مختصين يغطون احتياجات المسلمين فهيا -لا في قطر واحد بل على مستوى العالم - على حسب الضرورة والحاجة. فهناك علم يكفي البلد أن يوجد فيه واحد، وهناك علم يجب أن يكون في البلد الواحد عشرات من المختصين فيه، وهذه العلوم لا يكفي أن يوجد فهيا المختص، بل لابد أن تصل إلى العامة، وههنا تأتي فروض الدعوة وفروض التعليم، وعن هذه تنبثق فكرة المدارس وفكرة الكتاب والجريدة والمجلة والإذاعة وأن تقوم كل من هذه بما يملأ ساحة هذه الدوائر كلها بالعلم، ثم أن توجد أدوات ذلك ووسائله واحتياجاته، كل ذلك يدخل في باب فروض الكفايات.
هذا كله في الجانب الإعلامي والتعليمي من أجل إقامة الدين فقط.
* * *
ومن أجل أن يقوم الدين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أنت بحاجة إلى اختصاصيين كثير وإلى التزام كثير، وهذا يحتاج إلى سياسة وقانون وقضاء فكم من مختصين أنت بحاجة إليهم لتملأ ساحة العمل بما يغطي احتياجات الأمة في كل ساحات العمل هذه.
فإذا عرفت أن المجتمع الإسلامي تحرسه الدولة، وهذا يقتضي وجود أجهزة، ويسهر عليه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والدعاة، وهذا يحتاج إلى عاملين، وإذا عرفت أن حياة المجتمع الإسلامي منوطة بالجهاد، والجهاد يحتاج إلى مقاتلين وعتاد ونظريات وتدريب وتخطيط وأنَّ هذا في عصرنا معقد وأن ذلك كله يدخل في باب فروض الكفايات .. عرفت بعض الكفايات التي تحتاجها الأمة في عصرنا لإقامة دينها.
* * *
دعنا الآن نفكر على مستوى جزء من واقعنا، كأن نفكر على مستوى قطر لم يبق فيه نظام إسلامي وعم فيه الجهل، أو غلب، فما فروض الكفايات في مثل هذه الحالة؟
أول الواجبات هي تغطية فريضة الدعوة إلى الله في القطر، وهذا يقتضي ملاكاً عريضاً لتصل الدعوة إلى كل دوائر القطر، وكل ما يقتضيه ذلك فهو من فروض الكفايات: الدعاة في صفوف الرجال والنساء، وفي صفوف العمال والفلاحين والمثقفين، وفي الأحياء والمؤسسات، وفي المدارس والجامعات، وفي المساجد والمقاهي، والدعاة الذين يغطون هذا كله والجهاز الإداري الذي يدير عجلة الدعوة وينسق بين جهود الدعاة كل ذلك من فروض الكفاية.
ثم إن الدعوة هي باب التربية والتكوين والتعليم فمن استجاب للدعوة فقد وجب عليه أن يتعلم وأن يأخذ التربية الإسلامية التي يقتضيها قيام المسلم بواجباته في عصره فأنْ يوجد المسلمون والمربون الذين يغطون احتياجات الأمة في هذا الباب وأن يوجد الجهاز الإداري الذي ينظم هذا كله وينسق بين جهود المعلمين والمربين بحيث يصبح كل مسلم وقد أخذ حظه على الكمال والتمام من العلوم الإسلامية ومن الثقافة والتربية اللتين يقتضيهما وجوده في هذا العصر من خلال الحلقات والمذكرات والدراسات فذلك كله من فروض الكفاية.
والدعوة الإسلامية تقتضي عملاً إعلامياً ضخماً.
6 -
* روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".
والحديث الآخر يقول:
7 -
* روى مسلم "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
إن في العالم أجهزة إعلام ضخمة تنشر مبادئ أو تدافع عن موقف أو تهاجم مبادئ ونصيب الإسلام من عداء هذه الأجهزة ليس قليلاً، ثم إن الإسلام يجب أن ينشر ويعمم وللمسلمين مواقف يجب أن تعرف وأن يقنع بها المسلمون على الأقل، وهذا كله يقتضي جهازاً إعلامياً، والإعلام في عصرنا: جريدة ومجلة وفيديو وشريط مسجل وإذاعة وتليفزيون ورسالة وكتابة وخطابة ومحاضرات وتعليقات، وهو مع هذا كله اختصاص وفن وعلم، وإذا ما أنشأت جريدة أو مجلة فأنت بحاجة إلى ملاك كاتب وطابع وإداري، وإذا ما أنشأت مجلة فالأمر كذلك ويتوضع حول هذا نشر وتوزيع وتعميم وهذا يرتبط به أن يكون هناك مراسلون ووكالات أنباء ومحللون ومحررون واستراتيجيون وكل ذلك إذا تعين يدخل في فروض الكفايات.
والإعلام بطبيعته هو الوجه لآخر للعمل السياسي، والعمل السياسي جزء من العمل الإسلامي ألا ترى أن أهم صراعات الإسلام في عصرنا هي الصراعات الفكرية والصراعات السياسية، فالنظريات السياسية العالمية تصارع الإسلام على أرضه. ومن هنا لابد أن يوجد عمل سياسي إسلامي سواء ارتبط بالعمل الدعوي أو لم يرتبط، سواء كان من خلال عمل حزبي أو من خلال توجيهات عفوية .. المهم أن وجود العمل السياسي الإسلامي هو من باب فروض الكفايات بالقدر المتاح والممكن.
6 - أبو داود (3/ 10) كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو.
7 -
مسلم (1/ 70) 1 - كتاب الإيمان، 20 - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.
وعندما نقول: عمل سياسي إسلامي فهذا يحتاج إلى اختصاصيين كثر في شؤون كثيرة: التوعية السياسية، الإدراك السياسي، القدرة على استيعاب الموقف السياسي، القدرة على اتخاذ القرار السياسي الحكيم المستوعب للزمان والمكان، المشاركة في العمل السياسي المتاح، نقل الأوضاع السياسية إلى أطوار متقدمة ومنسجمة مع الإسلام أو تحقق أهدافه أو تبعد العمل السياسي عن الانحراف، التخطيط للتطوير السياسي الإسلامي في المؤسسات والنقابات، السير المتدرج نحو الأهداف السياسية الكبرى التي لا تتحقق بسرعة، كل هذه القضايا وأمثالها تدخل في باب فروض الكفايات، والجهاز الإداري الذي ينسق بين هذا كله وينظم هذا كله هو من باب فروض الكفايات، كذلك وإذا سقط قطر من أقطار الأمة الإسلامية بيد الكفر والكافرين وتعين الجهاد للإنقاذ فالتحريض، والتدريب، وتركيز النيات، وتأمين السلاح، وإيجاد الملاكات القيادية، ووجود الخطط العملية، وتأمين الشبكات التنظيمية التي خدم الحاضر والمستقبل والتي تصب في خدمة الجهاد، وإنضاج نظريات المعركة، والسير المتواصل نحو الهدف، ووجود الجهاز الإداري والقيادي الذي يضع هذه الأمور كلها موضع التنفيذ، كل ذلك من فروض الكفايات، ولما كان المال هو الوسيلة الضرورية لإقامة فروض الكفايات المذكورة فوجود الجهاز الإداري الذي يقود عملية تأمين المال اللازم ووجود شبكة قوية لجمع التبرعات والوصول إلى كل فرد قادر على الدفع وإقناعه بذلك كل ذلك من باب فروض الكفايات.
وفي الحالة التي نتحدث عنها تكون فروض الكفايات التي يطالب بها المسلمون في القطر مضيّعة لا تجد من يقيمها، وههنا تأتي مهمة القائمين على العمل الإسلامي أن يوجهوا المستجيبين لدعوة الله وخاصة الطلاب بحيث يكون لكل فرد اختصاص حياتي يقيم به فريضة كفائية وهؤلاء لابد من التنسيق فيما بينهم، ومن ههنا يأتي تنظيم أمر الاختصاصات الحياتية وترتيبها في كل قطاعات الحياة، والتوجيه نحو ذلك.
فالأطباء المسلمون والصيادلة المسلمون والمهندسون المسلمون بل والرياضيون المسلمون، والتجار المسلمون والحرفيون المسلمون ثم الاختصاص المتفرع عن اختصاص أصيل، والجهاز الإداري الذي ينظم ذلك كله، كل ذلك من فروض الكفايات.
ويتوضع حول الجوانب الدعوية والإعلامية والسياسية والمالية والفنية أشياء كثيرة، فأن يوجد المختصون فيها والقائمون عليها والمقيمون لها كل ذلك من فروض الكفايات، وعلى هذا فالقائمون على العمل الإسلامي في قطر من نوعية الأقطار التي ذكرناها عليهم أن يراعوا ذلك.
من ههنا ومما تقدم ندرك أهمية حصر العلوم المفروضة فرض كفاية في حق المسلمين في أقطارهم إذا كانوا في السلطة أو لم يكونوا، إذا كانوا في مجتمع غريب أو كانوا في مجتمع قريب لأن ذلك يؤثر تأثيراً جوهرياً على سير العمل، فإذا اتضحت هذه الأمور فقد آن الأوان لنتحدث عن فروض العين:
* * *
إن المحصلة الكبرى لإقامة فروض الكفاية تظهر في وجود المسلم الذي يقيم فروض العين والمختص بفرض من فروض الكفاية، فالمسلم ينبغي أن يكون له اختصاص حياتي، وأجود أنواع الاختصاص هو ما يحقق به المسلم فرض كفاية، هذا مع ملاحظة أنه إذا تعين مسلم لفرض من فروض الكفاية فقد أصبح هذا الفرض في حقه فرض عين، فلو تعين إنسان للقضاء أو للفتوى أو لتعليم علم بعينه أو لإتقان اختصاص بعينه فعندئذ يكون في حقه فريضة عينية.
1 -
إن أول فرض العين في حق المسلم أن يعرف الإسلام معرفة إجمالية وأن يؤمن به، وأن يقر بذلك بإعلانه الشهادتين.
2 -
وثاني فروض العين في حقه أن يعرف تفصيلاً من الإسلام ما يستطيع أن يؤدي فرائض التكليف المطالب به.
3 -
ومن فروض العين في حق المكلف: التوحيد والعبادة وزكاة النفس.
4 -
ومن فروض العين في حقه أن يعرف المحرمات وأن يتركها وأن يعرف المطلوبات ويقوم بها.
5 -
ومن فروض العين أن يقيم حق الله في والديه وأرحامه وجيرانه.
6 -
ومن فروض العين أن يؤدي حق الله في طاعة الإمام ولزوم الجماعة.
7 -
ومن فروض العين أن يكون كسبه حلالاً وأن ينفق على من تجب عليه نفقته بالمعروف. وإذا كان له مال فالزكاة في حقه فرض عين والحج في حقه فرض عين، والجهاد بالمال إذا تعين فريضة عينية، وإذا أصبح الجهاد فريضة عينية فعليه أن يقوم بذلك نية وتدريباً وإعداداً واستعداداً ومباشرة.
وجماع فروض العين أن يكون الإنسان تقياً، فالتقوى هي مطلب الله من العبد، والتقوى كما صورتها مقدمة سورة البقرة إيمان وصلاة وإنفاق واتباع للقرآن وخلاص من الكفر والنفاق.
* * *
وبعض فروض العين واحدة في الأوضاع العادية في حق المسلمين جميعاً، وبعضها يختلف سعة وضيقاً من شخص لشخص فما يُطالب به إنسانٌ صالحُ الفطره من زكاة النفس أقل من إنسان عنده أمراض نفسية.
وما يطالب به خالص الإيمان أقل مما يطالب به إنسان في قلبه مرض من أمراض النفاق، وما يطالب به عامل بسيط أقل مما يطالب به تاجر غني واسع الثراء واسع العلاقات.
وما يطالب به إنسان في بيئة غير ما يطالب به إنسان في بيئة أخرى، فإنسان يعيش في أرض بدعة وأرض كفر يطالب بما يحصن به نفسه وأهله.
وإذا ثارتْ شُبْهةٌ مضلة يجب على المكلّف أن يحصن نفسه من هذه الشُبهة، وإذا وجدت تيارات ضالة وتيارات هادية فعلى المسلم أن يحصن نفسه من التيارات الضالة ويكون جزءاً من التيار الهادي.
وإذا وجدت في الشريعة نوافل لتحصين الفرائض، وإذا وجدت في الشريعة فكرة الورع والاحتياط من أجل عدم قربان الحرام فهذا يوصلنا إلى أن المسلم عليه أن يفعل
الكثير ليطمئن على قيامه بفروض عينه، وقبل أن نذكر بعض التفصيلات المطلوبة من مسلم معاصر نحب أن نذكِّر بنوعين من الفروض:
1 -
فرض الوقت.
2 -
فرض العصر والظرف.
1 -
فرض الوقت:
لا تغيب الفرائض والمحرمات القطعية عمن يعيشون في البيئات الإسلامية، والتذكير بها مفيد، وهذه مهمة ضرورية متجددة، يقوم بها الوعاظ في مجال الوعظ ويتذاكر بها المسلمون في مذاكراتهم، وقوة الواعظ تظهر في قدرته على التأثير والإقناع واستجاشة العواطف فهو يجذب إلى الفرائض المقصرين ويأخذ بحجز المذنبين فيبعدهم عن الذنب، وهو يبعث على الارتقاء الحثيث، دافعاً بعد الفرائض نحو الواجبات والسنن والآداب، منفراً عن المخالفات ولو لم تصل إلى درجة التحريم، فما أعظمها مهمة!!. فهي جزء من مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن استهان بها أو حقرها فهو على جهل عظيم، وليس غرضي في هذا البحث أن أذكر فيما هو مذكور أو محل تذكر، إنما الغرض أن أذكر فيما عنه غفلة، ومن ههنا جاء هذا العنوان: فرض الوقت.
* * *
لنتصور أن إنساناً أراد الدخول في الإسلام فما هو فرض وقته؟ لا شك أن فرض وقته المباشر هو أن يعرف بإجمال الشهادتين وأن ينطق بهما مسلماً فإذا دخل في الإسلام مثلاً بعد أن دخل وقت الظهر فما هو فرض وقته المباشر؟ لا شك أن فرضه المباشر هو أن يتعلم الصلاة بإجمال وأن يمارس صلاة الظهر، وإذن فالمراد بفرض الوقت هو ما يطلب من الإنسان في لحظته التي هو فيها.
* * *
لنتصور أنني رأيت إنساناً يغرق وأنا قادر على إنقاذه أو جائعاً وأنا قادر على إطعامه، أو
يرتكب منكراً وأنا قادر على تغييره، فههنا يفترض علي فوراً أن أفعل ما أستطيع فعله فهذه كلها فرائض وقت وجبت عليَّ بسبب ظرف طارئ، افترض عليّ الإسلام أن أتعامل معه نوع تعامل.
إن فرض الوقت هذا يغفل عنه الكثيرون، وقد يقعون بسبب ذلك في محذورات كبيرة، فمثلاً لو أن إنساناً أراد الدخول في الإسلام وطلب من مسلم أن يصفه له فواجب الوقت في حق المسلم أن يبادر فوراً للوصف، حتى
قال بعضهم: لو أن المسلم وقتذاك طلب إلى هذا الراغب أن يؤجل فإنه يرتد بذلك.
* * *
مما مر تعرف المراد من قولنا: فرض الوقت وتعرف أهمية ذلك، وخطورة عدم القيام بفرض الوقت، وخطورة تأجيله عن وقته، ومن ههنا تتوضع حول هذه الفكرة أمور كثيرة:
ففي باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك فرائض وقت، وفي باب الجهاد هناك فرائض وقت، وفي باب الأسرة والجوار هناك فرائض وقت، وفيما يطرأ على الإنسان أو يعرض له فرائض وقت، والمسلم كما يحاسب نفسه على الفرائض الثابتة فإنه يحاسب نفسه على التقصير في فرائض الوقت، ولما كان العلم يسبق العلم فالعلم بفقه فرض الوقت هو البداية الصحيحة للقيام بهذا النوع من الفرائض.
2 -
فرض العصر وفرض الظرف:
من المعلوم أن هناك فرائض عينية في الشريعة الإسلامية كالصلاة في حق المكلف، وهناك فروض كفائية تطالب بها الأمة فإذا فعلها بعضهم سقطت عن الأمة، وإلا فإن الأمة كلها تأثم، ويسقط الإثم عمن أمر ونهى وبذل استطاعته، وفروض الكفاية هذه تكون فرض عين في حق من تعين لها فلا يستطيعها غيره، وكذلك هي في حق من يعلم شيئاً عنها يجهله غيره، إذا اتضح هذا نقول:
كل علم تحتاجه الأمة الإسلامية فهو فرض كفاية، والعلوم متوسعة متنامية متطورة، وكل عصر له مستحدثاته التي هي أثر عن علم من العلوم، فالكهرباء والذرة وما تفرع عنهما من مخترعات ومستحدثات هذه كلها وليدة عصرنا وبالتالي فهذان بالنسبة للمسلمين في عصرنا فرضان بينما هما في عصور سابقة لم يكونا موجودين أصلاً فلا مطالبة بهما فهذا نموذج على ما أسميناه فرض العصر.
* * *
الجهاد في شريعتنا يكون أحياناً فرض عين، وأحياناً فرض كفاية، وأحياناً تكون مباشرته فرض عين إذا توافرت شروط، وأحياناً يكون فرض عين ولا تجب مباشرته لعدم توافر شروط، وأحياناً تكون مقدماته الموصلة إلى الغايات فرائض كفائية أو فرائض عينية، وهناك حالات من الغلبة تصيب المسلمين لا يستطيعون التغلب عليها من خلال معركة جزئية بل تحتاج إلى جهود متواصلة طويلة قد تستغرق جيلاً أو جيلين أو أكثر مثل هذه الأمور تدخل في فرائض العصر من مثل القضية الفلسطينية في زمن الحروب الصليبية وفي عصرنا، وقد يكون هذا النوع من الفرائض واجبات عصر في حق مسلمي العالم وقد تكون فرائض عصر في حق أهل قطر.
* * *
والمسلمون مكلفون أن تكون كلمة الله هي العليا في العالم، وهذا الصراع منهم يقتضي في مرحلة من المراحل نوعاً من العمل الخاص، تدخل فيه الاقتصاديات والإداريات والاستراتيجيات والتحركات السياسية وغيرها، فالجديد الذي يحتاجه الصراع المستمر بين الحق والباطل يدخل في فرائض العصر.
* * *
وكل قرن جديد يحتاج معه الإسلام إلى تجديد، وهذا التجديد قد يقتضي أساليب وأسباباً تناسب القرن، فالتنظيم الممتد الواحد الذي يغطي العالم مثلاً تحتاجه الأمة
الإسلامية في كل حين ولكنه في عصرنا يعتبر سبيلاً وحيداً لإقامة فرائض كثيرة، فكل ما يحتاجه هذا التنظيم الذي هو شرط لحسن المواجهة يدخل في فرائض العصر.
هذه النماذج على فرائض العصر تعطينا تصوراً عنه ويبقى تحديد كل ما يدخل في فرائض العصر واجب أهل الفتوى، وتذكير المسلمين بذلك ودعوتهم وتفجير طاقاتهم واجب كل من يستطيع ذلك من وعاظ ودعاة وقادرين.
* * *
والمسلم الذي لا يدرك واجبات عصره مقصر وقد يكون آثماً، وهو في كل الأحوال يعيش في غير عصره، ولعل من أهم فروض عصرنا: محاولة إنقاذ الأمة الإسلامية من تفرقها، والعمل من أجل وحدتها وتقدمها المدني، والعمل لإعادة الأقطار المسلوبة والخلافة المفقودة.
إذا اتضح ما مر فقد آن لنا أن نتحدث تفصيلاً عن بعض فروض العين في عصرنا ولنجعلها تحت ثلاثة عناوين: العلم، والعمل، والحال .. ملاحظين فروض العصر والوقت وتيارات العصر وتعقيداته وتأثير ذلك على العقل والقلب والنفس.
أولاً: في العلم:
أ - أخذ حظ من علم أصول الفقه على قدر استطاعة الإنسان لأنه ما لم يحصل المسلم ذلك فإنه يكون معرضاً للوقوع في خطر الرفض للأحكام أو في خطر الوقوع في براثن الغلاة.
ب- أخذ حظ من علوم اللغة العربية على قدر استطاعة الإنسان لأنه ما لم يكن ذلك فقد يقع الإنسان فريسة الخطأ بيد الحَرْفيين أو بيد المؤولين.
ج- أخذ حظ من علم الأصول الثلاثة بحيث يكون عند الإنسان تصور عن أدلة وجود الله عز وجل وأدلة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وبحيث يكون عنده تصور شامل عن الإسلام.
د- أخذ حظ من علم العقائد حتى لا يكون فريسة الوقوع في أسر فرقة ضالة أو في
أسر أفكارها.
هـ- أخذ حظ من الفقه عامة، ومن الفقه المذهبي خاصة، الأول ليعرف كيف يتصرف أمام الوقائع والثاني ليعرف كيف يراجع عويصات المسائل.
و- حفظ شيء من القرآن وإتقان تلاوته.
ز- حفظ شيء من السنة والاطلاع على ما أمكن من متونها ويدخل في ذلك التعرف على السيرة النبوية ومعالم في حياة الصحابة.
ح- الاطلاع على فقه الدعوة والحركة المعاصرين بحيث يطمئن إلى الكينونة في الجماعة التي يعطيها ولاءه وينطلق بالدعوة على بصيرة.
ط- الاطلاع على بعض الدراسات الإسلامية الحديثة التي تحتاجها بيئته أو تحتاجها مناعة وحصانة.
ي- الاطلاع على شيء من التاريخ الإسلامي وواقع المسلمين يحصنه ويطلق طاقاته في الخدمة الإسلامية.
ك- الاطلاع على الثقافة العسكرية الحديثة بحيث يكون عنده شيء من الإلمام بالكيفية التي يمكن أن يمارس فيها الجهاد في هذا العصر.
ل- أخذ حظ من علوم تزكية النفس والسير إلى الله.
م- المطالعة والمدارسة في كل ما ينمي الوعي الإسلامي بحيث يعرف الإنسان مشكلات المسلمين وكيفية حلها.
ن- الاطلاع على ما ينمي حسه الأمني بحيث لا يتصرف تصرفاً يضر أمته.
ثانياً: العمل:
أ - أول ما يطالب به العبد من العمل بعد التعرف على الله عبادته، والفروض مقدمة على النوافل ويدخل في ذلك الصلاة والصوم والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والجهاد.
ب- الكسب الحلال وأداء الحقوق فيه.
جـ- القيام بحقوق الوالدين والأرحام والجوار.
د- نية الجهاد والتدريب على أدوات القتال ووسائله.
هـ- الكينونة في الصف الإسلامي وحسن التعامل مع المسلمين ويدخل في ذلك لزوم إمام المسلمين وجماعتهم إن كان لهم جماعة وإمام.
و- القيام بالحقوق الطارئة والعارضة.
ز- اجتناب المحرمات وما قاربها وإقامة الفرائض والواجبات.
ح- القيام بفروض الكفاية التي يتعين لها.
ط- مباشرة الجهاد إذا أصبح فرضاً عينياً وتوافرت شروط فرضية مباشرته.
ي- نية المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والالتزام بالأحكام.
ثالثاً: الحال القلبي والنفسي:
ويدخل في ذلك أن يكون قلبه سليماً وفطرته مستقيمة ونفسه مزكاة، وههنا نلفت النظر إلى أن ما يوصل إلى مثل هذه المعاني المفروضة فهو فريضة، ومن ههنا نقول: قد تكون بعض الأمور في الأصل مندوبة فإذا تعين كطريق للوصول إلى هذه الأحوال الشريفة فإنها تصبح فريضة ومما يدخل في مثل هذه الفريضة:
أ - التحقق بالإيمان والإخلاص والتوكل والزهد في الدنيا ومحبة الله ورسوله.
ب- والخلاص من الكفر والنفاق والفسوق والعصيان والإثم والأمراض القلبية من مثل الحسد والرياء والغل والحقد وأمثال هذه الأمراض. أ. هـ.
وفي غمرة الكلام عن فروض العين وفروض الكفاية بشقيها العلمي والعملي، التي بابها
ومفتاحها العلم فإنه لا يفوتنا أن نشير إلى أن المطلوبات الشرعية من المسلم أوسع من أن تكون فرضاً فقط، فهناك الفريضة والواجب والسنة والأدب، والمروءة، والأريحية، والذوق والسياسات النبوية، وكلها مطلوبات عينية من المسلم وعلى المسلم أن يحصل العلم فيها وأن يتحقق بالعمل، ولابد - ونحن سنعرض أحاديث باب العلم -أن نتعرض لهذا، وقد كنا كتبنا رسالة تحت عنوان - أخلاقيات وسلوكيات تتأكد في القرن الخامس عشر الهجري - ننقل لك بعض المقتطفات منها ليكون هذا الأمر واضحاً لديك:
والكلام عن الذوقيات والمروءات يجرنا إلى الكلام عن أدب العلاقات، فما من شيءٍ أدل على زكاة النفس في الإسلام من أدب العلاقات، وليس هناك شيء أصعب على النفس من الأدب في بعض الأحوال، لذلك كانت مجاهدة النفس لحملها على الكمال في أدب العلاقات من أعظم ما يطالب به المسلم.
كان نور الدين الشهيد رحمه الله حازماً ومن حزمه أنه كان لا يسمح لأمير من أمرائه أن يجلس في حضرته إلا بإذنه لم يستثن من ذلك إلا نجم الدين أيوب والد صلاح الدين ولكنه كان مع العلماء والصالحين على غاية من الاحترام والتواضع والإجلال، انظر هذا الأدب وتأمل إلى أي حد يستطيع إنسان ذو صفة رسمية في عصرنا، عصر البروتوكول أن يتواضع لعالم عامل صالح أمام الجماهير.
إن كثيراً ما ترفض نفس الصغير توقير الكبير، وكثيراً ما ترفض نفس الكبير رحمة الصغير، وكثيراً ما تأنف أنفس أولي الأمر من استشارة من دونهم، وكثيراً ما يشتط المستشار إذا استشير، وكل هذه مظاهر من جموحات النفس ورعوناتها، ولذلك قلنا: إن من أعظم علامات زكاة النفس قيامها بأدب العلاقات ملاحظاً في ذلك الحكم الشرعي أولاً ثم المروءات والذوقيات.
إن أدب العلاقات واسع، فهناك أدب الولد مع الوالدين، وأدب الوالدين مع الأولاد ذكوراً وإناثاً، وأدب الإخوة مع بعضهم ذكوراً وإناثاً، وأدب الصاحب والجار مع الصاحب والجار، وأدب الموظف والعامل مع الزملاء ومع العمل وهكذا دوائر العلاقات البشرية كلها.
وإذا كان أدب العلاقة مع الخلق له هذه الأهمية، فما بالك بأدب العلاقة مع الخالق .. إنك لو حصرت الحياة البشرية الكاملة بأدبين أدب العلاقة مع الخالق وأدب العلاقة مع الخلق لم تعدَّ.
وأدب العلاقة مع الخالق يقتضي أدب العلاقة مع الخلق فكلما كملت العلاقة الأولى كملت الثانية.
وأدب العلاقة مع الخالق ينحصر بالإيمان والفعل والترك: فالإيمان بالوحي وترك المحرمات والمكروهات وفعل الواجبات والسنن والآداب والأريحيات والمروءات من مقتضى حسن التعامل مع الله عز وجل.
وليس هناك في أدب العلاقات مع الخلق أعظم من القيام بحق الوالدين وحق العلماء والأولياء والمربين ثم الأرحام والجوار والأصحاب.
وفي أدب العلاقات نجد كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألف الخلق جميعاً حتى استخرج النفاق من قلوب أكثرية المنافقين، وكيف استخرج أحقاداً وعداوات من قلوب موتورين حتى أصبح أحب إليهم من أبكارهم .. وكيف كان يضع الحزم في محله واللين في محله، وكان يغلب عليه اللين ويكفي أن الله أدبه بقوله:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1).
لقد كان ليّن الكلمة، رحيم القلب، حريصاً على المؤمنين، يعفو ويصفح، ويستغفر لذنوبهم، ويشاورهم، فأي أدب في العالم أرفع من هذا الأدب، إن إحياء آداب النبوة وسياستها من أهم ما يطالب به المسلم على مدى العصور وذلك لا يطيقه إلا من اجتمع له علم وذكر وما ذلك إلا لدقة الأدب، انظر إلى أدبه عليه الصلاة والسلام في الإنصات:
(1) آل عمران: 159.
(2)
التوبة: 61.
لقد اتهمه المنافقون بأنه شديد الإصغاء ويستطيع كل إنسان أن يؤثر عليه فأكد الله أنه كثير الإنصات حتى شبهه بالأذن، إلا أنه يعرف من يصدق وأن إنصاته رحمة للمؤمنين أما أن يستجره أحد لموقف غير صحيح فلا:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (1).
ولدقة السياسات النبوية قلنا: إنها تحتاج إلى علم لتعرف وإلى ذكر ليستطيعها الإنسان ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) فمن لم يكن له ذكر كثير فإن اتِّباعه قليل.
في الشريعة فرائض وواجبات وسنن وآداب، وفيها محرمات ومكروهات، وهي مع تحديدا لهذه الأمور بشكل صريح أو ضمني يعرف من النصوص مباشرة أو بشكل غير مباشر، فهي قد وضعت أصولاً لضبط التعامل مع الرأي العام مما يدخل في ما يصطلح عليه الناس: الذوق ومراعاة الرأي العام.
وهذه قضية تغيب عن الكثيرين حتى إنك لتجد بعض المتدينين المتشددين يسقطون قضايا الذوق ومراعاة عواطف الناس ومشاعرهم، حدثني بعض شيوخنا أنه كان في جلسة علمية فامتخط إنسان وألقى بمخاطه على الأرض بشكل جاف، فاستعمل شيخنا حق الشيخ في التأديب فنبهه على ذلك فسأله التلميذ: أعندك نص في عدم الجواز
فهذا نموذج على نمط من التفكير يلغي قضايا الأذواق ومراعاة الرأي العام.
* * *
ولا شك أن الأذواق قد تمرض وأن الرأي العام قد يكون ضالاً مضللاً، وإذا كان أهل السنة والجماعة لا يعتبرون العقول نفسها ميزاناً للتحسين والتقبيح، فمن باب أولى ألا تعتبر الشريعة الأذواق والرأي العام ميزانين، خاصة وهما مرتبطان إلى حد كبير بالعواطف،
(1) الحجرات: 3.
(2)
الأحزاب: 21.
ولذلك نقول ابتداءً: إنه لا قيمة للذوق ولا للرأي العام إذا عارض الفرائض والواجبات والسنن والآداب، أو دخل في دائرة المكروهات أو المحرمات، وإذن فمراعاة الرأي العام وقضايا الأذواق إنما راعاها الشارع في المباحات ولذلك نجد في القرآن الكريم قوله تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} (1).
8 -
* روى مسلم قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت البيت وبنيته على قواعد إبراهيم".
فالأول جاء في سياق مواقف المسلمين من اليهود، والثاني في مراعاة الرأي العام الجاهلي في قضية لا يترتب عليها عمل ..
ولننتقل إلى قضية أخرى وهي قضية الأيحيات والمروءات:
9 -
* روى مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعِثْت لأتمم مكارم الأخلاق" فالرسول صلى الله عليه وسلم حصر بعثته بأن المراد منها استكمال بناء الصرح الأخلاقي في هذا العالم، وهذا يفيد انه عليه الصلاة والسلام لم يبدأ البناء الأخلاقي من الصفر، بل هناك أخلاق بعث بها الرسل وأتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك مكارم للأخلاق تعارف عليها الناس أنها من مكارم الأخلاق وهي فعلاً كذلك. وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليقر أمثال هذه الأخلاق وليكملها، ولم تزل الأريحيات والمروءات مما تواطأ الناس على إكبارها واحترامها، إلا من فسدت فطرته ومرض عقله.
وقضايا الأريحيات والمروءات لا تدخل تحت حصر، وقد تتجاوز حدها فتصبح جاهلية، وقد تنقص حتى يحتقر المخل، إن بعض ما يدخل في المروءات والأريحيات يدخل في أبواب الحكم الشرعي من فريضة أو واجب أو سنة أو أدب وإذا تجاوزت الأريحيات حدها كأن دخل صاحبها بها في الإسراف والتبذير أو طرأ عليها عارض كالرياء والعجب
(1) البقرة: 150.
8 -
مسلم (2/ 969) 15 - كتاب الحج، 69 - باب نقض الكعبة وبنائها.
9 -
الموطأ (2/ 904) 47 - كتاب حسن الخلق، 1 - باب ما جاء في حسن الخلق.
قال ابن عبد البر: وهو حديث مدني صحيح متصل عن أبي هريرة وغيره.
وحب الثناء والمدح، فإن ما صاحبها يدخل في باب المحظورات.
وقد تكون أحياناً من باب المباحات، ولكنها إذ تؤدي إلى احتقار صاحبها وغيبته وازدرائه فإنها تخرج صاحبها بسبب من ذلك إلى دائرة المحظورات، فمثلاً لو وقعت من إنسان تمرة فأهملها فرآها إنسان فأخذها فطالب الأول الآخر بها فذلك طلب مباح في الأصل ولكنه مخل بالمروءة.
إن موضوع الأريحيات والمروءات عميق في الفطرة البشرية وهو يختلف من شعب إلى شعب في القوة والضعف وفي السعة والضيق، ولعل العرب من أكثر الشعوب تأثراً بهذه الموضوعات، وقد يكون ذلك من حكم اختيارهم لحمل الرسالة الإسلامية، فهذه الرسالة تحتاج إلى نوع من النفسيات تهزها الأريحية والمروءة، وتبقى مشدودة، إلى كل كمال. وما أظن شعباً تهزه المروءات والأريحيات يسبق الشعب العربي في ذلك، وادرس أدب هذا الشعب نثراً وشعراً لترى أن الحديث عن الأريحيات والمروءات يشكل جزءاً كبيراً من أدبه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان له في هذا القدم الأعلى، ألا ترى أن الله حرم عليه وعلى آل بيته الأكل من الصدقات ..
10 -
* روى البخاري في صحيحه ما قالته خديجة له يوم رجع بالوحي وأخبرها أنه قد خشي على نفسه فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، تحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ولقد قال ابن الدغنة وهو مشرك لأبي بكر يوم فكر في الهجرة إلى الحبشة الكلمات نفسها وأجاره، مما يشير إلى أنه قد استقر في ضمير العرب أن هذه المعاني من مكارم الأخلاق التي ترفع صاحبها وتجعله أهلاً للحرص عليه.
* * *
إن الإسلام والذوق والمروءة مترادفات، ومتكاملات فإذا تعارض ما ظنه الناس ذوقاً
10 - البخاري (1/ 23) 1 - كتاب الوحي.
مع الإسلام أو تعارض ما ظنه الناس مروءة مع الإسلام، فذلك علامة على فساد الذوق وسخف المروءة، أما إذا لم يتعارض شيء من ذلك مع الإسلام، فالذوق مقبول، بل مطلوب، والمروءات مقبولة، بل مطلوبة، وهل ذلك إلا العرف والمعروف.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1).
أنْ ترتب بيتك على ما ترتاح له الأذواق بما لا يتناقض مع شريعة، وأن تلبس لكل حالة لبوسها الذي يريح القلوب والأبصار، وأن تقدم للناس النظيف الجميل، أليس ذلك في محله من الحكمة؟ واقرأ هذا النص:
11 -
* روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم "إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأحسنوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في أعين الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش".
وألا تسمح لنفسك أن تسف في القول والعمل، وألا تسمح لحد أن يسف بحضرتك بما ينقض وقاراً أو حلماً أو كمالاً، وألا تسمح لنفسك أن تفعل ما ينكره عقل أو شرع أو عرف أليس ذلك من الحكمة؟، واقرأ ما يقوله علي رضي الله عنه:"لا تفعل ما يسبق إلى العقول إنكاره وإن كان عندك اعتذاره".
عندما تدرس التربية النبوية، تجد التربية للأذواق مستمرة، وتجد الحوادث المعبرة عن سلامة الذوق كثيرة في حياة الصحابة.
فمثلاً عندما يراق الماء في العلية التي كان يسكنها أبو أيوب والتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكن أسفل منها بناء على رغبته للتسهيل على ضيفانه، نجد أبا أيوب يلتقط الماء خشية أن ينزل منه شيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، إنك تجد ههنا ذوقاً رفيعاً.
(1) سورة الأعراف: 199.
(2)
سورة آل عمران: 110.
11 -
أبو داود (4/ 58) كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، وإسناده حسن.
وعندما تجد أبا طلحة يضع الثوب أمام عينيه، ثم يتقدم ليضعه على صفية زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقعت عن البعير، نجد ههنا ذوقاً رفيعاً، وعندما يُتوفى ابن أم سليم ويأتي أبو طلحة يسألها عن الطفل فتقول له: هو أسكن ما كان وتتزين له حتى يواقعها ثم تتطلف بالإعلام، ثم يدعو رسول الله أن يبارك لهما في ليلتهما، فإنك تجد قمة الذوق، وعندما يُسأل العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أهو أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. يقول: رسول الله أكبر وأنا أسن تجد كذلك ذوقاً رفيعاً.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي على أنواع من الذوق الرفيع في الأسماء وفي السلوك، فهذا جانب يجب أن نعطيه أهمية في عصرنا وأن نحيي وقائعه، فالإسلام كله ذوق، فالتوحيد أعلى درجات ذوق القلب، والعبادات أعلى درجات ذوق الجسد والاستئذان والسلام ووضع اليد على الفم أثناء التثاؤب، وعلى الأنف أثناء العطاس، ورحمة الكبير للصغير وتوقير الصغير للكبير، وأن يقدم الرجل مهراً للمرأة، وأن يستأنس بين يدي ما يريد، وأن يتلطف في الخطاب، وأن يبتعد عن الكبر والخيلاء والتكلف، كل ذلك ذوق رفيع، وعلى المسلم أن ينمي حسه الذوقي، فإذا دخل على العلماء فبالأدب، وإذا سأل فبالأدب، وإذا خالط أهل الفضل فبالأدب.
* * *
في قضايا المروءات والأريحيات يذكر وفاء سول الله صلى الله عليه وسلم الذي ليس له مثيل، يذكر وفاءه لخديجة في إدامة ذكرها وإكرام صديقاتها، ويذكر وفاءه للمشركين والكافين إذا أسدوا له معروفاً، فها هو يقول يوم بدر:
12 -
* روى أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم "لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لأعطيتهم له" وها هو يوصي بأقباط مصر خيراً لأن لهم رحماً وصهراً وما ذاك إلا لأن هاجر رضي الله عنها منهم، ولأن مارية القبطية رضي الله عنها منهم. ونجد وفاءه عليه السلام لأهل السابقة والمواقف، فهذا حاطب بن أبي بلتعة يعفو عنه مع عظم ما أتى
12 - أحمد (4/ 80).
لأنه شهد بدراً، وانظر في قضايا المروءات والأريحيات كيف أنه عليه السلام ما ضرب خادماً ولا امرأة في حياته، وكيف أكرم أبو قتادة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أن يقتل به امرأة، وكان عليه السلام لا يسبقه أحد في خلق. أ. هـ.
وبعد هذه المقدمة الطويلة عن العلم وما يستتبعه من عمل فقد آن أن نعرض فصول باب العلم:
الباب الأول
في العلم
- الفصل الأول: فضل العلم بدين الله.
- الفصل الثاني: الترغيب في إكرام العلماء وإجلالهم وتوقيرهم والترهيب من إضاعتهم وعدم المبالاة بهم.
- الفصل الثالث: الترهيب من تعلم العلم لغير وجه الله تعالى.
- الفصل الرابع: الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير.
- الفصل الخامس: الترغيب في سماع الحديث وتبليغه.
- الفصل السدس: الترهيب من الدعوى في العلم والقرآن.
- الفصل السابع: الترهيب من كتم العلم.
- الفصل الثامن: وجوب التعلم والتعليم.
- الفصل التاسع: الترهيب من أن يعلم ولا يعمل بعلمه ويقول ما لا يفعل.
- الفصل العاشر: الترهيب من المراء والجدال والمخاصمة والمحاجة والقهر والغلبة
- الفصل الحادي عشر: بعض آداب التعليم والتعلم.
- الفصل الثاني عشر: ذهاب العلماء ورفع العلم.
- الفصل الثالث عشر: كتابة الحديث ونسخ النهي عن ذلك.