الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَيْمَانِ " مِنْ " الْحَاوِي " عِنْدَ الْكَلَامِ فِيمَا " إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءَ النَّهْرِ " أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يُسْتَعْمَلَانِ تَارَةً لِلْجِنْسِ، وَلِلْعَهْدِ أُخْرَى، وَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الْقَرِينَةُ تُصْرَفُ إلَى الْعَهْدِ، وَتَمْنَعُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ، فَهَلَّا جَعَلْتُمْ الْعَامَّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مَصْرُوفًا إلَى الْعَهْدِ بِقَرِينَةِ السَّبَبِ الْخَاصِّ، وَقُلْتُمْ: إنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ تَقَدُّمَ السَّبَبِ الْخَاصِّ قَرِينَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يُرَادُ لَا أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَنَحْنُ نَعْلَمُهُ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ وَنَقُولُ: دَلَالَةُ هَذَا الْعَامِّ عَلَى مَحَلِّ السَّبَبِ قَطْعِيَّةٌ، وَعَلَى غَيْرِهِ ظَنِّيَّةٌ، إذْ لَيْسَ فِي السَّبَبِ مَا يُثْبِتُهَا وَلَا مَا يَنْفِيهَا.
[مَا يُفِيدُهُ جَمْعُ السَّلَامَةِ وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ]
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ لِلتَّكْثِيرِ، كَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَقَسَّمَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ النَّحْوِيِّينَ الْجَمْعَ إلَى قِسْمَيْنِ: جَمْعِ سَلَامَةٍ وَهُوَ لِلتَّقْلِيلِ لِلْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا، وَجَمْعِ تَكْسِيرٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: مَا هُوَ لِلْقِلَّةِ، وَهِيَ أَرْبَعُ صِيَغٍ: أَفْعَالٌ وَأَفْعُلٌ وَأَفْعِلَةٌ وَفِعْلَةٌ، وَالْبَاقِي لِلتَّكْثِيرِ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ اسْتَشْكَلَ كَيْفَ يَجْتَمِعُ الْعُمُومُ مَعَ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَالْأَوَّلُ يَسْتَغْرِقُ الْأَفْرَادَ وَالثَّانِي لَا يَسْتَغْرِقُ الْعَشَرَةَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْعُمُومَ يَجْمَعُ مَا لَا يَتَجَاوَزُ الْوَاحِدَ، فَاجْتِمَاعُ الْعُمُومِ مَعَ مَا لَا يَتَجَاوَزُ الْعَشَرَةَ أَوْلَى، فَإِذَا قُلْت: أَكْرِمْ الزَّيْدَيْنِ، فَمَعْنَاهُ أَكْرِمْ كُلَّ وَاحِدٍ مُجْتَمِعٍ مَعَ تِسْعَةٍ، أَوْ دُونَهَا إلَى اثْنَيْنِ بِخِلَافِ أَكْرِمْ الرِّجَالَ، فَمَعْنَاهُ أَكْرِمْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْضَمٍّ إلَى عَشَرَةٍ فَأَكْثَرَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعُمُومَ فِي نَحْوِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَصَرَّفَ الشَّارِعُ فِيهَا بِالنَّقْلِ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا، فَحَيْثُ جَاءَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَنَحْوِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومَ تَصَرُّفًا مِنْ الشَّارِعِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ لُغَةً، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ "، وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ، ثُمَّ ضَعَّفَهُ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّصَرُّفِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ.
الثَّالِثِ: ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ لَا تَسْتَمِرُّ الْعَرَبُ فِيهِ بِصِيغَةِ الْكَثِيرِ، فَصِيغَةُ التَّقْلِيلِ فِيهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّكْثِيرِ أَيْضًا، لِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ، كَقَوْلِهِمْ: فِي جَمْعٍ رِجْلٍ أَرْجُلٌ، فَهُوَ لِلتَّكْثِيرِ.
الرَّابِعِ: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يُحْمَلُ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُنَكَّرًا وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُعَرَّفًا بِأَلْ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ اسْمَ الْعِلْمِ إذَا ثُنِّيَ أَوْ جُمِعَ وَلَمْ يُعَرَّفْ بِاللَّامِ، كَانَ نَكِرَةً بِالِاتِّفَاقِ، وَزَالَتْ عَنْهُ الْعَلَمِيَّةُ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ مُفَادَ الْعِلْمِ إذَا عُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَالزَّيْدِينَ وَالزُّيُودِ، فَمَوْضُوعُ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يُعَرَّفْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الِاسْتِيعَابَ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ} [ص: 62] ، بِخِلَافِ حَالَةِ التَّعْرِيفِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ مَالِكٍ بِأَنَّ جَمْعَيْ التَّصْحِيحِ لِلْقِلَّةِ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِأَلْ الَّتِي لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَوْ يُضَافُ إلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، فَإِنْ اقْتَرَنَ صُرِفَ إلَى الْكَثْرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35]، وَقَوْلِهِ {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ حَسَّانُ (رضي الله عنه) فِي قَوْلِهِ:
لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى
…
وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمًا
وَاعْتَرَضَ الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ عَلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي اتِّفَاقِ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَنَقَلَا الْخِلَافَ فِيهِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ، وَإِنَّمَا نُقِلَ فِيهِ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ مَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْخِلَافِ، فَكَلَامُ الْإِمَامِ إذَنْ مُسْتَقِيمٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ: قَدْ قِيلَ إنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ عَلَى وِزَانِ الْأَفْعَالِ كَالْأَبْوَابِ. أَوْ الْفِعْلَةِ كَالصِّبْيَةِ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَلَكِنَّ دَلَالَتَهُ دُونَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَاعْتَرَضَ الْأَصْفَهَانِيِّ شَارِحِ " الْمَحْصُولِ " عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الْمُنَكَّرَ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
الْخَامِسِ: قَالَ الْإِمَامُ أَيْضًا: إنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ مَوْضُوعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِلْقِلَّةِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَثْرَةِ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ، فَنَظَرُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَنَظَرُ النَّحْوِيِّينَ إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ نَقَلَهُ ابْنُ الصَّائِغِ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ " عَنْ سِيبَوَيْهِ، فَقَالَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ جَمْعَيْ السَّلَامَةِ لِلتَّقْلِيلِ، غَيْرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَسْمَاءِ لَا سِيَّمَا الصِّفَاتِ يُقْتَصَرُ مِنْهَا عَلَى جَمْعِ السَّلَامَةِ، وَلِذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْكَثْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
وَزَعَمَ ابْنُ خَرُوفٍ أَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، وَقَالَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ "
مِنْ النَّحْوِيِّينَ: إنَّهُ الْحَقُّ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي تَقْوِيَةِ مَقَالَةِ الْإِمَامِ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ عَنْ الزَّجَّاجِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَإِنْ كَانَ جَمْعَ السَّلَامَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْقِلَّةِ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] قَالَ ابْنُ إيَازٍ: وَاسْتُضْعِفَ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ فَالْمَجَازُ أَوْلَى. قَالَ: بَلْ جَمْعُ السَّلَامَةِ مُذَكَّرُهُ وَمُؤَنَّثُهُ لِلْقِلَّةِ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْكَثْرَةِ فَذَلِكَ اتِّسَاعٌ.
وَهَاهُنَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَمْعَ يَنْقَسِمُ إلَى سَالِمٍ وَهُوَ مَا سَلِمَتْ فِيهِ بِنْيَةُ الْوَاحِدِ كَالزَّيْدِينَ وَالْهِنْدَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِلَى مَا لَا يَسْلَمُ كَرِجَالٍ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: جَمْعُ قِلَّةٍ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ: أَفْعِلَةٌ كَأَرْغِفَةٍ، وَأَفْعُلٌ كَأَبْحُرٍ، وَفِعْلَةٌ كَفِتْيَةٍ، وَأَفْعَالٌ كَأَحْمَالٍ، وَمَدْلُولُهُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَوَقَعَ فِي " الْبُرْهَانِ " لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالَ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَهُوَ تِسْعَةٌ، لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَلَمْ يَخُصُّوهُ بِثَلَاثَةٍ أَوْ اثْنَيْنِ.
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.
وَقَالَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ " مِنْ النَّحْوِيِّينَ: قَوْلُهُمْ: جَمْعُ الْقِلَّةِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَة، اُخْتُلِفَ فِي الْعَشَرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ مَنْ أَدْخَلَ مَا بَعْدَ " إلَى " فِيمَا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: عَشَرَةُ أَفْلُس، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَوَّلَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَالتِّسْعَةُ مُنْتَهَى جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُدْخِلْ، وَأَمَّا تَمْيِيزُهَا بِجَمْعِ الْقِلَّةِ فَلِقُرْبِهَا مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] فَجَمَعَ فِي هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ أَكْثَرَ الْقَلِيلِ وَأَقَلَّ الْكَثِيرِ وَمَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ كَثِيرٌ بِالِاتِّفَاقِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ فَائِدَةٌ.