الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الثَّالِثَةُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْقِيَاسِ]
الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ ابْنُ دَاوُد فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ ": إنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ يُصَرِّحُ بِالْجَوَازِ. وَحَكَى الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو هَاشِمٍ آخِرًا. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَسُلَيْمٌ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ طَرِيقِ الْعُمُومِ لَا الْقِيَاسِ، وَبِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ فِي جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ. وَبِهَذَا كُلِّهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا نَقَلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَكَذَلِكَ حَكَوْا الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " حَكَاهُ هَكَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَحَكَى الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْأَشْعَرِيِّ قَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: لَا يُتَصَوَّرُ التَّخْصِيصُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْعُمُومِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ كَمَا تَقَرَّرَ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ مَا أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ انْتَهَى.
وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْقَائِلِينَ بِإِنْكَارِ الصِّيَغِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي الْمَحْصُولِ "، وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ عَلَى تَرْجِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: لَنَا أَنَّ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ. إلَخْ، لَكِنَّهُ اخْتَارَ فِي الْمَعَالِمِ " الْمَنْعَ، وَأَطْنَبَ فِي نُصْرَتِهِ، وَهَذَا الْكِتَابُ مَوْضِعٌ لِاخْتِيَارَاتِهِ، بِخِلَافِ الْمَحْصُولِ " فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِنَقْلِ الْمَذَاهِبِ وَتَحْرِيرِ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ صَرَّحَ فِي الْمَحْصُولِ " فِي
أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْحَقَّ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِيمَا سَيَأْتِي فِي السَّادِسِ.
وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ ثُمَّ رَجَعَ ابْنُهُ وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ. وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، قَالَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": مِنْهُمْ ابْنُ مُجَاهِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ أَيْضًا، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ " عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ " وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: زَعَمُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّمَا الْقِيَاسُ الْجَائِزُ أَنْ يُشَبَّهَ مَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ حَدِيثٌ بِحَدِيثٍ لَازِمٍ، فَأَمَّا أَنْ يُعْمَدَ إلَى حَدِيثٍ عَامٍّ فَيُحْمَلُ عَلَى الْقِيَاسِ، فَأَيْنَ الْقِيَاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ إنْ كَانَ الْحَدِيثُ قِيَاسًا فَأَيْنَ الْمُسَمَّى؟
قَالَ: فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَعْمَلُ فِي الْحَدِيثِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِهِ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ فِيهِ حَدِيثٌ، أَوْ قِيَاسٌ عَلَى مَوْضِعٍ فِيهِ حَدِيثٌ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ مَنْعُ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ.
وَرَدَّهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَقَالَ: قَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَاحْتَمَلَ أَمْرُهُ تَعَالَى فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّدْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ. لَمَّا
جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الرَّجْعَةِ وَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِيهِمَا، ثُمَّ كَانَ الْإِشْهَادُ عَلَى الطَّلَاقِ غَيْرَ وَاجِبٍ، كَذَلِكَ الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: قَدْ قَاسَ الشَّافِعِيُّ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَخَصَّ بِهِ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ إذْ ظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ.
قَالَ: وَإِمَّا الْكَلَامُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ ذَلِكَ الْقَائِلُ، فَلَمْ يَقْصِدْ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الظَّاهِرِ بِالْقِيَاسِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، فَرَوَى حَدِيثَ:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ» ، ثُمَّ حَكَى عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْعِلَّةُ فِي طَلَبِ الْوَلِيِّ أَنَّهُ يَطْلُبُ الْحَظَّ لِلْمَنْكُوحَةِ، وَيَضَعُهَا فِي كُفْءٍ، فَإِذَا تَوَلَّتْ هِيَ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْوَلِيِّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يَعْمِدُ إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَيُسْقِطُهُ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْوَلِيِّ وَذَلِكَ يُسْقِطُ نَصَّ الْخَبَرِ، وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ هُنَا لَا يَجُوزُ، إنَّمَا يَجُوزُ حَيْثُ يُخَصُّ الْعُمُومُ انْتَهَى.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ مَعْنًى مِنْ النَّصِّ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْعُمُومَ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ خُصَّ بِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَكَذَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ "، وَحَكَى الْإِمَامُ عَنْهُ إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ
بِغَيْرِ الْقِيَاسِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " عَنْ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ.
الرَّابِعُ: إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ بِمُنْفَصِلٍ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ الْكَرْخِيّ. وَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: كُلُّ مَا لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ، فَمَا لَا يَخُصُّهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُخَصَّ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ: هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ بِوَجْهٍ قَطْعِيٍّ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِمِثْلِهِ.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ ": لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا تَخْصِيصُ الْعَامِّ ابْتِدَاءً بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِدَلِيلٍ يَجُوزُ رَفْعُ الْكُلِّ لَهَا مِنْ خَبَرٍ تَأَيَّدَ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ الِاسْتِفَاضَةِ، لَمْ يَقَعْ الْإِشْكَالُ فِي صَارِفِهِ إنَّمَا مِنْ جِنْسٍ دَخَلَ تَحْتَ الْخُصُوصِ، أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا بَقِيَ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَيَتَعَرَّفُ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ.
الْخَامِسُ: إنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسَ شَبَهٍ أَوْ عِلَّةٍ فَلَا، نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ، زَادَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَرْوَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ، وَمُبَارَكِ بْنِ أَبَانَ وَابْنِ عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَراييِنِيِّ الْقِيَاسُ إنْ كَانَ جَلِيًّا مِثْلُ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا، وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ مَعْنَى الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الرِّبَا، فَالتَّخْصِيصُ بِهِ جَائِزٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا، إلَّا طَائِفَةً شَذَّتْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِمْ. وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا وَهُوَ قِيَاسُ عِلَّةِ الشَّبَهِ فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ شَذَّ فَجَوَّزَهُ.
وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: قِيَاسُ الْأَصْلِ وَقِيَاسُ الْعِلَّةِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِهِمَا سَائِغٌ جَائِزٌ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَمَنَعَهُ دَاوُد؛ وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْمُرَادِ بِالتَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ أَنَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعُمُومِ فِي اللَّفْظِ بَيْنَ الْقِيَاسِ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي اللَّفْظِ، لَا أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْمُرَادِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو مَنْصُورٍ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَفِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ جَوَازُهُ أَيْضًا. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْخَفِيِّ فِي مَوَاضِعَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْجَلِيِّ وَهُوَ الَّذِي قَضَى الْقَاضِي بِخِلَافِهِ. وَقِيلَ: هُوَ قِيَاسُ الْمَعْنَى، وَالْخَفِيُّ قِيَاسٌ وَقِيلَ: مَا تَتَبَادَرُ عِلَّتُهُ إلَى الْفَهْمِ مِثْلُ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» .
السَّادِسُ: إنْ تَفَاوَتَ الْقِيَاسُ وَالْعَامُّ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ رُجِّحَ الْأَقْوَى، فَيَرْجِعُ الْعَامُّ بِظُهُورِ قَصْدِ التَّعْمِيمِ فِيهِ وَيَكُون الْقِيَاسُ الْعَارِضُ لَهُ قِيَاسَ شَبَهٍ، وَيُرَجَّحُ الْقِيَاسُ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ تَعَادَلَا فَالْوَقْفُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْعُنْوَانِ " وَاعْتَرَفَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ، وَكَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ " وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ
وَابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَرَافِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ: لَقَدْ أَحْسَنَ فِي هَذَا الِاخْتِيَارِ أَبُو حَامِدٍ، فَكَمْ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ شَاكِرٍ وَحَامِدٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": أَنَّهُ مَذْهَبٌ جَيِّدٌ، فَإِنَّ الْعُمُومَ قَدْ تَضْعُفُ دَلَالَتُهُ لِبُعْدِ قَرِينَتِهِ، فَيَكُونُ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ رَاجِحًا عَلَى الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْعُمُومِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، بِأَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ قَوِيَّ الرُّتْبَةِ، وَيَكُونَ الْقِيَاسُ قِيَاسَ شَبَهٍ، وَالْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِأَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ لَيْسَ مَذْهَبًا، وَلَمْ يَقُلْهُ الرَّجُلُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ مُسْتَقِلٌّ، فَتَأَمَّلْ الْمُسْتَصْفَى " تَجِدُ ذَلِكَ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ الْعُمُومِ أَقْوَى، ثُمَّ يَقُولُ: الْقِيَاسُ تَخْصِيصٌ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ أَرْجَحَ الظَّنَّيْنِ عِنْدَ التَّعَارُضِ مُعْتَبَرٌ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ الْمُسْتَوِي ضَرُورِيٌّ، إنَّمَا الشَّأْنُ فِي بَيَانِ الْأَرْجَحِ مَا هُوَ؟ فَفَرِيقٌ قَالُوا: إنَّ الْأَرْجَحَ الْعُمُومُ، فَلَا يُخَصُّ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ الْإِمَامُ فِي الْمَعَالِمِ " وَقَوْمٌ قَالُوا: الْأَرْجَحُ الْقِيَاسُ، فَيُخَصُّ الْعُمُومَ. وَالْقَوْلَانِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ.
السَّابِعُ: الْوَقْفُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَعَارَضَا فِيهِ، وَالرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ سِوَاهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ "، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ.
قَالَ: وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ دَعْوَى الْقَطْعِ مِنْ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ شَارَكَ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ مِنْ وَجْهٍ، وَبَايَنَهُ مِنْ وَجْهٍ، أَمَّا الْمُشَارَكَةُ فَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ إسْقَاطُ الِاحْتِجَاجِ، وَالْوَاقِفُ يَقُولُ بِهِ، وَأَمَّا الْمُبَايَنَةُ، فَهِيَ أَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّخْصِيصِ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَالْوَاقِفُ لَا يَحْكُمُ بِهِ.
الثَّامِنُ: إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً مُجْزِئَةً عَلَيْهَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ الْآمِدِيُّ
التَّاسِعُ: إنْ كَانَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُخْرَجًا مِنْ عَامٍّ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
الْعَاشِرُ: إنْ كَانَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُخْرَجًا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْعُمُومِ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ. وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا يُخَرَّجُ مِنْ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ " فِي بَابِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ: لَا يَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِالْأَقْيِسَةِ الْجَلِيَّةِ، إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ مُسَاغًا لَا يَنْبُو نَظَرُ الْمُنْتَصِبِ عَنْهُ، وَالشَّرْطُ فِي ذَلِكَ التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ صَدَرَ عَنْ غَيْرِ الْأَصْلِ الَّذِي فِيهِ وَرَدَ الظَّاهِرُ، فَإِنْ لَمْ يُتَّجَهُ قِيَاسٌ مِنْ مَوْرِدِ الظَّاهِرِ لَمْ يَجُزْ إزَالَةُ الظَّاهِرِ بِمَعْنَى يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ، يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَهُ وَقَصْرَهُ عَلَى بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ، كَمَا فِي جَوَازِ الْإِبْدَالِ فِي الزَّكَوَاتِ. قُلْت: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ، وَهَذَا يَصْلُحُ تَقَيُّدًا لِلْجَوَازِ، لَا مَذْهَبًا آخَرَ.
وَعِبَارَةُ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ:{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ قَطْعًا، وَالْقِيَاسُ الظَّاهِرُ كَالْمَعْرُوفِ بِالِاسْتِدْلَالِ كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ وَفِي الْعِتْقِ، فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ، لِخُرُوجِهِ عَنْ الْخِلَافِ بِالْإِشْكَالِ
وَقَالَ شَارِحُ اللُّمَعِ ": الْجَلِيُّ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ قَطْعًا، وَأَمَّا الْخَفِيُّ
فَإِنْ كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ الْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِهِ قَطْعًا، كَعِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الرِّبَا أَنَّهُ الْكَيْلُ، فَإِنَّهُمْ اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْعِلَّةُ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا تُوجِبُ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَعْتَرِضُ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَنْبَطٍ مِنْ الْأَصْلِ جَازَ.
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: أَطْلَقَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ، لَكِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ لَيْسَ الْقِيَاسَ الْمُعَارِضَ لِلنَّصِّ الْعَامِّ مُطْلَقًا، فَإِنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى عُمُومِ النَّصِّ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ حُكْمُ الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ، وَعِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا مَعَ تَصَادُقِهِمَا فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ صَارِفٍ قَطْعًا، فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا أَوَفُقُ الْخِلَافُ فِيهِ فِي أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ النَّصِّ، فَيَجِبُ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ " الْبُرْهَانِ " وَغَيْرُهُ.
وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي قِيَاسِ النَّصِّ الْخَاصِّ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قِيَاسَ نَصٍّ عَامٍّ لَمْ يُخَصَّ بِهِ، بَلْ يَتَعَارَضَانِ، كَالْعُمُومَيْنِ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ الثَّانِي.
وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذَا كُلُّهُ فِي الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْكِتَابِ، أَوْ عُمُومِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَوْ عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَيْضًا وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْكِتَابِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَمَنْ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ لَا يُجَوِّزُ
بِالْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُجَوِّزَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ الضَّعْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجَوِّزَ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا فِي الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْكِتَابِ، إذْ قَدْ يَكُونُ قِيَاسُهُ أَقْوَى مِنْ عُمُومِ الْكِتَابِ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهِ لِتَعَادُلِهِمَا إذْ قَدْ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ
الثَّانِي: مَثَّلَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ لِلتَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وَقَوْلِهِ فِي الْإِمَاءِ:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي عُمُومِ مَنْ أُمِرَ بِجَلْدِهَا مِائَةً مِنْ النِّسَاءِ، ثُمَّ قِيسَ الْعَبْدُ عَلَى الْأَمَةِ، فَجُعِلَ حَدُّهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً. فَكَانَتْ الْأَمَةُ مَخْصُوصَةً، وَالْعَبْدُ مَخْصُوصًا مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ:{وَالزَّانِي} [النور: 2] بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَمَةِ قَالَ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] إلَى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] فَاحْتَمَلَتْ إبَاحَةَ الْأَكْلِ فِي جَمِيعِ الْهَدْيِ، وَاحْتَمَلَ فِي الْبَعْضِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَدْيَ جَزَاءِ الصَّيْدِ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ؛ فَكَانَ هَذَا مَخْصُوصًا بِالْإِجْمَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ. وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَكَانَ الْوَجْهُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وَاجِبٌ، كَوُجُوبِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَوُجُوبِ مَا يَنْذُرُ الْمَرْءُ إخْرَاجَهُ مِنْ مَالِهِ، فَقِيسَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ الْوُجُوبُ وَكَانَ جَزَاءُ الصَّيْدِ خَارِجًا مِنْ الْعُمُومِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ مَخْصُوصٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي ذَلِكَ
وَمَثَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ إذَا مَاتَ، وَالْمَرْأَةُ حَامِلٌ لَا تَعْتَدُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ حَمْلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجِهَا، وَمَنْفِيٌّ عَنْهُ قَطْعًا فَلَا تَعْتَدُّ مِنْهُ، قِيَاسًا عَلَى الْحَمْلِ الْحَادِثِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَيُخَصَّصُ بِهَذَا الْقِيَاسِ عُمُومُ:{وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] .
الثَّالِثُ: أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْخِلَافِ فِي الْقَطْعِيَّاتِ؛ أَوْ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ؟ قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَدُلُّ كَلَامُ الْقَاضِي عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى عُمُومِ الْكِتَابِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ، لِأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ إلْحَاقَ هَذَا بِالْمُجْتَهَدَات أَوْلَى، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ فِيهِ مِنْ الْجَوَانِبِ مُتَفَاوِتَةٌ، غَيْرُ بَالِغَةٍ مَبْلَغَ الْقَطْعِ انْتَهَى. وَحِينَئِذٍ فَتَوَقُّفُ الْقَاضِي إنَّمَا هُوَ عَنْ الْقَطْعِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ الْأَرْجَحَ التَّخْصِيصُ، وَلَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ الْأَرْجَحِيَّةَ لَا تَكْفِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْفَنِّ عِنْدَهُ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ، وَحِينَئِذٍ فَنَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَى انْتِفَاءِ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا نَدَّعِي أَنَّ الظَّنَّ كَافٍ فِي الْعَمَلِ، فَلَا نَتَوَقَّفُ؛ وَهُوَ لَا يَكْتَفِي بِالظَّنِّ، فَيَتَوَقَّفُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَعْنَى، فَإِنَّ تِلْكَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ، وَلِهَذَا تَرَدَّدَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْمَحَارِمِ، لِأَجْلِ عُمُومِ:{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وَالتَّخْصِيصُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِمْ، وَكَذَا فِي الْقَاتِلِ بِحَقٍّ مَعَ حَدِيثِ:«الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» . وَقَوْلُهُ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» اسْتَنْبَطُوا مِنْهُ مَا خَصَّصَ جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ. وَقَدْ نَقَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ " الْفَارِقَ بَيْنَ الْمَسَائِلِ، فَقَالَ بَعْدَ
تَجْوِيزِهِ التَّخْصِيصَ بِالْقِيَاسِ: هَذَا فِيمَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مَا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مَعْنًى مُسْتَمِرٌّ جَائِزٌ عَلَى السَّيْرِ، فَالْأَصْلُ فِيهِ التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ، وَتَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ النَّصِّ، وَلَكِنْ قَدْ يَلُوحُ مَعَ هَذَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِجِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ، فَيَتَعَيَّنُ النَّظَرُ إلَيْهِ
وَهَذَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُلَامَسَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فَجَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ عَلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ، ثُمَّ تَرَدَّدَ نَصُّهُ فِي لَمْسِ الْمَحَارِمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا جَرَيَانَ لَهُ فِي الْأَحْدَاثِ النَّاقِضَةِ وَمَا لَا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي إثْبَاتِهِ، فَلَا يَكَادُ يَجْرِي فِي نَفْيِهِ. فَمَالَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ إلَى اتِّبَاعِ اسْمِ النِّسَاءِ، وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ: أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تُنْقَضُ بِمَسِّهِنَّ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُلَامَسَةِ الْمُضَافَةِ إلَى أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْدَاثِ يُشْعِرُ بِلَمْسِ اللَّاتِي يُقْصَدْنَ بِاللَّمْسِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُتَّجَهْ مَعْنًى صَحِيحٌ دَلَّتْ الْقَرِينَةُ عَلَى التَّخْصِيصِ، كَقَوْلِهِ عليه السلام «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ» ، فَالْحِرْمَانُ لَا يَنْسَدُّ فِيهِ تَعْلِيلٌ، فَإِذَا انْسَدَّ مَسْلَكُ التَّعْلِيلِ اقْتَضَى الْحَالُ التَّعَلُّقَ بِلَفْظِ الشَّارِعِ: تَرَدَّدَ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّ الْقَتْلَ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا إذَا صَدَرَ مِنْ الْوَارِثِ فَهَلْ يَقْتَضِي حِرْمَانَهُ؟ فَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْحِرْمَانِ بِكُلِّ قَتْلٍ، التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ مَعَ حَسْمِ التَّعْلِيلِ، وَوَجْهُ إثْبَاتِ الْإِرْثِ التَّطَلُّعُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَلَيْسَ بِخَفِيٍّ أَنَّ قَصْدَهُ مُضَادَّةُ غَرَضِ الْمُسْتَعْجِلِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقَتْلِ الْحَقِّ؛ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَمَنْ عَمَّمَ تَعَلَّقَ بِالظَّاهِرِ، وَمَنْ فَصَّلَ بَيْنَ الرِّبَوِيِّ وَغَيْرِهِ تَشَوَّفَ إلَى دَرْكِ مَقْصُودٍ. وَهُوَ أَنَّ فِي الْحَيَوَانِ كَمَا نَبِيعُ الشَّاةَ بِهِ نَبِيعُ الشَّاةَ بِلَحْمِهِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يُعَمِّمُهُ قَطْعًا، كَاسْتِنْبَاطِ
مَا يُشَوِّشُ الْفِكْرَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» ، وَكَاسْتِنْبَاطِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجَامِدِ الظَّاهِرِ الْقَالِعِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْأَحْجَارِ وَهُوَ غَالِبُ الْأَقْيِسَةِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ، وَلِهَذَا ضَعُفَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ:«فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ، لِأَنَّ الْقَصْدَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالشَّاةِ أَوْ الْقِيمَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَجِبَ الشَّاةُ أَصْلًا، لِأَنَّهُ إذْ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لَمْ تَجِبْ الشَّاةُ، فَلَا تَكُونُ مُجْزِئَةً، وَهِيَ مُجْزِئَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَقَدْ عَادَ الِاسْتِنْبَاطُ عَلَى أَصْلِهِ بِالْبُطْلَانِ، وَاعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّ كَمَا يُجَوِّزُ الْقِيمَةَ يُجَوِّزُ الشَّاةَ، مَرْدُودٌ بِمَا سَأَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. تَرَدَّدَ فِيهِمَا التَّرْجِيحُ وَقَالَ إلْكِيَا فِي الْمَدَارِكِ ": الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعُمُومَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ، ثُمَّ يُبْحَثَ عَنْ دَلِيلِهِ، فَإِنَّ فَهْمَ مَعْنَى اللَّفْظِ سَابِقٌ عَلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ الْمُسْتَنْبَطِ، وَإِذَا فُهِمَ عُمُومُهُ، فَكَيْفَ يُتَّجَهُ بِنَاءُ عِلَّةٍ عَلَى خِلَافِ مَا فُهِمَ مِنْهُ؟
قَالَ: وَيُتَّجَهُ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ الْعُمُومِ فِي النَّظَرِ الثَّانِي رُبَّمَا نَرَاهُ أَوْفَقَ لِمَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَمِنْهَاجِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ إمَّا بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَمَخْرَجِ الْكَلَامِ، وَإِمَّا بِأَمَارَةٍ أُخْرَى تَفْصِلُ بِالْكَلَامِ، وَذَلِكَ رَاجِحٌ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ اللَّفْظِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُقَدَّرُ مُخَالِفًا لِلَّفْظِ، وَلَكِنْ يُقَدَّرُ بَيَانًا لَهُ، فَاَلَّذِي فَهِمْنَاهُ أَوَّلًا الْعُمُومَ، ثُمَّ النَّظَرُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
الْخُصُوصُ، فَغَلَبَ مَعْهُودُ الشَّرْعِ عَلَى مَعْنَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ. فَرْعٌ وَلَّدْته:
هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ الْمُقَيَّدِ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِطْلَاقِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ جَوَّزَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الِاسْتِنْجَاءَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ لَهُ ثَلَاثُ أَحْرُفٍ نَظَرًا لِلْمَعْنَى، وَهُوَ الْإِزَالَةُ بِطَاهِرٍ، فِيهِ رَفْعُ قَيْدِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام:«فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»