الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِيمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ]
ُ مِنْ حَقِّ التَّخْصِيصِ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، فَاللَّفْظُ الَّذِي لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَعْنَى إخْرَاجِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إخْرَاجُ الْبَعْضِ مَعَ بَقَاءِ الْبَعْضِ، وَالْوَاحِدُ لَا بَعْضَ لَهُ، فَاسْتَحَالَ تَخْصِيصُهُ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَا يَجُوزُ تَخْصِيصٌ إلَّا فِي ذِي أَجْزَاءٍ يَصِحُّ افْتِرَاقُهَا، لِيُمْكِنَ صَرْفُهُ إلَى بَعْضٍ يَصِحُّ الْقَصْرُ عَلَيْهِ. وَاعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْوَاحِدَ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ، وَهُوَ يَصِحُّ إخْرَاجُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ، لِصِحَّةِ قَوْلِك: رَأَيْت زَيْدًا وَتُرِيدُ بَعْضَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إخْرَاجُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَيَنْبَغِي التَّفْصِيلُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُمُومُهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ الْمَعْنَى، أَيْ الِاسْتِنْبَاطِ. فَالْأَوَّلُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا، نَحْوَ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، ثُمَّ خُصَّ الذِّمِّيُّ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ. وَالثَّانِي عَلَى ثَلَاثَةٍ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: الْعِلَّةُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَخْصِيصِهَا عَلَى مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ الْمَنْعُ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسَمَّاةُ هُنَاكَ بِالنَّقْصِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ،
لِأَجْلِ النُّقْصَانِ عِنْدَ الْجَفَافِ، وَوَجَدْنَا هَذِهِ الْعِلَّةَ فِي الْعَرَايَا مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَهُ فِيهَا.
الثَّانِي: مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ كَدَلَالَةِ التَّأْفِيفِ عَلَى حُرْمَةِ الضَّرْبِ، فَالتَّخْصِيصُ فِيهِ جَائِزٌ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَلْفُوظِ، وَهُوَ التَّأْفِيفُ فِي مِثَالِنَا هَذَا. وَمَنَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " مِنْ جَوَازِ تَخْصِيصِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُمُومِ وَلَا عُمُومَ إلَّا فِي الْأَلْفَاظِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ أَجْلِ الْأَذَى، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى إجَازَةِ الضَّرْبِ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَذًى، لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ، قَالُوا: وَهَكَذَا الْقِيَاسُ لَا يَدْخُلُهُ تَخْصِيصٌ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ تَنْبَنِيَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَعْلُومِ مِنْ جِهَةِ الْفَحْوَى: هَلْ هُوَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ، وَشَرَطَ الْهِنْدِيُّ فِي الْجَوَازِ أَنْ لَا يَعُودَ نَقْصًا عَلَى الْمَلْفُوظِ كَإِبَاحَةِ ضَرْبِ الْأُمِّ إذَا فَجَرَتْ. أَمَّا إذَا عَادَ نَقَضَا عَلَى الْمَلْفُوظِ كَمَا إذَا قَالَ:{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] لَكِنْ أَبَاحَ لَهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى مُطْلَقًا، فَلَا يَجُوزُ هَذَا كُلُّهُ مَعَ بَقَاءِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، أَمَّا لَوْ وَرَدَ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ " التَّأْفِيفُ " مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا، بَلْ نَسْخًا لَهُ، وَلِلْمَفْهُومِ أَيْضًا، لِأَنَّ رَفْعَ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ الْفَرْعِ.
الثَّالِثُ: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَسَائِمَةِ الْغَنَمِ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ نَفْيُ الْإِيجَابِ عَنْ
مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ مِثْلِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ لِبَعْضِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ الْمَفْهُومُ خِلَافَ مَا ثَبَتَ لِلْمَنْطُوقِ، وَيُعْمَلُ بِذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلِينَ، فَتُخَصُّ الْمَعْلُوفَةُ الْمُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ.
وَشَرَطَ الْبَيْضَاوِيُّ وَصَاحِبُ " الْحَاصِلِ " لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَصَّصُ رَاجِحًا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْإِمَامُ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ، إذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُخَصَّصِ الرُّجْحَانُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَخْصِيصِهِ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ مَنَعَ تَخْصِيصَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ اللَّفْظَ، وَاخْتَارَ تَخْصِيصَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي الْمَنْعُ فِيهِمَا مُطْلَقًا. نَعَمْ هَذَا اخْتِيَارُ سُلَيْمٍ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ "، فَإِنَّهُ مَنَعَ دُخُولَ التَّخْصِيصِ لِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللَّفْظِ، إنْ تَنَاوَلَ وَاحِدًا لَمْ يَدْخُلْهُ تَخْصِيصٌ، وَإِنْ تَنَاوَلَ أَشْيَاءَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ.
قَالَ " شَارِحُ اللُّمَعِ " تَخْصِيصُ دَلِيلِ الْخِطَابِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ يَنْبَنِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيهِ: هَلْ هُوَ كَالنُّطْقِ أَوْ كَالْقِيَاسِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: كَالْقِيَاسِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالنُّطْقِ فَفِي تَخْصِيصِهِ وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْمَعْنَى فِي فَحْوَى الْخِطَابِ. قَالَ: فَأَمَّا إذَا اسْتَقَرَّ كَانَ مَا يَرِدُ مُنَاقِضًا لَهُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ.