الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
- الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل هو الركن الثالث من أركان الإيمان، والكتب التي أنزلها الله عز وجل غير محصورة بعدد معروف، لكن القرآن الكريم نص على أربعة منها، ونص على صحف إبراهم وموسى، فكا أن الرسل عليهم الصلاة والسلام غير محصورين بعدد على القول الراجح، لكنه - أي القرآن - حدثنا عن خمسة وعشرين منهم تفصيلًا فكذلك الكتب، والدليل على ذلك قوله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (1).
قال الفخر الرازي عند هذه الآية نقلًا عن القاضي: (ظاهر الآية يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر، ودون ذلك الكتاب أم لم يدون، وكان ذلك الكتاب معجزًا أم لم يكن، كذلك لأن كون الكتاب منزلًا معهم لا يقتضي شيئًا من ذلك). ا. هـ.
وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} - أي بالمعجزات على القول الراجح - {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (2). وأخبرنا جل جلاله عن المسيح عليه السلام: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (3)، فسر بعض العلماء الكتاب في الآية الأخيرة بالكتابة والخط واحتل لها تفسيرًا آخر أنه المفروض؛ أخذًا من قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (4): أي فريضة مؤقتة بوقت، فالكتاب يأتي بمعنى المكتوب وهو المفروض، والحكمة معناها وضع الأمور في مواضعها، فقد آق الله عز وجل المسيح علم المفروضات على العباد، وأوتي الحكمة في الأقوال والأفعال، وأوتي التوراة حفظًا وفهمًا، وأنزل عليه الإنجيل كتابًا متميزًا.
والرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم يعرفون فرائض الله بتعريف الله إياهم،
(1) البقرة: 213.
(2)
الحديد: 25.
(3)
المائدة: 110.
(4)
النساء: 103.
وكذلك كتابهم سواء دون أو لم يُدوّن، كبيرًا كان أو صغيرًا، تقل إلى الناس باللفظ والمعنى أو بالمعنى دون اللفظ.
لكن القرآن خص بالذكر التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف إبراهم وموسى؛ فهذه لفظها ومعناها من الله عز وجل، وخص القرآن من بينها بأنه معجز، كما خص بخصائص أخرى، منها أن الله تولى حفظه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1). وقامت هذه الأمة بتوفيق الله لها بحفظ كتابها، بينما كلف أهل الكتب الأخرى بأن يتولوا حفظها فلم يقوموا بحق الله عز وجل:{بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (2).
- والظاهر أن الأسفار الخمسة الأولى من أسفار العهد القديم - وهي تعتبر عند اليهود التوراة - قد اختلطت فيها صحف موسى مع التوراة مع السيرة الذاتية لموسى عليه السلام مع قومه ومع فرعون، وهذا واضح من أدنى قراءة لهذه الأسفار، هذا مع التبديل والتحريف والزيادة والنقص مما تدل عليه أدلة كثيرة، وفي كتابنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي تفسيرنا برهنا على ذلك من خلال نصوص هذه الأسفار، ويكفينا ما شهد به القرآن عنهم:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (3)، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (4)، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} (5) وهناك شيء آخر غير التوراة أنزل بمناسبات أخرى.
- والظاهر أن الأناجيل الحالية قد أختلط فيها كذلك ما هو من الإنجيل وما هو سيرة ذاتية للمسيح عليه الصلاة والسلام مع التحريف والتبديل، فالأناجيل المعتمدة عند نصارى اليوم مكتوبة بأقلام مدرسة بولس الذي حرف دين المسيح، وهناك أناجيل أخرى لم تُعقد واندرست، وكل ما وصلنا مما يسمى إنجيلًا نجده وكأنه سيرة ذاتية للمسيح عليه الصلاة والسلام فيه مقاطع؛ نحس بأنه بالإمكان أن تكون من الإنجيل، ولكنا لا نستطيع الجزم.
(1) الحجر: 9.
(2)
المائدة: 44.
(3)
النساء: 46.
(4)
المائدة: 41.
(5)
البقرة: 79.
- والظاهر أن الزبور الحالي قد اختلط فيه ما هو وحي رباني هو إنشاد لداود بما هو قصائد أخرى قالها غير داود، يظهر ذلك بأدنى تأمل، فهنا مزامير لا تذكر نسبتها وهناك مزامير تذكر أن داود قالها بمناسبات، وهناك مزامير أخرى تنسب لقائليها.
- والراجح أن هناك بقية من صحف موسى في الأسفار الخمسة مخلوطة بغيرها.
ومن ههنا نعرف رحمه الله عز وجل إذ خص محمدًا صلى الله عليه وسلم بكتابه الحاكم والمهيمن والمعجز والمحفوظ لتفيء البشرية إليه، ويكون حجة على المكلفين، وجعل فيه من الخصائص مالا يحاط به.
وتوجد عند أمم كثيرة غير اليهود والنصارى أسفار دينية قد تكون بعض أصولها مروية عن الأنبياء، ولكن ذلك لا نستطيع الجزم به، وإن كنا نجزم أنه ما من أمة إلا وقد أرسل لها من يلفها دعوة الله:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (1). وهؤلاء الرسل جميعًا بعثوا بتبيان المفروض على الناس، وتعليم الحكمة في التعامل مع الخالق والخلوق، وبعثوا بتزكية الأنفس:{هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (2)، {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (3).
وهذا كله يتم عبر تبليغ الوحي؛ سواء أشبه هذا الوحي الأحاديث القدسية في شريعتنا، أو أشبه السنة النبوية ثم سجله الناس عن أنبيائهم وحرفوه فيا بعد، ويحتمل أن يكون الله عز وجل قد أنزل كتبًا أخرى غير الذي ذكره لنا؛ فقد قال الله عز وجل:{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} (4)، قال الفخر الرازي:(وللوحي خصائص وللكتب السماوية خصائص وسمات وخص القرآن بمزيد من هذه الخصائص والسمات)، وقد ذكرت في القرآن الكريم خصائصه وصفاته فهو: محكم، مثاني، حق، عدل، مفصل، يفرق بين الحق والباطل، يبين كل شيء يحتاجه المكلف في أمر دنياه وأخراه وفيه الهداية والرحمة، وآياته على نوعين: محكمة ومتشابهة، وفيه عرض لآيات الله في الكون والنفس، وفيه علم الساعة، وهو أعلى كتاب، وأحكم كتاب، وفيه الإنذار
(1) فاطر: 24.
(2)
النازعات: 18، 19.
(3)
البقرة: 129.
(4)
البقرة: 213.
والتبشير، وهو الحكم الفصل لكل ما أختلف فيه الناس، وهو شفاء لما في الصدور من أمراض وشكوك وأسئلة وحَيْرةٍ، وهذا وغيره تجده في القرآن الكريم مما وصف الله عز وجل كتابه، كما سنرى ذلك.
وكلمة الإنجيل تعني البشارة، والنصوص القرآنية تذكر أن عيسى عليه السلام جاء مبشرًا برسول اسمه أحمد، وقد وصف الله عز وجل رسالة عيسى بصفات تنطبق ضرورة على الإنجيل، كما وصف الإنجيل بصفات، ومن خلال ذلك تتحدد معالم الإنجيل:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (1)، {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (2)، {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (3).
وأما الزبور فلم يأت له وصف قرآني ولكن اسمه يوحي بأنه أقرب إلى الأنشودة والتذكير، قال صلى الله عليه وسلم:(لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود)(4). والمراد بالمزمار هنا: الصوت الحسن.
والمزامير الموجودة الآن في العهد القديم منها ما هو منسوب لداود ومنها ما هو منسوب لغيره، ويظهر من قراءتها وكأن بعضها عليه طابع الوحي، وبعضها نشيد لداود، نفسه وبعضها نشيد لغيره، والله أعلم.
(1) الصف: 6.
(2)
المائدة: 46.
(3)
آل عمران: 49.
(4)
البخاري (9/ 92) - 66 - كتاب فضائل القرآن - 31 - باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن.
ومسلم (1/ 546) - 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - 34 - باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن. والترمذي (5/ 693) - 50 - كتاب المناقب - 56 - باب في مناقب أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وقال: هذا حديث غريب.
والنسائي: (2/ 180) - 11 - كتاب الافتتاح - 83 - باب تزيين القرآن بالصوت.
(5)
الأنبياء: 105.
وأما التوراة فقد وصفت في القرآن بأوصاف جامعة:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} (1)، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} (2).
وأما صحف إبراهم وموسى فقد ذكر بعض ما فيها بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (3).
وقد وردت إشارة إلى بعض ما في صحف إبراهيم بقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (4).
ولم تصلنا كل أخبار الرسل السابقين وما أنزل عليهم وما بلغوه أقوامهم إلا ما جاء في القرآن والسنة، أما ما سوى ذلك فالأدلة الواضحات والتحقيقات القاطعات تشهد على التحريف والتبديل، ومن ههنا تكفل الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم ليبقى الحجة القطعية على الخلق في كل ما بعث به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد تضمن ذلك كله الآيات والمفروض والحكمة وتزكية النفس وزاد على ذلك، وقد جعله الله معجزًا لتقوم به الحجة على الخلق جيعًا:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (5).
وقد جاء بالأحكام التي تسع الزمان والمكان وخفف فيه عن المكلفين ما شدد على أمم سابقة عقوبة لهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (6).
* * *
(1) المائدة: 44.
(2)
الأعراف: 145.
(3)
الأعلى: 14 - 19.
(4)
النجم: 37، 38.
(5)
المائدة: 48.
(6)
الأعراف: 157.
والإيمان بالقرآن يدخل فيه الإيمان بحروفه وقراءاته ومضمونه، ويدخل فيه الإيمان بالسنة شارحة الكتاب:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1).
- وأسهل طريقة لنتعرف على خصائص القرآن أن نعرف ما وصف الله عز وجل به كتابه، أو ما سماه به، أو ما وصف به رسول صلى الله عليه وسلم الله كتاب الله وسماه به، وقد أحصى الإمام الزركشي في كتابه (البرهان) ثمانية وأربعين اسمًا؛ من ذلك أنه روح:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (2)، ومن ذلك النور:{جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (3)، ومن ذلك الذكر:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (4)، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (5)، ومن ذلك الهدى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (6)، ومن ذلك حبل الله:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (7)، ومن ذلك الحق:{وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} (8)، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (9). ومن ذلك الشفاء:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (10)، ومن ذلك الموعظة والرحمة:{قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (11)، ومن ذلك المبين:{قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا} (12)، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (13) ومن ذلك أحسن الحديث:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} (14)، ومن ذلك المحكم: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
(1) النحل: 44.
(2)
الشورى: 52.
(3)
المائدة: 15.
(4)
الحجر: 9.
(5)
طه: 124.
(6)
الإسراء: 9.
(7)
آل عمران: 103.
(8)
الرعد: 1.
(9)
فصلت: 42.
(10)
فصلت: 44.
(11)
يونس: 57.
(12)
المائدة: 15.
(13)
النحل: 89.
(14)
الزمر: 23.
خَبِيرٍ} (1). فكتاب اجتمعت فيه هذه الخصائص وغيرها مع عجز البشر أن يأتوا بأقصر سورة من سوره أو ثلاث آيات من آياته ففيه دليل أنه من الله عز وجل.
- إنك عندما تنظر إلى القرآن ككل تجده مدهشا بما اجتمع فيه من تناسق وتوافق وتكامل وبما فيه من كل في الأسلوب والفصاحة والمعاني: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2).
- والقرآن فيه إعجاز ومعجزات، فإعجازه قدر مشترك فيه، وذلك وحده معجزة محسة قامت بها الحجة على العالمين، إذ عجز الخاطبون وهم عاجزون إلى الأبد أن يأتوا بسورة من مثله:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (3). فالعجز عن الإتيان بأدنى سورة من سوره هو مظهر إعجازه، وهناك زيادة على الإعجاز معجزات تظهر حيثما وجدت شيئًا يستحيل أن يكون مصدره بشريًا كالآيات التي تتحدث عن كونيات لم يكتشفها الإنسان إلا مؤخرًا، وكإخباره عن الغيوب السابقة واللاحقة، وأسرار وحدته إلى غير ذلك من أمور أطنب الكتاب في شرحها وتحدثنا عن بعضها في كتابنا (الرسول) صلى الله عليه وسلم وفصلنا الكثير منها في التفسير.
- والحديث عن أسباب الإعجاز يطول وقد لا يدرك كل إنسان هذه الأسباب ولكن الحجة قائمة على البشر بالعجز وفي ذلك الكفاية، والأسهل على الخلق أن يتعرفوا على معجزاته، فقيام الحجة بها على العرب والعجم وكل مكلف لا يتمارى فيه، فمن معجزاته أنه قدم للمكلفين هداية كاملة في العقائد والعبادات والتشريع والأخلاق والآداب ومن معجزاته أنه قدم تصورًا عجيبًا عن الكون والحياة وعن الزمان والكان بما لم تعرف أبعاده إلا في عصرنا:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (4)، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا
(1) هود: 1.
(2)
النساء: 82.
(3)
البقرة: 23، 24.
(4)
الحج: 47.
لَمُوسِعُونَ} (1)، {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (2)، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (3) ومن معجزاته ما حدثنا به عن كونيات لم تعرف إلا في عصرنا، ومن معجزاته ما أخبر به عن مستقبلٍ ووقع، ومن معجزاته ما أخبر به عن أمم سالفة ولم يكن العرب يعرفونها، ومن معجزاته تضمنه لكل ما في كتب أهل الكتاب من معان مع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان أميًا، ومن معجزاته التناسب في جميع ما تضنه ظاهرًا وباطنا من غير اختلاف فيه، ومن معجزاته وفاؤه بحاجات البشر في الهداية في كل شيء، ومن معجزاته التصرف في الأمثال والتصوير مما لا يخطر على قلب بشر:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (4).
- ولا شك أن لمعاني القرآن دخلًا في إعجازه، ومع المعاني اجتمعت فصاحة لا مثيل لها، وبلاغة لا مثيل لها، وأسلوب لا مثيل له، ونظم لا مثيل له، وجزالة لا تصح من مخلوق بحال، وحسن بيان بالغ ذروة الكمال، وتصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي حتى يقع منهم الاتفاق على إصابته في وضع كل كلمة وكل حرف في موضعه، هذا مع ما اجتمع فيه من خصائص وصفات مع ما وجد فيه من روح وحياة كل ذلك عوامل في الإعجاز، والأمر أوسع من ذلك.
وبعد، فالإيمان بالكتب يشمل:
- الإيمان الإجمالي بكل كتاب أنزله الله عز وجل على كل نبي ورسول، والإيمان التفصيلي بما سماه الله عز وجل لنا وذكره، وهي: القرآن وهو أفضلها ثم التوراة وهي تالية له بالفضل ثم الإنجيل ثم الزبور ثم صحف إبراهيم وموسى.
- ومقتضى الإيمان بالكتب الاعتقاد بأنها وحي من الله عز وجل للرسل الذين أنزلت عليهم هذه الكتب.
(1) الذاريات: 47.
(2)
الواقعة: 75، 76.
(3)
الأنبياء: 30.
(4)
الكهف: 109.
- وأن الكتب السابقة على القرآن ضاعت أو خرقت أو بدلت أو غيرَت أو اختلطت بغيرها وجاء القرآن مؤكداً لثوابتها وذاكرًا التكليفات المستمرة وناسخا للأحكام الخاصة.
{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ (2).
- الإيمان بالقرآن يقتضي الإيمان بعموم الخطاب فيه للمكلفين من الإنس والجن جميعًا ويقتضي الإيمان بخلود هذا الخطاب وأن المكلفين من الإنس والجن مخاطبون به حتى يرث الله الأرض ومن عليها وأنه شامل كامل، وأنه الكتاب الوحيد الذي لم يداخله تغيير ولا تبديل، وأنه حاكم وناسخ لكل كتاب سابق.
هذا وقد مرت معنا نصوص في القسم الأول من هذا الكتاب عن القرآن وستأتي نصوص في أقسام لاحقة في سياقاتها فلنكتف بما ذكرناه هنا كي لا يخلو هذا القسم من تذكير بكل ما يلزم في باب العقائد.
* * *
(1) المائدة: 48.
(2)
النساء: 131.
(3)
الأعراف: 157.