الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَرَّجَ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مِنْ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ إنَّ الْمُعْتَادَةَ الْمُمَيَّزَةَ هَلْ يُحْكَمُ لَهَا بِالتَّمَيُّزِ، أَوْ تُرَدُّ إلَى الْعَادَةِ كَغَيْرِهَا؟ وَسَبَبُهُ قَوْلُهُ عليه السلام لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ:«دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي» ، فَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ، وَلَمْ يَسْأَلْهَا: هَلْ هِيَ مُمَيِّزَةٌ أَمْ لَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلْعَادَةِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، لَكِنْ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالتَّمْيِيزِ، وَقَدْ تَعَاكَسَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَسْأَلَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَمَلَ حَدِيثَ غَيْلَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَالشَّافِعِيُّ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ حَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الْعُمُومِ، وَالشَّافِعِيُّ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُمَيِّزَةً بِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ سَبْقُ ذِكْرِهِ.
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْمُقْتَضَى هَلْ هُوَ عَامٌّ أَمْ لَا]
[الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ
فِي أَنَّ الْمُقْتَضَى هَلْ هُوَ عَامٌّ أَمْ لَا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ تَصْوِيرِهِ قَبْلَ نَصْبِ الْخِلَافِ، فَنَقُولُ: الْمُقْتَضِي بِكَسْرِ الضَّادِ هُوَ اللَّفْظُ الطَّالِبُ لِلْإِضْمَارِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا بِإِضْمَارِ شَيْءٍ، وَهُنَاكَ مُضْمَرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَهَلْ لَهُ عُمُومٌ فِي جَمِيعِهَا أَوْ لَا يَعُمُّ، بَلْ يُكْتَفَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا؟ وَأَمَّا الْمُقْتَضَى بِالْفَتْحِ فَهُوَ ذَلِكَ الْمُضْمَرِ نَفْسُهُ، هَلْ نُقَدِّرُهُ عَامًّا، أَمْ نَكْتَفِي بِخَاصٍّ مِنْهُ؟ إذَا عَرَفْتَ هَذَا فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ وَشَرْحِهَا وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي حَيْثُ قَالَا: الْخِطَابُ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى الْإِضْمَارِ لَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي إضْمَارِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارٍ، فَبَعْضُهُمْ يُضْمِرُ " وَقْتُ إحْرَامِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ "، وَبَعْضُهُمْ يُضْمِرُ " وَقْتُ إفْعَالِ الْحَجِّ "، وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ
لَا يَجُوزُ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَا يَدُلُّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ لِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ، فَلَا يَجُوزُ دَعْوَاهُ فِي الْمَعَانِي.
قَالَا: وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ، وَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» فِي نَفْيِ الْفَضِيلَةِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَائِدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، لِأَنَّ مَا سِوَاهُ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْجَمِيعِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ، لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ. انْتَهَى.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَوْضِعَ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُضْمَرِ، لَا فِي الْمُضْمَرِ لَهُ، فَإِنَّ الْمُضْمَرَ لَهُ مَنْطُوقٌ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَأَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ " وَصَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالُوا: الْمُقْتَضَى مَا اقْتَضَاهُ النَّصُّ، وَأَوْجَبَهُ شَرْطًا لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَالنَّصُّ مُقْتَضٍ لَهُ، كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ، وَلَمْ يَزِدْ
غَيْرَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ، بَلْ رَافِعٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ: الْحُكْمُ أَوْ الْإِثْمُ، أَوْ هُمَا جَمِيعًا، فَالشَّافِعِيُّ أَثْبَتَ لِلْمُقْتَضِي عُمُومًا، وَعِنْدَنَا لَا عُمُومَ لَهُ، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِلْحَاجَةِ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يَصِحُّ الْمَذْكُورُ بِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُقْتَضَى كَالْمَنْصُوصِ فِي احْتِمَالِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمُقْتَضَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ النَّصِّ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَكَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ مَوْجُودًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَمَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ فَرَّعَ السَّرَخْسِيُّ عَلَى الْخِلَافِ الْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ، وَهِيَ مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى طَعَامًا، قَالَ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَقْتَضِي مَأْكُولًا، وَذَلِكَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ أَكَلْتُ طَعَامًا، فَلَمَّا كَانَ لِلْمُقْتَضَى عُمُومٌ عِنْدَهُ عُمِلَ بِنِيَّةِ التَّخْصِيصِ، وَعِنْدَنَا لَا يُعْمَلُ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيمَا لَا عُمُومَ لَهُ لَاغِيَةٌ. انْتَهَى. وَجَعَلَ غَيْرُهُ الْحَدِيثَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لَا مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْحُكْمِ وَالْإِثْمِ مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ:«إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْحَذْفِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنْ الْمَنْطُوقِ إلَى الْمَحْذُوفِ، وَفِي الْمُقْتَضَى لَا يَنْتَقِلُ مِنْ الْمُقْتَضَى شَيْءٌ، بَلْ يُقَدَّرُ قَبْلَهُ مَا يُصَحِّحُهُ، قَالُوا: وَنَظِيرُهُ الْمَيْتَةُ أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الشِّبَعِ، بِخِلَافِ الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّهُ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكَّى يَعُمُّ سَائِرَ جِهَاتِ الِانْتِفَاعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُخَرَّجُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: فَإِنَّهُ قَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] الْآيَةَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا فَتَطَيَّبَ، أَوْ لَبِسَ، أَوْ أَخَذَ ظُفْرَهُ، لِأَجْلِ مَرَضِهِ، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ فَفِدْيَةٌ، فَقُدِّرَ جَمِيعُ الْمُضْمَرَاتِ؟ وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " لَيْسَ هَذَا مُضْمَرًا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَضَمَّنَهُ حَلْقُ الرَّأْسِ فَقَطْ، وَالْبَاقِي مَقِيسٌ عَلَيْهِ، فَقَدَّرَهُ خَاصًّا.
وَقَدْ حَكَى الْبَصِيرُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " وَ " الْحَاصِلِ " أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَحَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " عَنْ " شَرْحِ اللُّمَعِ " لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ عَامٌّ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ وَالنَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ " فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، فَقَالَ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ النَّاسِي؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ عَامَّةٌ، يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ:«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي» فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: حُكْمُ الْخَطَأِ أَوْ إثْمُهُ أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَقَاعِدَةُ الشَّافِعِيِّ تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ، وَلِهَذَا كَانَ كَلَامُ النَّاسِي عِنْدَهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَبْطَلَهَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ عُمُومِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ فِي كُلِّ مَا يَصِحُّ التَّقْدِيرُ بِهِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ
وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْإِضْمَارِ، وَهِيَ الْمُنْدَفِعَةُ بِإِضْمَارٍ وَاحِدٍ وَتَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ تَكْثِيرٌ لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ إضْمَارُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ لَا يُضْمَرَ حُكْمٌ أَصْلًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ تَعْطِيلُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَوْ يُضْمَرُ الْكُلُّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ هَذَا، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَيْسَ إضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِإِضْمَارِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إضْمَارُ حُكْمٍ مَا وَالتَّعْيِينُ إلَى الشَّارِعِ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِجْمَالُ، فَأَجَابَ بِأَنَّ إضْمَارَ الْكُلِّ يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَعْنِي مِنْ الْإِجْمَالِ وَإِضْمَارِ الْكُلِّ خِلَافُ الْأَصْلِ.
وَإِذَا قُلْنَا: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ، فَهَلْ هُوَ مُجْمَلٌ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ، وَإِذْ قُلْنَا: لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، فَقِيلَ: يُصْرَفُ إطْلَاقُهُ فِي كُلِّ عَيْنٍ إلَى الْمَقْصُودِ اللَّائِقِ بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَقِيلَ: يُضْمَرُ الْمَوْضِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مُسْتَغْنٍ عَنْ الدَّلِيلِ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": إنْ قُلْنَا: الْمُقْتَضَى لَهُ عُمُومٌ أُضْمِرَ الْكُلُّ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا عُمُومَ لَهُ، فَهَلْ يُضْمَرُ مَا يُفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ، أَوْ يُضْمَرُ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ وَتَعْيِينُهُ إلَى الْمُجْتَهِدِ؟
وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ.
وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ.
وَالثَّالِثُ التَّوَقُّفُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْآمِدِيَّ آخِرًا لِتَعَارُضِ الْمَحْذُورَيْنِ: كَثْرَةُ الْإِضْمَارِ وَالْإِجْمَالُ إذَا قِيلَ بِإِضْمَارِ حُكْمٍ، وَأَمَّا ابْنُ الْحَاجِبِ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْتِزَامُ الْإِجْمَالِ أَقْرَبُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِتَكْثِيرِ الْإِضْمَارِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أَنْ تَكُونَ مُجْمَلَةً، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ هُنَاكَ بِمُخَالَفَتِهِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ بِأَنَّ الْتِزَامَ مَحْذُورِ الْإِضْمَارِ الْكَثِيرِ أَوْلَى مِنْ الْتِزَامِ مَحْذُورِ الْإِجْمَالِ فِي اللَّفْظِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِضْمَارَ فِي اللُّغَةِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَحْظُورَ فِي الْإِضْمَارِ أَقَلُّ مَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ أَكْثَرَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُودِ الْإِضْمَارِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْإِجْمَالِ فِيهِمَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إضْمَارِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّحُومِ فِي التَّحْرِيمِ، وَإِلَّا لَمَا أَلْزَمَهُمْ الذَّمُّ بِبَيْعِهَا. هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الْمُقَدَّرَاتُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي الدَّلَالَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهِ فَاخْتَارَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إضْمَارُ الْأَعَمِّ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ وَتَكْثِيرِهَا مَعَ انْدِفَاعِ الْمَحْذُورِ الَّذِي هُوَ تَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ.
وَقَرَّرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ " فَقَالَ: وَهُنَا وَجْهٌ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ مَقْصُودُ مَنْ أَرَادَ التَّعْمِيمَ، وَهُوَ أَنْ يُضْمِرَ شَيْئًا وَاحِدًا، مَدْلُولُ ذَلِكَ مُقْتَضٍ لِلْعُمُومِ، فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعُمُومِ مَعَ عَدَمِ تَعَدُّدِ الْمُضْمَرِ، مِثْلُ أَنْ يُضْمِرَ فِي قَوْلِهِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْحُكْمُ، فَيَعُمُّ الْأَحْكَامَ مَعَ غَيْرِ تَعَدُّدٍ فِي الْمُضْمَرِ. انْتَهَى.
وَقَدَّرَ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] التَّصَرُّفَ فِي الْمَيْتَةِ لِيَعُمَّ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ، وَالْبَيْعِ وَالْمُلَابَسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: أَنَّ الصُّوَرَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ ثَلَاثٌ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتَسَاوَى، وَلَا يَظْهَرُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ أَرْجَحُ، فَهَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ مُجْمَلٌ؟ قَوْلَانِ: أَرْجَحُهُمَا الثَّانِي.
ثَانِيهِمَا: أَنْ يَتَرَجَّحَ بَعْضُهَا لَا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ، بَلْ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ، مِثْلُ:«لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ» ، «وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، فَأَصْحَابُنَا يُقَدِّرُونَ وَاحِدًا، ثُمَّ يُرَجِّحُونَ تَقْدِيرَ مَا كَانَ
أَقْرَبَ إلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الْجَوَازُ مَثَلًا، سَوَاءٌ كَانَ أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهِ أَمْ لَا، وَالْخَصْمُ يُقَدِّرُ الْكُلَّ، ثُمَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ هُنَا: إنَّ الْخَصْمَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّرَ الْكُلَّ إلَّا إذَا لَمْ يُنَافِ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنْ تَنَافَيَا وَارْتَكَبَ تَقْدِيرَ الْكُلِّ فَقَدْ أَسَاءَ، مِثْلُ " لَا صِيَامَ " فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَمَالِ يُنَافِي تَقْدِيرَ الصِّحَّةِ، إذْ نَفْيُ الْكَمَالِ مِنْهُمْ إثْبَاتُ الصِّحَّةِ، فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ مَعَ تَقْدِيرِ نَفْيِ الصِّحَّةِ مَعَهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ انْتِفَاءُ الْفَضِيلَةِ مَعَ انْتِفَاءِ الْجَوَازِ: لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْجَوَازِ، فَيُتَصَوَّرُ انْتِفَاءُ الْفَضِيلَةِ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْخِلَافُ فِي هَذَا إنَّمَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَضْمُونِهِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَظْهَرَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ بِدَلِيلٍ مُسْتَفَادٍ مِنْ خَارِجٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ هُنَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، بَلْ يُقَدَّرُ مَا ظَهَرَ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا فَهُوَ عَامٌّ، وَإِلَّا فَلَا، فَالْعَامُّ كَقَوْلِهِ:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ، وَالْخَاصُّ كَقَوْلِهِ:«لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» أَيْ لَا تَجِبُ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِهَا، وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِدَلِيلٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ عَامٌّ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ تَعَيَّنَتْ.
الثَّانِي: أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ قَالُوا: إذَا تَعَيَّنَ لِلْمُقْتَضَى أَحَدُ الْمُضْمَرَاتِ، كَانَ كَظُهُورِهِ فِي اللَّفْظِ، وَرَدُّوا ادِّعَاءَ الْكَرْخِيِّ الْإِجْمَالَ، فَإِنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا، وَمِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ تَحْرِيمُ وَطْئِهِنَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ فَلَا إجْمَالَ.
وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ عِنْدَهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَكْلِ؛ بَلْ يَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا فِي الصَّلَاةِ وَبَيْعُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ، إلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ كَالْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ، وَلَمْ يُعَدَّهُ لِلشَّعْرِ، لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، فَنَجَاسَتُهُ ثَابِتَةٌ عِنْدَهُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْآمِدِيُّ فِي قَوْلِهِ عليه السلام:«لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ» الْحَدِيثَ، إلَّا أَنْ يُقَرِّرَ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ ظَاهِرٌ فِي نَجَاسَتِهَا، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ بِالْمَوْتِ لَزِمَ مِنْ النَّجَاسَةِ بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَعَدَمُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا مَا طَهُرَ بِالدِّبَاغِ، فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ نَاشِئَةٌ عَنْ النَّجَاسَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ إجْمَالٌ وَلَا تَكْثِيرُ إضْمَارٍ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ حَسَنٌ.
وَلَمْ يَسْلُكْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ؛ بَلْ قَدَّرَ إنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ التَّصَرُّفَ فِي الْمَيْتَةِ، لِيُفِيدَ عُمُومَ التَّصَرُّفِ، كَالْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَالْمُلَابَسَاتِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إنَّهُ الْمُتَعَارَفُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ لَا تَحْرِيمِ أَكْلِهَا. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ ضَعْفٌ لَا يَخْفَى، وَهُوَ خِلَافُ مَا قَرَّرَهُ فِي الْمَحْصُولِ كَمَا مَرَّ، وَقَوْلُهُ عليه السلام:«إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» دَلِيلُ انْصِرَافِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ إلَى أَكْلِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ تَحْرِيمِ الْمُلَابَسَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ ظَاهِرٌ فِي النَّجَاسَةِ، وَهُوَ مَعْنًى مُنَاسِبٌ يَصْلُحُ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ وَالنَّجَاسَةِ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ بِمَا ذَكَرَهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ الْمُقَدَّرَيْنِ دَلِيلٌ، أَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِاللَّفْظِ قَرِينَةٌ تُعَيِّنُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، فَإِنَّ
الْعُرْفَ قَاضٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا، وَمِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ تَحْرِيمُ وَطْئِهِنَّ، بِخِلَافِ نَحْوِ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يُعَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرْفُوعِ الْحُكْمُ أَوْ غَيْرُهُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَدَلَالَةِ الْإِضْمَارِ]
الثَّالِثُ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ يَسْتَدْعِي فَهْمَ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَهَلْ هِيَ مُغَايَرَةٌ لِلْإِضْمَارِ؟ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ إلَى عَدَمِ الْمُغَايَرَةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ، لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ أَوْ الشَّرْعِ أَوْ إلَيْهِمَا، لَا إلَى اللَّفْظِ، إذْ اللَّفْظُ صَحِيحٌ مِنْهُمَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْفَرْقِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ التَّغَايُرِ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ الِاقْتِضَاءَ إثْبَاتُ شَرْطٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمَذْكُورِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ اللَّفْظِ، نَحْوُ اصْعَدْ السَّطْحَ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَصْبَ السُّلَّمِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الصُّعُودِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ اللَّفْظِ، بِخِلَافِ الْإِضْمَارِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ أَمْرٍ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ اللَّفْظِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ.
وَلَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ اللَّفْظِ عَلَى إضْمَارِ الْأَهْلِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُ السُّؤَالَ مِنْ الْقَرْيَةِ.
وَثَانِيهَا: ذَكَرَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " الْكَشْفِ شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ " أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِضْمَارِ تَغْيِيرُ إسْنَادِ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالْمُضْمَرِ كَالْأَهْلِ فِي {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، بِخِلَافِ الِاقْتِضَاءِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى الْإِسْنَادُ عَلَى حَالِهِ، وَرُدَّ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: «رُفِعَ
عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ مَعَ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ الْإِسْنَادُ بِالْمُضْمَرِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُضْمَرَ كَالْمَذْكُورِ لَفْظًا، وَلِهَذَا لَهُ عُمُومٌ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك، وَنَوَى ثَلَاثًا صَحَّتْ نِيَّتُهُ، إذْ الْمَصْدَرُ مُضْمَرٌ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك طَلَاقًا، وَأَمَّا الْمُقْتَضِي فَلَيْسَ هُوَ كَالْمَذْكُورِ لَفْظًا، وَكَذَا لَا يَعُمُّ، وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ إضْمَارَ الْمَصْدَرِ فِي الْأُولَى، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاللَّفْظُ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْمُقْتَضِي أَعَمُّ مِنْ الْمُضْمَرِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ قَدْ يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، بِخِلَافِ الْمُضْمَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَضْمَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مُضْمَرٍ مُقْتَضًى، وَلَا عَكْسُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِضْمَارَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إسْقَاطِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْبَاقِي، بِخِلَافِ الِاقْتِضَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِضْمَارِ تَغْيِيرُ إسْنَادِ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالْمُضْمَرِ، وَفِي الِاقْتِضَاءِ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، كَقَوْلِهِ:«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ» وَقَدْ لَا يَكُونُ كَمَا فِي اصْعَدْ السَّطْحَ، وَكَذَلِكَ فِي اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ عَنْ الشَّيْءِ وَتَغَيُّرِ الْإِسْنَادِ، وَهُمَا مُتَّحِدَانِ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ ": وَجَعَلَ الْأُصُولِيُّونَ مِنَّا وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مَا يُضْمَرُ فِي الْكَلَامِ لِتَصْحِيحِهِ عَلَى أَقْسَامٍ.