الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلثَّلَاثَةِ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةً، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إلَى الْمَجَازِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ أَصْلٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، قُلْت: وَعَلَى مَا اخْتَارَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ الْجَوَازِ إلَى الْوَاحِدِ لَا يَبْقَى لِلْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَجْهٌ. وَقَدْ سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ: " أَقَلِّ الْجَمْعِ " كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا.
[مَسْأَلَةٌ الْعَامُ إذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي]
مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ إذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي عَلَى مَذَاهِبَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَجَازٌ مُطْلَقًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ خُصَّ، سَوَاءٌ كَانَ التَّخْصِيصُ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا أَوْ غَيْرَهُ. وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ. كَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِهِ وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": وَهُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَنَسَبَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ
إلَى الْمُحَقِّقِينَ وَنَقَلَهُ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الْأُصُولِ، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَسْرِهَا وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَغَيْرُهُ
قُلْت وَبِهِ جَزَمَ الدَّبُوسِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالْبَزْدَوِيُّ وَحَكَوْهُ عَنْ اخْتِيَارِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَحَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ أَيْضًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ وَضْعٌ لِلْمَجْمُوعِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ بِالْقَرِينَةِ صَارَ مَجَازًا، وَلِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ، فَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْهُ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيمَا بَقِيَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ خُصَّ. بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ كَالِاسْتِثْنَاءِ. أَوْ مُنْفَصِلٍ كَدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: وَهَذَا. مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. انْتَهَى
وَقَدْ وَافَقَ أَبَا حَامِدٍ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ "، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ " الْعُدَّةِ "، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " فَجَزَمُوا عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَحَكَوْا الْخِلَافَ فِيهِ بِالْمَجَازِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ
وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " عَنْ أَكْثَرِ عُلَمَائِنَا وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ وَالْأَكْثَرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، إذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ الْجَمْعِ فَصَاعِدًا وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
وَالثَّالِثُ: إنَّهُ إنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ لَفْظِيٍّ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَحَقِيقَةٌ، أَوْ بِمُنْفَصِلٍ فَمَجَازٌ. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، زَادَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْقَاضِي، وَنَقَلَهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " أَيْضًا قُلْت: هُوَ الَّذِي صَرَّحَ فِي " التَّقْرِيبِ " فَقَالَ مَا نَصُّهُ: وَلَوْ قَرَّرَنَا الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ أَنْ نَقُولَ: إذَا قُدِّرَ التَّخْصِيصُ بِاسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِنْ قُدِّرَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ فَاللَّفْظُ مَجَازٌ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَقَالَ: كُنَّا قَدْ نَصَرْنَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ مُطْلَقًا انْتَهَى
قَالَ الْمُقْتَرِحُ: ذَهَبَ الْقَاضِي فِي أَحَدِ مُصَنَّفَاتِهِ إلَى أَنَّهُ مَجَازٌ مُطْلَقًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ الْمُقَارَنِ وَالْمُنْفَصِلِ، فَقَالَ: إنَّ التَّخْصِيصَ الْمُقَارَنَ لَا يُصَيِّرُ اللَّفْظَ مَجَازًا، بَلْ هُوَ بَاقٍ حَقِيقَةً، وَنَرَى أَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ، وَالتَّخْصِيصُ الْمُتَأَخِّرُ نَقُولُ فِيهِ: إنَّهُ يَبْقَى مَجَازًا فِي الْبَقِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ مَا أَرَادَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ إلَّا فِي الِاقْتِصَارِ، وَفِيمَا عَدَا الْمُبْقَى، أَمَّا فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَضْعًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَالْقَاضِي إنَّمَا قَالَ: هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى رَأْيِ الْمُعَمِّمِينَ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ الْوَقْفُ.
وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَالْخَامِسُ: إنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ لَمْ يَصِرْ مَجَازًا، مُتَّصِلًا كَانَ الدَّلِيلُ أَوْ مُنْفَصِلًا، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ غَيْرِ لَفْظِيٍّ كَانَ مَجَازًا، كَذَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ.
وَالسَّادِسُ: إنْ خُصَّ بِالشَّرْطِ وَالتَّقَيُّدِ بِالصِّفَةِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازُ مَعْنًى فِي الِاسْتِثْنَاءِ، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَالسَّابِعُ: إنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ مُسْتَقِلًّا فَهُوَ مَجَازٌ سَوَاءٌ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ لَفْظِيًّا، كَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْعَامِّ: أَرَدْت بِهِ الْبَعْضَ الْمُعَيَّنَ. إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ. قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَلَمْ يَذْكُرُوا التَّقْيِيدَ بِالْغَايَةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَحُكْمُهُ حُكْمُ أَخَوَاتِهِ مِنْ الْمُتَّصِلَاتِ ظَاهِرًا إذْ لَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا
وَالثَّامِنُ أَنَّهُ مَجَازٌ فِيمَا أُخْرِجَ عَنْهُ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ فَحَقِيقَةٌ، لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَخْرَجْنَا مِنْ الْوُجُوبِ: الْمَجَانِينَ، وَالْحُيَّضَ وَأَصْحَابَ الْأَعْذَارِ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْبَقِيَّةِ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَذَكَرَ الْمُقْتَرِحُ فِي " تَعْلِيقِهِ عَلَى الْبُرْهَانِ " أَنَّهُ مَعْنَى كَلَامِ الْقَاضِي
قُلْت: وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ قَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي سُؤَالًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا خُصَّ بَعْضُ الْمُسَمَّيَاتِ، فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ. فِي الْبَاقِي لَيْسَ بِمَجَازٍ، بَلْ التَّجَوُّزُ فِي نَفْيِ الشُّمُولِ فَلَا مَجَازَ إذَنْ فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا سَاقِطٌ، لِأَنَّ مَعْنَى الْمَجَازِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لُغَةً فَتَرْكُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْمُخَصَّصِ عَنْ الْمُسَمَّيَاتِ لَا يُحَقِّقُ التَّجَوُّزَ فِيهِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ مَنْ اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ الَّذِي وُضِعَ فِيهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِعْمَالٍ مَجَازًا إلَّا فِيمَا تُرِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ
وَلَفْظُ الْحِمَارِ إذَا أُطْلِقَ عَلَى الْبَلِيدِ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا لِاسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ. وَإِذَا بَطَلَ طَرَفُ وَجْهِ التَّجَوُّزِ إلَى الْعَدَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ. ثُمَّ أَوْضَحَ الْقَاضِي هَذَا فَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ إلَّا وَاحِدٌ، فَلَفْظُ الْجَمْعِ مَجَازٌ فِيهِ وِفَاقًا، وَلَمْ يُقَدِّرْ خِلَافًا وَإِنْ كَانَ يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مَعَ غَيْرِهِ
إنْ قَدَّرَ عَامًّا، فَصَرْفُ الْجَمْعِ إلَى الْوَاحِدِ كَصَرْفِ الْجَمْعِ إلَى غَيْرِ الشُّمُولِ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ أَنَّ انْطِلَاقَ لَفْظِ " الْمُسْلِمِينَ " عَلَى جَمِيعِهِمْ حَقِيقَةٌ فِي وَضْعِ اللَّفْظِ، فَإِذَا أُخْرِجَ الْحُيَّضُ وَالْمَجَانِينُ تَنَاوَلَ لَفْظُ الْمُسْلِمِينَ الْبَقِيَّةَ بَعْدَ هَذَا الْإِخْرَاجِ وَالتَّخْصِيصِ، كَتَنَاوُلِهِ لَهُمْ قَبْلَ التَّخْصِيصِ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُهُمْ، فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِيهِمْ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَجْرِ عَلَى التَّعْمِيمِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ التَّعْمِيمُ لِلَّفْظِ مَجَازًا. وَلَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَجَازًا مِنْ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا الْمُحَالُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَتَأَمَّلْهُ. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّ كَوْنَهُ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ بَعْضَ مُقْتَضَاهُ لَا يُنَافِي أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْبَاقِي بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ، وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ أَجْوَدُ الْمَذَاهِبِ بَعْدَ الْأَوَّلِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَيْسَ لِلَّفْظِ بِقَضِيَّةِ الْوَضْعِ جِهَتَانِ، وَقَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": هَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَوْ رُدَّ إلَى الْوَاحِدِ كَانَ مَجَازًا مُطْلَقًا. لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي الدَّلَالَةِ.
وَالتَّاسِعُ: إنْ بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ جَمْعٌ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَعَلَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ الْجَمْعِ، فَأَمَّا إذَا بَقِيَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ كَمَا لَوْ قَالَ: لَا تُكَلِّمْ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت زَيْدًا خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَجَازًا بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا فِيهِ، لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، وَالْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ لَيْسَا بِجَمْعٍ. قُلْت: لَكِنَّ الْقَاضِيَ حَكَى فِي أَوَاخِرِ كَلَامِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ
حَقِيقَةٌ فِيمَا بَقِيَ. وَإِنْ وَكَانَ أَقَلَّ الْجَمْعِ، ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْبَأْ بِهَذَا الْخِلَافِ. لَكِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ ثَابِتٌ اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ عَلَيَّ الْقَاضِي فَقَالَ: وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي أُصُولِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فَمَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ الْجَمْعِ اهـ
وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فَقَالَ: إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا وَاحِدٌ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى الْمَجَازِ فَإِنَّ الْعَامَّ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْوَاحِدِ
قَالَ: وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيهِ الِاتِّفَاقَ لَكِنَّ أَبَا حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ خَالَفَ، وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَبْقَى فِي تَنَاوُلِهِ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ احْتِجَاجًا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ، فَإِذَا ثَبَتَ حَمْلُ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ، فَلَا يُسْتَنْكَرُ حَمْلُ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ عَلَى الْوَاحِدِ حَقِيقَةً. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا بَقِيَ أَقَلُّ الْجَمْعِ. قُلْت: وَحَكَى الْبَاجِيُّ عَنْ أَبِي تَمَّامٍ مِنْ شُيُوخِهِمْ أَنَّهُ يَبْقَى حَقِيقَةً، وَإِنْ انْتَهَى التَّخْصِيصُ إلَى الْوَاحِدِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ حَكَى عَنْ الْأَشْعَرِيِّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْعُمُومِ كَانَ حَقِيقَةً. فَكَيْفَ يَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِ إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ؟
وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: إنَّ اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَلَ فِيمَا بَقِيَ يُحْتَجُّ بِهِ مُجَرَّدًا مِنْ
غَيْرِ دَلَالَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي. فَإِذَا سَلِمَ هَذَا لَمْ يَبْقَ تَحْتَ قَوْلِنَا: إنَّهُ مَجَازٌ فِيمَا بَقِيَ مَعْنًى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا الْقَوْلُ أَعْنِي كَوْنَهُ مَجَازًا ضَعِيفٌ، أَمَّا عَلَى قَاعِدَةِ أَصْحَابِنَا فِي إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَهُ دِرْهَمٌ، لَمْ يُبَيِّنْ أَوَّلَ كَلَامِهِ عَلَى قَصْدِ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَصْلًا، فَكَلَامُ النَّفْسِ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْعُلَمَاءِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، لَا قَبْلَ التَّخْصِيصِ وَلَا بَعْدَهُ وَهِيَ فِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ، لِعِلْمِهِ بِمُرَادِهِ قَطْعًا، بَلْ تَعْبِيرُهُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ إنَّمَا كَانَ تَوْطِئَةً لِلْإِتْيَانِ بِالْخُصُوصِ، كَالْجِنْسِ مَثَلًا فِي عُمُومِ مَعْنَاهُ عِنْدَمَا تُورِدُهُ فِي تَحْدِيدِ النَّوْعِ، فَإِنَّك تَأْتِي بِهِ عَامًّا ثُمَّ تُخَصِّصُهُ بِاقْتِرَانِ الْفَصْلِ بِهِ، فَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ مِنْ أَوَّلِ الْقَصْدِ أَصْلًا مُرَادًا، فَكَذَلِكَ فِي تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ، إذْ الْعُمُومُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مَعْقُولَةٌ فِي عُمُومِ اللَّفْظِيِّ كَالْمَعْنَوِيِّ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ خَارِجٌ عَنْ الْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ. قَالَ: وَأَمَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إنْكَارِهِمْ النَّفْسِيِّ فَهُوَ الْحَدُّ، إذَا تَصَوَّرَ اللَّفْظُ فِي الذِّهْنِ لِلتَّلَفُّظِ بِهِ، فَيَكُونُ الْخُصُوصُ إذَنْ مِنْ أَوَّلِ اللَّفْظِ. وَأَمَّا عِلْمُ السَّامِعِ بِالْعُمُومِ فَلَا يُعْتَبَرُ إذْ لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ مُخَرَّجًا مِنْهُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ، فَإِرَادَةُ إخْرَاجِ بَعْضِ الْمَدْلُولِ: هَلْ تُعَيِّنُ اللَّفْظَ مُرَادًا بِهِ الْبَاقِي أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِلَّا فَلَا.
أَمَّا الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَجَازٌ قَطْعًا، وَلَا يَطْرُقُهُ هَذَا الْخِلَافُ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي بَعْضِ مَدْلُولِهِ، إلَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ دَلَالَةٌ مُطَابِقَةٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ فَرْدٍ فَيَطْرُقُهُ الْخِلَافُ وَهُوَ بَعِيدٌ
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجَازٌ صَحِيحٌ فِي الْعُمُومِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، أَمَّا مَا وَقَعَ التَّخْصِيصُ فِيهِ بَعْدَ إرَادَةِ الْعُمُومِ بِهِ إنْ صَحَّ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ يَقْوَى هَذَا فِيهِ.
الثَّالِثُ: إطْلَاقُهُمْ. الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْمَلُ مَا لَوْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَنَقَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ الْعَقْلَ، أَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْعَامُّ ظَنِّيًّا مِثْلَ هَذَا التَّخْصِيصِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ فِيمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ وَالتَّفْسِيرَ دُونَ مَا لَا يَقْبَلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَهُوَ مِنْ أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ عِنْدَهُمْ كَدَلِيلِ الْعَقْلِ لَا يُخْرِجُ الْعَامَّ مِنْ الْقَطْعِ إلَى الظَّنِّ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ. فَكَذَا هُنَا
الرَّابِعُ: قَدْ يُدَّعَى فِي الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَعْنِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ، أَنَّهُ لَمْ يَتَوَارَدْ الْخِلَافُ فِيهِمَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْقَائِلَ مَجَازٌ أَرَادَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ، وَالْقَائِلَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَرَادَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بَيَّنَ أَنَّ وَضْعَ الشَّرْعِ فِي الْعَامِّ إذَا خُصَّ يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِلْبَاقِي فَهُوَ إذَنْ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَنْبَأَ عَنْ وَضْعِهَا الْإِجْمَاعُ فَصَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً مَجَازًا لُغَوِيًّا
الْخَامِسُ: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ الْأُصُولِيِّ، وَسُلَيْمٌ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " أَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي، يَحْتَجُّ بِلَفْظِ الْعُمُومِ فِيمَا لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ مُجَرَّدًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَمَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ فِيمَا بَقِيَ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ ثَابِتٌ فِي الْبَاقِي، وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَوْنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ حُجَّةً فَرْعُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فَلِهَذَا أَخَّرْنَا ذِكْرَهَا، وَبِهِ يَتَّضِحُ تَقْرِيرُ مَذْهَبِنَا فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً لَكِنَّ إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ
عَكَسَ ذَلِكَ فَقَرَّرَ كَوْنَهُ حُجَّةً. ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ فَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَجَازٌ أَمْ حَقِيقَةٌ؟ وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَقْعَدُ وَأَحْسَنُ. السَّادِسُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ احْتَجُّوا بِنُكْتَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، فَإِنَّهُ يَعْدِلُ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ بِالْقَرِينَةِ، فَيَكُونُ مَجَازًا. قَالَ: وَدَلِيلُنَا أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ. فَإِذَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبَيِّنُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ، فَيُخْرِجُهُ عَنْهُ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيمَا بَقِيَ، بَلْ يَكُونُ مَا بَقِيَ ثَابِتًا فِيهِ بِاللَّفْظِ فَحَسْبُ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ دَلِيلَ التَّخْصِيصِ مُنَافٍ لِحُكْمِ مَا بَقِيَ مِنْ اللَّفْظِ وَمُضَادٌّ لَهُ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ وَيَثْبُتَ الْحُكْمُ مَعَ مُضَادَّتِهِ وَمُنَافَاتِهِ. قَالَ: وَيَصِيرُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عِنْدَنَا اسْمَانِ، كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ: أَحَدُهُمَا: حَقِيقَةٌ فِيهِمْ بِمُجَرَّدِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: اُقْتُلُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، وَالْآخَرُ حَقِيقَةٌ فِيهِمْ بَعْدَ وُجُودِ قَرِينَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ قَبْلَ هَذَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَعْطَوْا فُلَانًا ثَوْبًا أَبْيَضَ أَوْ أَصْفَرَ. كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً فِي الثَّوْبِ الْأَصْفَرِ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَإِذَا قَالَ: أَعْطُوا ثَوْبًا وَلَا تُعْطُوهُ غَيْرَ الْأَصْفَرِ، كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ عِنْدَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَيُخَالِفُ هَذَا اسْتِعْمَالُ اسْمِ الْحِمَارِ فِي الرَّجُلِ الْبَلِيدِ، وَاسْمِ الْأَسَدِ فِي الشُّجَاعِ. لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ يَحْمِلُ عَلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ الْقَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ وَهِيَ مُمَاثِلَةٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ، فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَا أُرِيدَ بِهِ. فَكَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ بِالْقَرِينَةِ فَكَانَ مَجَازًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْعُمُومِ فِي الْخُصُوصِ فَإِنَّ الْقَرِينَةَ مَا بَيَّنَتْ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ. وَإِنَّمَا بَيَّنَتْ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْمُرَادِ بِنَفْسِهِ لَا بِالْقَرِينَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا بِالْقَرِينَةِ، وَالْقَرِينَةُ مُضَادَّةٌ لَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً فِيمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَا مَجَازًا.