الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ]
مَسْأَلَةٌ.
الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَجَعَلُوا بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ وَالْحُكْمِ بِالنَّفْيِ وَاسِطَةً، وَهِيَ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَنُقِلَ فِي " الْمَعَالِمِ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْخِلَافُ فِي الثَّانِي. وَاخْتَارَ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ " الْمَعَالِمُ "، وَفِي " تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ " فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي " الْمَحْصُولِ ".
وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى مِنْ الْوِفَاقِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ عِنْدَهُمْ مَوْجُودٌ كَمَا ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْمَأْخَذَ الَّذِي ذَكَرُوهُ مَوْجُودٌ فِيهِمَا، وَهُوَ أَنَّ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالنَّفْيِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ وَاسِطَةً، وَهُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَتَرْكُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذْ الْوَاسِطَةُ حَاصِلَةٌ.
نَعَمْ، يَلْزَمُ النَّفْيُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْإِثْبَاتِ عِنْدَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اقْتَضَى ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ أَنَّ الدِّرْهَمَ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِاللُّزُومِ، لَا أَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِعَدَمِ اللُّزُومِ، وَحِينَئِذٍ فَعَدَمُ اللُّزُومِ لَازِمٌ لَهُ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ.
وَلَعَلَّ الْإِمَامَ لِهَذَا السَّبَبِ خَصَّصَ الْخِلَافَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إذْ لَا يَظْهَرُ لِلْخِلَافِ فِي الْإِثْبَاتِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّ النَّفْيَ ثَابِتٌ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنَّ الْمَأْخَذَ مُخْتَلِفٌ، فَعِنْدَنَا بِسَبَبِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَعِنْدَهُ بِسَبَبِ الْبَقَاءِ عَلَى الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ. فَمِنْ هُنَا ظَنَّ عَدَمَ خِلَافِهِ فِيهَا، وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ،
وَذَلِكَ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ، يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْحُكْمِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِخِلَافِ السُّكُوتِ عَنْ النَّفْيِ إذْ لَا مُقْتَضَى مَعَهُ لِلْإِثْبَاتِ، فَهُوَ يَحْمِلُ كَلَامَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ النَّفْسِيِّ، وَكَلِمَةَ التَّوْحِيدِ عَلَى عُرْفِ الشَّارِعِ.
قُلْت: وَالْحَنَفِيَّةُ مُوَافِقُونَ لِنُحَاةِ الْكُوفَةِ، إذْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ قَوْلَك: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ فِيهِمْ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِقِيَامٍ وَلَا بِنَفْيٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ كُوفِيٌّ، فَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُهُ كَذَلِكَ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْأَدَاةَ أَخْرَجَتْ الِاسْمَ الثَّانِيَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَحُكْمَهُ مِنْ حُكْمِهِ.
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُتَّصِلِ، لَا فِي الْأَعَمِّ مِنْ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ؛ بَلْ حَكَى الْقَرَافِيُّ فِي " الْعِقْدِ الْمَنْظُومِ " عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ أَجْرَوْا ذَلِكَ فِي التَّامِّ وَالْمُفَرَّغِ، نَحْوُ: مَا قَامَ إلَّا زَيْدٌ، قَالُوا: زَيْدٌ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِالْإِثْبَاتِ، وَالْمَعْنَى مَا قَامَ أَحَدٌ إلَّا زَيْدٌ. قَالَ: وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يُعْرِبُوهُ بَدَلًا لَا فَاعِلًا، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا، وَتَقْدِيرُهُ مَا قَامَ أَحَدٌ، فَلَا يَكُونُ زَيْدٌ فَاعِلًا. وَالنُّحَاةُ لَا يُجِيزُونَ حَذْفَ الْفَاعِلِ، نَحْنُ نَقُولُ: زَيْدٌ فَاعِلٌ بِالْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ السَّابِقِ قَبْلَ إلَّا، وَهُوَ الَّذِي نُسِبَ إلَيْهِ عَدَمُ الْقِيَامِ، فَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ»
وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ قَوْله تَعَالَى: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} [النبأ: 30] وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِك ثَنَيْت الشَّيْءَ عَنْ جِهَتِهِ، إذَا صَرَفْته عَنْهَا فَإِذَا قُلْت: لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ، فَهُنَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: هَذَا الْحُكْمُ
وَالثَّانِي: نَفْسُ الْعَدَمِ فَقَوْلُك إلَّا زَيْدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى الْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ؛ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يُزِيلُ الْحُكْمَ بِالْعَدَمِ، فَيَبْقَى الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عَنْهُ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ نَفْيٌ وَلَا إثْبَاتٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ، لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْعَدَمِ يُحَصِّلُ الْوُجُودَ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى، إذْ الْأَلْفَاظُ وُضِعَتْ دَالَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ الذِّهْنِيَّةِ، لَا عَلَى الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى
الثَّانِي: مَا جَاءَ مِنْ وَضْعِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، «وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» وَالْمُرَادُ فِي الْكُلِّ مُجَرَّدُ الِاشْتِرَاطِ. قَالَ: وَالصُّوَرُ الَّتِي دَلَّ فِيهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ، يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنْ اللَّفْظِ، بَلْ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَأَجَابَ عَنْ الدَّلِيلِ السَّابِقِ بِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ الْإِثْبَاتَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّهَا تُفِيدُهُ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الشَّرِيكِ.