الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[اسْمُ الْجِنْسِ إذَا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ]
وَأَمَّا اسْمُ الْجِنْسِ بِأَقْسَامِهِ السَّابِقَةِ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ سَوَاءٌ الِاسْمُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ الصِّفَةُ الْمُشْتَقَّةُ كَالضَّارِبِ، وَالْمَضْرُوبِ، وَالْقَائِمِ وَالسَّارِقِ، وَالسَّارِقَةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَهْدِ فَخَاصٌّ، سَوَاءٌ الذِّكْرِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15]{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أَوْ الذِّهْنِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان: 27] فَإِنَّ اللَّامَ فِي الرَّسُولِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي اللَّفْظِ.
وَإِنْ لَمْ يُرَدْ بِهِ مَعْهُودٌ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدِهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ، وَنُقِلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَ " الْبُوَيْطِيِّ " وَنَقَلَهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي " الْأُمِّ " مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] إنْكَارًا عَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ يَعُمُّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَطَابَقَ، وَالْفُقَهَاءُ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَيْهِ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَحْوِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مَعْلُومٌ قَبْلَ دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَإِذَا دَخَلَتَا وَلَا مَعْهُودَ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا جَدِيدًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ":" إنَّهُ الْمَذْهَبُ "، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْقَائِلِينَ بِالصِّيَغِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَكَافَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ، وَنَسَبَهُ لِأَصْحَابِهِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: " إنَّهُ الصَّحِيحُ "، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالْجُبَّائِيُّ، وَنَصَرَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَصَحَّحَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَنْ الْمُبَرِّدِ وَالْفُقَهَاءِ.
قُلْت: وَنَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: قَوْلُك شَرِبْت مَاءَ الْبَحْرِ مَحْكُومٌ بِفَسَادِهِ، لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَلَوْلَا اقْتِضَاؤُهُ الْعُمُومَ لَمَا جَاءَ الْفَسَادُ.
لَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْعُمُومَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَصَحَّحَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] فُهِمَ أَنَّ الْقَطْعَ مِنْ أَجْلِ السَّرِقَةِ.
وَصَحَّحَ سُلَيْمٌ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ إمَّا لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَفْقُودٌ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ اللَّفْظِ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ لِإِفَادَتِهِ الْعُمُومَ أَنْ يَصْلُحَ أَنْ يَخْلُفَ اللَّامَ فِيهِ " كُلُّ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وَلِهَذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفِيدُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا بِدَلِيلٍ،
وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي هَاشِمٍ وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ النَّحْوِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ، وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ " عَنْ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ عَلَى الْعَهْدِ، وَلَا يَقْتَضِي الْجِنْسَ، قَالَ: وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَ الْمَعْهُودِ صَارَ مُجْمَلًا، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمُرَادَ إلَّا بِتَفْسِيرٍ، وَهَذَا صِفَةُ الْمُجْمَلِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجِنْسِ، وَلِبَعْضِ الْجِنْسِ، وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ يُحْكَمُ بِظَاهِرِهِ، وَيُطْلَبُ دَلِيلُ الْمُرَادِ بِهِ.
وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا فِيهِ الْهَاءُ، وَبَيْنَ مَا لَا هَاءَ فِيهِ، فَمَا لَيْسَ فِيهِ الْهَاءُ لِلْجِنْسِ عِنْدَ فِقْدَانِهَا، وَفِي الْقِسْمِ الْآخَرِ التَّوَقُّفُ، وَنَقَلَهُ الْإِبْيَارِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَاَلَّذِي فِي الْبُرْهَانِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ عَهْدٍ فَلِلْجِنْسِ، نَحْوُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، وَإِنْ لَاحَ عَدَمُ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ لِلْجِنْسِ فَلِلِاسْتِغْرَاقِ، نَحْوُ الدِّينَارُ أَشْرَفُ مِنْ الدِّرْهَمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ خَرَجَ عَلَى عَهْدٍ أَوْ إشْعَارٍ بِجِنْسٍ فَمُجْمَلٌ، وَأَنَّهُ حَيْثُ يَعُمُّ لَا يَعُمُّ بِصِيغَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ عُمُومُهُ، وَتَنَاوَلَهُ الْجِنْسُ بِحَالَةٍ مُقْتَرِنَةٍ مَعَهُ مُشْعِرَةٍ بِالْجِنْسِ.
الْخَامِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَمَيَّزَ لَفْظُ الْوَاحِدِ فِيهِ عَنْ الْجِنْسِ بِالتَّاءِ كَالتَّمْرِ وَالتَّمْرَةِ، فَإِذَا عُرِّيَ عَنْ التَّاءِ اقْتَضَى الِاسْتِغْرَاقَ، كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَالتَّمْرَ بِالتَّمْرِ» قَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ":
وَأَنْكَرَهُ الْفَرَّاءُ مُسْتَدِلًّا بِجَوَازِ جَمْعِهِ عَلَى تُمُورٍ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ جُمِعَ عَلَى اللَّفْظِ لَا الْمَعْنَى. وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ التَّاءُ لِلتَّوْحِيدِ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَشَخَّصْ مَدْلُولُهُ، وَلَمْ يَتَعَدَّدْ " كَالذَّهَبِ " فَهُوَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، إذْ لَا يُعَبَّرُ عَنْ أَبْعَاضِهِ بِالذَّهَبِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ تَشَخَّصَ مَدْلُولُهُ وَتَعَدَّدَ كَالدِّينَارِ وَالرَّجُلِ، فَيَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، نَحْوُ «لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ» ، وَيَحْتَمِلُ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنَّمَا: الْجِنْسُ قَوْلُك، الدِّينَارُ أَفْضَلُ مِنْ الدِّرْهَمِ بِقَرِينَةِ التَّسْعِيرِ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَ " الْمَنْخُولِ "، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالْمَرِيسِيُّ، وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي الدِّينَارِ وَالرَّجُلِ. وَقَالَ الْحَقُّ مَا حَقَّقَهُ وَهُوَ فِي كِتَابِ " مِعْيَارِ الْعِلْمِ " فِي الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ فِيهِ اقْتِضَاءَهُ الِاسْتِغْرَاقَ بِمُجَرَّدِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَرِينَةٍ زَائِدَةٍ.
وَقَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": يُحْتَمَلُ كَوْنُهَا لِلْعَهْدِ أَوْ الْجِنْسِ. وَكَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. قَالَ: وَالْعُمُومُ فِيهِ غَيْرُ عُمُومِ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ،
فَإِنَّ عُمُومَ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى يَدْخُلُ تَحْتَهُ كَثْرَةٌ تَشْمَلُهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الْمُفْرَدِ كُلِّيًّا، وَأَمَّا الْعُمُومُ الْآخَرُ، وَهُوَ عُمُومُ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَلَا يَكُونُ إلَّا فِي قَوْلٍ: كَخَبَرٍ، أَوْ أَمْرٍ، أَوْ نَهْيٍ، مِثْلُ: الْإِنْسَانُ فِي خُسْرٍ، وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَالْحُكْمُ فِي قَوْلِك: خُسْرٍ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ فِي الْأَمْرِ. انْتَهَى.
وَحَكَى الْإِمَامُ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِصِيَغِ الْعُمُومِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يُجْمَعُ كَالتَّمْرِ وَالتُّمُورِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حَالَةُ الْجَمْعِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا لَا حَاصِلَ لَهُ، فَإِنَّ الِاسْتِغْرَاقَ ثَابِتٌ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِمْ امْتِنَاعُ قَوْلِ الْقَائِلِ: تَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ مُتَعَلِّقِهِمْ فِي الْجَمْعِ.
وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: النَّاقَةُ تُجْمَعُ عَلَى نُوقٍ، ثُمَّ النُّوقُ تُجْمَعُ عَلَى نِيَاقٍ، وَهُمَا مِنْ أَبْنِيَةِ الْكَثْرَةِ، ثُمَّ يُجْمَعُ النِّيَاقُ عَلَى أَيْنُقْ هُوَ، وَهُوَ مَقْلُوبُ آنِقٍ أَوْ أَنِيقً، وَالْأَفْعَلُ مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ.
ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ: وَالْحَقُّ أَنَّ التَّمْرَ أَقْعَدُ بِالْعُمُومِ مِنْ التُّمُورِ، لِاسْتِرْسَالِهِ عَلَى الْآحَادِ لَا بِصِيغَةٍ لَفْظِيَّةٍ، وَأَمَّا التُّمُورُ فَإِنَّهُ يَرِدُ إلَى تَخَيُّلِ الْوَحَدَاتِ ثُمَّ يَجِيءُ الِاسْتِغْرَاقُ بَعْدَهُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ. قَالَ شَارِحُوهُ: يُرِيدُ أَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِ التَّمْرِ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الْمُشْتَمِلِ لِلْآحَادِ، وَالتَّمْرُ يُلْتَفَتُ فِيهِ إلَى الْوَاحِدِ، فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ عَلَى أَفْرَادِهَا.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ: تُمُورٌ، فَقَدْ تَخَيَّلَ رَدَّهُ إلَى الْوَاحِدِ عِنْدَ إرَادَةِ الْجَمْعِ، وَأَرَادَ دَلَالَتَهُ عَلَى الْجِنْسِ، وَهِيَ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهَا، وَصَيَّرَ دَلَالَةَ الْجِنْسِ إلَى لَفْظِ الْجَمْعِ الَّذِي فِيهِ خِلَافٌ. وَقَوْلُهُ: الْجَمْعُ يُرَدُّ إلَى تَخَيُّلِ الْوَحَدَاتِ، يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ. " الْمَقْصُودَةُ "، وَإِلَّا فَاسْمُ الْجِنْسِ يَتَخَيَّلُ فِيهِ
الْوَحَدَاتِ، لَكِنَّ آحَادَهُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِخِلَافِ الْجَمْعِ، وَتَمْثِيلُهُ بِالتَّمْرِ مُعَرَّفًا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ التَّمْرَ مُفْرَدٌ، وَأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ يَعُمُّ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّمْرِ: هَلْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، لِأَنَّهُ تَمَيَّزَ بِهِ، وَلَا تَمَيُّزَ إلَّا بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، أَوْ جَمْعُ تَمْرَةٍ يُفَرَّقُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَجَمْعِهِ بِالتَّاءِ؟ وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ، فَإِنَّ التَّمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَفْرَادٍ مَقْصُودَةٍ بِالْعَدَدِ وَإِنَّمَا يُجْمَعُ إذَا قَصَدْت أَنْوَاعَهُ لَا أَفْرَادَهُ، فَهُوَ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ كَمَاءٍ.
وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كُلٌّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكِتَابِهِ) وَقَالَ: " كِتَابُهُ أَكْثَرُ مِنْ كُتُبِهِ " يُرِيدُ أَنَّ كِتَابَهُ يَنْصَرِفُ إلَى جِنْسِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، فَدَلَالَتُهُ أَعَمُّ مِنْ كُتُبِهِ، لِأَنَّ كُتُبَهُ جَمْعٌ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْكِتَابَ وَاحِدٌ نُحِيَ بِهِ نَحْوُ الْجِنْسِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْعُمُومِ مِنْ الْجَمْعِ، فَمَعْنَاهُ مُفْرَدًا أَدَلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ مِنْهُ جَمْعًا، وَفِي قَوْلِهِ: نَحَّى بِهِ نَحْوَ اسْمِ الْجِنْسِ، مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَ اسْمِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ مَا نُحِيَ بِهِ نَحْوُ الشَّيْءِ غَيْرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَرَى أَنَّ تَمْرًا اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعٌ كَرَهْطٍ وَقَوْمٍ، وَهُوَ قَوْلٌ، فَفِي تَمْرٍ إذَنْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] إنَّ الْمَلَكَ أَعَمُّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَذُكِرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْجَمْعِ وَيَزِيدُ هَاهُنَا مَذَاهِبُ أُخْرَى كَمَا بَيَّنَّا.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْمُفْرَدِ أَوْ الْجَمْعِ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ فِيهِمَا جَمِيعًا عِنْدَ مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ، إلَّا إذَا كَانَ مَعْهُودًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ فِيهِمَا لَا الِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ أَحَدُ
قَوْلَيْ أَبِي هَاشِمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ إنَّهُ فِي الْمُفْرَدِ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ، وَفِي الْجَمْعِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُفْرَدِ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ إلَى أَنْ يُحَاطَ بِهِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ إلَى الْوَاحِدِ مِنْهُ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ صَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْجِنْسِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ لَا إلَى الْوَاحِدِ، وَهَذَا مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] فَإِنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُتَوَقِّفَةٍ عَلَى الْجَمْعِ وقَوْله تَعَالَى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران: 39] .
وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ الْجِنْسِ بِدَلِيلِ اسْتِثْنَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين: 6] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 22] ، وَاسْتِثْنَاءُ الْمُصَلِّينَ دَالٌّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام:«الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ جِنْسِ الْحِنْطَةِ، وَلَنَا
فِي الْجَمْعِ قَوْله تَعَالَى: (يَأَيُّهَا النَّاسُ) وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ الْجِنْسِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] وَالْمُرَادُ بِهِ الْكُلُّ، وَالْمَعْقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مُطْلَقَ الْجِنْسِ كَانَ مُسْتَفَادًا قَبْلَ دُخُولِ اللَّامِ، وَلَا بُدَّ لِدُخُولِهَا مِنْ فَائِدَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الِاسْتِغْرَاقَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ، إمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهَا الْعَهْدَ فَلَا إشْكَالَ فِي عَدَمِ عُمُومِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهَا تَعْرِيفَ اسْمِ الْجِنْسِ فَلَا إشْكَالَ فِي عُمُومِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُشْكِلَ الْحَالُ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ الْعَهْدِ؟ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ التَّعْمِيمُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ، أَيْ حَقِيقَةَ الْجِنْسِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأَفْرَادِ، فَهِيَ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ.
وَمِنْهُ قَوْلُك: الرَّجُلُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرْأَةِ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ: هَذَا مِمَّا تَرَدَّدُوا فِيهِ، فَقِيلَ: لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ. وَقِيلَ: لَا وَاخْتَارَ الْإِمَامُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يُعَرِّفَ هُنَا بِنَاءً عَلَى تَنْكِيرٍ سَابِقٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اُقْتُلْ رَجُلًا ثُمَّ يَقُولَ: اُقْتُلْ الرَّجُلَ، فَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَإِنْ قَالَهُ ابْتِدَاءً فَلِلْجِنْسِ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ هَلْ خَرَجَ تَعْرِيفًا لِنَكِرَةٍ سَابِقَةٍ أَوْ إشْعَارًا بِالْجِنْسِ، فَمَيْلُ الْمُعْظَمِ إلَى أَنَّهُ لِلْجِنْسِ.
وَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ يَعُمُّ لَا يَعُمُّ بِصِيغَةِ اللَّفْظِ، بَلْ لِاقْتِرَانِ حَالَةٍ مُشْعِرَةٍ بِالْجِنْسِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ لَمْ يُتَّجَهْ إلَى التَّوَقُّفِ، وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلَ لِلَمْحِ الصِّفَةِ كَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، أَوْ لِلْغَلَبَةِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا، فَلَا إشْكَالَ فِي عَدَمِ عُمُومِهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْلَامِ.
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] احْتِمَالَانِ عَامًّا وَمُجْمَلًا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَتَرَدَّدَا بَيْنَهُمَا، وَمِنْ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَعَامًّا فِي كُلِّ بَيْعٍ إلَّا مَا نَهَتْ عَنْهُ السُّنَّةُ.
وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يُشْكِلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ وَالْأَوَّلِ.
قَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْفَرْقِ: إنَّ الْأَوَّلَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لِلشَّارِعِ عُرْفًا فِي الْأَسْمَاءِ، وَإِذَا كَانَ لِلشَّارِعِ عُرْفٌ فِي الْبَيْعِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَمَتَى وَرَدَ الِاسْمُ مِنْهُ صُرِفَ إلَى عُرْفِهِ، فَقَوْلُهُ:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى الشَّرْعِيَّ.
وَيَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا تَخْصِيصَ فِيهِ وَلَا اسْتِثْنَاءَ، وَأَمَّا الْأَخِيرُ فَعَلَى قَوْلِنَا: إنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُغَيِّرْ الْأَسْمَاءَ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهَا فِي مَوْضُوعِهَا اللُّغَوِيِّ، فَيَكُونُ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] أَيْ كُلُّ مَا يُسَمَّى بَيْعًا لُغَةً إلَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عليه السلام، أَوْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَهُوَ عَامٌّ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ إلَيْهِ، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ احْتِمَالُ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَوَقُّفِهِ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الْبَيْعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، وَاخْتَلَفَ فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ الزَّكَاةِ وَهِيَ قَوْلُهُ:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ. وَالثَّانِي مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ، وَهُمَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالتَّعْرِيفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفْرَدٌ مُشْتَقٌّ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَإِنْ عَمَّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَلْيَعُمَّ فِي الْآيَتَيْنِ، وَإِنْ عَمَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلْيَعُمَّ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ مِنْ حَيْثُ
اللَّفْظُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. فَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ، مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي آيَةِ الْبَيْعِ الْعُمُومُ، وَفِي آيَةِ الزَّكَاةِ الْإِجْمَالُ.
وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ حِلَّ الْبَيْعِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَصْلَ فِي النَّافِعِ الْحِلُّ، وَفِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَمَهْمَا حُرِّمَ الْبَيْعُ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِتَضَمُّنِهَا أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ، فَوُجُوبُهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
ثُمَّ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابَيْنِ نَاظِرَةٌ إلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ اعْتَنَى عليه السلام بِبَيَانِ الْمَبِيعَاتِ الْفَاسِدَةِ، كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحُبْلَةِ وَالْمَضَامِينِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَلَمْ يَعْتَنِ بِبَيَانِ الْمَبِيعَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ عليه السلام اعْتَنَى بِبَيَانِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَمْ يَعْتَنِ بِبَيَانِ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَمَنْ ادَّعَى الزَّكَاةَ فِي شَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ كَالرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ فَقَدْ ادَّعَى حُكْمًا عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا تَرَدُّدُ الشَّافِعِيِّ فِي آيَةِ الْبَيْعِ: هَلْ الْمُخَصِّصُ أَوْ الْمُبَيِّنُ لَهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دُونَ الزَّكَاةِ؟ فَلِأَنَّهُ عَقَّبَ حِلَّ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَالرِّبَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلَمْ يُعَقِّبْ الزَّكَاةَ بِشَيْءٍ.
الثَّالِثُ: عَنْ هَذَا الْخِلَافِ نَشَأَ الْخِلَافُ فِي مَعْنَى الْحَمْدِ، فَقَالَ عَامَّةُ
الْفُقَهَاءِ: جَمِيعُ الْمَحَامِدِ لِلَّهِ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ؛ وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مَنْ الْحَمْدُ بِحَسْبِهِ فَهُوَ لِلَّهِ، لِأَنَّ اللَّامَ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الْحَمْدِ مَا هُوَ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي الْحَمْدِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِلْعَهْدِ، فَذَلِكَ كَلَامٌ بِلَا أَسَاسٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ هَذَا النَّقْلُ بَلْ قَالُوا: إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ، وَبِهَذَا ظَهَرَ تَقْرِيرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ الَّذِي قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَهَمٌ مِنْهُمْ.
الرَّابِعُ حَكَى الْقَرَافِيُّ عَنْ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ أَنَّهُ اسْتَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْتِزَامُ أَصْلِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى قِيَاسِ الْقَاعِدَةِ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ، وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا نَقْلٌ عَنْ مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ إلَى الْعُرْفِ، فَنَقْلُ الْعُرْفِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَنْ الْعُمُومِ إلَى حَقِيقَةِ الْجِنْسِ فِي الطَّلَاقِ خَاصَّةٌ لِدَلِيلٍ، وَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ، وَأَجَابَ غَيْرُهُ: بِأَنَّ الطَّلَاقَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا أَفْرَادَ لَهُ، وَلَكِنْ لَهُ مَرَاتِبُ مُشْتَرَكَةٌ فِي قَطْعِ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَحُمِلَ عَلَى أَدْنَى الْمَرَاتِبِ.
الْخَامِسُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: لَامُ الْجِنْسِ تُخَصِّصُ جِنْسًا مِنْ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ كَ " لَامِ " الْعَهْدِ تُخَصِّصُ وَاحِدًا مِنْ الْآحَادِ، وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصٌ مَا لَمْ يَكُنْ عُمُومٌ أَوْ تَقْدِيرُهُ، فَتَقُولُ: إنْ زَارَك الصَّدِيقُ، أَيْ مَنْ صِفَتُهُ الصَّدَاقَةُ خَاصَّةً دُونَ الْعَدُوِّ، وَمَنْ لَيْسَ بِصَدِيقٍ وَلَا عَدُوٍّ، فَإِنْ نُكِّرَتْ زَالَ هَذَا التَّخْصِيصُ، وَانْقَلَبَ إلَى مَعْنَى الشِّيَاعِ فِي كُلِّ
صَدِيقٍ.
قَالَ: فَقَوْلُنَا: رَجُلٌ فَاسِقٌ هُوَ بَعْضٌ مِنْ شِيَاعِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إفْرَازُ الْفَاسِقِ مِنْ الْعَدْلِ، وَلَا قَصَدَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقْصِدُ إلَيْهِ لَوْ دَخَلَتْ اللَّامُ، فَإِنَّ الَّتِي تُمَيِّزُ الْجِنْسَ مِمَّا سِوَاهُ، وَالصِّفَةُ إنَّمَا تَقْتَضِي الشِّيَاعَ، وَالْكَلَامُ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ أَدَقُّ مِنْ الدَّقِيقِ.
وَأَمَّا الْمُثَنَّى فَقَالَ الْقَرَافِيُّ هُوَ كَالْجَمْعِ فِي الْعُمُومِ، ثُمَّ قَالَ: لَا يُفْهَمُ الْعُمُومُ مِنْ إضَافَةِ التَّثْنِيَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْفَرْدُ يَعُمُّ أَمْ لَا فَإِذَا قَالَ: عَبْدَايَ حُرَّانِ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُمَا، وَكَذَلِكَ مَالَايَ، فَالْفَهْمُ عَنْ الْعُمُومِ فِي التَّثْنِيَةِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ وَالْفَرْدِ. انْتَهَى. وَالْإِضَافَةُ وَالتَّعْرِيفُ سَوَاءٌ، وَكَلَامُهُ الْأَوَّلُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الثَّانِي وَسَيَأْتِي فِيهِ مَزِيدٌ فِي الْإِضَافَةِ.
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: الْعُمُومُ مِمَّا ذَكَرْنَا مُخْتَلِفٌ، فَالدَّاخِلُ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ يَعُمُّ الْأَفْرَادَ أَعْنِي كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَالدَّاخِلُ عَلَى الْجَمْعِ يَعُمُّ الْجُمُوعَ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَعُمُّ أَفْرَادَ مَا دَخَلَا عَلَيْهِ، وَقَدْ دَخَلَا عَلَى جَمْعٍ فَتَفَطَّنْ لَهُ. وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي النَّفْيِ وَالنَّهْيِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِفَرْدٍ، لِأَنَّهُ إنَّمَا حَصَلَ النَّفْيُ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ، وَلَا قَرِينَةَ تَنْفِي كُلَّ فَرْدٍ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ بَابِ الْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّ كُلِّيَّةَ الْجَمْعِ هِيَ أَفْرَادُ الْمَجْمُوعِ لَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ كُلِّ جَمْعٍ.
وَيَنْبَغِي عَلَى مَسَاقِ هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ تَخْتَلِفَ الْجُمُوعُ فَتَشْمَلَ جُمُوعَ الْقِلَّةِ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَلَا تَشْمَلُ جُمُوعُ الْكَثْرَةِ إلَّا أَحَدَ عَشَرَ أَحَدَ عَشَرَ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُشْكِلٌ عَلَى اسْتِدْلَالِ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الصِّيَغِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ.
وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ التَّعْرِيفَ الْجِنْسِيَّ لِاسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ أَفْرَادِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ جَمْعًا فِي إثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، وَهَذَا لَا يُجْدِي، لِأَنَّ النِّزَاعَ فِيهِ، وَالْخَصْمُ يَقُولُ: إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَفْرَادِ الْجُمُوعِ لَا عَلَى فَرْدٍ فَرْدٍ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ قَرِينَةَ الْعُمُومِ الِاسْتِغْرَاقِيِّ هُنَا اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ مِنْ الْآحَادِ لَا مِنْ مَرَاتِبِ الْجُمُوعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى فِي دَلَالَةِ الْعُمُومِ الْكُلِّيَّةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي إلَى أَنَّ اسْتِغْرَاقَ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ لِمَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَقْوَى مِنْ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ إذْ كَانَ فِيهَا وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ، وَيَصْدُقُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: لَا رِجَالَ فِي الدَّارِ، وَهَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، أَمَّا فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ مَعَ التَّعْرِيفِ الْجِنْسِيِّ، فَالشُّمُولُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَكِنَّ طَرِيقَهُ مُخْتَلِفٌ، كَمَا سَبَقَ نَقْلُهُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَصَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَكُتُبِهِ} وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنْ الْكُتُبِ، وَقَرَّرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، بِأَنَّ الْمُفْرَدَ يَدُلُّ عَلَى أَفْرَادِ جِنْسِهِ كُلِّهَا، لَا بِصِيغَةٍ لَفْظِيَّةٍ، بَلْ بِمَعْنَاهُ وَمَوْضُوعِهِ، وَأَمَّا فِي الْجَمْعِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ أَوَّلًا إلَى تَخَيُّلِ الْوَحَدَاتِ، ثُمَّ يَحْصُلُ الِاسْتِغْرَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَقْوَى.
الثَّانِي: أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعُمُومِ، وَأَطْبَقَ الْمَنْطِقِيُّونَ عَلَى أَنَّ نَحْوَ قَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ قَضِيَّةٌ مُهْمَلَةٌ فِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ " مِعْيَارِ الْعِلْمِ " عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الِاسْتِغْرَاقُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَجَبَ طَلَبُ الْمُهْلَةِ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَهُوَ مُهْمَلٌ، إذْ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ، وَيَحْتَمِلُ الْجُزْءَ، وَيَكُونُ قُوَّةُ الْمُهْمَلِ قُوَّةَ الْجُزْءِ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّرُورَةِ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْعُمُومُ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا يَصْدُقُ جُزْئِيًّا أَنْ لَا يَصْدُقَ كُلِّيًّا. انْتَهَى.