الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْقَرَائِنِ. قَالَ: وَيَشْهَدُ لَهُ مُخَاطَبَاتُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، حَيْثُ يَقْطَعُونَ فِي بَعْضِ الْمُخَاطَبَاتِ بِعَدَمِ الْعُمُومِ بِنَاءً عَلَى الْقَرِينَةِ، وَالشَّرْعُ يُخَاطِبُ النَّاسَ بِحَسَبِ تَعَارُفِهِمْ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ بِالْقَرَائِنِ وَالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ]
قَالَ: وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْك التَّخْصِيصُ بِالْقَرَائِنِ بِالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ، كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِالسَّبَبِ غَيْرُ مُخْتَارٍ، فَإِنَّ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُورَدَ لَفْظٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَلَا يَنْتَهِضُ السَّبَبُ بِمُجَرَّدِهِ قَرِينَةً لِرَفْعِ هَذَا، بِخِلَافِ السِّيَاقِ فَإِنَّ بِهِ يَقَعُ التَّبْيِينُ وَالتَّعْيِينُ، أَمَّا التَّبْيِينُ فَفِي الْمُجْمَلَاتِ، وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَفِي الْمُحْتَمَلَاتِ. وَعَلَيْك بِاعْتِبَارِ هَذِهِ فِي أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُحَاوَرَاتِ تَجِدُ مِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُك حَصْرُهُ قَبْلَ اعْتِبَارِهِ. انْتَهَى.
[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ]
مَسْأَلَةٌ
يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ، سَوَاءٌ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ. وَنَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، فَقَالَ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُلْت: إنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ، وَقَدْ يَرِدُ مِنْ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَى الْعُمُومِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ دَلِيلَ الْخِلَافِ يَجْرِي مَجْرَى الْقِيَاسِ فِي بَابِ الْقُوَّةِ، فَلِهَذَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ. قَالَ:
وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّلِيلُ مُسْتَخْرَجًا مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّهُ يَخُصُّهُ انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ " يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ أَوْ مِنْ اللَّفْظِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ. فَيُخَصُّ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِفَحْوَى أَدِلَّةِ الْكِتَابِ تَوَاتُرًا، كَانَتْ السُّنَّةُ أَوْ آحَادًا، وَيُخَصُّ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَآحَادُ السُّنَّةِ بِفَحْوَى أَدِلَّةِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ السُّنَّةِ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِفَحْوَى آحَادِ السُّنَّةِ، فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ خِلَافًا فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْسُنُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْحَنَفِيَّةِ مِنْ مَنْعِهِمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي إنْكَارِ الْمَفْهُومِ، لَكِنْ أَطْلَقَ الْإِمَامُ فِي الْمُنْتَخَبِ " أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ: دَلَالَتُهُ، إنْ قُلْنَا بِكَوْنِهِ أَضْعَفَ مِنْ النُّطْقِ، فَلَا تَخْصِيصَ بِهِ، وَتَوَقَّفَ فِي الْمَحْصُولِ " فَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " قَدْ رَأَيْت فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْعُمُومِ، وَفِي كَلَامِ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى التَّخْصِيصِ بِهِ. قُلْت: وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَاوِي "، فَقَالَ: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَذَا يَجُوزُ
تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي جَوَازِ النَّسْخِ وَجْهَانِ. اهـ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، أَعْنِي قَطْعَهُ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ مَعَ تَرْجِيحِهِ كَوْنَهُ قِيَاسًا. وَكَانَ يَتَّجِهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ، لَكِنَّهُ هُنَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ، وَرُبَّمَا أَيَّدَ ذَلِكَ بِدَعْوَى الْآمِدِيَّ وَالْإِمَامِ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِمَا، أَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَمَا إذَا وَرَدَ عَامٌّ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ، كَقَوْلِهِ:«فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، ثُمَّ قَالَ:«فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» . فَإِنَّ الْمَعْلُوفَةَ خَرَجَتْ بِالْمَفْهُومِ، فَيُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْأَوَّلِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ، وَمَثَّلَ بِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: إذَا وَرَدَ الْعُمُومُ مُجَرَّدًا مِنْ صِفَةٍ، ثُمَّ أُعِيدَ بِصِفَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ: اُقْتُلُوا أَهْلَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُخَصَّصُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْعُمُومِ. اهـ.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، فَفِي شَرْحِ اللُّمَعِ "، إنْ قُلْنَا: إنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، امْتَنَعَ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: حُجَّةٌ، ابْتَنَى عَلَى أَنَّهُ فِي أَنَّهُ كَالنُّطْقِ أَوْ كَالْقِيَاسِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: كَالنُّطْقِ، جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: قِيَاسٌ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي التَّخْصِيصِ بِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ. اهـ.
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ كَجٍّ بِالْخِلَافِ، فَقَالَ: عِنْدَنَا دَلِيلُ الْخِطَابِ يَخُصُّ
الْعُمُومَ، مِثْلُ قَوْلِهِ «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ثُمَّ قَالَ:«فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُوفَةَ لَا زَكَاةَ فِيهَا، فَخَصَّصْنَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:«فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَيَنْقُلُ الْأَوَامِرَ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَا يَخُصُّ الْعُمُومَ، بَلْ يَكُونُ الْعُمُومُ مُقَدَّمًا، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعُمُومَ نُطْقٌ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ مَفْهُومٌ مِنْ النُّطْقِ، فَكَانَ النُّطْقُ أَوْلَى، وَلَنَا إجْمَاعُنَا نَحْنُ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، فَجَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ انْتَهَى. قَالَتْ: قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ قَوْلَيْنِ، وَأَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ النَّصِّ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] فَكَانَ عَامًّا فِي كُلٍّ مُطَلَّقَةٍ، ثُمَّ قَالَ:{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] فَكَانَ مَفْهُومُهُ أَنْ لَا مُتْعَةَ لِمَدْخُولٍ بِهَا، فَخُصَّ بِهَا فِي - أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ - عُمُومُ الْمُطَلَّقَاتِ، وَامْتَنَعَ مِنْ التَّخْصِيصِ [عَلَى الْقَوْلِ] الْآخَرِ.
قُلْت: وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَجَعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، مِنْ بَابِ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ: قَالَ: فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَكَانَ مَرَّةً يَذْهَبُ إلَى أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً الَّتِي فُرِضَ لَهَا أَوْ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] عَامٌّ، وَقَوْلُهُ:{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] بَعْضُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْعُمُومُ، لِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ يَقْضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] لِأَنَّهَا أَخَصُّ
قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إنَّ آيَةَ التَّخْصِيصِ لَمْ تَرِدْ فِي تَعْرِيفِ حُكْمِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَإِنَّمَا يُخَصُّ الْعَامُّ إذَا كَانَ فِي الْأَخَصِّ مُرَادُ التَّخْصِيصِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّخْصِيصِ إرَادَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فَلَيْسَ هُوَ حُجَّةٌ فِي إبَاحَةِ كُلِّ مِلْكِ يَمِينٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا تَعْرِيفُ الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَا الْمَدْحُ. اهـ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمِنْ الْمُخَصِّصِ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ، فَتَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، فَهَذَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ قَوْلًا وَاحِدًا. اهـ.
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ ": الْعَامُّ إنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَإِذَا ذُكِرَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ عُلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَةِ، كَقَوْلِهِ:«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» . وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْجِنْسِ، فَالْحُكْمُ لِلْعُمُومِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] فَهَذَا عَامٌّ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ:{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] الْآيَةَ. فَلَمَّا احْتَمَلَ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَنْ لَمْ يُمَسَّ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ لِبَعْضِ الْجِنْسِ الَّذِي أُرِيدَ بِالْمُتْعَةِ، وَلَمْ يَنْفِ - مَعَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا - أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي لَفْظٍ وَلَا دَلِيلَ، اقْتَضَى الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ مُطَلَّقَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقُلْ هَذِهِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» مَعَ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ. وَقُلْ: سَائِمَةُ الْغَنَمِ وَالْعَامِلَةِ كَامِلَيْنِ هُنَا. قِيلَ: لَمَّا كَانَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَةَ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَكَمَا لَوْ رَفَعْنَا دَلَالَةَ مَا وَرَدَ فِي الْقُلَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ:«الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» أَسْقَطْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ بِالْآخَرِ، صَلُحَ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّك تَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ، فَمَا أَوْجَبَهُ حُكْمُهُمَا فَالْحُكْمُ لَهُ، وَحَقُّ الْكَلَامِ مَا يُقَيَّدُ بِهِ، حَتَّى يُعْلَمَ التَّوْكِيدُ فَإِنْ كَانَ إذَا ثَبَتَ الْعُمُومُ سَقَطَ دَلَالَةُ الشَّرْطِ، فَالْحُكْمُ لِمَا فِيهِ الشَّرْطُ، وَإِنْ كُنْت إذَا أَثْبَتَهُ لَمْ تَنْفِ دَلَالَةَ الْعُمُومِ أَجْرَيْته عَامًّا إلَى أَنْ تَقُومَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْعَامِلَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمَفْهُومِ الْمُحْتَمَلِ، لَكِنْ ثَبَتَ فَيَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ.
قَالَ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَلَى جَوَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] مُرَتَّبًا عَلَى قَوْلِهِ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 236] مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُنَّ مَدْخُولٌ بِهِنَّ، فَتَثْبِيتُ الْمُتْعَةِ لِلْمَمْسُوسَةِ وَغَيْرِهَا بِهَذَا الدَّلِيلِ. اهـ.
وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْعُمُومِ الْمَنْطُوقِ، فَإِذَا قَالَ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، ثُمَّ قَالَ: إنْ دَخَلَ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، كَانَ الثَّانِي أَقْوَى. وَالدَّلِيلَانِ إذَا تَعَارَضَا قُضِيَ بِأَقْوَاهُمَا، وَهَذَا عَكْسُ قَوْلِ الرَّازِيَّ فِي دَعْوَاهُ ضَعْفَ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ.
وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، يَعْنِي بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهُ، لِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْآيَةِ فَأَشْبَهَ الْقِيَاسَ.
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: إذَا قُلْنَا: بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، فَهَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ أَوْ الْقِيَاسِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا سُلَيْمٌ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالْحُكْمِ قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ. وَالثَّانِي:
بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ مَعْنَاهُ. وَيَنْبَنِي عَلَيْهِمَا مَا إذَا عَارَضَهُ لَفْظُ آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ. فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ أَوْ خَبَرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ. وَعَلَى الثَّانِي يُقَدَّمُ النُّطْقُ الْمُحْتَمَلُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ أَوْ أَخَصَّ.
الثَّانِي: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إذَا عَارَضَهُ غَيْرُ النُّطْقِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، فَأَمَّا إذَا عَارَضَ نُطْقَهُ وَأَصْلَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُسْقِطَهُ وَيُبْطِلَهُ، أَوْ يَخُصَّهُ فَقَطْ. فَإِنْ اعْتَرَضَ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ سَقَطَ الْمَفْهُومُ، وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» . نَصَّ عَلَى الْبُطْلَانِ بِغَيْرِ " إذْنٍ "، وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِالْإِذْنِ، إلَّا أَنَّهُ إذْ أُثْبِتَ النُّطْقُ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، وَبَيْنَ أَنْ تُنْكِحَ نَفْسَهَا بِإِذْنِهِ، فَعِنْدَنَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ فِيهِمَا، وَعِنْدَ الْخَصْمِ يَصِحُّ فِيهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ جَوَازُ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ جَوَازُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَقَطَ النُّطْقُ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَفْهُومُ مُسْقِطًا لِأَصْلِهِ، وَيَثْبُتُ، فَيَسْقُطُ النُّطْقُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَفْهُومُ مُعْتَرِضًا عَلَى أَصْلِهِ بِالتَّخْصِيصِ كَمَفْهُومِ قَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ، وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ» فَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ، يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جِهَاتِ الِانْتِقَاعِ بِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: حَرَّمَ ثَمَنَهُ يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَ الثَّمَنِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، فَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ ذَلِكَ النُّطْقِ الْمُحَرَّمِ. فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَفْهُومَ سَقَطَ، وَلَا يُخَصَّصُ عُمُومُ أَصْلِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ جَوَّزَ تَخْصِيصَ أَصْلِهِ بِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. لِأَنَّهُ فَرْعُ الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطَ شَيْئًا مِنْ حُكْمِهِ. وَأَصْحَابُ
أَبِي حَنِيفَةَ يُجِيزُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْقِيَاسِ إذَا خَصَّ أَصْلَهُ، وَلَا نُجِيزُهُ نَحْنُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا نَحْنُ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، فَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ حَتَّى نَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ فِي التَّخْصِيصِ بِهِ. اهـ. وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي دَلِيلِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ
الثَّالِثُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَاجِبٌ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ دَلِيلٌ مِنْ الْمَفْهُومِ، فَيَسْقُطُ حِينَئِذٍ الْمَفْهُومُ، وَيَبْقَى الْعَامُّ عَلَى عُمُومِهِ مِثَالُهُ: نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، مَعَ قَوْلِهِ:«مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» فَإِنَّا لَمْ نَقُلْ بِالْمَفْهُومِ، وَخَصَّصْنَا بِهِ الْعَامَّ، كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ حَيْثُ قَصَرَ الْعُمُومَ عَلَى الطَّعَامِ، لِأَنَّ مَعَنَا دَلِيلًا أَقْوَى مِنْ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ، لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ غَيْرُهُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْهُومِ، وَالْقِيَاسُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الطَّعَامِ بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ، هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ.
عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ، وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ لَا يُخَصِّصُ مَا عَدَاهُ. قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الِاسْمِ اللَّقَبِ أَمَّا الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ، فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ، كَالْفَاسِقِ وَالنَّائِمِ.
وَاعْتَرَضَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا. وَقَالُوا: تَرَكَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ