الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّاسِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَخْصِيصِ الْمُرْتَدِّ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَلَا قَوْلَ مَنْ خَصَّ نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنْ الْخَيْلِ بِبَعْضِ أَصْنَافِهَا. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي الْجَدِيدِ مِنْ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَوْ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ خَالَفُوهُمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَلَ الْمُرْتَدَّةَ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ عَنْ الْخَيْلِ، لَمَّا سَأَلَهُ أَرْبَابُهَا ذَلِكَ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمْ فَبَقِيَ الْعَامُّ عَلَى عُمُومِهِ وَمَا جَزَمُوا بِهِ مِنْ التَّخْصِيصِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مُخَالِفٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ خِلَافًا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي تَقْلِيدِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ مَحَلُّ وِفَاقٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الظَّاهِرِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَا يَقَعُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ أَنْ يُخَصَّ الظَّاهِرُ بِهِ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِهِ إذَا انْتَشَرَ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِمْهُ قِيَاسٌ، لِأَنَّا نُقَدِّمُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، فَإِذَا خُصَّ بِالْقِيَاسِ كَانَ بِأَنْ يُخَصَّ بِقَوْلِهِ الَّذِي هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَبَرُ غَيْرَ مُحْتَمِلٍ أَوْ عَارَضَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِالْخَبَرِ، وَيُتْرَكُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الصَّحَابِيُّ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْخَبَرُ عُمِلَ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فَالْعَمَلُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ.
[تَخْصِيصُ الْحَدِيثِ بِمَذْهَبِ رَاوِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ]
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاوِي، كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فَإِنَّ لَفْظَةَ: " مَنْ " عَامَّةٌ فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ تُحْبَسُ وَلَا تُقْتَلُ، فَخَصَّ الْحَدِيثَ بِالرِّجَالِ، فَإِنْ قُلْنَا: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، خُصَّ عَلَى الْمُخْتَارِ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": وَقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الَّذِي يُقَلِّدُ الصَّحَابِيَّ فِيهِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ، إلَّا إذَا انْتَشَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَجُعِلَ ذَلِكَ نَازِلًا مَنْزِلَةَ الْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ قُلْنَا: قَوْلُهُ: غَيْرُ حُجَّةٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِهِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَدْلَ لَا يَتْرُكُ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَعْمَلُ بِخِلَافِهِ إلَّا لِنَسْخٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَلَنَا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ عَامٌّ، وَتَخْصِيصُ الرَّاوِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصَّهُ بِدَلِيلٍ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ لَوْ ظَهَرَ، فَلَا يَتْرُكُ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُحَقَّقَةَ لِمُحْتَمَلٍ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَدْ يُخَالِفُ فِي هَذَا وَيَقُولُ: إنَّ الْقَرَائِنَ تُخَصِّصُ الْعُمُومِ، وَالرَّاوِي يُشَاهِدُ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا لَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُهُ، وَعَدَالَتُهُ وَتَيَقُّظُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِمَّا لَا يُخَصُّ إلَّا بِمُوجِبٍ مِمَّا يَمْنَعُهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالتَّخْصِيصِ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ، وَجَهَالَتُهُ دَلَالَةَ مَا ظَنَّهُ مُخَصِّصًا عَلَى التَّخْصِيصِ يَمْنَعُ مِنْهُ مَعْرِفَتُهُ بِاللِّسَانِ، وَتَيَقُّظُهُ. اهـ. وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " فِي هَذَا الضَّرْبِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: لَا يَخُصُّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَكَلَامُ مَنْ جَزَمَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّ تَخْرِيجَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَمْ لَا، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ
الرَّاوِي لَهُ أَمْ لَا، لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام عَلَى قَرَائِنَ حَالِيَّةٍ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ آخَرَ لَمْ يَرْوِ الْخَبَرَ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ.
وَإِلَى هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ يُرْشِدُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْمُخْتَصَرِ " بِقَوْلِهِ: مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَا يُخَصِّصُ، وَلَوْ كَانَ الرَّاوِي، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ إنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِهِ، لَمْ يُخَصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي بَلْ بِهِ، إنْ اقْتَضَى نَظَرُ النَّاظِرِ فِيهِ ذَلِكَ وَإِلَّا خُصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَمَثَّلَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " هَذَا الْقِسْمَ بِحَدِيثِ «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» . قَالَ: وَحَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى فَرَسِ الْغَازِي لِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: إذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ خَبَرًا، وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَاَلَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِفِعْلِهِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ مُجَرَّدَ مَذْهَبِ الرَّاوِي لَا يُبْطِلُ الْحَدِيثَ وَلَا يَدْفَعُهُ، لَكِنْ إنْ صَدَرَ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ مِنْهُ مَصْدَرَ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ فَيُقْبَلُ، وَتَخْصِيصُهُ أَوْلَى. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا رَوَاهُ إذَا كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا.
وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَعَمِلَ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ. قَالَ وَالِاخْتِيَارُ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ إنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا نِسْيَانَهُ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ، أَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَتَهُ
لِخَبَرٍ لَمْ يَرْوِهِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ وَإِنْ رَوَى خَبَرًا مُقْتَضَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يَتَحَرَّجُ فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْخَبَرِ، وَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ. وَإِنْ نَاقَضَ عَمَلُهُ رِوَايَتَهُ، وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا فِي الْجَمِيعِ امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَعْمِدَ إلَى مُخَالَفَةِ مَا رَوَاهُ إلَّا عَنْ سَبَبٍ يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إنْ فَعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ فَلَا احْتِجَاجَ بِمَا رَوَاهُ، وَإِنْ فَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ أَخْرَجَهُ ذَلِكَ عَنْ رُتْبَةِ الْفِقْهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ أَبَانَ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شَيْئًا يَقْتَضِي تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ. وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ لَوَجَبَ عَلَى هَذَا الرَّاوِي أَنْ يُثْبِتَهُ، إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ مَا عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَمْرِ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الْتِبَاسٍ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ: إذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِمَعْنَاهُ فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ أَوْ ذَاكِرٌ لِمَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالتَّعَلُّقُ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْنُ عَلَى تَرَدُّدٍ فِيمَا يَدْفَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ، فَلَا يُدْفَعُ الْأَصْلُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ، بَلْ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ خَالَفَ الْحَدِيثَ قَصْدًا وَلَمْ نُحَقِّقْهُ، فَهَذَا يُعَضِّدُ التَّأْوِيلَ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيَحُطُّ مَرْتَبَةَ الظَّاهِرِ، وَيُخَصُّ الْأَمْرُ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَضَّدَهُ التَّأْوِيلُ.
وَقَالَ إلْكِيَا وَابْنُ فُورَكٍ: الْمُخْتَارُ أَنَّا إنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِ الرَّاوِي أَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا عَلِمَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ عليه السلام، وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى وَجْهِ اسْتِدْلَالٍ أَوْ تَخْصِيصًا بِخَبَرٍ آخَرَ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ. قُلْت: وَسَكَتَا عَنْ حَالَةٍ ثَالِثَةٍ، وَهِيَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْحَالُ. وَكَأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ "
فَالْأَحْوَالُ إذَنْ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْلَمَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ عليه السلام وَمَخْرَجِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْخُصُوصُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ الرَّاوِي فِيهِ. الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ خُصَّ الْخَبَرُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، أَوْ ضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرِ قَطْعًا. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ مَا لِأَجْلِهِ خُصَّ الْخَبَرُ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالرَّاجِحُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاوِي لِلْخَبَرِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ قَالَ: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَإِذَا فَسَّرَهُ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ أَخَذْنَا بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» حَيْثُ فَسَّرَهُ بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ. فَأَمَّا مَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيّ
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ إلَى أَنَّهُ يُخَصُّ عُمُومُ الْخَبَرِ، وَتَرْكُ ظَاهِرِهِ بِقَوْلِ الرَّاوِي وَبِمَذْهَبِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْخَبَرِ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ، فَالْمَكَانُ الَّذِي نَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهِ لَا يَقْبَلُونَهُ، وَالْمَكَانُ الَّذِي يَقْبَلُونَهُ لَا نَقْبَلُهُ
تَنْبِيهَاتٌ
[هَلْ يُخَصُّ الْحَدِيثُ بِقَوْلِ رَاوِيهِ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ]
الْأَوَّلُ: زَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّاوِي صَحَابِيًّا، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَاهَدَ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام خِلَافَ مَا رَوَاهُ، فَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا غَيْرُ الصَّحَابِيِّ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافٌ فِي أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى رِوَايَتِهِ. اهـ. وَغَرَّهُ فِي ذَلِكَ بِنَاؤُهُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الصَّحَابِيِّ، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّخْصِيصِ بِقَوْلِ الرَّاوِي لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابِيِّ، بَلْ وَلَا بِصُورَةِ التَّخْصِيصِ؛ بَلْ الرَّاوِي
مُطْلَقًا مِنْ الصَّحَابِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ، إذَا خَالَفَ الْخَبَرَ بِتَخْصِيصٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، حَتَّى إذَا تَرَكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ مَذْهَبُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْخَبَرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ " بِالرَّاوِي الصَّحَابِيِّ، بَلْ أَطْلَقَ. وَلَكِنْ قَيَّدَ الْمُخَالَفَةَ بِحَالَةِ التَّخْصِيصِ، وَلَا تَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ.
وَصَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابِيِّ فَلَوْ رَوَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا، وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالْأَمْرُ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ، وَلَكِنْ قَدْ اعْتَرَضَ الْأَئِمَّةَ أُمُورٌ أَسْقَطَتْ آثَارَ أَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِرِوَايَتِهِمْ، وَهَذَا كَرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى مُخَالَفَتِهِ، فَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي الرِّوَايَةِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الْخَبَرِ، فَمُخَالَفَتُهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى بِنَائِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ؟ وَكَرِوَايَةِ مَالِكٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ أَيْضًا لَا تَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا فِيمَا أَظُنُّ تَقْدِيمُهُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ هَكَذَا.
ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّاوِي يَرْوِي، ثُمَّ يُخَالِفُ، بَلْ يَجْرِي فِيمَنْ بَلَغَهُ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّاوِي لِذَلِكَ الْخَبَرِ، حَتَّى إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا، وَقُلْنَا: إنَّمَا خَالَفَ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الرَّاوِي، فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يُتَّجَهْ وَجْهٌ لِمُخَالَفَتِهِ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا الْمَصِيرُ إلَى اسْتِخْفَافِهِ بِالْخَبَرِ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا قَدْحٌ فِي الْخَبَرِ، وَعِلْمٌ بِضَعْفِهِ. اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَقْدِيمِ قَوْلِ الرَّاوِي مُطْلَقَةٌ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَتَعَقَّبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ هَلْ تَقَدَّمَ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ قَبْلَ سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الْحَدِيثُ، وَالْحَقُّ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ اتَّجَهَ قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ. اهـ. وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَفْقُودَةٌ. وَهَذَا الْبَحْثُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَسْأَلَةِ بِالصَّحَابِيِّ
وَمِثَالُ تَخْصِيصِ الرَّاوِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِيهِ: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَحْتَكِرُ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: كَانَ مَعْمَرٌ يَحْتَكِرُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَا يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ، وَحَمَلَا الْحَدِيثَ عَلَى احْتِكَارِ الْقُوتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَالْغَلَاءِ، وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّافِعِيُّ، لَكِنَّهُ خُصِّصَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، لَا بِقَوْلِ سَعِيدٍ. نَعَمْ، قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي " الشَّهَادَاتِ ": إنَّمَا اخْتَصَّ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينُ بِالْأَمْوَالِ، لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَوَى الْخَبَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمَّا رَوَاهُ قَالَ: وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ. وَقَوْلُ الرَّاوِي مُتَّبَعٌ فِي تَفْسِيرِ مَا يَرْوِيهِ وَتَخْصِيصِهِ. انْتَهَى.
الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاوِي أَوْ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَهُ وَانْتَشَرَ، وَلَمْ يُخَالَفْ، خُصَّ بِهِ هُوَ الصَّوَابُ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَارِدَةٌ عَلَى مَنْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَوْ غَيْرُهُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ.