الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْقَوْلُ فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ]
وَالْمُرَادُ بِالْبِنَاءِ: تَخْصِيصُهُ وَتَفْسِيرُهُ لَهُ. إذَا وُجِدَ نَصَّانِ: أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالْآخَرُ خَاصٌّ، وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْهُ، وَالْآخَرُ مِنْ السُّنَّةِ إمَّا مُتَوَاتِرًا وَغَيْرَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ السُّنَّةِ؛ إمَّا مُتَوَاتِرَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُتَوَاتِرَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ. وَالْحُكْمُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، إلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّسْخِ عِنْدَمَا يَكُونُ الْمُتَأَخِّرُ ظَنِّيًّا، وَالْمُقَدَّمُ قَطْعِيًّا، عِنْدَ مَنْ مَنَعَهُ. وَحَيْثُ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا صِرْنَا إلَيْهِ، وَنَقَلَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ النَّصَّانِ مِنْ الْكِتَابِ، وَيَسْقُطُ الْخَبَرَانِ، وَعَنْهُ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ رِوَايَتَانِ: هَلْ يُسْتَعْمَلَانِ أَوْ يَتَسَاقَطَانِ.
ثُمَّ فِيهِ أَقْسَامٌ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَا مَعًا، كَأَنْ تُنَزَّلَ آيَةٌ عَامَّةٌ، ثُمَّ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَلِيلَ التَّخْصِيصِ، كَقَوْلِهِ: زَكُّوا الْبَقَرَ وَلَا تُزَكُّوا الْعَوَامِلَ، فَالْخَاصُّ هُنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ، لِأَنَّ الْخَاصَّ مُبَيِّنٌ لِلْعَامِّ وَمُخَصِّصٌ لَهُ؛ لَكِنْ فِي الْمَحْصُولِ " أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْعَامِّ يَصِيرُ مُعَارِضًا لِلْخَاصِّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: الْمُخَصِّصُ مَعَ الْعَامِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ بِلَا خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]
ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] فَخَصَّ حَالَ الِاضْطِرَارِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا. فَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخُصُوصِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُقَارِنًا لِلْعَامِّ، كَمَا مَثَّلْنَا، أَوْ يَكُونَ الْعَامُّ مُقَارِنًا لِلْخَاصِّ، كَأَنْ يَقُولَ:«لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» ، ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَهُ:«فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، وَإِنْ جَوَّزْنَا نَسْخَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ، فَلَا يُمْكِنُ هُنَا، لِأَنَّ النَّاسِخَ شَرْطُهُ التَّرَاخِي، وَهُوَ هَاهُنَا مُقَارِنٌ، فَتَعَيَّنَ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.
الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا، فَالْمُتَأَخِّرُ إمَّا الْخَاصُّ وَإِمَّا الْعَامُّ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ أَوْ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْخَاصُّ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ، فَهَاهُنَا يَكُونُ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ وِفَاقًا، وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا، لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا، فَيُعْمَلُ بِالْعَامِّ فِي بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَثَانِيهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْعَامِّ دُونَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَهَذِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ جَعَلَ الْخَاصَّ بَيَانًا لِلْعَامِّ، وَقَضَى بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ، حَكَمَ بِنَسْخِ الْعَامِّ فِي الْقَدْرِ الَّذِي عَارَضَهُ الْآخَرُ.
هَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٌ، قَالَ: وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ يَخْتَصُّ بِهَا، وَإِنَّمَا يَعُودُ الْكَلَامُ فِيهَا إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. اهـ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " إذَا تَأَخَّرَ الْخَاصُّ، فَإِنْ وَرَدَ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ كَانَ تَخْصِيصًا، أَوْ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ كَانَ نَسْخًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ
وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَلَمْ يُجَوِّزْ نَسْخَ الْحُكْمِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، كَالْمُعْتَزِلَةِ أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ. وَمَنْ جَوَّزَهُمَا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْخَاصَّ مُخَصِّصٌ لِلْعَامِّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْعَامِّ لَكِنَّ التَّخْصِيصَ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ النَّسْخِ وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَيَتَعَيَّنُ. وَنُقِلَ عَنْ مُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَاصَّ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ الْعَامِّ، وَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مَا يُمْكِنُ الْمُكَلَّفُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الِاعْتِقَادِ بِمُقْتَضَى الْعَامِّ كَانَ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنْ الْعَامِّ لِأَنَّهُمَا دَلِيلَانِ وَبَيْنَ حُكْمَيْهِمَا تَنَافٍ فَيُجْعَلُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ عَنْ الْإِمْكَانِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُصِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ فَهَاهُنَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عِنْدَنَا، لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ مُتَيَقَّنٌ، وَمَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ ظَاهِرٌ مَظْنُونٌ، وَالْمُتَيَقَّنُ أَوْلَى. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا عُلِّلَ بِهِ. اهـ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ إلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ الْفَارِضِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: إذَا تَأَخَّرَ الْعَامُّ كَانَ نَسْخًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَاصُّ، مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخُصُوصِ. قَالَ: وَكَانَ يَحْكِي شَيْخُنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَمَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدُ.
ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ نَاقَضَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلَ:
مِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام لِأُنَيْس: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» قَاضِيًا عَلَى قَضِيَّةِ مَاعِزٍ فِي اعْتِبَارِ تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ مَاعِزٍ خَاصَّةٌ مُفَسَّرَةٌ، وَقَضِيَّةَ أُنَيْسٍ عَامَّةٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مَنْسُوخٌ «بِأَكْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَحْمًا وَخُبْزًا، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ، فَنُسِخَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامٌّ فِي الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَرْكُهُ الْوُضُوءَ مِنْهَا خَاصٌّ بِهِمَا، ثُمَّ يُنْسَخُ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ مَعَ امْتِنَاعِ وُقُوعِ النَّسْخِ فِي مِثْلِهِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ، كَيْفَ مُنِعَ مِنْ إيجَابِ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لِلْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَقْبَلُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ عَلَى غَسْلِ الْيَدِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ زَعَمَ (أَنَّ قَتْلَ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ)
مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ عليه السلام: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» فَجَعَلَ الْعَامَّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ.
وَزَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ: تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» وَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ النَّصُّ عَلَى تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَالْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ، وَلَمْ يَحْمِلُ الشَّافِعِيُّ (رحمه الله) الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، مَعَ أَنَّ الْحَادِثَةَ وَاحِدَةٌ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَتَيْنِ فَكَيْفَ فِي وَاحِدَةٍ؟ وَالْجَوَابُ.
وَرَابِعُهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْخَاصِّ، لَكِنَّهُ قَبْلَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْبِنَاءِ وَالنَّسْخِ، إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ مِنْهُمْ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ،
فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَوْ التَّعَارُضُ فِيمَا تَنَافَيَا فِيهِ، وَجَعَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَبْنِيًّا عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. قَالَ: فَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَهُ عَنْ مَوْرِدِ اللَّفْظِ، جَعَلَهُ نَسْخًا لِلْخَاصِّ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْخَاصَّ مِنْهُمَا يَخُصُّ الْعَامَّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِهِمْ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى التَّوَقُّفِ إلَى ظُهُورِ التَّارِيخِ، وَإِلَى مَا يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالدَّقَّاقِ أَيْضًا.
وَكُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ ذَهَبَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ أَصْلُهُ، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلِأَنَّهُ بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ مُطْلَقًا مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا وَمُقَارِنًا إذَا عُلِمَ التَّارِيخُ، لَكِنْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَكُونُ الْبِنَاءُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ، وَحَالَةُ الْجَهْلِ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَالْجَهْلُ بِكَوْنِ الْبِنَاءِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ أَوْ التَّخْصِيصِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، لَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَلَا فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، وَيُخَصِّصُ الْعَامَّ أَوْ يَنْسَخُهُ بِهِ إذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَعِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ دَارَ الْأَمْرُ فِي الْخَاصِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ مُخَصِّصًا أَوْ نَاسِخًا، فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّوَقُّفَ إلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ ذَكَرُوا فِي التَّرْجِيحِ فِي اسْتِعْمَالِهِمَا أَوْ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهَا وُجُوهًا، فَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّهُ قَسَّمَهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَعْمَلَ النَّاسُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَيُسْتَعْمَلَانِ، وَيُرَتَّبُ الْعَامُّ عَلَى
الْخَاصِّ «كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَتَرْخِيصُهُ فِي السَّلِمِ " وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجِبِ أَحَدِهِمَا وَيُسْقِطُوا الْآخَرَ فَيَجِبُ حَمْلُ مَا أَسْقَطُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا عَمِلُوا بِهِ. وَيَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَيَعْمَلُ بَعْضُهُمْ بِأَحَدِهِمَا، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُخَالِفُهُ، فَالْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إذَا وَرَدَا، وَتَجَرَّدَا عَنْ دَلَالَةِ النَّسْخِ، يُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا عَلَى التَّرْتِيبِ، وَإِنَّهُ إنْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِآخَرَ.
قَالَ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مَتَى اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْآخَرِ، كَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَاضِيًا عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ:«فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ، وَحَدِيثُ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَكَانَ خَبَرُ إيجَابِ الْعَشَرَةِ مُطْلَقًا قَاضِيًا عَلَيْهِ بِإِيجَابِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ، تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ.
وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ: تَرْجِيحَ الْخَاصِّ فِيهِمَا عَلَى النَّسْخِ، وَالْمُفِيدُ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَزَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: كَوْنَ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ بَيَانًا لِلْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ، كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى نِصَابِ السَّرِقَةِ، وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ التَّرْجِيحَاتِ.