الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَهَلْ هُوَ إخْرَاجٌ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ أَوْ لَجَازَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، رَجَّحَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " الْأَوَّلَ. قَالَ: وَإِلَّا لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْجِنْسِ وَغَيْرِهِ، فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ مِنْ الْجِنْسِ حَقِيقَةً وَمِنْ غَيْرِهِ مَجَازًا، ثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ.
[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ عَامٍّ أَوْ مِنْ عَدَدٍ شَائِعٍ]
مَسْأَلَةٌ
الِاسْتِثْنَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ عَامٍّ أَوْ مِنْ عَدَدٍ شَائِعٍ، فَالْأَوَّلُ نَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]{إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]، وَلِهَذَا صَحَّ: عَلَى عَشَرَةٍ إلَّا دِرْهَمًا، لِشُيُوعِ الْخَمْسِينَ فِي مُطْلَقِ الْأَلْفِ، وَالْأَلْفُ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ بِزَمَنٍ مَخْصُوصٍ، وَشُيُوعُ الْعَشَرَةِ فِي مُطْلَقِ الْعَدَدِ. وَمِثْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً، فَإِنَّ ثَلَاثًا نَكِرَةٌ شَائِعَةٌ تَقَعُ عَلَى الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَكْرُوهِ، وَالْمُبَاحِ. قَالَهُ الْمُوَفَّقُ حَمْزَةُ الْحَمَوِيُّ، وَسَنُعِيدُ الْخِلَافَ فِي الْعَدَدِ
[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْجِنْسِ وَمِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ]
مَسْأَلَةٌ
يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْجِنْسِ بِلَا خِلَافٍ كَقَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَهُوَ الْمُتَّصِلُ، وَمِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ عَلَى الْأَصَحِّ وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ
بِالْمُنْفَصِلِ، نَحْوُ: إلَّا حِمَارًا، وَأَفْسَدَ تَعْرِيفَ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِنَا: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إلَّا زَيْدٌ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ أَحَدٍ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ؛ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُتَّصِلُ مَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مِنْهُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَالْمُنْقَطِعُ مَا لَا يَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ فِيهِ الثَّانِيَ، أَوْ نَقُولُ: الْمُتَّصِلُ مَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْمُنْقَطِعُ مَا لَا يَكُونُ.
قَالَ ابْنُ سِرَاجٍ: وَلَا بُدَّ فِي الْمُنْقَطِعِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَ " إلَّا " قَدْ دَلَّ عَلَى مَا يُسْتَثْنَى مِمَّا قَبْلَهُ بِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَأَوْضَحَهُ ابْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ الدُّخُولِ فِي الْأَوَّلِ، كَقَوْلِك: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا حِمَارًا، فَإِنَّهُ بِذِكْرِ الْقَوْمِ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ لِأَتْبَاعِهِمْ الْمَأْلُوفَاتِ، فَذَكَرَ إلَّا حِمَارًا لِذَلِكَ، فَهُوَ مُسْتَثْنًى تَقْدِيرًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَكِنْ بِشَرْطٍ، وَهُوَ أَنْ يُتَوَهَّمَ دُخُولُهُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مَا، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، كَقَوْلِهِ:
وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ
…
إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
فَالْيَعَافِيرُ قَدْ تُؤَانِسُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِهَا مَنْ يُؤْنَسُ بِهِ إلَّا هَذَا النَّوْعُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمُنْقَطِعَ يَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ مِقْدَارٍ، أَوْ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظٍ لَا مِنْ مَنْطُوقِهِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ غَالِبًا إذَا تَشَارَكَ الْجِنْسَانِ
فِي مَعْنًى أَعَمَّ، كَمَا فِي السَّلَامِ وَاللَّغْوِ الْمُتَشَارِكَيْنِ فِي أَصْلِ الْقَوْلِ فِي قَوْله تَعَالَى:{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا - إِلا قِيلا سَلامًا} [الواقعة: 25 - 26]، وَقَوْلِهِ:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الرُّجْحَانِ.
ثُمَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاطِنَ:
الْأَوَّلُ: فِي أَنَّهُ هَلْ وَقَعَ فِي اللُّغَةِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَتَأَوَّلَهُ تَأَوُّلًا رَدَّهُ بِهِ إلَى الْجِنْسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى.
الثَّانِي: أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَالصَّوَابُ وُقُوعُهُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يُنْكِرُ وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا أَعْجَمِيٌّ.
الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ فِي صِحَّتِهِ فِي الْمُخَاطَبَاتِ فِي الْعَادَاتِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ أَصْحَابِنَا فِيهِ. فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى جَوَازِهِ وَأَبَى ذَلِكَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، فَأَمَّا مَنْ جَوَّزَهُ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا عَبْدًا قُبِلَ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ:{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]{إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] وَدَلِيلُنَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ شَرْطُهُ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ الِاسْمِ، غَيْرَ الْجِنْسِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّ إبْلِيسَ دَخَلَ تَحْتَ الْأَمْرِ، فَرَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أُضْمِرَ فِيهِ. وَتَأَوَّلَ قَوْمٌ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّمَا قُبِلَ ثَمَّةَ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى بَيَانِهِ، لِأَنَّهُ اقْتَضَى الْإِطْلَاقَ، وَالْمَعْنَى إلَّا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ قَالَ: وَتَمَسَّكَ الْمُجَوِّزُ بِقَوْلِ
الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْإِقْرَارِ ": لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَبْدًا، فَقَدْ اسْتَثْنَى الْعَبْدَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ جِنْسِهَا. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْجِنْسِ.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]{إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَالْمُرَادُ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة: 34] أَيْ الْمَلَائِكَةُ وَإِبْلِيسُ، فَحُذِفَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى الْمُضْمَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْأَمْرِ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ.
قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ بِدَلِيلٍ، فَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا. وَمِمَّنْ اخْتَارَ الْمَنْعَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْحَنَفِيَّة، وَالْأُسْتَاذِ ابْنِ دَاوُد، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْخِلَافُ فِيمَا عَدَاهُ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمَاوَرْدِيِّ قَالَ: لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهِ فِي الْإِقْرَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَالثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. قَالَ: وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ دُونَ الْعَدَدِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا أَلْفًا جَوَّزَهُ نَظَرًا إلَى قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى، فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةً فَمَا زَادَ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَهَا صَحَّ، وَأَلْزَمَ مَا بَقِيَ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافَ فِيهِ، وَقَالَ: لَمْ يَسْتَعْمِلْ اللُّغَوِيُّونَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، قَالَ: وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا انْطَوَى
عَلَى التَّعَرُّضِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ جِنْسًا، فَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْحَقِيقِيُّ، كَقَوْلِك: رَأَيْت النَّاسَ إلَّا زَيْدًا. قَالَ: وَقَدْ تَرِدُ صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِلَا خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]{إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77]{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] وَالْخَطَأُ لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى هَذَا الْجِنْسُ اسْتِثْنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ لَا، وَالْأَظْهَرُ الْمَنْعُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا، فَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ مِنْ جِنْسِهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى إلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدْ جَوَّزَ اسْتِثْنَاءَ الْمَكِيلِ مِنْ الْمَكِيلِ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَاسْتِثْنَاءَ الْمَوْزُونِ مِنْ الْهَيْكَلِ. اهـ.
وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ تَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ الْآمِدِيُّ فِي الْإِحْكَامِ فَقَالَ: ذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّة وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ إلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَاخْتَارَ التَّوَقُّفَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَانِعَ لَا يُسَمَّى مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً، بَلْ يَجْعَلُ " إلَّا " بِمَعْنَى لَكِنْ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ مَا يَقْتَضِيه.
وَحَكَى الْمَازِرِيُّ فِي التَّعْلِيقَةِ " ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: صِحَّتُهُ، وَالِاعْتِدَادُ بِهِ مُطْلَقًا، وَعَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٌ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَعَزَاهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
وَالثَّالِثُ: إنْ قَدَّرَ بِفَرْدٍ نَحْوُ قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً مُعَيَّنَةً اعْتَدَّ بِهِ، وَيَسْقُطُ مِقْدَارُهُ مِنْ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ بِوَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ، فَإِنَّ مَنْ لَا يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلَزِمَتْ الْجُمْلَةُ الْأُولَى. قَالَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْحَكَمِ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُسْتَصْفَى ": الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ مَنَعَهُ قَوْمٌ مِنْ جِهَةِ الْغَرَضِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَأَجَازَهُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْمُجَوِّزُونَ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَدْفَعُوا وُجُودَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْمَانِعُونَ لَمْ يَقْطَعُوا الْجِهَةَ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا الْمُنْقَطِعُ عَلَى وَضْعِ الِاسْتِثْنَاءِ.
قَالَ: وَقَدْ حَلَّ هَذَا الشَّكَّ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: إنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إبْدَالَ الْجُزْئِيِّ مَكَانَ الْكُلِّيِّ، كَمَا يُبْدَلُ الْكُلِّيُّ مَكَانَ الْجُزْئِيِّ اتِّكَالًا عَلَى الْقَرَائِنِ وَالْعُرْفِ، مَثَلًا إذَا قَالَ: مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تُفْهِمُ مَا سِوَاهُ، فَلِذَلِكَ يُسْتَثْنَى، وَيَقُولُ: إلَّا امْرَأَةً، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ كُلُّهُ مُتَّصِلًا، إلَّا أَنَّ الِاتِّصَالَ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمِنْهُ فِي الْمَعْنَى خَاصَّةٌ. قَالَ: وَإِذَا تَصَفَّحَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ وُجِدَ عَلَى مَا قَالَهُ، وَقَدْ انْفَرَدَ بِحَلِّ هَذَا الشَّكِّ.
قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ " الْعَوْنِيِّ ": أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَتَأَوَّلُوا تَأَوُّلًا بِهِ إلَى الَّذِي مِنْ الْجِنْسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ. قَالَ: لَكِنَّ النُّحَاةَ قَدَّرُوهُ " بِلَكِنَّ "، وَهُوَ غَيْرُ مُشَابِهٍ لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، بَلْ الَّذِي أَجَازَهُ الْفُقَهَاءُ يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِامْتِنَاعِهِ، فَإِنَّهُمْ مَثَّلُوهُ بِنَحْوِ: لَهُ عَشَرَةٌ إلَّا ثَوْبًا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا اللَّفْظُ: فَإِنَّ اللُّغَةَ لَا تَسْتَعْمِلُ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمُثْبَتِ إنَّمَا تَسْتَعْمِلُهُ فِي الْمَنْفِيِّ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمُسْتَحِيلٌ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا جِيءَ بِهِ مُقَابِلًا لِلتَّأْكِيدِ. فَإِنَّمَا قُلْت: جَاءَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إلَّا زَيْدًا، حَقَّقْت بِالِاسْتِثْنَاءِ الْإِشْكَالَ
فِي عُمُومِ الْمَجِيءِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجِئْ، فَإِذَا قُلْت: جَاءَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا حَقَّقْت بِالِاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضَ لَهُمْ. وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَوُّرُهُ فِي: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَوْبًا، فَإِنْ قَالَ: الْمَعْنَى إلَّا ثَوْبًا وَأَكْثَرَ لَزِمَهُ الْعَشَرَةُ، فَأَيْنَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ.
قُلْت: وَقَوْلُهُ: فِي الْأَوَّلِ: لَا يَجُوزُ فِي الْإِثْبَاتِ مَمْنُوعٌ، بَلْ جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ سَوَّغُوهُ فِيهِ
الرَّابِعُ: الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِثْنَاءً عَلَى مَذَاهِبَ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ عَنْ ابْنِ جِنِّي، وَقَالَ الْإِمَامُ: هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا فَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ هَلْ هُوَ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ الْمَعْنَوِيِّ؟ قَوْلَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَجَازٌ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ "، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ "، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَاخْتَارَهُ الرُّمَّانِيُّ مِنْ النَّحْوِيِّينَ فِي " شَرْحِ الْمُوجَزِ ".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي " شَرْحِ الْإِيضَاحِ ": ذَهَبَ أَكْثَرُ النَّاسِ إلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْمُنْقَطِعَ اتِّسَاعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كِلَاهُمَا أَصْلٌ. انْتَهَى.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " وَالْمَازِرِيُّ، وَحَكَى الْقَاضِي قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَلَامٍ مُبْدَأٍ مُسْتَأْنَفٍ.
وَقَالَ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: مُنْقَطِعٌ حَقِيقَةً، وَمَنْ قَالَ: كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي وَالْمَازِرِيُّ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قُلْت: بَلْ هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهُ حَقِيقَةً جَوَّزَ التَّخْصِيصَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَأَيْضًا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ، أَوْ لَجَازَ دُخُولُهُ.
وَاحْتَجَّ فِي " الْمَحْصُولِ " عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ، بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ اللَّفْظِ إذْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى صَارِفٍ عَنْهُ، وَلَا مِنْ الْمَعْنَى وَإِلَّا صَحَّ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِوُجُوبِ اشْتَرَاكِ كُلِّ شَيْئَيْنِ فِي مَعْنًى لَوْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ.
وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " الْخِلَافَ عَلَى نَمَطٍ آخَرَ، فَقَالَ: اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
وَأَحَدُهَا: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَجَعَلُوهُ لَغْوًا.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لَفْظًا وَمَعْنًى.
الثَّالِثُ: يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. قَالَ: وَهُوَ الْأَوْلَى بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا، أَوْ مِائَةُ دِينَارٍ إلَّا ثَوْبًا، يَكُونُ مُثْبِتًا لِلدِّينَارِ وَالثَّوْبِ بِالتَّقْدِيرِ.
قَالَ: وَأَمَّا إذَا اسْتَثْنَى مِنْ زَيْدٍ وَجْهَهُ. أَوْ مِنْ الدَّارِ بَابَهَا، فَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، لِأَنَّ وَجْهَ زَيْدٍ جُزْءٌ مِنْهُ. انْتَهَى.
قِيلَ: وَهَذَا الْخِلَافُ غَرِيبٌ، وَقَدْ جَزَمَ الْأَصْحَابُ بِدُخُولِ بَابِ الدَّارِ فِي بَيْعِهَا، وَلَمْ يَحْكُوا خِلَافًا. قُلْت: يُؤْخَذُ مِنْ " الْمُسْتَصْفَى " الْخِلَافُ، فَإِنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَشَرَطَ هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَوْنَهُ مِنْ الْجِنْسِ.
قَالَ: لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَابِ، وَلَا اسْمُ زَيْدٍ عَلَى وَجْهِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مِائَةُ ثَوْبٍ إلَّا ثَوْبًا. قَالَ: وَعَلَى هَذَا قَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْجِنْسِ، وَشَرَطَ هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَوْنَهُ مِنْ الْجِنْسِ، فَجَاءَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَيَجِيءُ عَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ: عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُ بِقَوْلِك: رَأَيْت زَيْدًا إلَّا يَدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُ بِاسْمِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ، أَوْ إلَّا زَيْدًا، وَهُوَ الْأَشْبَهُ فِيهِ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ الْأَوَّلُ، فَذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " إذْ قَالَ: فَإِنْ عَادَ إلَى غَيْرِ جِنْسِهِ صَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَأَبْطَلَهُ قَوْمٌ فِيهِمَا.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي " الْعُدَّةِ " فِي بَابِ الْإِقْرَارِ: إذَا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْمَعْنَى، أَوْ مِنْ اللَّفْظِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ الْمَعْنَى، فَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ مِائَةَ دِرْهَمٍ.
وَالثَّانِي: مِنْ اللَّفْظِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَشْهَدُ لِهَذَا. انْتَهَى.
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ ": لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجِنْسِ هُنَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ، فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ كُلَّهَا عِنْدَهُمْ مُتَجَانِسَةٌ، بَلْ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِجِنْسٍ يُسْتَثْنَى مِنْهُ بِلَفْظٍ لَمْ يُوضَعْ لِذَلِكَ الْجِنْسِ، نَحْوُ: مَالِي ابْنٌ إلَّا بِنْتٌ، فَإِنَّ لَفْظَ الِابْنِ غَيْرُ جِنْسِ لَفْظِ الْبِنْتِ.
وَقَالَ السُّهْرَوَرْدِيّ: لَا نَعْنِي بِالْجِنْسِ هُنَا الْمَنْطِقِيَّ، فَإِنَّ الثَّوْرَ مُجَانِسٌ لِلْإِنْسَانِ وَمُشَارِكٌ لَهُ فِي الْجِنْسِ الْأَقْرَبِ، بَلْ نَعْنِي بِهِ غَيْرَ الْمُشَارِكِ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.
قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَصْلُ كَوْنُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَمَعْنَى الْمُجَانِسَةِ أَنْ لَا يُقْصَرَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْمُسْتَثْنَى فِي الْفِعْلِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ سَوَاءٌ كَانَ رَاجِحًا عَلَيْهِ أَوْ لَا، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ": لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي الدَّارِ إلَّا رَجُلٌ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَكَانَ فِي الدَّارِ شَاةٌ لَا يَحْنَثُ، لِقُصُورِ الشَّاةِ عَلَى الْآدَمِيِّ فِي الْكَيْنُونَةِ فِي الدَّارِ، لِأَنَّ كَيْنُونَةَ الْآدَمِيِّ، فِي الدَّارِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَكَيْنُونَةَ الشَّاةِ بِطَرِيقِ الْقَصْرِ وَالتَّبَعِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي الدَّارِ إلَّا شَاةً فَعَبْدُهُ حُرٌّ، فَكَانَ فِيهَا آدَمِيٌّ حَنِثَ، لِقُصُورِ الشَّاةِ عَنْ الْآدَمِيِّ فِي الْكَيْنُونَةِ.
الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ الِاسْتِثْنَاءَ مُخَصِّصًا يَشْمَلُ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْقَطِعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ وَلَا بَيَانَ، لِأَنَّهُ لَا يُخْرِجُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، فَإِنْ زَعَمَ الْخَصْمُ أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ، وَأَنَّهُ مَعَ الْمُسْتَثْنَى جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فَذَلِكَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ الْجِنْسِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.