الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا مَاتَ وَمِنْهُم فَقير وَكَانَ عَالما شاعرَاً حاذقَاً أَكثر بني الْعَبَّاس رِوَايَة للشعر بليغَاً كَانَ يُقَاس بِعَبْد الله بن المعتز قَالَ حمدون بن إِسْمَاعِيل كَانَ الواثق يحب خَادِمًا لَهُ أهْدى إِلَيْهِ من مصر فأغضبه الواثق ثمَّ إِنَّه سَمعه يَقُول لبَعض الخدم عَن الواثق وَالله إِنَّه ليروم أَن ُأكَلِّمهُ من يَوْمَيْنِ فَلم أفعل فَقَالَ الواثق من // (الْبَسِيط) //
(يَا ذَا الَّذِي بِعَذَابِي ظلَّ مُفْتَخِرَا
…
مَا أَنْتَ إِلَاّ مَلِيكٌ جارَ إِذْ قَدَرَا)
(لَوْلَا الْهَوَى لتَجَارَيْنَا عَلَى قَدرٍ
…
وَإِنْ أُفِق مِنْهُ يوْمًا مَا فَسَوْفَ تَرَى)
وَمن شعر الواثق قَوْله // (من السَّرِيع) //
(حَيَّاكَ بِالنَّرْجِسِ وَالْوَرْدِ
…
مُعْتَدِل الْقَامَةِ وَالْقَدِّ)
(فَأَلْهَبَتْ عَيْناهُ نَارَ الجوَى
…
وَزَادَ فِي اللَّوْعَةِ وَالْوَجْدِ)
(أَمَّلْتُ بِالمُلْكِ وِصَالاً لَهُ
…
فصَارَ مُلْكِي سَبَبَ الْبُعْدِ)
(مَوْلًى ويشْكُو الظُّلْم مِنْ عبْدَهَ
…
فأَنْصِفُوا الموْلَى مِن الْعبْدِ)
قَالَ الصولي أَجمعُوا على أَن لَيْسَ لأحد من الْخُلَفَاء مثل هَذِه الأبيات فِي اللَّطِيف والرقة مَاتَ ب سر من رأى يَوْم الْأَرْبَعَاء لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَت خِلَافَته خمس سِنِين وَسِتَّة أشهر وعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة وَأحد عشر شهرا وَأَرْبَعَة أَيَّام
(خلَافَة المتَوَكل)
جَعْفَر أَبُو الْفضل بن المعتصم بن الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور بُويِعَ فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ بعد الواثق وَكَانَ أسمر اللَّوْن مليح الْعَينَيْنِ نحيف الْجِسْم خَفِيف العارضين إِلَى الْقصر أقرب أمه أم ولد تركية
اسْمهَا شُجَاع اسْتخْلف فأظهر السّنة وَتكلم بهَا فِي مَجْلِسه وَكتب إِلَى الْآفَاق بِرَفْع المحنة بالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن وَأظْهر السّنة وَنصر أَهلهَا وَقدم إِلَى دمشق فِي صفر سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَعْجَبهُ فعزم على الْمقَام بهَا وَنقل دواوين الْملك إِلَيْهَا وَأمر بِالْبِنَاءِ بهَا وَبنى قصراً كَبِيرا ب داريه من جِهَة المزة ثمَّ رَجَعَ إِلَى سر من رأى دَار ملكه قيل إِن سَبَب ميله إِلَى دمشق أَن إِسْرَائِيل بن زَكَرِيَّا الطَّبِيب نعت لَهُ دمشق وَأَنَّهَا مُوَافقَة لمزاجه ومذهبة عَنهُ الْعِلَل الَّتِي تعرض لَهُ فِي الصَّيف بالعراق كَانَ المتَوَكل شجاعاً كَرِيمًا مَا أعْطى خَليفَة شَاعِرًا مَا أعطَاهُ المتَوَكل وَمن أَفعاله الشنيعة أَنه هدم قبر الْحُسَيْن بن عَليّ فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَهدم جَمِيع مَا حوله من الدّور وَجعل مَكَانهَا مزارع وَمنع من زيارته فتألم النَّاس لذَلِك وَكتب أهل بَغْدَاد شَتمه على الْحِيطَان والمساجد وهجاه بِعْ الشُّعَرَاء بقوله من // (الْكَامِل) //
(تاللَّهِ أِنْ كَانَتْ أُميَّةُ قَدْ أَتَتْ
…
قَتْل ابنِ بِنْتِ نبِيها مَظْلُومَا)
(فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثِلْهِ
…
هَذَا لَعَمرِي قَبْرُهُ مَهْدُومَا)
(أَسِفُوا عَلَى أَلَاّ يَكُونُوا شَارَكُوا
…
فِي قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رَمِيمَا)
وَهَذَا الْفِعْل السيء محا جَمِيع محاسنه وَصَارَ مَا عذب من إحسانه مغلبا بأجاجه وآسنه وعدت هَذِه الزلة أقبح فبيحة وَهَذِه الْخلَّة الشنيعة أفضح من كل فضيحة وَذكر ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة المتَوَكل عَن المتَوَكل نَفسه قَالَ ركبت إِلَى دَار الواثق أخي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ لأعوده فَجَلَست فِي الدهليز لأنتظر الْإِذْن فَبَيْنَمَا أَنا جَالس إِذْ سَمِعت النِّيَاحَة عَلَيْهِ وَإِذا إيتاخ وَمُحَمّد بن عبد الْملك الزيات يأتمران فِي أَمْرِي فَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الْملك نقْتل فِي التَّنور وَقَالَ إيتاخ بل ندعه فِي المَاء الْبَارِد حَتَّى يَمُوت وَلَا يرى عَلَيْهِ أثر الْقَتْل فينما هما على ذَلِك إِذْ جَاءَ أَحْمد بن أبي دؤاد القَاضِي دخل وحدثهما كلَاما لَا أفهمهُ لما داخلني من الْخَوْف وشغل الْقلب فِي إِعْمَال حِيلَة فِي الْهَرَب فينما أَنا كَذَلِك وَإِذا بالغلمان
يتغادون وَيَقُولُونَ انهض يَا مَوْلَانَا فَلم أَشك أَنِّي دَاخل لأبايع لولد الواثق ثمَّ ينفذ فِي مَا قررا فَلَمَّا دخلت بايعوني فَسَأَلت عَن الْحَال فأعلمت أَن ابْن أبي دؤاد كَانَ سَبَب ذَلِك ثمَّ إِن المتَوَكل قتل إيتاخ بِالْمَاءِ الْبَارِد وَابْن الزيات بالتنور على مَا أَشَارَ إِلَيّ فِي حَقه وَهَذَا من أعجب الِاتِّفَاق فَإِن ابْن الزيات هُوَ الَّذِي صنع التَّنور وَكَانَ يعذب بِهِ النَّاس فَعَذَّبَهُ الله بِهِ جَزَاء وفَاقا وَهُوَ من حَدِيد دَاخله مسامير وَكَانَ يسجر عَلَيْهِ بحطب الزَّيْتُون حَتَّى يصير كالجمر ثمَّ يدْخل فِيهِ الْإِنْسَان نسْأَل الله الْعَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكَانَ ابْن الزيات إِذا اسْتَغَاثَ بِهِ أحد من الرّعية فَقَالَ ارْحَمْنِي يَقُول الرَّحْمَة خور فِي الْقلب فَلَمَّا ألْقى هُوَ فِي التَّنور قَالَ للمتوكل ارْحَمْنِي فَقَالَ لَهُ الرَّحْمَة خور فِي الْقلب أَو فِي الطبيعة وَكَانَ قد حَبسه قبل أَن يدْخلهُ التَّنور أَيَّامًا فَكتب إِلَيْهِ فِي الْحَبْس بقوله من // (الْبَسِيط) //
(هِيَ اليَّبِيلُ فمِنْ يَوْمٍ إِلى يوْمِ
…
كَأَنَّهُ مَا تُرِيكَ العَيْن فِي النَّومِ)
(لَا تَعْجَلَنَّ رُوَيْدًا إِنّهَا دُوَلٌ
…
دُنْيا تَنقَّلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قوْمِ)
وَوَقعت فِي أَيَّامه عجائب مِنْهَا أَن النُّجُوم ماجت فِي السَّمَاء وتناثرت كَأَنَّهَا الْجَرَاد فرميت قَرْيَة السويداء بِنَاحِيَة مُضر أَحْجَار من السَّمَاء وُزن حجر مِنْهَا فَكَانَ عشرَة أَرْطَال ومار جبل بِالْيمن عَليّ مزارع ومرن إِلَى جبل آخر بَينهمَا نَحْو أَرْبَعَة أَيَّام وَوَقع طَائِر أَبيض دون الرخمة فصاح يَا معشر النَّاس اتَّقوا الله أَرْبَعِينَ مرّة وَجَاء من الْغَد فَفعل كَذَلِك فَكَتَبُوا خبر ذَلِك على الْبَرِيد إِلَى بَغْدَاد وَكَتَبُوا فِيهِ شَهَادَة خَمْسمِائَة رجل سمعُوا ذَلِك بآذانهم وَكَانَ هَذَا فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وحصلت زلازل وَغَارَتْ عُيُون مَكَّة فَأرْسل المتَوَكل مائَة ألف دِينَار ذَهَبا لإجراء عين عَرَفَات فصرفت فِيهَا إِلَى أَن جرت كَذَا ذكره السُّيُوطِيّ قَالَ الْعَلامَة النَّجْم عمر بن فَهد فِي تَارِيخه إتحاف الورى بأخبار أم الْقرى فِي حوادث سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ غارت غين مشاش وَهِي عين مَكَّة فَبلغ ثمن الْقرْبَة درهمَاً فَبعث المتَوَكل مَالا ثَانِيًا فأنفق عَلَيْهَا حَتَّى جرت قَالَ ابْن
الْأَثِير فِي تَارِيخه الْمُسَمّى ب الْكَامِل هَذِه الْعين من عمل زبيدة بنت جَعْفَر زَوْجَة الرشيد وَهِي عين بازان قَالَ الْعَلامَة القطبي عين مشاش هِيَ عين مَكَّة مَوْجُودَة الْآن وَهِي من جملَة الْعُيُون الَّتِي تصب فِي عين حنين وَهِي تقوى وتضعف أَحْيَانًا لقلَّة الأمطار وَكَثْرَتهَا ومحلها مَعْرُوف وَلما كثر التّرْك بِبَغْدَاد ودخلوا فِي الْملك واستولوا على المملكة وَصَارَ بيدهم الْحل وَالْعقد وَالْولَايَة والعزل إِلَى أَن حملم الطغيان على الفتك بالخليفة المتَوَكل لما أَرَادَ أَن يصادر مَمْلُوك أَبِيه وصيفَاً التركي لِكَثْرَة أَمْوَاله وخزائنه فتعصب لَهُ باغر التركي وانحرف الأتراك عَن المتَوَكل فَدخل باغر وَمَعَهُ عشرَة أتراك وَهُوَ فِي مجْلِس أنسه وَعِنْده وزيره الْفَتْح بن خاقَان بعد مُضِيّ هزيع من اللَّيْل فصاح الْفَتْح وَيْلكُمْ هَذَا سيدكم وَابْن سيدكم وهرب من كَانَ حوله من الغلمان والندمان على وُجُوههم فَبَقيَ الْفَتْح وَحده والمتوكل غَائِب سَكرَان فَضَربهُ باغر بِالسَّيْفِ على عَاتِقه فَقده إِلَى حقوه فَطرح الْفَتْح نَفسه عَلَيْهِ فضربهما باغر ضَرْبَة ثَانِيَة فماتا جَمِيعًا فلفهما مَعًا فِي بِسَاط وَمضى هُوَ وَمن مَعَه وَلم ينتطح فِي ذَلِك عنزان وَقيل إِن سَبَب ذَلِك أَن ابْنه الْمُنْتَصر بَاطِن عَلَيْهِ الأتراك حَتَّى قَتَلُوهُ وَذَلِكَ أَنه كَانَ بَايع بالعهد للمنتصر ثمَّ أَرَادَ أَن يعزله ويولي المعتز ابْنه لمحبته لأمه فَسَأَلَ المتَوَكل المتنصر أَن ينزل عَن الْعَهْد فَأبى فَكَانَ يحضرهُ مجْلِس الْعَامَّة ويحط من مَنْزِلَته ويتهدده ويشتمه وَقيل كَانَ هَذَا وَهَذَا سَببا لذَلِك قَالَ المَسْعُودِيّ وَلم يَصح عَن المتَوَكل النصب حَدثنَا الْمبرد قَالَ قَالَ المتَوَكل لأبي الْحسن على الْهَادِي بن مُحَمَّد الْجواد بن عَلِي الرضي بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق مَا يَقُول ولد أَبِيك فِي الْعَبَّاس قَالَ مَا يَقُولُونَ فِي رجل فرض الله طَاعَة نبيه على خلقه وَفرض طَاعَته على نبيه فأعجب بجوابه المتَوَكل إعجاباً قلت لَا يخفي على الفطن هَذِه التورية من هَذَا السَّيِّد الْجَلِيل وصدقها وسعى إِلَى المتَوَكل بِأبي الْحسن الْمَذْكُور بِأَن فِي منزل سِلَاحا وكتابا من الشِّيعَة وَأَنه يُرِيد التَوثّب على الْخلَافَة فَبعث إِلَيْهِ المتَوَكل جمَاعَة فَهَجَمُوا على منزله فوجدوه على الأَرْض مُسْتَقْبل الْقبْلَة يقْرَأ الْقُرْآن فَحَمَلُوهُ على حَال إِلَى المتَوَكل والمتوكل
يشرب الْخمر فأعظمه وَأَجْلسهُ وَقَالَ اشرب فَقَالَ وَالله مَا خامر لحمي وَدمِي قطّ فأعفني فأعفاه ثمَّ قَالَ أَنْشدني فَأَنْشد // (من الْبَسِيط) //
(بَاتُوا عَلى قُللِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ
…
غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ القُلَلُ)
(واسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزِّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ
…
وَأُودِعُوا حُفْرَةً يَا بِئْسَمَا نزلُوا)
(نَادَاهُمُ صَارخٌ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِرُوا
…
أيْنَ الْأَسِرََّةُ وَالتِّيجَانُ وَالحلل)
(فَأَفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُ
…
تِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيْهَا لدُّودُ يقْتَتِلُ)
(قَدْ طَالَمَا أَكَلُوا دَهْرًا وَما شَرِبُوا
…
فَأَصْبَحُوا بَعْدَ ذَاكَ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا)
فَبكى جَعْفَر والحاضرون وَقَالَ يَا أَبَا الْحسن لقد لينت منا قلوباً قاسية أعليك دين قَالَ نعم أَرْبَعَة آلَاف فَأمر لَهُ بهَا ورده مكرماً وَمِمَّا يحْكى من كرمه أَنه دخل عَلَيْهِ ابْن الجهم وَقيل النميري فأنشده قصيدة يَقُول فِيهَا من // (مجزوء الْكَامِل) //
(وَإِذَا مَرَرْت بِبِئْرِ عُرْوَةَ
…
فَاسْقِني مِنْ مَائِهَا)
وَكَانَ بيد المتَوَكل درتان عظيمتان يقلبهن فدحا إِلَيْهِ بدرة مِنْهُمَا فَقَالَ استقص بهَا فِي وَالله خير من مائَة ألف دِينَار قَالَ لَا وَالله وَلَكِنِّي فَكرت فِي أَبْيَات أعملها آخذ بهَا الْأُخْرَى فَقَالَ قل فَقَالَ // (من مخلع الْبَسِيط) //
(بِسُرَّ منْ رَا إِمَامُ عَدْلٍ
…
تَغْرَقُ مِنْ كفِّهِ البِحَارُ)
(يُرْجَى ويُخْشَى بِكُلِّ خَطْبٍ
…
كأَنَّهُ جَنَّةٌ وَنَارُ)
(أَلْمُلْكُ فِيهِ وفِي بَنِيهِ
…
مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)
(يَدَاهُ فِي الجُودِ ضَرَّتانِ
…
علَتْهِ كِلْتَاهُما تَغارُ)
(لمْ تَأْتِ مِنْهُ اليَمِيَنُ شَيْئًا
…
إِلَاّ أَتتْ مِثْلَهُ الْيَسَارُ)
قَالَ فدحا إِلَيْهِ بِالدرةِ الْأُخْرَى قلت رحم الله الْكِرَام المجيزين على دردي النظام بَدْرِي النظام وَأَجَازَ مَرْوَان بن أبي الْجنُوب على قصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا // (من الطَّوِيل) //
(فَأَمْسِكْ نَدَى كَفََّيْكَ عَنِّي وَلَا تَزِدْ
…
فَقَدْ خِفْتُ أَنْ أَطْغَى وَأَنْ أَتَجَبَّرَا)
فَقَالَ لَا أمسك حَتَّى يغرقك جودي فَأمر لَهُ بِمِائَة وَعشْرين ألف دِينَار وخمسمائةَ ثوب ديباج قَالَ عَليّ بن مُحَمَّد النديم دخلت على المتَوَكل العباسي وَعِنْده الرضي فَقَالَ يَا عَليّ من أشعر النَّاس قلت البحتري قَالَ وَمن بعده قلت مَرْوَان بن أبي حَفْصَة فَالْتَفت إِلَى الرضي وَقَالَ من أشعر النَّاس فِي زَمَاننَا قَالَ عَليّ بن مُحَمَّد الْعلوِي قَالَ وَمَا تحفظ من شعره قَالَ قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(لَقَدْ فَاخَرَتْنَا مِنْ قُرَيْشٍ عِصَابَةٌ
…
بِمَطِّ خُدُودٍ وَامْتدادِ الْأَصَابِعِ)
(فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الفَخارَ قَضَى لَنَا
…
عَليْهِمْ بِمَا نَهْوى نِدَاءُ الصَّوَامِع)
قَالَ المتَوَكل وَمَا معنى نِدَاء الصوامع فَقَالَ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله قَالَ المتَوَكل وَأَبِيك إِنَّه لأشعر النَّاس ثمَّ أنْشدهُ قَوْله أَيْضا // (من المتقارب) //
(عَصَيْتُ الهَوَى وَهَجَرْتُ النِّسَاءَ
…
وَكُنْتُ دَوَاءً فأَصْبَحْتُ دَاءَ)
(وَمَا أَنْسَ لَا أَنْسَ حَتَّى المَمَاتِ
…
تَرِيبَ الظِّبَاءِ تُجِيبُ الظِّبَاءَ)
(دَعِينَي وَصَبْرِي عَلى النَّائِباتِ
…
فَبِالصَّبْرِ نِلْتُ الثَّرى وَالثّوَاءَ)
(فَإِنْ يَكُ دَهْرِي لَوَى رَأْسَهُ
…
فَقَدْ لَقِيَ الدَّهْرُ مِنَّي الْتِوَاءَ)
(ليَاليَ أَرْوِي صُدُورَ الْقَنَا
…
وَأَرْوِي بِهِنَّ الصُّدُورَ الظِّمَاءَ)
(وَنَحْن إِذَا كَانَ شُرْبُ المُدَامِ
…
شَرِبْنَا عَلى الصَّافِنَاتِ الدِّمَاءَ)
(بِلَغْنَا السَّماءَ بِأَنْسَابِنَا
…
وَلَوْلَا السَّمَاءُ لَجُزْنَا السَّماءَ)
(فَحَسْبُكَ مِنْ سُؤْدَدٍ أَنَّنَا
…
بِحُسْنِ البَلَاءِ كَشَفْنَا الْغِطَاءَ)
(يَطِيبُ الثَّنَاءُ لآِبَائِنَا
…
وَذِكْرُ عَلِبِّ يَزِينُ الثَّنَاءَ)
(إِذَا ذُكِرَ النَّاسُ كَانُوا مُلُوكًا
…
وَكَانُوا عَبِيدًا وَكَانُوا الْإمَاءَ)
(هَجَانِي رِجَالٌ ولَمْ أَهْجُهُمْ
…
أَبَى الله لِي أَنْ أقُولَ الْهِجَاءَ)
فوصله لهَذِهِ الرِّوَايَة بِمَال عَظِيم وَفِي سنه أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ قتل المتَوَكل يَعْقُوب بن السّكيت الإِمَام فِي الْعَرَبيَّة وَذَلِكَ أَنه حضر يَوْمًا مجْلِس المتَوَكل وَكَانَ يُؤَدب أَوْلَاد فجَاء مِنْهُم
المعتز والمؤيد فَقَالَ المتَوَكل يَا يَعْقُوب أَيّمَا أحب إِلَيْك ابناي هَذَانِ أم الْحسن وَالْحُسَيْن ابْنا عَليّ رضي الله عنهم فَقَالَ يَعْقُوب وَالله إِن قنبر خَادِم عَليّ خير مِنْك وَمن ابنيك فَقَالَ المتَوَكل للأتراك سلوا لِسَانه من قَفاهُ فَفَعَلُوا ذَلِك فَمَاتَ ثمَّ أرسل المتَوَكل لأولاده دِيَة أَبِيهِم عشرَة آلَاف دِرْهَم كَذَا فِي حَيَاة الْحَيَوَان وَذكر ابْن خلكان كَانَ المتَوَكل يبغض عليا فَذكر يَوْمًا عَليّ عِنْده فغض مِنْهُ فتمعر وَجه ابْنه الْمُنْتَصر لذَلِك فشتمه أَبوهُ المتَوَكل وَأنْشد مواجهاً لَهُ // (من المجتث) //
(غَضْبَ الفَتَى لابْن عمِّهْ
…
رَأْسُ الفتَى فِي حِرِ امِّهْ)
فحقد عَلَيْهِ وأغرى على قَتله مَعَ مَا كَانَ مِمَّا تقدم من عَدو لَهُ بالعهد عَنهُ إِلَى أَخِيه المعتز قلت هَذَا يُؤَيّد القَوْل الثَّانِي أَن المتَوَكل ناصبي خلاف مَا قَالَه المَسْعُودِيّ وَذكر أَن عَليّ بن الجهم كَانَ بدوياً جَافيا قدم على المتَوَكل أول قدمة فأنشده قصيدة يمدحه بهَا يَقُول فِيهَا // (الْخَفِيف) //
(أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي حِفَاظِكَ لِلوُددِّ
…
وَكَالتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الخْطُوبِ)
(أنْتَ كَالدَّلْو لَا عَدِمْتُكَ دَلْوًا
…
مِن كِبَارِ الدِّلا كَثِير الذّنُوبِ)
فَعرف المتَوَكل قوته ورقة قصد وخشونة لَفظه وَعرف أَنه مَا رأى سوى مَا شبه لملازمته الْبَادِيَة وَعدم مخالطته فَأمر لَهُ بدار حَسَنَة على شاطئ دجلة وفيهَا بُسْتَان يتخلله النسيم والجسر قريب مِنْهُ وَأمر لَهُ بجائزة سنية فلطف طبعه عَن أول أمره وَأنْشد الْأَشْعَار البليغة الرقيقة بعد ذَلِك وَحكى أَن عبَادَة المخنث دخل يَوْمًا إِلَى دَار المتَوَكل فَرَأى رطبَة مطروحة فأكب ليأخذها فرأه ابْن المتَوَكل صَغِير فَأَشَارَ بإصبعه إِلَى استه وَقَالَ يَا عَم من فتح لَك هَذِه الكوة فَقَالَ لَهُ عبَادَة الَّذِي فتح لأمك ثِنْتَيْنِ فَسَمعهُ المتَوَكل فَأمر بِضَرْب عُنُقه فهرب وَلم يدر إِلَى أَيْن يتَوَجَّه فَأخذ يهرب فِي الصَّحَارِي وَمَعَهُ طبله ونايه فَلَمَّا أمعن فِي الصَّحرَاء خَافَ أَن يُدْرِكهُ الطّلب فَرَأى غاراً مَفْتُوحًا فَدخل وسد بَاب بِالْحِجَارَةِ فَلَمَّا صَار إِلَى أقصاه وجد فِي أسداً عَظِيما رابضَاً فَفَزعَ مِنْهُ وهم الْأسد أَن
يثب عَلَيْهِ فَمَا وَسعه إِلَّا أَن ضرب الطبل فَلَمَّا سَمعه الْأسد فزع من صَوته وهرب يُرِيد الْخُرُوج فَوجدَ بَاب الْغَار مسدوداً فَرَبَضَ هُنَاكَ خَائفًا من صَوت الطبل فَجعل عبَادَة تَارَة يضْرب بالطبل وَتارَة يزمر بالناي خوفًا من الْأسد وَوَافَقَ ذَلِك قدوم الفتَح بن خاقَان من نزهة كَانَ خرج إِلَيْهَا فَلَمَّا سمع صَوت الطبل والناي فِي الصَّحرَاء أنكرهُ ثمَّ تبعه حَتَّى وقف على بَاب الْغَار وَأمر أَن يفتح فَلَمَّا فتحوه خرج الْأسد هَارِبا على وَجهه فَخرج عبَادَة وَهُوَ يبكي ويصرخ وَيَقُول هَذَا دَفعه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أعلمهُ ضرب الطبل والغناء بالناي وشردته عَليّ فَقَالَ لَهُ الْفَتْح أَنا أرضي أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَك عَليّ ألف دِينَار فَقَالَ أَخَاف وَالله أَن يضْرب عنقِي فَقَالَ الْفَتْح أَنا أستوهبه دمك فَقَالَ إِن فعلت فقد رضيت ثمَّ أَخذه مَعَه وأتى بِهِ المتَوَكل فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لي إِلَيْك حَاجَة قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ هَب لي دم عبَادَة فَأَنا الَّذِي أذنبت وَلَيْسَ هُوَ فَقَالَ مَا كَانَت نيتي إِلَّا أَن أضْرب عُنُقه وَقد وهبته لَك فَقبل الْفَتْح يَده وَقَالَ أَنا الَّذِي أطلقت الْأسد وَمَا لَهُ ذَنْب فَلَمَّا سمع المتَوَكل ذكر الْأسد سَأَلَ عَن أصل الْقِصَّة فَقَالَ لَهُ الْفَتْح بِمَا رأى قَالَ وَرَغمَ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أعطَاهُ ذَلِك الْأسد ليعلمه الطبل والغناء فَضَحِك المتَوَكل حَتَّى فحص بِرجلِهِ الأَرْض وَقَالَ خدعك وَالله يَا فتح إِن الأَصْل كَيْت وأنجر الْفَتْح لعبادة الْألف الَّتِي وعده بهَا بوعده السَّابِق انْتهى كَذَا فِي بَقِيَّة الخاطر لمُحَمد بن مصطفى الشهير بالكاتي قَالَ البحتري اجْتَمَعنَا فِي مجْلِس المتَوَكل فنعت لَهُ سيف هندي فَبعث إِلَى الْيمن فَاشْترى لَهُ بِعشْرَة آلَاف فَأتى بِهِ فأعجبه ثمَّ قَالَ لِلْفَتْحِ أبغني غُلَاما أدفَع إِلَيْهِ هَذَا السَّيْف لَا يفارقني بِهِ فَأقبل باغر التركي فَقَالَ الْفَتْح هَذَا مَوْصُوف بالشجاعة والبسالة فَدفع المتَوَكل إِلَيْهِ السَّيْف وَزَاد فِي رزقه فواللِّه مَا انتضى ذَلِك السَّيْف إِلَّا لَيْلَة ضربه باغر بِالْقصرِ الْجَعْفَرِي وَكَانَ المتَوَكل مُسْتَغْرقا بِجَارِيَتِهِ الَّتِي اسْمهَا قبيحة وَهِي أم وَلَده المعتز لَا يصبر عَنْهَا سَاعَة فوقفت لَهُ يَوْمًا وَقد كتبت على خديها بالغالية جَعْفَر فتأملها ثمَّ أنشأ يَقُول // (من الطَّوِيل) //
(وَكَاتِبةٍ بِالمِسْكِ فِي الْخَدِّ جَعْفرًا
…
بِنَفْسِي مَخَطَّ المِسْكِ مِنْ حَيْثُ أثَّرَا)