الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[التَّخْصِيصُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ]
التَّخْصِيصُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَّصِلَةِ
وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ إلَى ذِكْرِ لَفْظِ الْعَامِّ مَعَهُ. وَقَدْ ذَكَرُوهَا ثَلَاثَةً: الْحِسُّ، وَالْعَقْلُ، وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْحَصْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَقَدْ بَقِيَ التَّخْصِيصُ بِالْعَوَائِدِ، كَقَوْلِك: رَأَيْت النَّاسَ أَفْضَلَ مِنْ زَيْدٍ، الْعَادَةُ تَقْتَضِي بِأَنَّك لَمْ تَرَ كُلَّ النَّاسِ. وَكَذَا التَّخْصِيصُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِك لِغُلَامِك: ائْتِنِي بِمَنْ يُحَدِّثُنِي، فَإِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَصْلُحَ لِحَدِيثِهِ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَالتَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ دُخُولَهُ فِي السَّمْعِيِّ
قُلْت: وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ. فِي بَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْقَرَائِنَ قَدْ تَقْوَى فَيَتْرُكُ لَهَا إطْلَاقَ اللَّفْظِ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ فِي الصَّيْفِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَا يَشْتَرِيهِ فِي الشِّتَاءِ.
قَالَ: وَقَدْ يَتَعَادَلُ اللَّفْظُ وَالْقَرِينَةُ وَيَنْشَأُ مِنْ تَعَادُلِهِمَا خِلَافٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ نُقِلَ بَعْدَ أَوْرَاقٍ عَنْ الْإِمَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ هَلْ يُوَكِّلُ؟ أَنَّ الْخِلَافَ نَاظِرٌ إلَى اللَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ، وَفِي الْقَرِينَةِ تَرَدُّدٌ فِي التَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْقَرَائِنَ " قَدْ " يَثْبُتُ فِيهَا الْعُمُومُ.
[التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ]
الْأَوَّلُ (التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ) الْعَقْلِ
يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ضَرُورِيًّا كَانَ أَوْ نَظَرِيًّا، فَالْأَوَّلُ:
كَتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: كَتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران: 97] الْآيَةَ فَإِنَّا نُخَصِّصُ الطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ لِعَدَمِ فَهْمِهِمَا الْخِطَابَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصِّيغَةَ الْعَامَّةَ إذَا وَرَدَتْ وَاقْتَضَى الْعَقْلُ امْتِنَاعَ تَعْمِيمِهَا، فَيُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُصُوصُ مَا لَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ صِلَةٌ لِلصِّيغَةِ نَازِلَةٌ لَهُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْكَلَامِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ، أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ مُطْلَقَ الصِّيغَةِ لَمْ يُرَدْ تَعْمِيمُهَا.
وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُهُمْ التَّخْصِيصَ بِالْعَقْلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ: مَا نَزَلَ مِنْ كِتَابٍ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] وَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] فَهَذَا عَامٌّ لَا خُصُوصَ فِيهِ، فَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَذِي رُوحٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاَللَّهُ خَالِقُهُ، وَكُلُّ دَابَّةٍ فَعَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا. انْتَهَى.
وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مِنْ الْعُمُومِ لِمَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِيهِ، لَوْلَا دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، فَأَمَّا الَّذِي يَسْتَحِيلُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ الْخِطَابِ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ عَنْهُ تَخْصِيصًا
وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ ": إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] : إنَّهُ عَامٌّ لَا خُصُوصَ فِيهِ. وَاعْتَرَضَ ابْنُ دَاوُد عَلَيْهِ بِتَخْصِيصِ كَلَامِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَأَجَابَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ مَعْنَاهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ بِالدَّلِيلِ مَا كَانَ يَجُوزُ دُخُولٌ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ؛ فَأَمَّا الَّذِي يَسْتَحِيلُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ خُرُوجَهُ عَنْ الْخِطَابِ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا. انْتَهَى.
وَفَصَّلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ " بَيْنَ مَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَيَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِعَدَمِ الشَّرْعِ، فَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ وَصَارَ الْحُكْمُ لِلشَّرْعِ، فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَاَلَّذِي دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى نَفْيِهِ، فَيَجُوزُ نَحْوُ:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فَإِنَّ الْمُرَادَ مَا خَلَا الصِّفَاتِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدًا لِكَلَامِ مَنْ أَطْلَقَ، لَا مَذْهَبًا آخَرَ.
ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ: النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ، إذْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ ثَابِتٌ دُونَ اللَّفْظِ إجْمَاعًا؛ لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا، فَالْخَصْمُ لَا يُسَمِّيهِ، لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي التَّخْصِيصِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ لَا الْعَقْلُ، وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ سَابِقٌ، فَلَا
يَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ؛ بَلْ يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهُ مُخَصِّصٌ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَلِذَلِكَ الْعَقْلُ هَذَا الْحَظُّ، وَالدَّلِيلُ لَا يُخَصُّ؛ وَلَكِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ الْقَصْدُ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ دَلِيلِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ فِي ذَلِكَ.
وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ حُكْمِ الْعُمُومِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَعْنَوِيٌّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: وَجْهُهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ، أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُوضَعُ لِغَيْرِ الْمَعْقُولِ، فَيَكُونُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ حُجَّةٌ، وَحَقِيقَةٌ عِنْدَهُ قَطْعًا. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُخَصِّصٌ كَانَ مَجَازًا عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَامِّ إذَا خُصَّ، فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ عَلَى هَذَا، وَلَا يَجْرِي عَلَى الْأَوَّلِ.
وَقِيلَ: بَلْ الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ. قَالَ: الْمَنْعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَحْسُنُ وَلَا يَقْبُحُ، وَأَنَّ الشَّرْعَ يَرِدُ بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ. وَأَنْكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ.
وَقَالَ النَّقْشَوَانِيُّ: الْكَلَامُ لَيْسَ فِي مُطْلَقِ الْعُمُومِ؛ بَلْ فِي الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. فَإِنَّ الْفَقِيهَ لَا يَنْظُرُ فِي غَيْرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَكَذَا الْأُصُولِيُّ. وَحِينَئِذٍ فَالْعَقْلُ لَا مَجَالَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ إلَّا بِالنَّظَرِ فِي دَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ؛ فَإِذَا فَرَضْنَا نَصًّا يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْقَتْلِ، فَالْعَقْلُ إنَّمَا يُخَصِّصُهُ لَوْ أَدْرَكَ الْمَصْلَحَةَ، وَكَيْفَ يُدْرِكُهَا؟ فَلَا يُخَصِّصُهَا. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ عَنْ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفُوا هَلْ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ مَا يَمْنَعُ الْعَقْلَ إجْرَاءَ الْحُكْمِ فِيهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ، فَيُخْرِجُهُ بِهِ دَلِيلُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ كَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ أَوْجَبَ إخْرَاجَهُ عَنْهُ.
قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ هُنَا: أَنَّ اللَّفْظَ إذَا وَرَدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام -
فِي إسْقَاطٍ أَوْ إيجَابٍ أَوْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ، فَهَلْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ هَذَا كَلَامُهُ، وَهُوَ أَثْبَتُ مَعْقُولٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: مِنْ أَمْثِلَتِهِمْ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّيْءَ مَصْدَرُ شَاءَ يَشَاءُ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الذَّوَاتِ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أَيْ مَخْلُوقُ اللَّهِ، وَنَحْوُ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ مَضْرُوبُ الْأَمِيرِ. فَقَوْلُنَا: هَذَا شَيْءٌ فِي الذَّوَاتِ، أَيْ مُشَاءٌ، فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ، إمَّا بِالْفِعْلِ كَالْمَوْجُودَاتِ أَوْ بِالْقُوَّةِ كَالْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ. فَقَوْلُهُ:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 20 - 75] وَمَا شَاكَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ إلَهًا ثَابِتًا وَنَحْوَهُ مِنْ الْمُحَالَاتِ، فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ لَا بِالْفِعْلِ، وَلَا بِالْقُوَّةِ، فَلَا يُسَمَّى شَيْئًا، فَلَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] فَلَا يُقَالُ: إنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُحَالُ لِذَاتِهِ.
وَالشَّيْءُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَخُصُّ الْمَوْجُودَ لَا الْمَعْدُومَ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْمَعْدُومِ الَّذِي يَصِحُّ وُجُودُهُ شَيْءٌ وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ
وَغَلِطَ الزَّمَخْشَرِيّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَأَدْخَلَ الْمُسْتَحِيلَ فِي اسْمِ الشَّيْءِ، وَإِنَّمَا هَذَا مَذْهَبُ النُّحَاةِ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ وَقَعَ لَهُ أَنَّ الشَّيْءَ عَامٌّ مُتَنَاوِلٌ. قَالَ: هُوَ كَمَا تَقُولُ: مَعْلُومٌ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمَعْلُومَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْتَحِيلُ، عَلَى أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ يَقُولُ: الْعِلْمُ بِالْمُسْتَحِيلِ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ لَهُ
وَمِمَّا يُحَقِّقُ أَنَّ الشَّيْءَ مُخْتَصٌّ بِالْمَوْجُودَاتِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ شَاءَ يَشَاءُ إذَا قُصِدَ، فَكَأَنَّ الشَّيْءَ هُوَ الْمَقْصُودُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ الْمَوْجُودُ، لَا الْمَعْدُومُ وَالْمُسْتَحِيلُ. وَأَيْضًا فَإِطْلَاقُ الشَّيْءِ عَلَى الذَّاتِ الْكَرِيمَةِ فِيهِ خِلَافٌ، وَلَئِنْ سُلِّمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشْكَلِ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، لَا يُشَاكِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقِيلَ: بَلْ يُسَمَّى شَيْئًا بِمَعْنَى الشَّائِي، وَالْمَخْلُوقَاتُ تُسَمَّى شَيْئًا بِمَعْنَى الْمُشَاءِ، فَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ. فَيَكُونُ مُشْتَرِكًا.
الثَّانِي: مِنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنْ لَا يُخَصَّصَ إلَّا بِالْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ، وَمِنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ أَنْ لَا يُخَصَّصَ إلَّا بِالْقَضَايَا السَّمْعِيَّةِ. وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إخْرَاجُ أَمْرٍ خَاصٍّ مِنْ خِطَابٍ عَامٍّ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَقَدِّمًا، بِخِلَافِ السَّمْعِيِّ. ذَكَرَهُ الْعَبْدَرِيّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ".