الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور)
هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَخُو السفاح عبد الله الْمُتَقَدّم قبله كَانَ السفاح ولَاه الْحَج سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمَات السفاح فِي ثَالِث عشر ذِي الْحجَّة مِنْهَا فَأَتَاهُ الْخَبَر وَهُوَ عَائِد من الْحَج وأتته الْخلَافَة بمكانٍ يعرف بالصافية فَقَالَ صفا أمرنَا وَكَانَ السفاح قد عهد قبل مَوته بالخلافة لِأَخِيهِ أبي جَعْفَر وَمن بعده لعيسى ابْن أخيهما مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس وَجعل الْعَهْد فِي ثوب وختمه بخواتيم أهل الْبَيْت وَدفعه إِلَى عِيسَى وَلما توفّي السفاح وَكَانَ أَبُو جَعْفَر بِمَكَّة حَاجا أَخذ لَهُ الْبيعَة على النَّاس عِيسَى بن مُوسَى وَكتب إِلَيْهِ بالْخبر فجزع واستدعى أَبَا مُسلم وَكَانَ قد حج مَعَه كَمَا تقدَم ذكره فَأَقْرَأهُ الْكتاب فَبكى أَبُو مُسلم واسترجَعَ وسكَّن أَبَا جَعْفَر عَن الْجزع وَبَايع لَهُ أَبُو مُسلم وَالنَّاس وأقبلا حَتَّى اقدما الْكُوفَة وَيُقَال إِن أَبَا مُسلم كَانَ فِي رُجُوعه من مَكَّة مُتَقَدما على أبي جَعْفَر وَأَن الْخَبَر أَتَاهُ قبله فَكتب إِلَيْهِ يعزيه ويهنيه بالخلافة وَبعد يَوْم كتب لَهُ ببيعته فَلَمَّا قدم أَبُو جَعْفَر الْكُوفَة سَار مِنْهَا إِلَى الأنبار فَسلم إِلَيْهِ عِيسَى بن مُوسَى بيُوت الْأَمْوَال والدواوين واستقام أَمر أبي جَعْفَر الْمَنْصُور قَالَ ابْن خلدون تولى أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور الْخلَافَة فِي أول سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَكَانَ أول مَا فعل أَن قتل أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي صَاحب دعوتهم وممهد دولتهم وَذَلِكَ لما كَانَ أَبُو مُسلم يستخف بِأبي جَعْفَر من حِين بَعثه السفاح إِلَى خُرَاسَان ليَأْخُذ الْبيعَة لَهُ وَلأبي جَعْفَر من بعده كَمَا ذكرت آنفَاً ولأمور أخر حدثت عَن أبي مُسلم مِنْهَا أَنه لما حج مَعَه كَانَ يُؤثر نَفسه على الْمَنْصُور ويتقدم بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوُفُود وَإِصْلَاح الطَّرِيق والمياه وَكَانَ الذّكر لَهُ وَلما صَدرا
عَن الْمَوْسِم تقدم ولقيه الْخَبَر بوفاةَ السفاح قبل الْمَنْصُور فَبعث إِلَى أبي جَعْفَر يعزيه وَلم يهنئه بالخلافة وَلَا رَجَعَ إِلَيْهِ وَلَا انتظره فَغَضب أَبُو جَعْفَر وَكتب إِلَيْهِ وَأَغْلظ فِي العتاب فَكتب إِلَيْهِ يهنئه بالخلافة وَتقدم إِلَى الأنبار قبل أبي جَعْفَر ودعا عِيسَى بن مُوسَى أَن يُبَايع لَهُ فَأبى عِيسَى لِأَن عَهده إِنَّمَا هُوَ بعد موت الْمَنْصُور فَأَرَادَ أَبُو مُسلم رفع الْخلَافَة عَن أبي جَعْفَر إِلَى عِيسَى فَامْتنعَ عَسى وَقدم أَبُو جَعْفَر وَقد كَانَ عَم الْمَنْصُور عبد اللِّه بن عَليّ الَّذِي كَانَ تولى قتال مَرْوَان ابْن مُحَمَّد خلع طَاعَة الْمَنْصُور وَبَايع لنَفسِهِ وَقَالَ إِن السفاح حِين أَرَادَ أَن يبْعَث الْجنُود إِلَى مَرْوَان بن مُحَمَّد تكاسل عَنهُ بَنو أَبِيه فَقَالَ لَهُم من انتدب مِنْكُم فَهُوَ ولي عهدي فَلم ينتدب غَيْرِي وسرت إِلَى مَرْوَان بن مُحَمَّد وَشهد لَهُ أَبُو حَاتِم الطَّائِي وخفاف المروروذي وَغَيرهمَا من القواد وَبَايَعُوهُ وَكَانَ قد ظفر من أَمْوَال بني أُميَّة بِمَا لَا يحصَى من ذخائر وَبِمَا لَا يستقصى فسرح أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي إِلَى قتال عَمه عبد الله بن عَليّ الْمَذْكُور فَهَزَمَهُ وَجمع الْغَنَائِم من عسكره فَبعث أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور مَوْلَاهُ أَبَا الخصيب لجمعها فَغَضب أَبُو مُسلم وَقَالَ أَنا أَمِين على الدُّعَاء فَكيف أخون الْأَمْوَال وهم بقتل أبي الخصيب ثمَّ خلى عَنهُ وخَشِيَ الْمَنْصُور أَن يمْضِي أَبُو مُسلم إِلَى خُرَاسَان فَكتب لَهُ بِولَايَة الشَّام فازداد نفاراً وَخرج من الجزيرة يُرِيد خُرَاسَان وَسَار أَبُو جَعْفَر إِلَى الْمَدَائِن وَكتب إِلَى أبي مُسلم يستقدمه فَأَجَابَهُ بالامتناع والتمسك بِالطَّاعَةِ عَن بُعدٍ والتهديد بِالْخلْعِ إِن طلب سوى ذَلِك فَبَقيَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور حائراً بعد أَن هَم بقتْله بَين الاستبداد بِرَأْيهِ فِي أَمر أبي مُسلم وَبَين الاستشارة فِيهِ فَقَالَ يَوْمًا لسلم بن قُتَيْبَة مَا ترى فِي أبي مُسلم فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا فَقَالَ الْمَنْصُور حَسبك يَابْنَ قُتَيْبَة لقد أودعتها أذنا وَاعِيَة ثمَّ كتب الْمَنْصُور إِلَى أبي مُسلم يُنكر عَلَيْهِ هَذَا الشَّرْط وَأَنه لَا يحسن مَعَه طَاعَة وَبعث إِلَى عِيسَى بن مُوسَى برسالة يؤانسه وَقيل بل كتب إِلَيْهِ أَبُو مُسلم يعرض لَهُ بِالْخلْعِ وَأَنه تَابَ إِلَى الله مِمَّا جناه من الْقيام بدعوتهم وَأخذ أَبُو مُسلم طَرِيق حلوان وَأمر الْمَنْصُور ابْن عَمه عِيسَى بن مُوسَى فِي مشيخة بني هَاشم بِكِتَاب إِلَى
أبي مُسلم يحرضونَهُ على التَّمَسُّك بِالطَّاعَةِ ويحذرونه عَاقِبَة الْبَغي ويأمروته بِالرُّجُوعِ وَبعث الْكتاب مَعَ مَوْلَاهُ حميد المروروذي وَأمره بملاينته والخشوع لَهُ بالْقَوْل حَتَّى ييأس مِنْهُ فَإِذا يئس من مُوَافَقَته يُخبرهُ بقسم أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا وكلت أَمرك إِلَى غَيْرِي وَلَو خضت الْبَحْر لخضته وَرَاءَك وَلَو اقتحمت النَّار لاقتحمتها حَتَّى أَقْتلك أَو أَمُوت فأوصل حميد الْكتب وتلطف لَهُ فِي القَوْل مُؤمنا واحتجَ عَلَيْهِ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي التحريض على طاعتهم فَاسْتَشَارَ أَبُو مُسلم مَالك بن الْهَيْثَم فَأبى لَهُ من الإصغاء إِلَى القَوْل وَقَالَ وَالله لَئِن أَتَيْته ليقتلنك ثمَّ بعث أَبُو مُسلم إِلَى ميزك صَاحب الرّيّ يستشيره فَأبى لَهُ من ذَلِك وَأَشَارَ عَلَيْهِ بنزول الرّيّ وخراسان من وَرَائه ليَكُون أمكن لسلطانه فَأجَاب أَبُو مُسلم حميدَاً رَسُول أبي جَعْفَر بالامتناع فَلَمَّا يئس حميد مِنْهُ أبلغه مقَالَة الْمَنْصُور فَوَجَمَ طَويلا ورعب من ذَلِك القَوْل وأكبره وَكَانَ الْمَنْصُور قد كتب إِلَى عَامل أبي مُسلم بخراسان يرغبه فِي الانحراف عَنهُ بِولَايَة خُرَاسَان فَأجَاب سرا وَكتب إِلَى أَبُو مُسلم بخراسان يحذرهُ الْخلاف وَالْمَعْصِيَة فزاده على ذَلِك رعْبًا وَقَالَ لحميد قبل انْصِرَافه قد كنت عزمت على الْمُضِيّ إِلَى خُرَاسَان ثمَّ رَأَيْت أَن أوجه أَبَا إِسْحَاق إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يأتيني بِرَأْيهِ فَإِنِّي أَثِق بِهِ فَبعث بِهِ إِلَى الْمَنْصُور فَلَمَّا قدم أَبُو إِسْحَاق تَلقاهُ بَنو هَاشم وَأهل الدولة بِكُل مَا يحب وداخله الْمَنْصُور فِي صرف أبي مُسلم عَن وجهة خُرَاسَان ووعده بولايتها فَرجع أَبُو إِسْحَاق إِلَى أبي مُسلم وَأَشَارَ عَلَيْهِ بلقاء الْمَنْصُور فاعتزم على ذَلِك واستخلف مَالك بن الْهَيْثَم بعسكره بحلوان وَقدم الْمَدَائِن على الْمَنْصُور فِي ثَلَاثَة آلَاف وخشي أَبُو أَيُّوب وَزِير الْمَنْصُور أَن يحدث مِنْهُ عِنْد قدومه فتك فَدَعَا بعض إخوانه وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يَأْتِي أَبَا مُسلم ويتوسل بِهِ إِلَى الْمَنْصُور فِي ولَايَة كسكر يُصِيب فِيهَا مَالا عَظِيما وَأَن يُشْرك أَخَاهُ فِي ذَلِك وَيجْعَل ذَلِك أَبُو مُسلم فِي حَوَائِجه وَأَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عازم على أَن يوليه مَا وَرَاء بَابه وَينْزع نَفسه وَاسْتَأْذَنَ لَهُ المنصورَ فِي لِقَاء أبي مُسلم فَأذن لَهُ فلقي ذَلِك الْبَعْض أَبَا مُسلم وتوسل إِلَيْهِ وَأخْبرهُ الْخَبَر فطابت نَفسه وَذهب عَنهُ الْحزن واستبشر بتولية الْمَنْصُور إِيَّاه مَا وَرَاء بَابه
وَلما قرب أَبُو مُسلم أَمر الْوَزير أَبُو أَيُّوب النَّاس بتلقيه ثمَّ دخل على الْمَنْصُور فَقبل يَده ثمَّ انْصَرف ليريح ليلته ودعا الْمَنْصُور من الْغَد حَاجِبه عُثْمَان بن نهيك وَأَرْبَعَة من الحرس مِنْهُم شبيب بن واج وَأَبُو حنيفَة حَرْب بن قيس وأجلسهم خلف الرواق وَأمرهمْ بقتل أبي مُسلم إِذا صفق بيدَيْهِ واستدعى أَبَا مُسلم فَلَمَّا دخل سَأَلَهُ عَن سيفين أصابهما لِعَمِّهِ عبد الله بن عَليّ وَكَانَ أَبُو مُسلم مُتَقَلِّدًا أَحدهمَا فَقَالَ أَبُو مُسلم هَذَا أَحدهمَا فَقَالَ الْمَنْصُور أرنيه فانتضاه أَبُو مُسلم وناوله إِيَّاه فَأخذ يقلبه بِيَدِهِ ويهزه ثمَّ وَضعه تَحت فرَاشه وَأَقْبل يعاتبه فَقَالَ كتبتَ إِلَى السفاح تنهاه عَن الْموَات كَأَنَّك تعلمه فَقَالَ أَبُو مُسلم ظَنَنْت أَنه لَا يحل ثمَّ اقتديتُ بِكِتَاب السفاحِ وعلمتُ أَنكُمْ مَعْدن الْعلم قَالَ فتقدمك عني بطرِيق مَكَّة فَقَالَ كرهت مزاحمتك على المَاء قَالَ فامتناعُكَ عَن الرُّجُوع إِلَيّ حِين بلغك موت السفاح وامتناعك عَن الْإِقَامَة حَتَّى ألحقك قلت قد تقدَم أَن أَبَا مُسلم حَال عودهما من الْحَج كَانَ مُتَقَدما على الْمَنْصُور فَبَلغهُ خبر موت السفاح قبله وَلم يرجع إِلَى الْمَنْصُور للتعزية والتهنئة لَهُ بالخلافة وَلم يقمْ فِي مَكَانَهُ إِلَى أَن يصل إِلَيْهِ الْمَنْصُور بل استمرَّ سائراً حَتَّى دخل الْكُوفَة قبله فَلذَلِك يؤنبه بذلك فَقَالَ أَبُو مُسلم طلبت الرِّفْق بِالنَّاسِ والمبادرة إِلَى الْكُوفَة قَالَ فجارية عمي عبد الله أردتَ أَن تتخذها لنَفسك قَالَ لَا وَإِنَّمَا وكلْتُ بهَا من يحفظها قَالَ فمراغمتك وسيرك إِلَى خُرَاسَان قَالَ خفت مِنْك فَقلت آتِي خُرَاسَان وأكتُبُ بعذري فَأذْهب مَا فِي نَفسك مني قَالَ فَالْمَال الَّذِي جمعته بحران قَالَ أنفقته على الْجند تَقْوِيَة لكم قَالَ أَلَسْت الْكَاتِب إليَّ تبدأُ بِنَفْسِك وتخطب آمِنَة بنت عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس وتزعم أَنَّك من ذُرِّيَّة سليط بن عبد الله بن عَبَّاس لقد ارتقيت لَا أُمَ لَك مرتقى صعبَاً ثمَّ قَالَ لَهُ وَمَا الَّذِي دعَاك إِلَى قتل سُلَيْمَان بن كثير مَعَ أَثَره فِي دَعوتنَا وَهُوَ أحد نقبائنا من قبل أَن ندخلك فِي هَذَا الْأَمر قَالَ أَرَادَ الْخلَافَة فَقتلته ثمَّ قَالَ أَبُو مُسلم كَيفَ يُقَال لي هَذَا بعد بلائي وَمَا كَانَ مني قَالَ يَا ابْن الخبيثة لَو كَانَت أَمَة مَكَانك لأغْنَتْ إِنَّمَا ذَاك بدولتنا وريحنا فأكب أَبُو مُسلم قبل يَدي الْمَنْصُور وَيعْتَذر فازداد الْمَنْصُور
غَضبا فَقَالَ أَبُو مُسلم دع هَذَا فقد أَصبَحت لَا أَخَاف إِلَّا الله وَحده فشتمه الْمَنْصُور وصفَّق بِيَدِهِ فَخرج الحرس وضربه عُثْمَان بن نهيك فَقطع علابيه قَالَ أَبُو مُسلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ استبقني لعدوك فَقَالَ لَا أبقاني الله إِذن وَأي عَدو أعدى مِنْك وَأَخذه الحرس بسيوفهم حَتَّى قَتَلُوهُ وَذَلِكَ لخمس بَقينَ من شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَخرج الْوَزير أَبُو الجهم فصرف النَّاس والجند وَقَالَ الْأَمِير قَائِل عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ فانصرفوا وَأمر لَهُم بالجوائز وأعطَى أَبَا إِسْحَاق مائَة ألف وَدخل عِيسَى بن مُوسَى على الْمَنْصُور بعد قَتله فَسَأَلَهُ عَنهُ وَأخذ فِي الثَّنَاء على طَاعَته وبلائه وَذكر رَأْي الإِمَام إِبْرَاهِيم فِيهِ فَقَالَ الْمَنْصُور وَالله لَا أعلم على وَجه الأَرْض عدوا أعدى لكم مِنْهُ هُوَ ذَا فِي الْبسَاط فَاسْتَرْجع عِيسَى فَأنْكر عَلَيْهِ الْمَنْصُور وَقَالَ وَهل كَانَ لكم ملك مَعَه ثمَّ دخل على الْمَنْصُور جَعْفَر بن حَنْظَلَة فَاسْتَشَارَ فِي قتل أبي مُسلم فَأَشَارَ بقتْله فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور وفقك الله ثمَّ نظر إِلَيْهِ قَتِيلا فَقَالَ عُدَ خلافتك من هَذَا الْيَوْم ثمَّ دَعَا أَبَا إِسْحَاق وعذله على مُتَابعَة أبي مُسلم وَقَالَ تكلم بِمَا أردْت وَأخرجه قَتِيلا فَسجدَ أَبُو إِسْحَاق ثمَّ رفع رَأسه يَقُول الْحَمد لله الَّذِي آمنني بك وَالله مَا جِئْته قَطُّ إِلَّا وتكفنْتُ وتحنطْتُ وَرفع ثِيَابه وَأرَاهُ كَفنه وحنوطه فرحمه الْمَنْصُور وَقَالَ اسْتقْبل طَاعَتك وَاحْمَدْ الله الَّذِي أراحك وَكتب الْمَنْصُور بعد قتل أبي مُسلم إِلَى نصر بن الْهَيْثَم الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ أَبُو مُسلم على خُرَاسَان حَال سيره إِلَى الْمَنْصُور كتابَاً على لِسَان أبي مُسلم يَأْمُرهُ بِحمْل أثقاله وَقد كَانَ أَبُو مُسلم أوصاه إِن جَاءَك كتابي بخاتمي تَاما فَاعْلَم أَنِّي لم أكتبه فَلَمَّا رَآهُ نصر بن الْهَيْثَم كَذَلِك فطنَ وَانْحَدَرَ إِلَى همذان يُرِيد خُرَاسَان فَكتب لَهُ الْمَنْصُور بوالية شهرزور وَكتب إِلَى زُهَيْر بن التركي بهمذان بِحَبْس نصر فَمر نصر بهمذان وخادعه زُهَيْر وَدعَاهُ إِلَى طَعَامه وحبسه وَجَاء كتاب الْعَهْد بشهرزور لنصر فَأَطْلقهُ زُهَيْر ثمَّ جَاءَهُ بعد ذَلِك كتاب فَقَالَ جَاءَنِي كتاب عَهده فخليت سَبيله ثمَّ قدم نصر على الْمَنْصُور فعذله فِي استشارته على أبي مُسلم بالامتناع من السّير إِلَيْهِ فَقَالَ نصر نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اصطنعني فنصحتُ لَهُ وَإِن
اصطنعني أَمِير الْمُؤمنِينَ نصحت وشكرت فَاسْتَعْملهُ الْمَنْصُور على الْموصل ثمَّ أقبل الْمَنْصُور على من حضر وَأَبُو مُسلم طريح بَين يَدَيْهِ وأنشده من // (السَّرِيع) //
(زَعَمْتَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُقَتَضَى
…
فَاسْتَوْفِ بالكَيْلِ أَبَا مُجْرِمِ)
(إِشْرَبْ بِكَأْسٍ كُنْتَ تَسْقِي بِهَا
…
أَمَرَّ فِي الحَلْقِ مِنَ العَلْقَمِ)
وَكَانَ يُقَال لَهُ أَبُو مُجرم وَفِيه يَقُول أَبُو دلامة من // (الطَّوِيل) //
(أَبَا مُجْرِمٍ مَا غَيَّرَ الله نعمَةً
…
على عَبْدِهِ حَتَّى يغيِّرَهَا العَبْدُ)
(أَفِي دَوْلَةِ المنْصُورِ حاوَلْتَ غدرةَ
…
أَلا إِن أهْلَ الغَدْرِ آباؤُكَ الكُرْدُ)
(أَبَا مجرِمٍ خَوَّفْتَنِي القَتْلَ فانْتَحَى
…
عليكَ بِمَا خوفْتنِي الأَسَدُ الوَرْدُ)
وَلما قَتله الْمَنْصُور خطب النَّاس فَذكر أَن أَبَا مُسلم أحسن أَولا وأساء آخرا ثمَّ قَالَ فِي آخر خطبَته وَمَا أحسن قَول النَّابِغَة الذبياني للنعمان بن الْمُنْذر من // (الْبَسِيط) //
(فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ
…
كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلى الرَّشَدِ)
(وَمَنْ عَصَاكَ فعاقبْهُ معاقبَةً
…
تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا تقَعُدْ على ضَمَدِ)
الضمد بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَالْمِيم الحقد وَفِي ابْن خلكان وَغَيره كَانَ أَبُو مُسلم قد سمع الحَدِيث وروى عَنهُ وَأَنه خطب يَوْمًا فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ مَا هَذَا السوَاد الَّذِي أرى عَلَيْك فَقَالَ أَبُو مُسلم حَدثنِي أَبُو الزبير عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَن النَّبِي
دخل مَكَّة يَوْم الْفَتْح وعَلى رَأسه عِمَامَة سَوْدَاء وَهَذِه ثِيَاب الهيبة وَثيَاب الدولة يَا غُلَام اضْرِب عُنُقه قلت حَدِيث جَابر هَذَا فِي صَحِيح مُسلم وَمن ثمَّ كَانَ شعار بني الْعَبَّاس فِي الْخطْبَة السَّوْدَاء وَكَانَ أَبُو مُسلم فصيحَاً عَالما بالأمور شجاعاً فاتكاً وَلم يُرَ قطّ مازحاً وَلَا يظْهر عَلَيْهِ سرُور وَلَا غضب وَلَا يَأْتِي النِّسَاء إِلَّا مرّة وَاحِدَة فِي السّنة وَكَانَ يَقُول
النِّكَاح جنونٌ وَيَكْفِي الْعَاقِل أَن يجن فِي السّنة إِلَّا مرّة وَاحِدَة وأحصى من قَتله أَبُو مُسلم صبرَاً وَفِي حروبه فَكَانُوا سِتّمائَة ألف ونيفاً وَفِي المحاسن قَالَ قَالَ ابْن الْمعَافي لأبي مُسلم أَيهَا الْأَمِير لقد قُمْت بأمرِ لَا يقصر بك ثَوَابه عَن الْجنَّة فِي إِقَامَة دولة بني الْعَبَّاس فَقَالَ خوفي من النَّار وَالله أولى من طمعي فِي الْجنَّة إِنِّي أطفأت من بني أُميَّة جَمْرَة وألهبت من بني الْعَبَّاس نيراناً فَإِن أفرح بالإطفاء فواحسرتا من الإلهاب وَحدث أَبُو نميلَة عَن أَبِيه قَالَ سَمِعت أَبَا مُسلم بِعَرَفَات يَقُول فِي الْموقف باكياً اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوب إِلَيْك مِمَّا أَظن أَنَّك لن تغفره لي فَقلت أَيهَا الْأَمِير أيعظم على الله تَعَالَى غفران ذَنْب فَقَالَ إِنِّي نسجت ثوبَاً من الظُّلم لَا يبْلى مَا دَامَت الدولة لبني الْعَبَّاس فكم صارخٍ وصارخةٍ تلعنني عِنْد تفاقم هَذَا الْأَمر فَكيف يغْفر الله تَعَالَى لمن هَذَا الْخلق خصماؤه انْتهى وَاخْتلف فِي نسبته فَقيل من الْعَرَب وَقيل من الْعَجم وَقيل من بني أُميَّة وَقيل من الأكراد وَقيل لَهُ مَا كَانَ سَبَب خُرُوج الدولة عَن بني أُميَّة فَقَالَ لأَنهم أبعدوا أصدقاءهم ثِقَة بهم وأدنوا أعداءهم تألفاً لَهُم فَلم يصر الْعَدو صديقا بالتأليف وَصَارَ الصّديق عدوا بالإبعاد وَفِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة دخل عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان الْأمَوِي الْمُسَمّى بالداخل لِأَنَّهُ أول من دخل الْمغرب فَدخل الأندلس وَاسْتولى عَلَيْهَا وامتدت أَيَّامه وَبقيت الأندلس فِي يَد أَوْلَاده إِلَى بعد الأربعمائة وَكَانَ عبد الرَّحْمَن هَذَا من أهل الْعلم وَالْعدْل وَكَانَت سيرته حميدة فِي الدّين وَكَانَ يُجَاهد الْكفَّار على إعلاء كلمة الدّين فَقيل للْإِمَام مَالك بن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِن بالمغرب ملكا قَائِما بالشرائع يلبس الصُّوف وَيَأْكُل الشّعير ويجاهد أَعدَاء الدّين من الْمُشْركين المجاورين لَهُ فَقَالَ مَا أحْوج بَلْدَتنَا إِلَى وَاحِد مثله تتزين بِهِ فوصلت كلمة مَالك إِلَيْهِ بالأندلس فَجمع النَّاس فِي مَمْلَكَته ونادى
أَلا يدان إِلَّا بِمذهب مَالك فَمن ثمَّ كَانَ أهل الْمغرب على مَذْهَب الإِمَام مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ثمَّ سمع الْمَنْصُور بذلك فحصلت مِنْهُ إساءة إِلَى الإِمَام مَالك بِسَبَب ذَلِك القَوْل وَأمه بربرية وَكَذَلِكَ أم الْمَنْصُور فَكَانُوا يَقُولُونَ ملك الدُّنْيَا ابْنا بربريتين الْمَنْصُور وَعبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة هَذَا وَفِي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة حج الْمَنْصُور فَنزل فِي دَار الندوة وَكَانَ يخرج فيطوفُ سحرًا بِالْبَيْتِ فَخرج ذَات لَيْلَة فَبَيْنَمَا هُوَ يطوف إِذْ سمع قَائِلا يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك ظُهُور الْبَغي وَالْفساد فِي الأَرْض وَمَا يحول بَين الْحق وَأَهله من الطمع فهرول الْمَنْصُور حَتَّى مَلأ مسامعه ثمَّ رَجَعَ إِلَى دَار الندوة وَقَالَ لصَاحب الشرطة إِن بِالْبَيْتِ رجلا يطوف صفته كَذَا فائتني بِهِ فَخرج فَوجدَ رجلا عِنْد الرُّكْن الْيَمَانِيّ فَقَالَ أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْمَنْصُور مَا الَّذِي سَمِعتك آنِفا تشكوه إِلَى الله تَعَالَى من ظُهُور الْبَغي وَالْفساد إِلَى آخِره فوَاللَّه لقد حشوتَ مسامعي مَا أَمْرَضَنِي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الَّذِي دخله الطمع وَحَال بَين الْحق وَأَهله أنتَ فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور وَيحك كَيفَ يدخلني طمع والصفراء والبيضاء ببابي وَملك الأَرْض فِي قبضتي فَقَالَ الرجل سُبْحَانَ الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهل دخل أحدا من الطمع مَا دَخلك إِن الله تَعَالَى استرعاك أُمُور الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ فأهملت أُمُورهم واهتممت بِجمع أَمْوَالهم واتخذت بَيْنك وَبينهمْ حجابَاً من الجص والآَجُر وحجبة تمنعهم الْبَلَاغ وَأمرت أَلا يدْخل عَلَيْك إِلَّا فلَان وَفُلَان ثمَّ استخلصتهم لنَفسك وآثرتهم على رعيتك وَلم تَأمر بإيصال الْمَظْلُوم وَلَا الجائع وَلَا العاري وَلَا أحد إِلَّا وَله فِي هَذَا المَال حَق فَلَمَّا رآك هَؤُلَاءِ الَّذين استخلصتهم لنَفسك وآثرتهم على رعيتك تجمَعُ الأموالَ وَلَا تقسمها قَالُوا هَذَا قد خَان الله وَرَسُوله فمالنا لَا نخونه فَاجْتمعُوا على أَلا يصل إِلَيْك من أَمْوَال النَّاس إِلَّا مَا أَرَادوا فصاروا شركاءك فِي سلطانك وَأَنت غافل عَنْهُم وَإِذا جَاءَ الْمَظْلُوم إِلَى بابك وَجدك قد أوقفت ببابك رجل ينظر فِي الْمَظَالِم فَإِن كَانَ الظَّالِم من بطانتك علل الْمَظْلُوم وسوف بِهِ من وَقت إِلَى وَقت
فَإِذا اجْتهد وَظَهَرت أنتَ فَصَرَخَ بَين يَديك ضرب ضربَاً مبرحاً ليَكُون نكالا لغيره وَأَنت ترى ذَلِك فَلَا تنكره وَلَقَد كَانَت الْخُلَفَاء من قبلك إِذا انْتَهَت إِلَيْهِم الظلامة أزيلَتْ فِي الْحَال وَلَقَد كنت أسافر إِلَى الصين فقدمتُ مرّة إِلَيْهِ فَوجدت الْملك الَّذِي بِهِ فَقَدَ سَمْعَهُ فَبكى فَقَالَ وزراؤه مَا يبكيك فَقَالَ مَا بَكَيْت لمصيبة نزلت بِي إِنَّمَا أبْكِي لمظلوم يصْرخ بِالْبَابِ فَلَا أسمعهُ ثمَّ قَالَ إِن ذهب سَمْعِي فَلم يذهب بَصرِي نادوا فِي النَّاس لَا يلبس أحد أَحْمَر إِلَّا مَظْلُوما وَكَانَ يركب الْفِيل وَيذْهب فِي الْبَلَد لعلَه يجد لابس ثوب أَحْمَر فينصفه فَهَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رجل مُشْرك بِاللَّه غلبت رأفته على شح نَفسه بالمشركين فَكيف بك وَأَنت مُؤمن بِاللَّه وَابْن عَم رَسُول الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا يجمع المَال لإحدى ثَلَاث إِن قلتَ إِنَّمَا أجمع المَال للْوَلَد فقد أَرَاك الله عِبْرَة فِي الطِّفْل إِذْ يسْقط من بطن أمه وَلَيْسَ لَهُ على وَجه الأَرْض من مَال وَمَا من مَال إِلَّا ودونه يَد شحيحة تحويه فَلم يزل لطف الله تَعَالَى بذلك الطِّفْل حَتَّى تعظم رَغْبَة النَّاس فِيهِ وحوى مَا حوته تِلْكَ الْيَد الشحيحة وَلست بِالَّذِي تُعْطِي وَإِنَّمَا الله سبحانه وتعالى المعطِي وَإِن قلت إِنَّمَا أجمعه لمصيبة تنزل بِي فقد أَرَاك الله تَعَالَى عِبْرَة فِي الْمُلُوك والقرون الَّذين خلو من قبلك مَا أغْنى عَنْهُم مَا أعدُّوا من الْأَمْوَال والذخائر والكُرَاع حِين أَرَادَ الله تَعَالَى مَا أَرَادَ وَإِن قلت إِنَّمَا أجمعه لغاية هِيَ أحسن من الْغَايَة الَّتِي أَنْت فِيهَا فوَاللَّه مَا فَوق غايتك إِلَّا منزلَة لَا تدْرك إِلَّا بِالْعَمَلِ الصَّالح فَبكى الْمَنْصُور بكاء شديدَاً ثمَّ قَالَ كَيفَ أعمل والعلماءُ قد فرَتْ مني والصالحون لم يدخلُوا عَليّ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ افْتَحْ الْبَاب وانتصر للمظلوم من الظَّالِم وَخذ المَال مِمَّا حل واقسمه بِالْحَقِّ وَالْعدْل وَأَنا ضَامِن من هرب مِنْك أَن يعود إِلَيْك ثمَّ خرج الرجل فَقَامَ الْمَنْصُور للصَّلَاة فَلَمَّا صلى طلب الرجل فَلم يجده فَذهب إِلَيْهِ الشرطي فَوَجَدَهُ عِنْد الرُّكْن الْيَمَانِيّ فَقَالَ أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الرجل لَيْسَ إِلَى ذَلِك سَبِيل قَالَ الشرطي إذنْ يضْرب عنقِي قَالَ لَا وَلَا إِلَى ضرب عُنُقك سَبِيل ثمَّ أخرج وَرقا مكتوبَاً فَقَالَ خُذْهُ مَعَك فَإِن فِيهِ دُعَاء الْفرج وَذكر لَهُ فضلا عَظِيما فَأَخذه الشرطي وأتى إِلَى الْمَنْصُور فَلَمَّا رَآهُ قَالَ وَيحك
أتحسن السحر قَالَ لَا وَالله ثمَّ قصّ عَلَيْهِ الْقِصَّة فَأمر الْمَنْصُور بنقله وَأمر للشرطي بِأَلف دِينَار وَهُوَ هَذَا اللَّهُمَّ كَمَا لطفت فِي عظمتك وقدرتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمتَ مَا تَحت أَرْضك كعلمك بِمَا فَوق عرشك فَكَانَت وساوس الصُّدُور عنْدك كالعلانية وَعَلَانِيَة القَوْل كالسر فِي علمك فانقاد كل شَيْء لعظمتك وخضع كل ذِي سُلْطَان لسلطانك وَصَارَ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة كُله بِيَدِك اجْعَل لي من كل هم وغم أصبحتُ أَو أمسيتُ فِيهِ فرجَاً ومخرجاً اللَّهُمَّ إِن عفوك عَن ذُنُوبِي وتجاوزك عَن خطيئتي وسترك على قَبِيح عَمَلي أطمعني أَن أَسأَلك مَا لَا أستوجبه مِنْك بهما قصرت فِيهِ فصرت أَدْعُوك آمنَاً وَأَسْأَلك مستأنساً فَإنَّك المحسن وَأَنا الْمُسِيء إِلَى نَفسِي فِيمَا بيني وَبَيْنك تتودد إليَ بنعمتك وأتبغض إِلَيْك بِالْمَعَاصِي وَلَكِن الثِّقَة بك حَملتنِي على الجرأة عَلَيْك فَعُدِ اللَّهُمَّ بِفَضْلِك وإحسانك عَليّ إِنَّك أَنْت الرءوف الرَّحِيم وَكَانَ هَذَا الرجل هُوَ الْخضر عليه السلام وَهَذَا الدُّعَاء مَشْهُور بِأَنَّهُ دُعَاء الْخضر وَهُوَ عَظِيم الْفَوَائِد جم العوائد وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة بني مَدِينَة بَغْدَاد سَببهَا ثورة الرواندية عَلَيْهِ بالهاشمية وَلِأَنَّهُ كَانَ يكره أهل الْكُوفَة وَلَا يَأْمَن على نَفسه مِنْهُم فتجافى عَن جوارهم وَسَار إِلَى مَكَان بَغْدَاد الْيَوْم وَجمع من كَانَ هُنَاكَ من البطارقة وسألهم عَن أَحْوَالهم ومواضعهم فِي الْحر وَالْبرد والمطر والوحل والهوام واستشارهم فأشاروا عَلَيْهِ بمكانها وَقَالُوا تجيئك الْميرَة فِي السفن من الشَّام والرقة ومصر وَالْمغْرب إِلَى الصراة وَمن الصين والهند وَالْبَصْرَة وواسط وديار بكر وَالروم والموصل فِي دجلة وَمن أرمينية وَمَا اتَّصل بهَا من تامراً تتصلُ بالزاب يَعْنِي نهر الْموصل وَأَنت بَين أَنهَار كالخنادق لَا تعبر إِلَّا على القناطر والجسور وَإِذا قطعتها لم يكن لعدوك مطمع فِي أَرْضك وَأَنت متوسط بَين الْبَصْرَة والكوفة وواسط والموصل قريب من الْبر وَالْبَحْر والجبل فشرع الْمَنْصُور فِي عمارتها وَكتب إِلَى الشَّام والكوفة وواسط وَالْبَصْرَة فِي الصناع والفعلة وَاخْتَارَ من ذَوي الْفضل وَالْعَدَالَة والعفة وَالْأَمَانَة والمعرفة بالهندسة فأحضرهم لذَلِك وَأمر بخطها بالرماد فشكلَت
أَبْوَابهَا وفصلاتها وطاقاتها ونواحيها وَجعل على الرماد حب الْقطن فأضرم نَارا ثمَّ نظر إلِيِها وَهِي تشتعل فَعرف رسمها وَأمر أَن تحفر الأسوس على ذَلِك الرَّسْم ووكل بهَا أَرْبَعَة من القواد يتَوَلَّى كل وَاحِد مِنْهُم نَاحيَة ووكل الإِمَام الْأَعْظَم أَبَا حنيفَة بن ثَابت رضي الله عنه بِعَد الآجُر وَاللَّبن وَقد كَانَ أَرَادَهُ على الْقَضَاء والمظالم فَأبى فَحلف أَلا يقْلع عَنهُ حَتَّى يعْمل لَهُ عملا فَكَانَ هَذَا وأْمر الْمَنْصُور أَن يكون عرض أساس السُّور من أَسْفَله خمسين ذراعَاً وَمن أَعْلَاهُ عشْرين ذِرَاعا وَوضع بِيَدِهِ أول لبنة وَقَالَ بِسم الله وَالْحَمْد لله وَالْأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين ثمَّ قَالَ ابْنُوا على بركَة الله وَاسْتَشَارَ خَالِدا الْبَرْمَكِي فِي نقض الْمَدَائِن وإيوان كسْرَى فَإِنَّهُ بِالْمَدَائِنِ فَقَالَ لَا أرى لَك لِأَنَّهُ من آثَار الْإِسْلَام وفتوح الْعَرَب وَفِيه مصلى عَليّ بن أبي طَالب فاتهمه الْمَنْصُور بعصبية الْعَجم لِأَن خَالِدا أَصله من الْعَجم وَأمر بِنَقْض الْقصر الْأَبْيَض فَإِذا الَّذِي ينْفق عَلَيْهِ أَكثر من الثّمن الْجَدِيد فأقصر الْمَنْصُور عَنهُ فَقَالَ لَهُ خَالِد أما الْآن فَلَا أرى إقصارك عَنهُ لِئَلَّا يُقَال عجزوا عَن هدم مَا بناه غَيرهم وَالْهدم أيسَرُ من الْبناء فَأَعْرض عَنهُ وَنقل الْأَبْوَاب إِلَى بَغْدَاد من وَاسِط وَمن الشَّام وَمن الْكُوفَة وَجعل الْمَدِينَة مُدَوَّرَة وَجعل قصره وَسطهَا ليَكُون النَّاس مِنْهُ على حد سَوَاء وَجعل الْمَسْجِد الْجَامِع إِلَى جنب الْقصر وَجعل لَهَا سورين والداخل أَعلَى من الْخَارِج وَكَانَ زنة اللَّبن الَّذِي يَبْنِي بِهِ كل لبنة مائَة رَطْل وَسَبْعَة عشر رطلا وطولها ذِرَاع فِي ذِرَاع وَكَانَ مِقْدَار النَّفَقَة عَلَيْهَا بالجامع وَالْقصر والسورين والفنادق والأبواب والأسواق أَرْبَعَة آلَاف ألف وَثَمَانمِائَة ألف وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَفِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين توطأت الممالك كلهَا للمنصور وجلت هيبته فِي النُّفُوس ودانت لَهُ الْأَمْصَار وَلم يبْق خَارِجا عَنهُ سوى جَزِيرَة الأندلس فَإِنَّهُ غلب عَلَيْهَا عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام كَمَا قدمت ذكره وَفِي سنة تسع وَأَرْبَعين فرغ من بِنَاء بَغْدَاد وَفِي سنة خمسين بني الرصافة وشيدها وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين ألزم الْمَنْصُور رَعيته لبس القلانس الطوَال وَكَانُوا يعملونها بالقصب وَالْوَرق ويلبسونها فَقَالَ أَبُو دلامة فِي ذَلِك من // (الطَّوِيل) //
(وَكُنَّا نرجِّي من إمامٍ زِيَادَة
…
فَزَاد الإمَامُ المصطَفَى فِي القَلَانِسِ)
(تَرَاهَا على هَامِ الرجالِ كَأَنَّهَا
…
زُنَارُ يَهُودٍ جُلِّلَتْ بِالبَرَانِسِ)
وَكَانَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور مهيباً سفاكَاً ذَا دهاءِ وحزمِ وتدبيرِ لأمور الرّعية وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الصمت وعَلى ظَاهر أَحْوَاله الصّلاح أمه يُقَال لَهَا سَلامَة بربرية يُقَال إِنَّهَا قَالَت لما حملت بِهِ رأيتُ كَأَن أسداً خرج مني فأقعى وزأر وَضرب بذيله الأَرْض فَأَقْبَلت إِلَيْهِ الْأسود من كل نَاحيَة فَكلما انْتهى أَسد مِنْهَا إِلَيْهِ سجد كَانَت وِلَادَته سنة خمس وَتِسْعين وَهِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا الْحجَّاج بن يُوسُف يحْكى أَنه رتب أوقاته لأموره كَانَ بعد أَن يُصَلِّي الصُّبْح إِلَى وَقت صَلَاة الظّهْر يدبر أَحْوَال الْبِلَاد وَيرْفَع الْمَظَالِم عَن الْعباد وَيَقْضِي حوائج النَّاس وَمن الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر يدبر أَحْوَال نَفسه وَمن الْعَصْر إِلَى الْمغرب يتَقَيَّد بِأُمُور خواصِّ أهل بَيته وَبعد الْمغرب إِلَى الْعشَاء يشْتَغل بِالْقِرَاءَةِ وَبعد الْعشَاء إِلَى مُضِيّ الثُّلُث الأول من اللَّيْل يجْتَمع إِلَيْهِ ندماؤه ويتحدَثون بالسير وَالْأَخْبَار والأشعار المتضمنة للْحكم والشجاعة فَإِذا تفَرقُوا من عِنْده رقد الثُّلُث الْأَوْسَط فَإِذا دخل الثُّلُث الْأَخير قَامَ وَتَوَضَّأ وتهجد وَقَرَأَ الْقُرْآن إِلَى الصُّبْح وَفِي ربيع الْأَبْرَار سَأَلَ الْمَنْصُور بعض بطانة هِشَام بن عبد الْملك الْأمَوِي عَن تَدْبِير هِشَام فِي حروبه فَقَالَ ذَلِك الْبَعْض فعل كَذَا رحمه الله وصنع كَذَا رحمه الله فَقَالَ الْمَنْصُور لعنك الله وإياه تطَأ بساطي وتترحَم على عدوي أَخْرجُوهُ عني فَقَامَ الرجل وَهُوَ يَقُول وَالله لنعمة عَدوك قلادة فِي عنقِي لَا يَنْزِعهَا إِلَّا غاسلي فَقَالَ الْمَنْصُور ردُّوهُ عَليّ فَرُدَ فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور يَا شيخ أشهد أَنَّك نتيجة حر وَثَمَرَة شرِيف ودعا لَهُ بِمَال فَقَالَ الرجل لَوْلَا افتراض طَاعَتك مَا قبلت بعده لأحد نعْمَة فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور كفيت قَوْمك فخراً كن أول دَاخل عَليّ وَآخر خَارج عني
وَدخل بعض الهاشميين عَلَيْهِ فَجعل يحدثه وَيكثر من ذكر أَبِيه والترحم عَلَيْهِ فَيَقُول كَانَ أبي رحمه الله وَفعل أبي رحمه الله فَقَالَ لَهُ الرّبيع حَاجِب الْمَنْصُور كم تترحَم على أَبِيك بِحَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ الْهَاشِمِي أَنْت مَعْذُور فَإنَّك لَا تعرف حلاوة الْآبَاء فَخَجِلَ مِنْهُ أَشد الخجل وَذَلِكَ أَن الرّبيع كَانَ لقيطاً لَا يعرف لَهُ أَب وَكَانَ الْمَنْصُور مَعَ هَذِه الصِّفَات الحميدة يُوصف بالبخل الشَّديد وَلذَا لقب بالدوانيقي ذكر ابْن خلدون أَنه حاسب القواد الَّذين جعلهم على بِنَاء بَغْدَاد عِنْد الْفَرَاغ مِنْهَا فألزم كُلاًَ بِمَا بَقِي عِنْده حَتَّى إِنَّه أَخذ من خَالِد بن الصَّلْت مِنْهُم خَمْسَة عشرَة درهما بعد أَن حَبسه عَلَيْهَا وَمِمَّا يحْكى عَنهُ من الشُّح أَنه قَالَ للمسيب بن زُهَيْر أحضرني بِنَاء حاذقاً السَّاعَة فَأحْضرهُ فَأدْخلهُ إِلَى بعض محاله وَقَالَ ابْن لي بازائه طاقاً يكون شَبِيها بِالْبَيْتِ فَلم يزل يُؤْتِي بالحصى والآجر حَتَّى بناه وجوده فَنظر إِلَيْهِ الْمَنْصُور وَاسْتَحْسنهُ وَقَالَ للمسيب أعْطه أجره فَقَالَ أعْطِيه خَمْسَة دَرَاهِم فاستكثرها وَقَالَ لَا أرضي بذلك فَلم يزل حَتَّى نَقصه درهما ففرح بذلك وابتهج كَأَنَّهُ أصَاب مَالا وَحكي أَيْضا أَنه لدغ فَدَعَا مولى لَهُ يُقَال لَهُ أسلم رقاء فَأمره أَن يرقيه فرقاه فبرئ فَأمر لَهُ برغيف فَأخذ الرَّغِيف فثقبه وصيره فِي عُنُقه وَجعل يَقُول رقيت مولَايَ فبرئ فَأمر لي بِهَذَا الرَّغِيف فَبلغ الْمَنْصُور ذَلِك فَقَالَ لَهُ لم أبرك أَن تشنع عَليّ فَقَالَ لم أشنع إِنَّمَا أخْبرت بِمَا أمرتَ فَأمر أَن يصفع ثَلَاث أَيَّام كل يَوْم ثَلَاث صفعات قلت وَعِنْدِي وَالله فِي صِحَة هَذَا القَوْل عشرُون شكا وَالله أعلم بالحقائق وَحكي عَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ بعث إِلَيّ الْمَنْصُور فَقَالَ لم تبطئ عَنْهَا قلت وَمَا تُرِيدُ منا فَقَالَ لآخذ عَنْكُم وأقتبس مِنْكُم فَقلت لَهُ مهلا فَإِن عُرْوَة بن رُوَيْم أَخْبرنِي أَن نَبِي الله
قَالَ من جَاءَتْهُ موعظة من ربه فقبلها شكر الله لَهُ ذَلِك