الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ لَيْسَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ]
ُ] اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِ صِيغَتِهِ عَلَى مَذَاهِبَ:
أَحَدِهَا: وَهُمْ الْمُلَقَّبُونَ بِأَرْبَابِ الْخُصُوصِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الصِّيَغِ مَوْضُوعٌ لِلْخُصُوصِ، وَهُوَ أَقَلُّ الْجَمْعِ، إمَّا اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ إلَّا بِقَرِينَةٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْتَابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ ": يَزْعُمُونَ أَنَّ الصِّيَغَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْجَمْعِ نُصُوصٌ فِي الْجَمْعِ، مُحْتَمَلَاتٌ فِيمَا عَدَاهُ إذَا لَمْ تَثْبُتْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي تَعَدِّيَهَا عَنْ أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": يُشْبِهُ أَنْ يَكُونُوا جَعَلُوا لَفْظَةَ " مَنْ " حَقِيقَةً فِي الْوَاحِدِ مَجَازًا فِي الْكُلِّ. وَجَعَلُوا بَقِيَّةَ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ حَقِيقَةً فِي جَمْعٍ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَجْعَلُوا أَلْفَاظَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ كَالْمُسْلِمِينَ حَقِيقَةً فِي الْوَاحِدِ مَجَازًا فِي الْجَمْعِ، وَلَفْظُ " كُلِّ وَجَمِيعِ " أَبْعَدُ. [الَّذِينَ قَالُوا لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَخُصُّهُ]
وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ صِيغَةً مَخْصُوصَةً بِالْوَضْعِ حَقِيقَةً، وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْخُصُوصِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِتَعَذُّرِ جَمِيعِ الْآحَادِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ كَأَلْفَاظِ الْآحَادِ وَالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ وَالْإِفْهَامُ كَمَا عَكَسُوا فِي التَّرَادُفِ فَوَضَعُوا لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَسْمَاءً مُخْتَلِفَةً لِلتَّوَسُّعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَكَافَّةِ أَصْحَابِهِ أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيغَةً، وَمَنْ يَتَتَبَّعُ كَلَامَهُ فِي " الْمُوَطَّإِ " يَجِدْ مِنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْعُمُومِ كَثِيرًا. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ بِأَسْرِهِمْ: وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبِهِ نَأْخُذُ.
تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": زَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْآيَةَ إذَا وَرَدَتْ ظَاهِرَةً فِي الْعُمُومِ لَا يُقْضَى عَلَيْهَا بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ.
قَالَ وَهَذَا الَّذِي قَالَ ضِدَّهُ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ الَّذِي قَدْ اشْتَهَرَ بِهِ فِي كُتُبِهِ، وَعِنْدَ خُصُومِهِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى عُمُومِهِ وَظَاهِرِهِ، حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَقُومُ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، وَعَلَى أَنَّهُ بَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ. وَقَدْ قَالَ (رضي الله عنه) فِي " الرِّسَالَةِ ": الْكَلَامُ عَلَى عُمُومِهِ وَظَاهِرِهِ حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا مَا نَصُّهُ: فَكُلُّ خِطَابٍ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ فِي كَلَامِ النَّاسِ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَظُهُورِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، وَبَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا وَجَدْت خَبَرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُجْمَلًا، فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَظَاهِرِهِ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، وَبَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ. ثُمَّ قَسَّمَ الْقُرْآنَ وَالْأَخْبَارَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ: فَثَبَتَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ كُلِّ مُخَاطَبٍ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الِاسْمُ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إجْرَاءِ الِاسْمِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " إلَّا أَنْ يَأْتِيَ دَلَالَةً " يَجُوزُ عَلَى نَفْسِهِ اسْتِتَارُ الدَّلِيلِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِذَا عَلِمَ صَارَ إلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ عَامًّا.
ثُمَّ ذَكَرَ الصَّيْرَفِيُّ نُصُوصًا لِلشَّافِعِيِّ كَثِيرَةً صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ، بَلْ قَطْعِيَّةٌ فِيهِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ قَائِمٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ، وَأَنِّي لَمْ أُقَلِّدْهُ فِيهِ، لِقِيَامِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ شُبْهَةِ النَّاقِلِينَ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْوَقْفَ، ثُمَّ رَدَّهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُقَالُ: إنَّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ؛ بَلْ الْمَعْرُوفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ مَا وَصَفْت لَك، مِنْهُمْ: الْمُزَنِيّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْبُوَيْطِيُّ، وَالْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ، وَالْأَشْعَرِيُّ، وَدَاوُد وَسَائِرُ الشَّافِعِيِّينَ.
هَذَا كَلَامُ الصَّيْرَفِيِّ، وَعَجِيبٌ نَقْلُهُ الْقَوْلَ بِالصِّيغَةِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": كُلُّ كَلَامٍ كَانَ عَامًّا ظَاهِرًا فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَظُهُورِهِ، حَتَّى يُعْلَمَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِالْجُمْلَةِ الْعَامَّةِ فِي الظَّاهِرِ بَعْضَ الْجُمْلَةِ دُونَ بَعْضٍ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ": قَالَ لِي قَائِلٌ: تَقُولُ الْحَدِيثَ عَلَى عُمُومِهِ وَظُهُورِهِ، وَإِنْ احْتَمَلَ مَعْنًى غَيْرَ الْعَامِّ وَالظَّاهِرِ، حَتَّى يَأْتِيَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، وَبَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ؟ قُلْت: فَكَذَلِكَ أَقُولُ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ": الْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ كَمَا وَصَفْت، وَالْأَحْكَامُ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِيلَ مِنْهَا ظَاهِرًا إلَى بَاطِنٍ، وَلَا عَامًّا إلَى خَاصٍّ إلَّا بِدَلَالَةٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْعُمُومُ عِنْدَنَا لَهُ صِيغَةٌ إذَا أُورِدَتْ مُجَرَّدَةً عَنْ الْقَرَائِنِ دَلَّتْ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ. هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَدَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَبِهِ قَالَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْجُبَّائِيُّ وَطَائِفَةٌ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إذَا وَرَدَتْ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ الْخُصُوصِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى اثْنَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، ذَهَبَ إلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٍ وَغَيْرُهُ، وَذَهَبَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ إلَى الْوَقْفِ. [الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ لِلْعُمُومِ صِيغَةً لَفْظِيَّةً]
وَالثَّالِثُ: أَنَّ شَيْئًا مِنْ الصِّيَغِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَلَا مَعَ الْقَرَائِنِ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ الْعُمُومُ عِنْدَ إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُرْجِئَةِ، وَنَسَبَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ.
قَالَ فِي " الْبُرْهَانِ ": نَقَلَ مُصَنِّفُونَ الْمَقَالَاتِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْوَاقِفِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ لِمَعْنَى الْعُمُومِ صِيغَةً لَفْظِيَّةً، وَهَذَا النَّقْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ زَلَلٌ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ إمْكَانَ التَّعْبِيرِ عَنْ مَعْنَى الْجَمْعِ بِتَرْدِيدِ أَلْفَاظٍ مُشْعِرَةٍ بِهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: رَأَيْت الْقَوْمَ وَاحِدًا وَاحِدًا لَمْ يَفُتْنِي مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ قَطْعًا لِتَوَهُّمٍ يَحْسِبُهُ خُصُوصًا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْوَاقِفِيَّةُ لَفْظَةً وَاحِدَةً مُشْعِرَةً بِمَعْنَى الْجَمْعِ. انْتَهَى.
وَمَا ادَّعَى فِيهِ الْوِفَاقَ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ " التَّلْخِيصِ مِنْ التَّقْرِيبِ "
لِلْقَاضِي، وَسَيَأْتِي. وَلَيْسَ مُرَادُهُ " بِالْجَمْعِ " الْقَدْرُ الْمَخْصُوصُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ اثْنَيْنِ، إنَّمَا مُرَادُهُ الشُّمُولُ بِدَلِيلِ الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ. [الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ]
وَالرَّابِعُ: الْوَقْفُ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَمُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ، وَذَهَبَ إلَيْهِ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ: أَنَّا سَبَرْنَا اللُّغَةَ وَوَضْعَهَا، فَلَمْ نَجِدْ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ صِيغَةً دَالَّةً عَلَى الْعُمُومِ، وَسَوَاءٌ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً بِضُرُوبٍ مِنْ التَّأْكِيدِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ ": وَمِمَّا زَلَّ فِيهِ النَّاقِلُونَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ وَمُتَابَعِيهِ أَنَّ الصِّيغَةَ وَإِنْ تَقَيَّدَتْ بِالْقَرَائِنِ فَإِنَّهَا لَا تُشْعِرُ بِالْجَمْعِ، بَلْ تَبْقَى عَلَى التَّرَدُّدِ، وَهَذَا إنْ صَحَّ النَّقْلُ فِيهِ مَخْصُوصٌ عِنْدِي بِالتَّوَابِعِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَعْنَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِينَ: رَأَيْت الْقَوْمَ أَجْمَعِينَ، أَكْتَعِينَ، أَبْصَعِينَ، فَأَمَّا أَلْفَاظٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ تُفْرَضُ مُقَيَّدَةً، فَلَا يُظَنُّ بِذِي عَقْلٍ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهَا. انْتَهَى. وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمَازِرِيُّ فِي إمْكَانِ النَّقْلِ عَنْ الْوَاقِفِيَّةِ وَإِنْ تَقَيَّدَتْ بِالْقَرَائِنِ. قَالَ. وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِهِمْ، وَلَوْ سُلِّمَ لَهُ ذَلِكَ
فَإِنَّمَا. يَقْتَضِي إنْكَارَ وُجُودِ لَفْظَةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرُوهُ. وَأَشَارَ إلَى أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ إنَّمَا اُسْتُفِيدَ الْعُمُومُ مِنْهَا بِإِضَافَةِ قَرَائِنَ اُسْتُشْعِرَتْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ التَّابِعَةِ لِلصِّيغَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: شَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَنَسَبَتْ هَذَا الْقَوْلَ لِلشَّافِعِيِّ لِأَشْيَاءَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْآيِ: يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَيَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، وَلَمْ يُرِدْ الشَّافِعِيُّ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ وَإِنَّمَا احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ تَرِدَ دَلَالَةٌ تَنْقُلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ الْعُمُومِ إلَى الْخُصُوصِ، لَا أَنَّ حَقَّهُ الِاحْتِمَالُ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ حَكَى قَوْلَ الْوَقْفِ عَنْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَلَا يُقَالُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَقْضِيَةِ " عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ، الَّذِي نَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ عَنْ دَاوُد الْقَوْلَ بِالصِّيغَةِ. [مَذَاهِبُ الْوَاقِفِيَّةِ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ]
وَاخْتَلَفَتْ الْوَاقِفِيَّةُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ، وَفِي صِفَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَأَمَّا مَحَلُّهُ: فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَئِمَّتِهِمْ الْقَوْلُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّوَقُّفَ فِي أَخْبَارِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ الْكَرْخِيِّ. قَالَ: وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ بِوَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُدْرَكَهُ، بَلْ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْوَعِيدِ بِالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ إنَّمَا انْتَهَضَتْ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ بِدَلَائِلَ مِنْ خَارِجٍ.
وَالثَّالِثُ: عَكْسُهُ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْمُرْجِئَةِ، فَقَالُوا: بِصِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَوَقَّفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَالرَّابِعُ: الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا.
وَالْخَامِسُ: الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ. قَالَ الْقَاضِي: وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا يَلِيقُ بِالشَّطْحِ وَالتُّرَّهَاتِ دُونَ الْحَقَائِقِ.
وَالسَّادِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ لَا يُسْمَعْ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ وَكَانَتْ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعُمُومُ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ وَعَلِمَ انْقِسَامَهَا إلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَلَا يَعْلَمُ حِينَئِذٍ الْعُمُومَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ".
السَّابِعُ: الْوَقْفُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ خِطَابَ الشَّارِعِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا مَنْ سَمِعَ مِنْهُ، وَعَرَفَ تَصَرُّفَاتِهِ فِيهِ مَا بَيْنَ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ، فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ، كَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ، وَهُوَ عَكْسُ مَا قَبْلَهُ.
الثَّامِنُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْكِيدِ فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ، دُونَ مَا إذَا لَمْ يَتَقَيَّدْ، فَلَفْظُ " النَّاسِ " مَثَلًا، إذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَعُمُّ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ سَلِمَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي مِثْلِ قَوْلِك: النَّاسُ أَجْمَعُونَ عَنْ آخِرِهِمْ، صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، لَا يَشِذُّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، حَكَاهُ الْقَاضِي. قَالَ: وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْوَاقِفِيَّةِ يَقُولُونَ: وَإِنْ قَيَّدْت بِهَذِهِ الْقُيُودِ، فَلَيْسَ مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي اللُّغَةِ، وَلَكِنْ قَدْ يُعْرَفُ عُمُومُهَا بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الْمُتَقَرِّبَةِ بِالْمَقَامِ، وَهِيَ مِمَّا يَنْحَصِرُ بِالْعِبَارَةِ، كَمَا يُعْرَفُ بِالْقَرَائِنِ وَجَلُ الْوَجِلِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَرَائِنُ لَا تُوجِبُ مَعْرِفَتَهَا، وَلَكِنْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِخَلْقِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ عِنْدَنَا.
وَالتَّاسِعُ: أَنَّ لَفْظَةَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ فِي الشَّرْعِ أَفَادَتْ الْعُمُومَ
دُونَ غَيْرِهِمَا، حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ اللُّغَوِيَّةِ كَأَحْكَامِهِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ. [مَذْهَبُ الْوَاقِفِيَّةِ فِي صِفَةِ الْوَقْفِ]
وَأَمَّا صِفَةُ الْوَقْفِ: فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّقْلُ فِيهِ عَنْ الشَّيْخِ وَأَصْحَابِهِ، فَنُقِلَ عَنْهُمْ مَذْهَبَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاحِدِ اقْتِصَارًا عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ فَمَا فَوْقَهُ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، كَالْقُرْءِ وَالْعَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، أَيْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُمَا وَضْعًا مُتَسَاوِيًا، حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ، وَهَذَا فِيمَا يُحْمَلُ مِنْ الصِّيَغِ عَلَى الْوَاحِدِ " كَمَنْ، وَمَا، وَأَيْ "، وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْجُمُوعِ فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ وَبَيْنَ مَا فَوْقَهُ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا.
وَالثَّانِي: نَفْيُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الْوَضْعِ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَقُولُونَ: هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي هَلْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ. وَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نَدْرِي هَلْ وُضِعَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ لِلْعُمُومِ أَمْ لَا؟
وَالثَّانِي: أَنَّا نَدْرِي أَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ لِلْعُمُومِ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي أَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا. وَنَقَلَ قَوْلَ الِاشْتِرَاكِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مُبَايِنًا لِقَوْلِ الْوَقْفِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاقِفِيَّةَ وَإِنْ قَالُوا: بِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِخُصُوصٍ وَلَا عُمُومٍ،
فَقَالُوا: إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيَجُوزَ إطْلَاقُهُ؛ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الصِّيَغِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَأَمَّا هِيَ فَلَا خِلَافَ فِي اقْتِضَائِهَا الْعُمُومَ. وَحَكَى الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَتَبِعَهُ هُوَ فِي " التَّلْخِيصِ " الْخِلَافَ مَعَ التَّأْكِيدِ أَيْضًا. نَعَمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ الصِّيَغِ بِحُكْمِ الْقَرَائِنِ الْمُنْفَصِلَةِ إمَّا عُرْفًا أَوْ عَقْلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْعُمُومِ لَمْ يُنْكِرْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْعُمُومَ وَقَصْدَ إفَادَتِهِ ضَرُورِيٌّ.
وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ فَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ خَاصَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَجَعَلَ غَيْرُهُ مَنْشَأَ الْخِلَافِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْجَمْعِ فِي لَفْظِ الْجَمْعِ هَلْ إنَّمَا حَسُنَ لِمَكَانِ احْتِمَالِ إرَادَةِ الْخُصُوصِ، أَوْ لِكَوْنِ اللَّفْظِ صَالِحًا لِلِاسْتِيعَابِ؟ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَلْ هُوَ اسْتِخْرَاجُ مَا تَتَنَاوَلُهُ الصِّيغَةُ؟ أَوْ مَا يَجِبُ دُخُولُهُ تَحْتَ الصِّيغَةِ؟ أَمْ هُوَ اسْتِخْرَاجُ مَا اللَّفْظُ صَالِحٌ لِتَنَاوُلِهِ؟ وَمَأْخَذُ قَوْلِ الْوَقْفِ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23] وَنَحْوِهِ، وَمَعَ الْمُرْجِئَةِ فِي عُمُومِ الْوَعْدِ، نَفَى أَنْ يَكُونَ هَذِهِ الصِّيَغُ مَوْضُوعَةً لِلْعُمُومِ، وَتَوَقَّفَ فِيهَا، وَتَبِعَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ.