الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب- الصابئة:
حاول الأستاذ عبد الرحمن حبنكة أن يعطينا تصورًا عن صائبة العراق في كتابه: (العقيدة الإسلامية) فقال.
(يقول المؤرخون: إن أمة السريان أقدم الأمم، وملتهم هي ملة الصابئين -نسبة لصابي أحد أولاد شيث-، ويذكر الصابئون أنهم أخذوا دينهم عن شيث وإدريس، وأن لهم كتابًا يعزونه إلى شيث ويسمونه: (صحف شيث)، ويتضمن هذا الكتاب على ما يذكرون الأمر بمحاسن الأخلاق، والنهي عن الرذائل.
وأصل دينهم التوحيد وعبادة الخالق جل وعلا. وتخليص النفوس من العذاب في الآخرة بالعمل الصالح في الدنيا، والحض على الزهد في الدنيا، والعمل بالعدل.
قالوا: وللصابئين عبادات منها: سبع صلوات في اليوم والليلة: خمس صلوات منهن توافق صلوات المسلمين، والسادسة صلاة الضحى، والسابعة صلاة يكون وقتها في الساعة السادسة من الليل. وصلاتهم تشبه صلاة المسلمين من حيث النية وعدم خلطها بشيء من غيرها.
ولهم صلاة على الميت بلا ركوع ولا سجود.
وعندهم صيام شهر قمري من السنة ويصومون من ربع الليل الأخير حتى غروب قرص الشمس.
ويعظمون بيت مكة.
قال ابن حزم: والدين الذي انتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر، وقد كان الغالب على الدنية إلى أن أحدثوا فيه الحوادث) ا. هـ. (العقيدة الإسلامية).
وقد تحدث العقاد في كتابه: (إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام عن الصابئة، وكان من كلامه:
تدين بعقائد الصابئة ملة يبلغ عدد أبناؤها ستة ألاف بين رجل وامرأة وطفل، ولا يجوز بها المبالغ في عددها عشرة آلاف.
وهي على قلة عددها تستقل بلغة (مقدسة) خاصة، [عندهم] ولهم كتابة أبجدية خاصة، وأحكام دينية في معيشتها ولا تشبه في جملتها دينًا واحدًا ولكنها تشبه في بعض
أجزائها كل دين.
ومن ثم كان لها شأن في الدراسات الدينية.
ففيها ولا شك عقائد سابقة لجميع الأديان الكتابية، وعقائد سابقة لدين الخليل. بل فيها - على رأي بعض الباحثين- بقية من الديانتين المختلفتين في عصر الخليل، لأن الصائبة يدينون بمذاهب مختلفة يرد بعضها على بعض، ولا سيما مذاهب الكواكب والأصنام، مما تواترت الأخبار بالاختلاف عليه بين قوم إبراهيم ومن حاربوهم واضطروهم إلى الهجرة من بلادهم
…
ويقول رايت wright صاحب كتاب المطالعة العربية إن حروفهم الأبجدية تشبه الحروف النبطية، وإن لغتهم تشبه لغة التلمود الذي كتب في بابل، ويقولون هم إن لغتهم الأولى سريانية وإنهم كانوا بمصر على عهد الفراعنة الأول وتلقوا ديانتهم الأولى عن أحبارهم ثم هجروها حين تحول أهلها عن الدين القويم.
والمحقق من أمرهم أنهم يرجعون إلى أصل قديم، لأن استقلالهم باللغة الدينية والكتابة الأبجدية، لم ينشأ في عصر حديث ولهذا يفهم الدارسون للأديان أن تحقيق لغتهم وكتابتهم يؤدي إلى جلاء الغوامض عن كثير من تاريخ الكلدان في الزمن الذي قام فيه الخليل بدعوته، ويؤكد هذا الفهم أن هؤلاء الصابئة يقيمون في الأقاليم الجنوبية من العراق حيث أقام الخليل في رواية العهد القديم، ومنهم فئة تحج إلى حاران التي هاجر إليها، وينسب إليها الصابئة الحرانيون
…
ومع استقلال الصابئة باللغة الدينية والكتابة الأبجدية، يشتركون مع أصحاب الأديان في شعائر كثيرة، ولا يعرف دين من الأديان تخلو عقيدة الصابئة من مشابهة له في إحدى الشعائر. . فهم يشبهون البراهمة والمجوس والأورفيين أصحاب النحل السرية، كما يشبهون اليهود والنصارى والمسلمين، أو كما يشبهون الفلاسفة وأصحاب المذاهب العقلية في تفسير الوجود والموجودات.
وهم كما يشبهون الجميع يخالفون الجميع.
فمن مشابهتهم للبراهمة أنهم يتحرجون من ملامسة غيرهم، ويتطهرون إذا لمسوا غريبًا في
حالة من حالات العبادة.
ومن مشابهتهم لأصحاب العقائد الأورفية - أو السرية - أنهم يكتمون كتبهم أشد الكتمان، ولا يباشرون شعائرهم مع الغرباء، ويتقاسمون الخبز المقدس علامة على الأخوة الروحية، ويعتقدون أن الكون كونان وأن الخلق خلقان. فالكون الظاهر غير الكون الباطن، ولكل مخلوق في العلانية صورة محجوبة في عالم الغيب .. حتى آدم وبنوه منهم أهل ظاهر وأهل باطن لا يراهم من يعيشون في العلانية.
ومن مشابهتهم للمجوس أنهم يتوجهون إلى قطب الشمال وإلى الكواكب عامة، ولكنهم لا يعبدونها، بل يحسبونها من مظاهر الروحانيات التي لا تبرز للعيان ..
ومن مشابهتهم للمسيحين أنهم يدينون بالعماد، ويبجلون يوحنا المعمدان أو يحي المغتسل. ولكن التعميد أعم عندهم من التعميد في المسيحية، ويندر منهم من يسكن بعيدًا من الأنهار لحاجتهم كل يوم إلى العماد، وإلى التطهر بالماء.
ومن مشابهتهم للمسلمين أنهم يقيمون الصلاة مرات في اليوم، ويقولون إنها فرضت عليهم سبعًا ثم أسقطها يوحنا عنهم وأدخل بعضها في بعض واكتفى منها بثلاث، ولكنهم لا يسجدون في صلاتهم بل يكتفون بالقيام والركوع، وهو يتوضأون قبل الصلاة ويغتسلون من الجنابة. ويعرفون نواقض الوضوء ولكنهم يغالون فيها.
وعندهم ذبائح كذبائح اليهود، ويوم في ختام السنة كيوم اليهود. ولكنهم يحرمون الختان ولا يبنون لهم هيكلًا قائمًا، بل يبنون الهيكل من القصب كما تبنى الخيام، موقوتًا عند الحاجة إليه في الأعياد. فكأنها بقية أو أصل لعيد الظلال وللهيكل المنقول.
ومنهم من يحرم الطعام الذي حرمه أتباع فيثاغورس كالبصل، ويضيفون إليه أنواعًا من الخضر كالكرنب ولحوم الحيوان ذي الذنب، لأنهم يستوحون الغيب في الرؤيا، وهذه الأطعمة تمنع الرؤيا الصادقة.
والمشهور عن الصابئة أنهم يوقرون الكعبة في مكة، ويعتقدون أنها من بناء هرمس أو إدريس عليه السلام، وأنها بيت زحل أعلى الكواكب السيارة، وينقل عنهم عارفوهم أنهم قرأوا صفة محمد عليه السلام في كتبهم، ويسمونه عندهم ملك العرب، لأن الشائع فيهم أنهم
لا يؤمنون بالأنبياء إلا فرقة واحدة تذكر شيئًا وإدريس وإبراهيم ويحيى المغتسل، ويحسبونهم تارة من الأنبياء وتارة من عباد الله الخلص الذين وصلوا بالرياضة والعبادة إلى مقام الزلفى والإلهام.
وقد كان الباحثون يعجبون لتنويه القرآن الكريم بهذه الملة مع قلة عددها وخفاء أمرها، ولكن الدراسات الحديثة بينت للباحثين العصريين شأن هذه الملة في دراسات الأديان كافة، فعادوا يبحثون عن عقائدهم الآن وعقائدهم في عصر الدعوة الإسلامية، وثبت لهم أنها تؤمن بالله واليوم الآخر، وتؤمن بالحساب والعقاب، وأن الأبرار يذهبون بعد الموت إلى عالم النور (آلمي دنهورو) وأن المذنبين يذهبون إلى عالم الظلام (آلمي دهشوخا) ويلبثون فيه زمنًا على حسب ذنوبهم، ثم ينقلون منه إلى عالم النور ..
ولهم كتاب يسمونه (كنزة) ولعله من مادة الكنز التي تفيد معنى النفاسة والكتمان، لأنهم يقدسونه ويخفونه فلا يطلعون أحدًا على أسراره ..
إلا أن المتفق عليه أن اللغة التي كتب بها كتاب الكنزة وغيره من الكتب المقدسة عندهم هي لفة سامية الأصل قريبة من السريانية، وتكفي نظرة في مصطلحاتهم للجزم بهذه التقية ويوجبونها، ومن ذاك أنهم يحرمون الصيام باطنًا كما اشتهر عنهم، ولكنهم يصومون جهرًا، ويروي ابن النديم في الفهرست أنهم يصومون ثلاثين يومًا مفرقة على أشهر السنة، وقد يتنفلون بصيام أيام النسيء الخمسة، ويروى عنهم أنهم يصومون خمسة أسابيع يأكلون فيها الطعام نهارًا وليلًا ويجتنبون أكل اللحوم المباحة لهم وهي غير ذات الذنب، ويقال إن الصيام بنوعيه قديم عندهم ويرجع إلى أيام البابليين. ا. هـ. (إبراهيم أبو الأنبياء).
وبعد:
لقد ذكرنا هذا الوصل ليكون القارئ على بصيرة في فهم موضوع الرسالة، فلقد غلب على عض الناس فهم أن الرسالات لم تكن إلا في منطقتنا من هذا العالم، وهذا غلط، كما أن هناك ناسًا قد يسارعون في نسبة النبوة والرسالة إلى أحد دون تحقيق ودون عرض على
النصوص، كما أن هناك ناسًا يغالطون ويغلطون فيذكرون أن عقيدة التوحيد كانت نتيجة تطور، وهم بذلك ينفون رسالات الله إلى الأمم، وينسون أن أول رسول هو آدم عليه السلام، فالتوحيد هو الأصل دائمًا يحدث الانحراف.
ومما يذكر في هذا الوصل وغيره، ندرك رحمة الله ونعمته على البشرية إذ أرسل محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الكتاب، وبهذا الدين الكامل الذي أخرج الناس جميعًا بما في ذلك بقايا أهل الأديان من الظلمات إلى النور.
لقد قلنا من قبل: إن الله عز وجل قد بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم ليكسر استمرارية أهل الأديان وغيرهم على الكفر، كما جاء ذلك في قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (2).
ومن هذا الإرسال وقيام الحجة به بهذا القرآن الخالد المعجز فإن الكثيرين لازالوا مستمرين على ما ورثوه من كفر وضلال، ولذلك حكمته.
ومن حكمته: أن الله عز وجل خلق النار وخلق لها أهلها، وقال تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (3).
ومن حكمته: أن يزداد أهل الإيمان يقينًا عندما يقارنون ويدرسون ويكتشفون أن حقائق القرآن هي التي ترجع الناس إلى فطرهم وحقائق أديانهم قبل التحريف والتبديل.
ولكن إذا كان في استمرارية أهل الكفر على كفرهم حكم فهذا شيء، وأن نقوم بحق الله في الدعوة إلى دينه الحق شيء آخر، فقد أوجب الله عز وجل علينا أن ندعو وأن نبلغ،
(1) إبراهيم: 1 - 3.
(2)
البينة: 1 - 3.
(3)
السجدة: 13.
وأعلمنا أن أهل الكتاب في شك من أمرهم ولذلك فإن علينا أن ندعوهم ونقيم الحجة عليهم، والشأن شأنهم أن يختاروا الجنة على النار، أو النار على الجنة. قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} (1).
* * *
(1) الشورى: 13 - 15.