الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
ذكرنا الإيمان بالقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان بعد الإيمان بالله لأنه في الحقيقة فرع الإيمان بالله وفرع معرفته، فمن عرف الله حق المعرفة وعرف صفاته من إرادة وقدرة وعلم آمن بالقدر ضرورةٌ، ولذلك قدمناه ههنا.
والنصوص كثيرة وواضحة في إثبات القدر، لكن القرآن ذكر أركان الإيمان الخمسة مجتمعة مع بعضها، وذكر القدر منفرداً لأنه كما قلنا فرع الإيمان بالله، أما السنة ذكرت الأركان الستة مع بعضها كما ورد في حديث جبريل عليه السلام:"قال [أي جبريل]: فأخبرني عن الإيمان. قال [أي رسول الله صلى الله عليه وسلم]: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى. قال [أي جبريل]: صدقت. قال [الراوي]: فعجبنا له يسأله ويصدقه".
لقد ذكرت أركان خمسة من أركان الإيمان في القرآن بجانب بعضها، قال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (1).
وجاء ذكر القدر في أكثر من مكان: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2)، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (3)، {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (4)، {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (5).
* * *
إن عقيدة القضاء والقدر هي التحقيق لمعانٍ متعددة تشمل:
معرفة الله والعبودية له والاستسلام والتسليم والتوكل، وهي تأكيد لعقيدة أهل السنة والجماعة بأن كل شيء بإرادة الله وعلمه وقدرته، وهي لا تنفي الاختيار ولا تعني الجبر.
إن هناك مشيئة نافذة وقدراً تمضي عليه أمور هذا العالم، وهذا لابد منه؛ لأن هذا
(1) النساء: 136.
(2)
القمر: 49.
(3)
الحديد: 22، 23.
(4)
الرعد: 39.
(5)
الزخرف 4.
العالم مظهر لأسماء الله ومظهر للتعرف على الله.
فاقتضت حكة الله أن يكون الجزء الاختياري الذي تقوم به الحجة على الخلق موجوداً ومحسوساً، ولكن بدلاً من أن يكون ذلك على طريقة القوة المودعة كما تقول المعتزلة كان ذلك بالإمداد المباشر، ومن سوء الفهم لهذه الحقيقة وقع الخلط والخبط، فالمعتزلة لم يتصوروا الاختيار إلا من خلال القوة المودعة، والجبرية رأوا واقع الحال أن كل شيء بعلم الله وإرادته وقدرته، فقالوا بالجبر المحض، وأهل السنة والجماعة رأوأن الاختيار أصل، فقدرة الله تعمل على وفق مشيئته، ومشيئته تعمل على وفق علمه، والعلم كاشف لا مجبر، ولكن أبى الله أن يكون معه فاعل يستقل بخلق شيء، ومن ههنا كان الإيمان بالقدر هو فرع الإيمان بالله، فمن عرف علم الله وإرادته وقدرته آمن بالقدر، فالله يعلم الأشياء كلها أزلاً وخصص أزلاً ما أراد وجوده منها بالوجود، وأبرزت قدرته ما أراد، وسجل ذلك كله في اللوح المحفوظ وذلك هو القدر. فالقضاء والقدر يتضمنان الإيمان بعلم الله وإرادته وقدرته، كما يتضمنان الإيمان باللوح المحفوظ لأن الله أخبرنا عن ذلك:
فالقدر: هو علم الله تعالى بالأزل بما تكون عليه المخلوقات كلها في المستقبل.
والقضاء: هو إيجاد الله الأشياء حسب علمه الأزلي وإرادته.
وبعضهم عكس التعريف.
هذا وقد تطلق كلمة القدر على النظام المحكم الذي أقام الله عليه أمر الوجود وذلك داخل في القدر بمعناه الأشمل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1)، على أحد وجهين في التفسير:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (2)، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (3).
إن الناس بالنسبة للخلق والخالق أقسام:
1 -
الماديون الذين يؤمنون بالمادة ويلحدون بالله عز وجل.
2 -
القائلون بقدم المادة مع الإيمان بالله عز وجل
(1) القمر: 49.
(2)
الحجر: 21.
(3)
الرعد: 8.
3 -
القائلون بالخلق مع الإيمان بعدم التدخل وإنما هي أسباب وقوانين ولا دخل للإرادة الإلهية أو القدرة الإلهية.
وهذه الفرق الثلاثة كافرة بإجماع أهل السنة والجاعة.
4 -
القائلون بالخلق مع الإيمان بالقوة المودعة والتدخل الجزئي.
وقد اختلف أهل السنة والجاعة في هؤلاء فمن مُكفِّرٍ ومن مُضَلِّل.
5 -
القائلون بالخلق واحتياج هذا الخلق إلى إمداد مستمر، وأن كل شيء ابتداء إنما كان بعلم الله وإرادته وقدرته، وأن الإمداد الإلهي مستمر، فكل شيء بعلم الله وإرادته وقدرته بدءاً واستمراراً.
هؤلاء القائلون بمسألة خلق العبد وأفعاله وكل شيء ابتداءً وانتهاءً واستمراراً هم أهل السنة والجماعة. ولهذه العقيدة تشهد النصوص. وبعض العلماء الذين لم يتلقوا عقائد أهل السنة والجماعة يغلطون في هذا الأمر ويغلِّطون، وهم على مذهب المعتزلة ولا يشعرون، وما ذلك إلا لغلبة الحس عليهم؛ لأن المسألة تدور بين صور:
1 -
علم الله أزلاً فأراد فأبرز بقدرته.
2 -
أو علم الله ولم ايراد وحدث شيء غصباً عنه
3 -
أو علم ولم يرد وأعطى الخلق قدرة.
4 -
أو علم ولم يرد وأبرز بقدرته.
5 -
أو علم ولم يرد ولم يبرز بقدرته.
الصورة الأولى هي التي تتفق وجلال الربوبية، والإيمان بها هو الذي يتحقق معه التكليف بالعبودية، وتنسجم مع فكرتيْ التوكل والدعاء، وهي مظهر كل الله الأرق والأعلى، وذلك يتفق مع قوله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1)، والصورة الأولى هي التي تحقق الإيمان بالقدر.
(1) الأنبياء: 23.