الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الذَّهَبِيّ إِن الرشيد رأى مناماً أَنه يَمُوت بطوس فانتبه وَبكى وَقَالَ احفروا لي قبرَاً فحفر لَهُ ثمَّ حمل فِي قُبَّته على جمل وسيق بِهِ حَتَّى نظر إِلَى الْقَبْر فَقَالَ يَا ابْن آدم تصير إِلَى هَذَا وَأمر قوما فنزلوا فختموا فِيهِ ختمة وَهُوَ فِي محفته على شَفير الْقَبْر فَلَمَّا مَاتَ دفن بِهِ وَكَانَت خِلَافَته ثلاثَاً وَعشْرين سنة وشهرين وَتِسْعَة عشر يَوْمًا وَقيل أَرْبعا وَعشْرين وَقيل خمسَاً وَعشْرين سنة وعمره أَربع وَأَرْبَعُونَ سنة وَخَمْسَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام
(خلَافَة مُحَمَّد الْأمين)
ابْن هَارُون الرشيد بن مُحَمَّد الْمهْدي بن عبد الله الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بَايع لَهُ أَبوهُ الرشيد بِولَايَة الْعَهْد فِي سنة خمس وَسبعين ولقبه بالأمين وَله يومئذٍ خمس سِنِين لحرص أمه زبيدة على ذَلِك قَالَ الذَّهَبِيّ فَكَانَ هَذَا أول وَهن جرى فِي دولة الْإِسْلَام من حَيْثُ الْإِمَامَة ثمَّ لِابْنِهِ الآخر من بعد الْأمين عبد الله ولقبه الْمَأْمُون وولاه ممالك خُرَاسَان بأسرها ثمَّ بَايع ابْنه الآخر الْقَاسِم ولقبه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور وَهُوَ صبي فَلَمَّا قسم الدُّنْيَا بَين هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة قَالَ بعض الْعُقَلَاء قد ألْقى بَينهم بأسهم وغائلة ذَلِك تضرُ بالرعية ثمَّ إِنَّه علق نُسْخَة الْبيعَة بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة وَفِي ذَلِك يَقُول إِبْرَاهِيم الْموصِلِي من // (مجزوء الْكَامِل) //
)
خيرُ الأمورِ مغبَّةً
…
وأحمقُّ أمرٍ بالتمامْ)
(أمرٌ قضى أحكامَهُ الرْرَحمنُ
…
فِي البَيْتِ الحَرَامْ)
وَقَالَ عبد الْملك بن صَالح من // (الْبَسِيط) //
(حُبُّ الخليفةِ حبٌّ لَا يدينُ لَهُ
…
عاصِي الإلهِ وشانٍ يَلْقَِحُ الفتنا)
(أللَّهُ قَلَّدَ هاروناً سياستَهُ
…
لمَّا اصْطَفَاهْ فأحيا الفرضَ والسُّنَنَا)
(وقلَّدَ الأَمْرَ هَارُون لِرَأْفَتِهِ
…
بِنَا أَمينا ومأموناً ومؤتمنا)
قَالَ بَعضهم وَقد زوى الرشيد الْخلَافَة عَن وَلَده المعتصم لكَونه أُمِّيا فساقها الله إِلَيْهِ وَجعل الْخُلَفَاء بعده كلهم من ذُريَّته وَلم يَجْعَل من نسل غَيره من أَوْلَاد الرشيد خَليفَة بُويِعَ الْأمين بالخلافة يَوْم توفّي الرشيد بطوس والأمين بِبَغْدَاد فورد عَلَيْهِ بهَا خَاتم الْخلَافَة والبردة والقضيب فَلَمَّا تمكن من الْخلَافَة خلع أَخَاهُ الْمَأْمُون وَجعل الْعَهْد لوَلَده مُوسَى وَهُوَ فِي المهد وَسَماهُ النَّاطِق بِالْحَقِّ وَقطع ذكر الْمَأْمُون والمؤتمن وَجعل وَلَده مُوسَى فِي حجر عَليّ بن عِيسَى فَأرْسل إِلَى الْكَعْبَة الشَّرِيفَة من جَاءَهُ بِكِتَاب الْعَهْد الَّذِي علقه فِيهَا الرشيد للأمين والمأمون فمزقه وَكَانَ ذَلِك بِرَأْي الْفضل بن الرّبيع وَبكر بن الْمُعْتَمِر فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي ذَلِك من // (المتقارب) //
(أضاعَ الخلافةَ غِشُّ الضَّميرِ
…
وفسقُ الوزيرِ وجهلُ المُشِيرِ)
(ففضْلٌ وزيرٌ وبَكْرٌ مُشيرٌ
…
يريدانِ مَا فِيهِ حَتْفُ الأميرِ)
(لواطُ الخليفةِ أعجوبَةٌ
…
وأعجبُ مِنْهُ حلاق الوزيرِ)
(فَهَذَا يدوسُ وَهَذَا يُداسُ
…
وَهَذَا لعمري خلافُ الأمورِ)
(فَلَو يستعفَّانِ هَذَا بذاكَ
…
لكانا بعُرْضَةِ أمرٍ يسيرِ)
(وأعجبُ مِنْ ذَا وَذَا أَنَّنَا
…
نُبَايعُ للطفْلِ فِينَا الصغيرِ)
(ومَنْ ليسَ يُحْسِنُ غَسْلَ استِهِ
…
وَلم يخلُ من بولِهِ حجْرُ ظِيرِ)
وَكَانَ أول من أجَاب الْأمين إِلَى خلع الْمَأْمُون وزيره عَليّ بن عِيسَى بن ماهان فجهزه الْأمين لِحَرْب الْمَأْمُون فِي مائَة ألف مقَاتل فَلَمَّا قرب من الرّيّ قابله طَاهِر بن
الْحُسَيْن بن قبل الْمَأْمُون فِي أَرْبَعَة آلَاف أَو خَمْسَة آلَاف وَحمل عَلَيْهِ على حِين غَفلَة فَكَانَت بَينهمَا وقْعَة فِي ذَلِك الْموضع كَانَت الدائرة على عَليّ بن ماهان وَأَصْحَابه وانجلت عَن قتل عَليّ بن عِيسَى فحز رَأسه وظفر طَاهِر بِجَمِيعِ خزائنه وَأرْسل على الْفَوْر إِلَى ذِي الرياستين الفض 1 ل بن سهل وَزِير الْمَأْمُون بِكِتَاب يَقُول فِيهِ أَطَالَ الله بَقَاءَك وكتبت أعداوءك كتبت كتابي هَذَا إِلَيْك وَرَأس عَليّ بن ماهان بَين يَدي وخاتمه فِي إصبعي فَسمع الْمَأْمُون بذلك وَسلم عَلَيْهِ بالخلافة فِي ذَلِك الْوَقْت وَلما قتل عَليّ بن عِيسَى بعث الْأمين عبد الرَّحْمَن بن الْأَنْبَارِي فِي عشْرين ألف فَارس إِلَى همذان وولاه عَلَيْهَا وعَلى كل مَا يَفْتَحهُ من بِلَاد خرسان فَسَار إِلَى همذان وحصنها وجاءه طَاهِر فبرز إِلَيْهِ ولقيه وهزمه طَاهِر إِلَى الْبَلَد ثمَّ خرج عبد الرَّحْمَن ثَانِيَة فَانْهَزَمَ إِلَى الْمَدِينَة وحاصره طَاهِر حَتَّى ضجر مِنْهُ أهل الْمَدِينَة وَطلب الْأمان من طَاهِر فَأَمنهُ وَأقَام فِي أَمَانه ثمَّ أصَاب عبد الرَّحْمَن غرَّة من طَاهِر فَركب وهجم عَلَيْهِ فِي عسكره فقاتله طَاهِر أَشد الْقِتَال حَتَّى انهزم أَصْحَاب عبد الرَّحْمَن وَقتل وَلم يزل طَاهِر يهْزم الجيوش وَيقتل قواد الْأمين وَاحِدًا بعد وَاحِد وَهُوَ سَائِر إِلَى بَغْدَاد يُرِيد الْأمين وفر قائدا من قواد الْأمين الْكِبَار هما خُزَيْمَة بن خازم وَمُحَمّد بن عَليّ بن عِيسَى بن ماهان إِلَى طَاهِر بن الْحُسَيْن فوثبا على جسر دجلة فِي ثامن الْمحرم فقطعاه وركزا أعلامهما وخلعا الْأمين ودعيا لِلْمَأْمُونِ فَأصْبح طَاهِر ابْن الْحُسَيْن وألح على أَصْحَاب مُحَمَّد الْأمين وَدخل طَاهِر قسرَاً بِالسَّيْفِ ونادى مناديه من لزم بَيته فَهُوَ آمن ثمَّ أحَاط بِمَدِينَة الْمَنْصُور وبقصر زبيدة وَقصر الْخلد فَثَبت على قتال طَاهِر حَاتِم بن الصَّقْر والهرش والأفارقة فنصب طَاهِر المجانيق خلف السُّور وعَلى القصرين وَرَمَاهُمْ فَخرج مُحَمَّد وَأمه وَأَهله من الْقصر إِلَى مَدِينَة الْمَنْصُور وتفرق عَامَّة جنده وعلمائه وَقل عَلَيْهِم الْقُوت وَالْمَاء وفنيت خزائنهما على كثرتها قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ ذكر عَن مُحَمَّد بن رَاشد أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَنه كَانَ مَعَ مُحَمَّد بِمَدِينَة الْمَنْصُور فِي قصر بَاب الذَّهَب فَخرج لَيْلَة من الْقصر من
الضّيق والضنك فَصَارَ إِلَى قصر الْقَرار فطلبني فَأتيت فَقَالَ مَا ترى طيب هَذِه اللَّيْلَة وَحسن الْقَمَر وضوءه فِي المَاء فَهَل لَك فِي الشَّرَاب قلت شَأْنك فَدَعَا برطل من نَبِيذ فشربه ثمَّ سقيت مثله فابتدأت أغنيه من غير أَن يسألني لعلمي بِسوء خلقه فغنيت فَقَالَ مَا تَقول فِيمَن يضْرب عَلَيْك فَقلت مَا أحوجني إِلَى ذَلِك فَدَعَا بِجَارِيَة وَكَانَ اسْمهَا ضعف فتطيرتُ من اسْمهَا ثمَّ غنت الْجَارِيَة بِشعر النَّابِغَة الْجَعْدِي // (من الطَّوِيل) //
(كلبيبٌ لعمرِي كَانَ أكثَرَ ناصراً
…
وأيْسر ذَنبا مِنْك ضُرِّجَ بالدَّمِ)
فتطير الْأمين من ذَلِك وَقَالَ لَهَا غَنِي غير هَذَا فغنت // (من الْبَسِيط) //
(أبكِي فراقَهُمُ عَيْني فأرَّقها
…
إنَّ التفرُّقَ للأحبابِ بَكَّاءُ)
(مَا زَالَ يَعْدُو عليهِمْ رَيْبُ دهرِهِمُ
…
حَتَّى تفَانَوا ورَيْبُ الدَّهرِ عَدَّاءُ)
(فاليومَ أبكيهمُ جَهْدِي وأندبُهُمْ
…
حَتَّى أءوب وَمَا فِي مُقْلَتي ماءُ)
فَقَالَ لعنك الله أما تعرفين غير هَذَا فَقَالَت ظَنَنْت أَنَّك تحبه ثمَّ غنت // (من المنسرح) //
(أما وربِّ السكونِ والحرك
…
ِ إنَّ المنايا كثيرةُ الشَّرَك)
(مَا اختلَفَ الليلُ والنهارَ وَلَا
…
دارَتْ نجومُ السماءِ فِي الفلَكِ)
(إِلَّا لنقلِ السلطانِ من ملكٍ
…
قد زالَ سلطانُهُ إِلَى مَلِكِ)
(ومُلْكُ ذِي العرشِ دائمٌ أبدا
…
لَيْسَ بفانٍ وَلَا بمُشْتَرَكِ)
فَقَالَ لَهَا قومِي لعنك الله فَقَامَتْ فَعَثَرَتْ فِي قدح بلور لَهُ قيمَة فَكَسرته فَقَالَ وَيحك يَا إِبْرَاهِيم أما ترى وَالله مَا أَظن أَمْرِي إِلَّا قد قرب فَقلت بلَى يُطِيل الله عمرك ويعز ملكك فَسمِعت صَوتا من دجلة {قُضي اَلأمرُ الَّذِي فِيهِ تستفتيان} يُوسُف 41 فَوَثَبَ مُحَمَّد مُغَتَماً وَرجع إِلَى مَوْضِعه بِالْمَدِينَةِ فَقتل بعد لَيْلَة أَو لَيْلَتَيْنِ وَذكر المَسْعُودِيّ أَن إِبْرَاهِيم الْمهْدي قَالَ اسْتَأْذَنت على الْأمين وَهُوَ فِي شدَّة الْحصار فَإِذا هُوَ وَاضع رجله بالشباك وَكَانَ فِي الْقصر بركَة عَظِيمَة يدْخل من
دجلة إِلَيْهَا المَاء من ذَلِك الشباك الْحَدِيد فَسلمت وَهُوَ مقبل على المَاء والخدم والغلمان قد انتشروا فِي تفتيش المَاء وَهُوَ كالواله فَقَالَ لي لَا تؤذني يَا عَم فَإِن مقرطتى قد ذهب فِي الْبركَة إِلَى دجلة وَإِن كوثر اسْم خَادِم لَهُ خصي قد صَاد مقرطتين وَلم أصد أَنا شَيْئا بعد والمقرطة سَمَكَة كَانَ قُرْطهَا بحلقتي ذهب فيهمَا جوهرتان عظيمتان قَالَ إِبْرَاهِيم فَخرجت وَأَنا آيس من فلاحه وَقلت لَو ارتدع فِي وَقت لَكَانَ هَذَا الْوَقْت وَكَانَ مَعَ طَاهِر هرثمة بن أعين وَعظم الْأَمر وَاشْتَدَّ الْحصار وَالْبَلَاء حَتَّى خربَتْ بذلك منَازِل بَغْدَاد ووثب العيارون على أَمْوَال النَّاس فانتهبوها وَأقَام الْحصار مُدَّة سنة وَمِمَّا عمل فِي بَغْدَاد من المراثي قَول الْقَائِل // (من الوافر) //
(بكيْتُ دَمًا على بغدادَ لما
…
فقدتُّ نضارَةَ العيشِ الأنيقِ)
(أصابَتْها من الحسادِ عَين
…
فأفنَتْ أَهلهَا بالمنجنيقِ)
وتضايق الْأَمر على الْأمين وَكتب طَاهِر إِلَى وُجُوه أهل بَغْدَاد سرا يعدهم إِن أعانوه ويتوعدهم إِن لم يدخلُوا فِي طَاعَته فَأَجَابُوا طَاهِرا وفارقوا الْأمين وصرحوا بخلعه وَمنع طَاهِر الْأمين وَمن مَعَه من كل شَيْء حَتَّى كَاد هُوَ وَأَصْحَابه أَن يموتوا جوعَاً وعطشاً فَلَمَّا عاين الْأمين ذَلِك كَاتب هرثمة بن أعين وَطلب مِنْهُ أَن يُؤمنهُ حَتَّى يَأْتِيهِ فَأَجَابَهُ هرثمة إِلَى ذَلِك وَبلغ ذَلِك طَاهِرا فشق عَلَيْهِ كَرَاهَة أَن ينْسب الظفر لهرثمة دونه فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس لخمس بَقينَ من الْمحرم من سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة خرج الْأمين إِلَى هرثمة فِي حراقة فَركب الْأمين وَمن مَعَه وَكَانَ طَاهِر قد أكمن للأمين فَلَمَّا صَار الْأمين فِي الحرَاقة رَمَوْهُ بالنشاب وَالْحِجَارَة فَانْكَفَأت الحراقة وغرق مُحَمَّد وهرثمة فسبح مُحَمَّد حَتَّى صَار إِلَى بُسْتَان مُوسَى فَعرفهُ مُحَمَّد بن حميد الطاهري فصاح بِأَصْحَابِهِ فنزلوا ليأخذوه فبادر مُحَمَّد المَاء فَأخذ بِرجلِهِ وَحمله على برذون وَخَلفه بن يمسِكهُ كالأسير قَالَ أَحْمد بن سَلام كنت مَعَ الْأمين فِي الحراقة فَأخذت وحبست فَبعد هدوء من اللَّيْل إِذا أَنا بحركة الْخَيل وَهُوَ يَقُولُونَ بشر زبيدة فَأدْخل عليَ رجل عُرْيَان عَلَيْهِ سَرَاوِيل وعمامة ملثم بهَا وعَلى كتفه خرقَة خلقَة فصيروه معي ووكلوا بِنَا فَلَمَّا
حسر الْعِمَامَة عَن وَجهه فَإِذا هُوَ مُحَمَّد فاستعبرت واسترجعت فِي نَفسِي فَقَالَ لي من أَنْت قلت مَوْلَاك أَحْمد بن سَلام قَالَ أعرفك كنت تَأتِينِي بالرقة قلت نعم قَالَ كنت تَأتِينِي وتتلطفني كثيرَا لست مولَايَ بل أَنْت أخي ادن مني فَإِنِّي أجد وَحْشَة شَدِيدَة قَالَ أَحْمد فضممته إليَ ثمَّ قَالَ يَا أَحْمد مَا فعل أخي قلت حَيّ قَالَ قبح الله صَاحب الْبَرِيد مَا أكذبه كَانَ يَقُول لي قد مَاتَ قلت قبح الله وزراءك قَالَ لَا تقل فَمَا لَهُم ذَنْب وَلست أول من طلب أمرا فَلم يقدر عَلَيْهِ قَالَ أَترَاهُم يقتلونني أَو يفون لي بأمانهم قلت بل يفون لَك يَا سَيِّدي وَجعل يمسك الْخِرْقَة بعضديه فنزعت منْطقَة عَليّ وَقلت ألقها وَخذ هَذِه فَقَالَ وَيحك دَعْنِي فَهَذَا من الله لي فِي هَذَا الْموضع خير كثير فَلَمَّا انتصف اللَّيْل دخل الدَّار قوم من الْعَجم بِالسُّيُوفِ فَقَامَ وَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون ذهبت وَالله نَفسِي فِي سَبِيل الله أما من حِيلَة أما من مغيث فأحجموا عَن التَّقَدُّم وَجعل بَعضهم يَقُول لبَعض تقدم فَقُمْت وصرت وَرَاء حصر ملففة وَأخذ مُحَمَّد بِيَدِهِ وسَادَة وَقَالَ وَيحكم أَنا ابْن عَم رَسُول الله
أَنا ابْن هَارُون أَنا أَخُو الْمَأْمُون الله الله فِي دمي فَوَثَبَ عَلَيْهِ خُمَاروَيه غُلَام لقريش الدنداني فَضَربهُ بِالسَّيْفِ على مقدم رَأسه فَضَربهُ مُحَمَّد بالوسادة واتكأ عَلَيْهِ فَأخذ السَّيْف من يَده فصاح خمارويه قتلني قتلني فتكاثروا عَلَيْهِ فذبحوه من قَفاهُ وذهبوا بِرَأْسِهِ إِلَى طَاهِر فنصب رَأسه على حَائِط بُسْتَان وَأَقْبل طَاهِر يَقُول هَذَا رَأس المخلوع مُحَمَّد الْأمين ثمَّ بعث بِهِ مَعَ الْبردَة والقضيب والمصلى وَهُوَ من سعف مبطن مَعَ ابْن عَمه مُحَمَّد بن مُصعب إِلَى الْمَأْمُون فَلَمَّا وصل الرَّأْس إِلَيْهِ سجد شكرا لله تَعَالَى على الظفر وَأمر لمُحَمد ابْن مُصعب بِأَلف ألف دِرْهَم وَجَرت جثته بِحَبل وَلما بلغ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي عَم الْأمين مَا وَقع للأمين بَكَى طَويلا وَأنْشد من // (السَّرِيع) //
(عُوجَا لمعغنى طللٍ داثرِ
…
بالخُلْد ذَات الصَّخْر والآجرِ)
(والمرمر الْمسنون يطلى بِهِ
…
وَالْبَاب بَاب الذَّهَبِ الناضرِ)
(وأبلغَا عِّي مقَالا إِلَى الْمَوْلى
…
عَن المأمورِ والآمِرِ)
(قولا لَهُ يَا ابْنَ وليِّ الهدَى
…
طَهِّرْ بلادَ اللَّهِ منْ طاهِرِ)
(لم يكفِهِ أَن حَزَّ أَوْداجَهُ
…
ذبح الضَّحَايا بِمُدَى الجازِرِ)
(حَنى أَتَى يَسْحَبُ أوصالَهُ
…
فِي شَطنٍ يعنَى بِهِ السابشرِي)
(قد برد الموتُ على عيْنِهِ
…
فطرفه منكسرُ المناظِرِ)
وَلما بلغ هَذَا الشّعْر الْمَأْمُون اشْتَدَّ عَلَيْهِ ذَلِك وَنَدم وحزن وحوقل ولخزيمة بن الْحسن على لِسَان زبيدة قصيدة يَقُول فِيهَا من // (الطَّوِيل) //
(أتَى طاهرٌ لَا طَهَّرَ اللَّهُ طَاهِرا
…
فَمَا طاهِرٌ فِيمَا أتَى بُمطَهَّرِ)
(فأخرجَنِي مكشوفَةَ الوَجْهِ حاسًرا
…
فَأنْهبَ أَمْوَالِي واحْرقَ أَدْوُرِي)
(يَعزُّ عَلَى هاَرُونَ مَا قدْ لَقِيْتُهُ
…
وَمَا مَرَّ بِي من ناقِصِ الخلقِ أعورِ)
(تذكَّرْ أميرَ المؤمنينَ قَرَابتِي
…
فديتُكَ من ذِي حُرْمَةٍ مُتَذَكِّرِ)
وَكَانَ الْأمين من أحسن الشَّبَاب صُورَة أَبيض طَويلا جميلا ذَا قُوَّة مفرطة وبطش وشجاعة مَعْرُوفَة وفصاحة وأدب وَفضل وبلاغة لَكِن كَانَ سيء التَّدْبِير ضَعِيف الرَّأْي لَا يصلح للإمارة قَالَ ابْن جُبَير لما ملك مُحَمَّد الْأمين ابْتَاعَ الخصيان وغالى بهم وصيرهم لخلوته ورفض النِّسَاء والجواري وَوجه إِلَى الْبلدَانِ فِي طلب الملهين وأجرى لَهُم الأرزاق واقتنى الوحوش وَالسِّبَاع والطيور واحتجت عَن أهل بَيته وَعَن أمرائه واستخف بهم ومحق بيُوت الْأَمْوَال وضيع الْجَوَاهِر والنفائس وَبني عدَّة قُصُور فِي عدَّة أَمَاكِن وَعمل خمس حرَاقات على صفة أَسد وفيل وعقاب وحية وَفرس وَأنْفق فِي عَملهَا أَمْوَالًا فَقَالَ أَبُو نواس من // (الْخَفِيف) //
(سخَّرَ اللَّهُ للأمينِ مطايا
…
لم تُسَخَّرْ لصاحبِ المحرابِ)
(فَإِذا مَا ركابُهُ سارَ برا
…
سارَ فِي المَاء رَاكِبًا ليثَ غابِ)
(أسداً باسطاً ذرَاعْيهِ يَهْوي
…
أهرت الشِّدْقِ كَالحَ الأنيابِ)
وَهَكَذَا حَتَّى وصفهَا جَمِيعًا وَمن شجاعته وَقُوَّة بطشه مَا نَقله المَسْعُودِيّ فَقَالَ حكى أَنه اصطبح يَوْمًا فَأتى بِسبع هائل على جمل فِي قفص فَوضع بِبَاب الْقصر فَقَالَ افتحوا القفص وخلوه فَقيل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه سبع هائل أسود كالثور كثير الشّعْر فَقَالَ خلوا عَنهُ فَفَعَلُوا فَخرج فزأر وَضرب بِذَنبِهِ الأَرْض فتهارب النَّاس وأغلقت الْأَبْوَاب وبقى الْأمين وَحده غير مكترث فَأَتَاهُ الْأسد وقصده فَرفع يَده فَجَذَبَهُ الْأمين وَقبض على ذَنبه وغمزه وهزه ورماه إِلَى خلف فَوَقع السَّبع على صَخْرَة فَخر مَيتا وَجلسَ الْأمين وَكَأَنَّهُ لم يعْمل شَيْئا وَإِذا أَصَابِعه قد تخلعت فشقوا بطن الْأسد فَإِذا مرارته قد انشقت على كبده قَالَ الذَّهَبِيّ كتب الْأمين إِلَى طَاهِر بن الْحُسَيْن رقْعَة فِيهَا يَا طَاهِر مَا قَامَ لنا مُنْذُ قمنا قَائِم بحقنا فَكَانَ جَزَاؤُهُ عندنَا إِلَّا السَّيْف فَانْظُر لنَفسك أَو دع قَالَ فَلم يزل طَاهِر يتَبَيَّن موقع الرقعة مِنْهُ قلت وَكَانَ طَاهِر قد انتدب لحربه من جِهَة أَخِيه الْمَأْمُون فَكتب لَهُ هَذِه الرقعة وَهِي غَايَة فِي التحذير وَلم يل الْخلَافَة هاشمي ابْن هاشمية إِلَّا عَليّ بن أبي طَالب وَمُحَمّد الْأمين هَذَا فَإِن أم الأول فَاطِمَة بنت أَسد هاشمية وَكَذَا أم الثَّانِي زبيدة بنت جَعْفَر بن الْمَنْصُور قَالَ الصولي حَدثنَا أَبُو العيناء عَن مُحَمَّد بن عَمْرو الرُّومِي قَالَ خرج كوثر خَادِم الْأمين ليرى الْحَرْب فأصابته رجمة فِي وَجهه فَجَلَسَ يبكي وَجعل الْأمين يمسح الدَّم عَن وَجهه ثمَّ قَالَ من // (مجزوء الرمل) //
(ضَرَبُوا قرَّةَ عَيْني
…
ومِن اجْلِي ضَرَبُوهُ)
(أخَذَ اللَّهُ لقلبي
…
مِنْ أناسٍ أحرقُوهُ)
قَالَ ثمَّ أحضر عبد الله بن أَيُّوب التَّمِيمِي الشَّاعِر فَقَالَ لَهُ قل عَلَيْهِمَا فَقَالَ من // (مجزوء الرمل) //
(مَا لمَنْ أهَوى شبِيه
…
فبِهِ الدُّنْيَا تَتِيهُ
…
(وَصْلُهُ حلوُ ولكنْ
…
هجْرُهُ مُرٌّ كريهُ)
(مَنْ رأى الناسُ لَهُ فضلا
…
عَلَيْهِم حَسَدُوهُ)
(مثل مَا قَدْ حَسَدَ
…
القائمَ بالمُلْكِ أَخُوهُ)
فَقَالَ الْأمين وَالله بحياتي أَحْسَنت يَا عباسي أنظر فَإِن فَإِن جَاءَ على ظهر فأقروه لَهُ وَإِن جَاءَ فِي زورق فأوقره لَهُ فأوقر لَهُ ثَلَاثَة بغال دَرَاهِم هِيَ الَّتِي جَاءَ عَلَيْهَا وَمِمَّا قيل فِي هجو الْأمين أَقَامَهُ مقَام الرثاء فَقَالَ من // (الرمل) //
(لِمَ نبْكِيك لماذا للطَّرَبْ
…
يَا أَبَا موسَى وتزويج اللّعبْ)
(ولتَرْكِ الخَمْسِ فِي أوقاتِهَا
…
حرصاً منكَ على ماءِ العِنَبْ)
(وشنيف أَنا لَا أَبْكِي لَهُ
…
وعَلى كوثَرَ لَا أخشَى العَطبْ)
(لم تَكُنْ تصلحُ للمُلكِ ولَمْ
…
تعطك الطاعَةَ بالملْكِ العربْ)
(لِم نبكيكَ لما عَرَّضْتَنَا
…
للمجانيقِ وطَوْرًا للسَّلَبْ)
وَذكر عَن الْكسَائي أَنه قَالَ لما ولاني الرشيد تَأْدِيب ابنيه الْأمين والمأمون كنت أشدد عَلَيْهِمَا فِي الْأَدَب وآخذهما أخذا شَدِيدا خصوصَاً الْأمين فأتتني ذَات يَوْم خَالِصَة أمة زبيدة فَقَالَت إِن السيدة تقرئك السَّلَام وَتقول لَك حَاجَتي أَن ترفق بِابْني مُحَمَّد فَقلت قولي لَهَا إِن مُحَمَّدًا مرشح للخلافة بعد أَبِيه وَلَا يجوز التَّقْصِير فِي حَقه قَالَت خَالِصَة إِن لرقة السيدة سببَاً أَنا أخْبرك بِهِ إِنَّهَا فِي اللَّيْلَة الَّتِي وَلدته فِيهَا أريت فِي منامها كَأَن أَربع نسْوَة أقبلن عَلَيْهِ فاكتنفنه من جهاته الْأَرْبَع فَقَالَت الَّتِي بَين يَدَيْهِ ملك قَلِيل الْعُمر ضيق الصَّدْر عَظِيم الْكبر واهي الْأَمر شَدِيد الْغدر وَقَالَت الَّتِي فِي خَلفه قصاف مبذر متلاف قَلِيل الْإِنْصَاف كثير الْإِسْرَاف وَقَالَت الَّتِي عَن يَمِينه ملك عَظِيم الحطم قَلِيل اللَّحْم كثير الْإِثْم قطوع الرَّحِم وَقَالَت الَّتِي عَن شِمَاله ملك غدار كثير العثار سريع الدمار ثمَّ بَكت خَالِصَة وَقَالَت يَا كسائي هَل ينفع الحذر مَعَ الْقدر قلت لَا وَالله
وَذكر الْأَصْمَعِي أَنه دخل على الرشيد قَالَ وَكنت قد غبت عَنهُ بِالْبَصْرَةِ حولا فَسلمت عَلَيْهِ بالخلافة فَأَشَارَ إِلَيّ بِالْجُلُوسِ فَجَلَست حَتَّى خف النَّاس ثمَّ قَالَ يَا أصمعي أَلا تحب أَن ترى مُحَمَّدًا وَعبد الله ابْني قلت بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي لأحب ذَلِك وَقد أوردت الْقَصْد إِلَيْهِمَا لأسلم عَلَيْهِمَا ثمَّ قَالَ الرشيد عَليّ بِمُحَمد وَعبد الله فَانْطَلق الرَّسُول فَأَقْبَلَا كَأَنَّهُمَا قمراً أفق قد قاربا خطاهما ورميا ببصرهما الأَرْض حَتَّى وَقفا على أَبِيهِمَا فسلما عَلَيْهِ بالخلافة فَأَوْمأ لَهما فَجَلَسَ مُحَمَّد عَن يَمِينه وَعبد الله عَن شِمَاله ثمَّ أَمرنِي بمطارحتهما الْأَدَب فَكنت لَا ألْقى عَلَيْهِمَا شَيْئا من فنون الْأَدَب إِلَّا أجابا فِيهِ وأصابا فَقَالَ كَيفَ ترى أدبهما قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا رَأَيْت مثلهمَا فِي ذكائهما وجودة فهمهما وذهنهما فَأطَال الله بقاءهما ورزق الْأمة رأفتهما فَضَمَّهُمَا إِلَى صَدره وسبقته عبرته فَبكى حَتَّى تحدرت دُمُوعه على لحيته ثمَّ أذن لَهما فِي الْقيام فنهضا حَتَّى إِذا خرجا قَالَ يَا أصمعي كَيفَ بهما إِذا ظهر تعاديهما وبدا تباغضهما وَوَقع بأسهما بَينهمَا حَتَّى تسفك الدِّمَاء وَيَوَد كثير من الْأَحْيَاء أَن لَو كَانَ فِي الْأَمْوَات قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا شَيْء قضى بِهِ المنجمون عَن مولدهما أَو شَيْء أثرته الْعلمَاء فِي أَمرهمَا قَالَ بل شَيْء أثرته الْعلمَاء عَن الأوصياء قَالَ الصولي وَكَانَ الرشيد يسمع مَا يجْرِي بَينهمَا جَمِيعه من مُوسَى بن جَعْفَر الصَّادِق وَلذَلِك قَالَ مَا قَالَ قَالَ فِي قلادة النَّحْر إِن الْمَأْمُون مر يَوْمًا على زبيدة أم الْأمين فرآها تحرّك شفتيها بِشَيْء لَا يعرفهُ فَقَالَ لَهَا يَا أُمَّاهُ أتدعين عَليّ أَن قتلت ابْنك وسلبته فَمَا كَانَ الْبَاغِي إِلَّا ابْنك وَإِن لكل باغِ مصرعاً قَالَت لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ فَمَا الَّذِي قلت قَالَت يعفيني أَمِير الْمُؤمنِينَ فألح عَلَيْهَا قَالَ وَلَا بُد أَن تقوليه قَالَ قلت قبح الله اللجاج والملاحَة قَالَ وَكَيف ذَلِك قَالَت إِنِّي لألعب يَوْمًا مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد الشطرنج على الحكم وَالرِّضَا فغلبني فَأمرنِي أَن أتجرد من أثوابي وأطوف الْقصر عُرْيَانَة فاستعفيته فَلم يعفني فتجردت من ثِيَابِي وطفت الْقصر عَارِية ثمَّ عاودني اللّعب فغلبته فَأَمَرته أَن يذهب إِلَى المطبخ فيطأ أقبح جَارِيَة وأشوهها خلقَة فاستعفاني فَلم أعفه فبذل لي خراج مصر وَالْعراق فأبيت وَقلت وَالله لتفعلن ذَلِك فَأبى فألححت عَلَيْهِ وَأخذت بِهِ وَجئْت بِهِ إِلَى المطبخ فَلم