الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يُخَصَّصُ تَخْصِيصًا مَا، وَلَيْسَ كَالْمُتَّصِلِ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ يُخَصِّصُ مِنْ الْجِنْسِ أَوْ الْجُمْلَةِ، وَالْمُنْقَطِعَ يُخَصِّصُ أَجْنَبِيًّا مِنْ ذَلِكَ.
قُلْت: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَّصِلَ يُخَصِّصُ الْمَنْطُوقَ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، وَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ فَيُخَصِّصُ الْمَفْهُومَ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، فَإِذَا قِيلَ: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا حِمَارًا، فَقِيلَ وُرُودُ الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ يُفْهَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُمْ، فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَفْهُومِ الْمُقَدَّرِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنَّمَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مُخَصَّصًا إذَا جَعَلْنَا لِلْمَفْهُومِ عُمُومًا.
[مَسْأَلَةٌ شُرُوطُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ]
مَسْأَلَةٌ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شُرُوطٌ
أَحَدُهَا الِاتِّصَالُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَفْظًا، بِأَنْ يُعَدَّ الْكَلَامُ وَاحِدًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، نَحْوُ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَكُونَ انْفِصَالُهُ وَتَأَخُّرُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ اسْتَوْفَى غَرَضَهُ مِنْ الْكَلَامِ كَالسُّكُوتِ، لِانْقِطَاعِ نَفْسٍ أَوْ بَلْعِ رِيقٍ، فَإِنْ انْفَصَلَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَغَا. وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَوَّزَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ عَلَى نَحْوِ مَا جَوَّزَهُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّخْصِيصِ عَنْ الْعُمُومِ وَالْبَيَانِ عَنْ الْمُجْمَلِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ عَنْهُ، فَقِيلَ إلَى شَهْرٍ: وَقِيلَ إلَى سَنَةٍ، وَقِيلَ: أَبَدًا.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ، وَقَالَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ، بِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ ارْتِفَاعِ الثِّقَةِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، لِإِمْكَانِ تَرَاخِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَصِحَّ يَمِينٌ قَطُّ. وَمِنْهُمْ مِنْ أَوَّلَهُ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بِمَا إذَا نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ، ثُمَّ أَظْهَرَ نِيَّتَهُ بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يُدَيَّنُ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَا يُدَيَّنُ فِيهِ الْعَبْدُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا.
وَقِيلَ: يَجُوزُ بِشَرْطٍ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا زَيْدًا: أُرِيدَ الِاسْتِثْنَاءُ، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ اسْتِثْنَاءَاتِ الْقُرْآنِ، فَيَجُوزُ فِي كَلَامِ اللَّهِ خَاصَّةً.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ التَّأْخِيرَ فِيهِ غَيْرُ قَادِحٍ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ خَيَالٌ تَخَيَّلُوهُ مِنْ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الصَّائِرِينَ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْأَزَلِيَّ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا التَّرْكِيبُ فِي جِهَاتِ الْوُصُولِ لِلْمُخَاطَبِينَ، لَا فِي كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: هُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ، فَلَا يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَكَذَلِكَ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ لَا تُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا هُوَ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً، كَمَنْ حَلَفَ، وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْإِخْرَاجِ بِإِلَّا وَأَخَوَاتِهَا. قَالَ: وَنَقَلَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] قَالُوا: الْمَعْنَى إذَا نَسِيتَ قَوْلَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُلْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَمْ يُخَصِّصْ.
قُلْت: وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى يَمِينٍ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ إلَى سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] قَالَ: إذَا ذَكَرَ اسْتَثْنَى، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ: لَوْ صَحَّ هَذَا عِنْدَهُ، لَاحْتَمَلَ رُجُوعَهُ إذْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَسْنَدَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ ذُكِرَتْ طُرُقُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي " الْمُعْتَبَرِ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمِنْهَاجِ وَالْمُخْتَصَرِ.
وَحَكَى ابْنُ النَّجَّارِ فِي " تَارِيخِ بَغْدَادَ " أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ أَرَادَ الْخُرُوجَ مَرَّةً مِنْ بَغْدَادَ فَاجْتَازَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، وَإِذَا بِرَجُلٍ عَلَى رَأْسِ سَلَّةٍ فِيهَا بَقْلٌ، وَهُوَ يُحْمَلُ عَلَى ثِيَابِهِ، وَهُوَ يَقُولُ لِآخَرَ مَعَهُ: مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ، إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ تَعَالَى لِأَيُّوبَ عليه الصلاة والسلام:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] بَلْ كَانَ يَقُولُ لَهُ: اسْتَثْنِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّحَيُّلِ فِي الْبِرِّ.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: بَلْدَةٌ فِيهَا رَجُلٌ يَحْمِلُ الْبَقْلَ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا.
وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] فَلَوْ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِاتِّصَالِ لَمْ يَكُنْ لِشَرْعِ الْكَفَّارَةِ وَإِيجَابِهَا مَعْنًى، لِأَنَّهُ كَانَ يُسْتَثْنَى.
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ اسْتَدْعَى أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ يَلْحَقُ بِالْخِطَابِ وَيُغَيِّرُ حُكْمَهُ، وَلَوْ بَعْدَ زَمَانٍ. فَقَالَ: عَزَمَتْ عَلَيْك أَنْ تُفْتِيَ بِهِ، وَلَا تُخَالِفَهُ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ لَطِيفًا فِيمَا يُورِدُهُ، مُتَأَنِّيًا فِيمَا يُرِيدُهُ، فَقَالَ لَهُ: رَأْيُ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْسِدُ عَلَيْك بَيْعَتَك؛ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَك، وَبَايَعَك رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ، وَاسْتَثْنَى. فَانْتَبَهَ الرَّشِيدُ، وَقَالَ: إيَّاكَ أَنْ تُعَرِّفَ النَّاسَ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَاكْتُمْهُ.
وَقَالَ ابْنُ ظَفَرَ فِي " الْيَنْبُوعِ ": إذَا حَقَّقْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ضَعُفَ أَمْرُ الْخِلَافِ فِيهَا. وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو الْحَالِفُ التَّارِكُ لِلِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْجَزْمَ، وَتَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ، فَمَا أَظُنُّ الْخِلَافَ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا. أَوْ يَكُونُ نَوَى أَنْ يَسْتَثْنِيَ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِالِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ فَتَلَفَّظَ بِهِ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُعَدَّ اسْتِثْنَاؤُهُ لَغْوًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاهِلًا عَنْ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فَهَذِهِ الصُّورَةُ صَالِحَةٌ لِلِاخْتِلَافِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهَا قَوْلُ مَنْ صَحَّحَ الِاسْتِثْنَاءَ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَشْهَدُ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْلِفْ، وَلَا تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ ذِكْرَ يَمِينٍ. انْتَهَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَلْ هُوَ حَالٌ لِلْيَمِينِ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، أَوْ مَانِعٌ مِنْ الِانْعِقَادِ لَا حَالٌ؟ فَمَنْ قَالَ: مَانِعٌ شَرَطَ الِاتِّصَالَ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَالٌ، فَقِيلَ: بِالْقُرْبِ، وَقِيلَ: مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَأْقِيتٍ بِالْقُرْبِ. وَفِي الْبَابِ قَوْلُهُ عليه السلام: «إلَّا الْإِذْخِرَ» . وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ لَمَّا قَالَ: لَأَطُوفَنَّ الْحَدِيثَ، «وَقَوْلُهُ عليه السلام فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: إلَّا سَهْلَ بْنَ بَيْضَاءَ» .
الشَّرْطُ الثَّانِي عَدَمُ الِاسْتِغْرَاقِ، وَإِلَّا لَتَنَاقَضَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرِقُ بَاطِلٌ، وَيَبْقَى أَصْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَالِهِ، حَكَوْا فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ وَالنَّقْلِ نِزَاعٌ فِي الْمَذَاهِبِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ رَأَيْت فِي كِتَابِ
الْمَدْخَلِ " لِابْنِ طَلْحَةَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ حِكَايَةَ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا، وَقَدْ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ أَيْضًا عَنْهُ، وَنَقَلَ اللَّخْمِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ، لِأَنَّ النَّدَمَ مُنْتَفٍ بِإِمْكَانِ الرَّجْعَةِ، بِخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا، لِظُهُورِ النَّدَمِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَيَّدُوا الْبُطْلَانَ بِمَا إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، نَحْوُ: نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي. أَوْ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا فِي الْوَاقِعِ نَحْوُ: نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا هَؤُلَاءِ، وَأَشَارَ إلَيْهِنَّ، وَأَوْصَيْت لَهُ بِثُلُثِ مَالِي، إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ. كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْهِدَايَةِ " فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ الزِّيَادَاتِ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ اللَّفْظِ لَا عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرَ طَلَقَاتٍ إلَّا ثَمَانِيَ طَلْقَاتٍ، تَقَعُ طَلْقَتَانِ، وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَشَرَةُ لَا صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ، وَمَعَ هَذَا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَيُلْغَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ تَتْبَعُ صِحَّةَ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى وَقَعَ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ
مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَدَمِ مِلْكِهِ، لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ اللَّفْظِ، وَمُتَصَوَّرٌ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ النِّسْوَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ اللَّفْظُ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ
وَأَمَّا عِنْدَنَا أَيْ الشَّافِعِيَّةِ فَهَذَا مَا لَمْ يُعَقِّبْهُ بِاسْتِثْنَاءٍ آخَرَ، فَلَوْ عَقَّبَهُ بِاسْتِثْنَاءٍ آخَرَ، نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا عَشَرَةً، إلَّا ثَلَاثَةً، فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ لَمْ يَصِحَّ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ، وَسَقَطَ مِنْ الْبَيْنِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَالْمَنْعُ مِنْهُ أَوْلَى. وَعَنْ الْفَرَّاءِ جَوَازُهُ فِي الْمُنْقَطِعِ، نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا أَلْفَيْنِ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَفْهُومِ
وَفِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ لَفْظًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا، أَمَّا حَالًا وَحُكْمًا فَيَصِحُّ كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا فُلَانَةَ وَفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ، وَلَيْسَ لَهُ امْرَأَةٌ سِوَاهُنَّ، فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إلَّا ثَلَاثَةً صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ ثُمَّ إمَّا أَنْ يُسْتَثْنَى الْأَقَلُّ أَوْ الْأَكْثَرُ أَوْ الْمُسَاوِي:
أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ فَجَائِزٌ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " إنْ كَانَ لَيْسَ بِوَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا حَبَّةً، أَوْ إلَّا سُدُسًا. وَإِنْ كَانَ جُزْءًا صَحِيحًا كَالْوَاحِدِ، وَالثُّلُثِ فَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَهْجَنَهُ، وَقَالَ: الْأَحْسَنُ فِي الْخِطَابِ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عِنْدِي تِسْعَةٌ، وَلَا يَقُولُ عَشَرَةٌ، إلَّا وَاحِدًا.
وَقَالَ فِي " شَرْحِ التَّلْقِينِ " عَنْ قَوْمٍ: إنَّهُمْ شَذُّوا، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ إلَّا
لِضَرُورَةٍ إلَيْهِ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُسُورِ، كَقَوْلِهِ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا رُبْعَ دِرْهَمٍ، أَوْ إلَّا نِصْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالُوا: قَوْلُك: مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً، يَعْنِي لَهُ عِنْدِي تِسْعُونَ، فَنُقِضَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] وَفِي هَذَا اسْتِثْنَاءُ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ كَسْرًا فِي الْعَدَدِ، فَأَجَابُوا بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْكَسْرِ، لِأَنَّ التَّجْزِئَةَ الْمُقْتَرَحَةَ مِنْ النِّصْفِ إلَى الْعُشْرِ، وَهَذَا كَالْكَسْرِ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ مِنْ الْأَلْفِ كَنِصْفِ الْعُشْرِ، فَصَارَ فِي مَعْنَى اسْتِثْنَاءِ الْكَسْرِ وَهَذَا مَرْدُودٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَتَكَلُّفٌ فِيهِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلنُّحَاةِ:
أَحَدُهُمَا: يَمْتَنِعُ، وَعَلَيْهِ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ: وَلَمْ تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا نَقَصَ يَسِيرًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَوْ اسْتَثْنَى أَكْثَرَ لَزَالَ الِاسْمُ.
وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: لَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةٌ إلَّا سَبْعَةً وَتِسْعِينَ، مَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ عَبَثًا مِنْ الْقَوْلِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَاب " الْمَسَائِلِ ": لَا يَجْرِي فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ تَأْسِيسَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى تَدَارُكِ قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ أَغْفَلْتَهُ أَوْ نَسِيتَهُ لِقِلَّتِهِ، ثُمَّ تَدَارَكْته بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَنْقُصُ نُقْصَانًا يَسِيرًا، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الشَّيْءِ، وَأَمَّا مَعَ الْكَثْرَةِ فَيَزُولُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ النُّحَاةِ، وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْهُمْ، وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ، نَحْوُ: لَهُ عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً. فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ. وَهُوَ قَوْلُ السِّيرَافِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ مِنْ النُّحَاةِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]
وَالْمُتَّبِعُونَ لَهُ هُمْ الْأَكْثَرُ، بِدَلِيلِ:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] .
وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْعِبَادَ الْمُضَافِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُمْ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ، لَكِنَّهُ يَدْخُلُ الْغَاوُونَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ، وَقَوْلُهُ:{إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] أَقَلُّ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. لِأَنَّ قَوْلَهُ يَتَنَاوَلُ الْمَلَكَ، وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ، وَكُلُّ الْغَاوِينَ أَقَلُّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ:«الْمَلَائِكَةُ يَطُوفُونَ بِالْمَحْشَرِ سَبْعَةَ أَدْوَارٍ» وَذَلِكَ أَعْظَمُ مَنْ فِي الْمَحْشَرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: الْقَاطِعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْغَاوِينَ مِنْ الْمُخْلَصِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ مِنْ الْغَاوِينَ فِي قَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إبْلِيسَ:{لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] ، فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَاوِينَ وَالْمُخْلَصِينَ أَقَلَّ مِنْ الْآخَرِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:" مِنْهُمْ " عَائِدٌ لِبَنِي آدَمَ، وَالْمُخْلَصُ مِنْهُمْ قَلِيلٌ، وَانْفَصَلَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ:" الْمُخْلَصُونَ " هُنَا هُمْ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَلَائِكَةُ وَسُكَّانُ السَّمَوَاتِ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ الْغَاوِينَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ.
وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ وَجْهًا آخَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ السَّامِعُ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ جَازَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقْبُحُ إذَا اسْتَثْنَى مَا يَعْلَمُ السَّامِعَ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَبْقَاهُ. وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْعَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَارَهُ الْأَشْعَرِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ فِي " شَرْحِ التَّلْقِينِ " عَنْ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ، قَالَ: وَذُكِرَ أَنَّهُ نَاظَرَ فِي ذَلِكَ أَبَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذَكَرَ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَيْنِ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ "، وَهُوَ غَرِيبٌ.
وَمِنْ شُبَهِ الْمُجَوِّزِينَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُخَصَّصِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَا خُصِّصَ أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ فِي الْعُمُومِ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إذَا قُلْنَا إنَّ اللُّغَةَ تَثْبُتُ قِيَاسًا، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ لَمْ يَتِمَّ، وَكَثِيرًا مَا يَتَّحِدُ الْمَعْنَى، وَتَخْتَلِفُ أَحْكَامُ إعْرَابِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ يَحْسُنُ إخْرَاجُ أَكْثَرِ الْعُمُومِ بِغَيْرِ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَصِحُّ بِهِ، ثُمَّ الْمَانِعُونَ لِلْأَكْثَرِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ الَّذِي يُسْتَثْنَى، فَقَالَ ابْنُ مُغِيثٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَأَمَّا الْمُسَاوِي، فَمَنْ جَوَّزَ الْأَكْثَرَ فَهُوَ هُنَا أَجْوَزُ، وَمَنْ مَنَعَهُ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَطَرَدَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ فَأَلْحَقَهُ بِأَكْثَرَ فِي الْمَنْعِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ، وَاحْتَجَّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2]{نِصْفَهُ} [المزمل: 3] فَالضَّمِيرُ فِي (نِصْفَهُ) عَائِدٌ عَلَى اللَّيْلِ قَطْعًا، (وَنِصْفَهُ) بَدَلٌ، فَإِمَّا مِنْ اللَّيْلِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَيَكُونُ إلَّا قَلِيلًا نِصْفًا، وَإِمَّا مِنْ قَلِيلٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِاللَّيْلِ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا تَمَسَّكَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْأَكْثَرِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ:(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ نِصْفَهُ مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: قُمْ نِصْفَهُ، لَا بَدَلَ،
لِأَنَّ النِّصْفَ لَا يُقَالُ فِيهِ: قَلِيلٌ: وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ أَوَّلًا بِقِيَامِ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا، فَيَكُونُ أَمْرًا بِقِيَامِ الْأَكْثَرِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: نِصْفَهُ مُخَالِفٌ لَهُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ، وَشَرْطُ النَّاسِخِ أَنْ يَكُونَ مُتَرَاخِيًا. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: بَلْ ضَمِيرُ (نِصْفُهُ) يَعُودُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ، بَدَلُ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ، وَجَازَ وَإِنْ كَانَ الْقَلِيلُ مُبْهَمًا، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالْعَادَةِ، أَيْ مَا يُسَمَّى قَلِيلًا فِي الْعَادَةِ
وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ مَنْعَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ. قَالَ: وَلَهُ فِي الْمُسَاوِي وَجْهَانِ، وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ وَالْبَاجِيُّ عَنْ الْقَاضِي قَوْلَيْنِ فِي أَكْثَرَ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْمَازِرِيُّ، وَالْآمِدِيَّ عَنْ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْأَكْثَرُ وَالْمُسَاوِي. وَشَرَطُوا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ النِّصْفِ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ فِي " شَرْحِ الْجُزُولِيَّةِ " عَنْ الْبَصْرِيِّينَ.
وَاَلَّذِي فِي " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي: يَمْتَنِعُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ فِي الْأَشْبَهِ عِنْدَنَا، وَإِنْ كُنَّا قَدْ نَصَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ جَوَازَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَازِرِيُّ: آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي الْمَنْعُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْقَاضِي لِلْمُسَاوِي: وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: كَانَ الْقَاضِي أَوَّلًا يُجَوِّزُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ آخِرًا فِي " التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ " وَقَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ صَحَّ، وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْعُقُودِ، قَالُوا: وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ إذَا كَانَتْ الْكَثْرَةُ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ لَا مِنْ اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ
عَلَيْهِمْ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ، وَفَرَّقُوا بِوُرُودِ اللُّغَةِ فِي هَذَا دُونَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ حَمْلَ الْجِنْسِ عَلَى الْعُمُومِ إنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ لَا مِنْ جِهَةِ الْقَطْعِ عَلَى جَمِيعِ الْجِنْسِ، بِخِلَافِ الْأَعْدَادِ فَإِنَّ جَمِيعَهَا مَنْطُوقٌ بِهَا فَصَارَ صَرِيحًا.
قَدْ صَرَّحُوا بِحِكَايَةِ هَذَا مَذْهَبًا آخَرَ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ صَرِيحًا، فَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ نَحْوُ: عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ نَحْوُ: خُذْ الدَّرَاهِمَ إلَّا مَا فِي الْكِيسِ الْفُلَانِيِّ، وَكَانَ مَا فِي الْكِيسِ أَكْثَرَ مِنْ الْبَاقِي.
وَحَكَى ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي كِتَابِ " النُّكَتِ " لَهُ قَوْلًا رَابِعًا عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُمْلَةً فَيَمْتَنِعُ، نَحْوُ جَاءَ إخْوَتُك الْعَشَرَةُ إلَّا تِسْعَةً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُفَصَّلًا وَمُعَدَّدًا فَيَجُوزُ، نَحْوُ: إلَّا زَيْدًا وَبَكْرًا وَخَالِدًا إلَى أَنْ يَأْتِيَ إلَى التِّسْعَةِ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ السَّابِقِ خَامِسٌ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ السَّامِعُ الْأَكْثَرَ مِنْ الْأَقَلِّ فَيَمْتَنِعُ، وَإِلَّا جَازَ.
وَيَخْرُجُ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ هُوَ جَوَازُهُ فِي الْمُنْقَطِعِ دُونَ الْمُتَّصِلِ، فَحَصَلَ سِتَّةُ مَذَاهِبَ، ثُمَّ يُضَافُ إلَيْهَا الْقَوْلُ الْآتِي: أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَكِنْ لَمْ تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْقَلِيلُ الَّذِي يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ. وَهَاهُنَا فَوَائِدُ:
إحْدَاهَا: أَشَارَ الْمَازِرِيُّ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ اعْتَذَرَ عَنْ الْمَانِعِ فِي الْأَكْثَرِ بِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ، فَرَأَى أَنَّهَا لَمْ تَسْتَعْمِلْ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ، وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ الْخُصُومُ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ لُغَةِ الْعَرَبِ، لَكِنَّ الْعَرَبَ وَإِنْ
لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ. وَبِذَلِكَ صَرَّحَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: فَقَالَ: يَصِحُّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ فِي اللُّغَةِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ مِنْ أَئِمَّةِ النُّحَاةِ: أَجَازَ قَوْمٌ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرِ الْجُمْلَةِ، وَمَنَعَ آخَرُونَ فَلَمْ يُجِيزُوا أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا مَا كَانَ دُونَ النِّصْفِ مِنْهَا، وَلِهَذَا الْقَوْلِ يَشْهَدُ قِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِهِ جَاءَ السَّمَاعُ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ فِي الْمَعْقُولِ، وَلَكِنَّ الْآخَرَ يَمْنَعُهُ، وَمَنْ ادَّعَى فِيهِ سَمَاعًا أَوْ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَادَّعَى مَا لَا أَصْلَ لَهُ.
الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ ": الصَّحِيحُ فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: يُسْتَثْنَى الْقَلِيلُ مِنْ الْكَثِيرِ، وَيُسْتَثْنَى الْكَثِيرُ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ يُسْتَثْنَى الْكَثِيرُ مِنْ الْقَلِيلِ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَيُقَالُ: عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً حَتَّى يَبْلُغَ تِسْعَةً.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْعَدَدِ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِلنُّحَاةِ فِيهِ مَذَاهِبُ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْجَوَازُ، وَعَلَيْهِ بَنَى الْفُقَهَاءُ مَذَاهِبَهُمْ فِي الْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: الْمَنْعُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهَا نُصُوصٌ، فَالْإِخْرَاجُ مِنْهَا يُخْرِجُهَا عَنْ النَّصِّيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا قُلْت: ثَلَاثَةٌ بِهِ إلَّا وَاحِدًا كُنْت قَدْ أَوْقَعَتْ الثَّلَاثَةَ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ قَوْلِك: جَاءَ الْقَوْمُ إلَّا عَشَرَةً. وَأَجَابَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ} [العنكبوت: 14] بِأَنَّ الْأَلْفَ لَمَّا كَانَ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّكْثِيرِ. كَقَوْلِك: اُقْعُدْ أَلْفَ سَنَةٍ، تُرِيدُ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا، دَخَلَ الِاحْتِمَالُ فَجَازَ أَنْ يُبَيِّنَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ لِلتَّكْثِيرِ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُمْنَعُ اسْتِثْنَاءُ الْعَقْدِ نَحْوُ: قُصِدَ عِشْرُونَ إلَّا عَشَرَةً، وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ مَا دُونَهُ نَحْوُ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَقْتَرِنَ قَصْدُهُ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ، فَلَوْ بَدَا لَهُ عَقِبَ الْفَرَاغِ؛ فَالْأَصَحُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ - وَادَّعَى أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ - الْمَنْعُ لِإِنْشَائِهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ. وَإِنْ بَدَا لَهُ فِي الْأَثْنَاءِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا - وَهُوَ نَصُّ الْبُوَيْطِيِّ - صِحَّتُهُ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ يَلِيَ الْكَلَامَ بِلَا عَاطِفٍ، فَلَوْ وَلِيَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كَانَ لَغْوًا بِاتِّفَاقٍ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَمَثَّلَهُ: بِنَحْوِ: لَهُ عِنْدِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَإِلَّا دِرْهَمًا أَوْ فَإِلَّا دِرْهَمًا.
وَشَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " أَنْ يَكُونَ مُسْتَرْسِلًا، فَإِنْ كَانَ فِي مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ، كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ لِفُلَانٍ إلَّا هَذَا، فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى مُعَيَّنٍ اقْتَضَى الْإِقْرَارُ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فِيهَا. فَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْبَعْضِ كَانَ رَاجِحًا، لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَ الْأَصْحَابِ الصِّحَّةُ
وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ كَوْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ لِيَصِحَّ خُرُوجُ بَعْضِهِ، فَإِنْ عَادَ إلَى غَيْرِ جِنْسِهِ صَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ.
وَشَرَطَ أَيْضًا أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ ضِدَّ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ إثْبَاتًا جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ نَفْيًا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ إثْبَاتًا، وَسَيَأْتِي.