الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثَابِتًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ عُطِفَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ كَانَ ثَابِتًا لِلْمَجْمُوعِ وَإِنْ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ كَانَ ثَابِتًا لِبَعْضِ مَدْلُولِهَا وَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ مُبَيِّنًا لِلْمُرَادِ بِالْأَوَّلِ، بَلْ يَحْصُلُ الْإِخْرَاجُ
وَالْحَاصِلُ قَبْلَهُ قُصِدَ أَنْ يُسْتَثْنَى لَا بِقَصْدِ الْمَعْنَى، حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مَوْتِهَا، طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَلَوْ كَانَ مُبَيِّنًا لَزِمَهُ وَعَلَى هَذَا لَا يُسَمَّى تَخْصِيصًا
[مَسْأَلَةٌ هَلْ يَعْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ أَوْ الْبَيَانِ]
تَتَفَرَّعُ عَلَى مَا سَبَقَ وَتَتَأَصَّلُ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَبِالْعَكْسِ، وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ أَوْ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ، فَقَالَ بِالثَّانِي، وَهُوَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ مَعْنَوِيٌّ، أَيْ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لِلْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ مَنَعَ دُخُولَهُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إلَى صُورَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ اسْتِخْرَاجٌ صُورِيٌّ. وَنَسَبُوا لِأَصْحَابِنَا الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، مِثْلُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُعَارَضَةِ أَنْ يُثْبِتَ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ صَدْرِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْمَجْمُوعِ، وَآخِرَهُ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ إخْرَاجِ الْبَعْضِ عَنْ الْإِرَادَةِ، فَتَعَارَضَا فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، فَتَعَيَّنَ خُرُوجُهُ عَنْ الْمُرَادِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ، كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْآخَرِينَ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِالْبَاقِي فِي صَدْرِ الْكَلَامِ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى.
قُلْت: هُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ، وَقَالَ صَاحِبُ
الْمُحِيطِ ": الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، أَيْ تَكَلَّمَ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَعْدَ صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ الْمُسْتَثْنَى.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: لَوْ قَالَ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا أَوْ غَانِمًا، لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا، لِأَنَّهُ فِيهِ، فَثَبَتَ حُكْمُ الشَّكِّ فِيهِمَا، وَيَصِيرُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى بِطَرِيقِ أَنَّهُ لَا بَعْضَ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولًا، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُسْتَثْنَى أَصْلًا، فَلَا أَثَرَ لِلْجَهَالَةِ فِيهِ. وَفِي " الْمُغْنِي " ابْنُ قُدَامَةَ: الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا هُوَ مُبَيِّنٌ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُرَادٍ بِالْكَلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، وقَوْله تَعَالَى:{إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] عِبَارَةٌ عَنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَخَرَجَ بِالْخَمْسِينَ الْمُسْتَثْنَى، وقَوْله تَعَالَى:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26]{إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 27] فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَا أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.
وَفَصَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْعَدَدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالُوا فِي غَيْرِ الْعَدَدِيِّ: إنَّهُ إخْرَاجٌ قَبْلَ الْحُكْمِ، ثُمَّ حُكْمُهُ عَلَى الْبَاقِي، وَقَالُوا فِي الْعَدَدِيِّ: لَا إخْرَاجَ، حَتَّى قَالُوا فِي إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةٌ وَكَذَا، وَلَمْ يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ لَا يَحْنَثُ
قُلْت: وَمَا نَسَبُوهُ لِأَصْحَابِنَا مَمْنُوعٌ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ، لَا أَنَّهُ إبْطَالُ مَا ثَبَتَ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً، يَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ، لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ. وَاحْتَمَلَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْعَشَرَةَ،
وَالشَّكُّ فِي الْمَنْفِيِّ. قُلْت: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْوِيَهُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُرَادًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَكُونَ؟ وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ بَيَانًا لَأَدَّى إلَى النَّسْخِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ، فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى: قَالَ: وَمَسَائِلُ الشَّافِعِيِّ كُلُّهَا تُخَرَّجُ عَلَى الْبَيَانِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعَارُضِ، لِأَنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُسْتَقِلٌّ، وَالْمُسْتَثْنَى نَاقِصٌ، وَلِهَذَا لَا يُبْتَدَأُ بِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَى الْإِخْرَاجِ قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُخَرِّجُ الْخَمْسِينَ مِنْ الْأَلْفِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِلُبْثِهِ الْأَلْفَ بِكَمَالِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ صَالِحًا لِدُخُولِ الْخَمْسِينَ تَحْتَ الْأَلْفِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْ صَلَاحِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُرِيدٌ لِلْأَلْفِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ مَا لَبِثَ الْخَمْسِينَ، فَكَيْفَ يُرِيدُهَا؟
وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: وَضْعُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُخَرِّجَ مَا لَوْلَاهُ لَانْتَظَمَهُ، وَذَكَرَ الْإِخْرَاجَ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاحِيَّةِ فِي اللَّفْظِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ تَبْطُلُ دَعْوَى الْقَرَافِيِّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا إخْرَاجَ فِيهِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ حَقِيقَةٌ فِيمَنْ اتَّصَفَ بِالدُّخُولِ، وَلَا يُقَالُ: خَرَجَ زَيْدٌ مِنْ الدَّارِ إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَهَا إلَّا مَجَازًا وَقَدْ بَيَّنَّا الْمُرَادَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الصَّلَاحِيَّةِ لِلدُّخُولِ، لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُقَارِنِ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا وَرَاءَ الْخُصُوصِ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَخْصُوصَ. وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ، فَلَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمُحَارِبِينَ مُرَادًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الِابْتِدَاءِ.