الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِيمَا ظُنَّ أَنَّهُ مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ]
ِ [التَّخْصِيصِ بِالْعَادَةِ]
وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: أَطْلَقَ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا كَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ الْعَادَةَ لَا تُخَصِّصُ وَنَقَلَهُ فِي الْقَوَاطِعِ " عَنْ الْأَصْحَابِ، وَحَكَوْا الْخِلَافَ فِيهِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عليه السلام أَوْجَبَ شَيْئًا أَوْ أَخْبَرَ بِهِ بِلَفْظٍ عَامٍّ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْعَادَةَ جَارِيَةً بِتَرْكِ بَعْضِهَا أَوْ بِفِعْلِ بَعْضِهَا، فَهَلْ تُؤَثِّرُ تِلْكَ الْعَادَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ، حَتَّى يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَرْكِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ أَمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَلِغَيْرِهِ؟ انْتَهَى.
وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا صَاحِبُ الْمَحْصُولِ " وَأَتْبَاعُهُ، وَاخْتَارَ فِيهَا التَّفْصِيلَ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ عُلِمَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عليه السلام، مَعَ عَدَمِ مَنْعِهِ عَنْهَا فَيُخَصُّ، وَالْمُخَصِّصُ فِي الْحَقِيقَةِ تَقْرِيرُهُ عليه السلام. وَإِنْ عُلِمَ عَدَمُ جَرَيَانِهَا لَمْ يُخَصَّ إلَّا أَنْ يُجْمَعَ عَلَى فِعْلِهَا، فَيَكُونُ تَخْصِيصًا بِالْإِجْمَاعِ الْفِعْلِيِّ، وَإِنْ جُهِلَ فَاحْتِمَالَاتٌ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، كَأَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ مَثَلًا، ثُمَّ إنَّهُ عليه السلام نَهَاهُمْ عَنْ تَنَاوُلِهِ بِلَفْظٍ مُتَنَاوِلٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ، فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ بِخُصُوصِهِ أَمْ لَا، بَلْ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا تُؤَثِّرُ عَادَاتُهُمْ؟ قَالَ الصَّفِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّهَا لَا تُخَصِّصُ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَالْعَادَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، حَتَّى تَكُونَ مُعَارِضَةً لَهُ. انْتَهَى.
وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ حَاوَلَ الْجَمْعَ بَيْنَ كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْآمِدِيَّ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمَا تَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُمَا حَالَتَانِ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْقِيحِ " وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْعَادَةَ السَّابِقَةَ عَلَى الْعُمُومِ يَجْعَلُهَا مُخَصِّصَةً، وَالطَّارِئَةُ بَعْدَ الْعُمُومِ لَا يُقْضَى بِهَا عَلَى الْعُمُومِ، قَالَ: وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يُحْمَلُ عَلَى الْعَادَةِ الْحَاضِرَةِ فِي النَّقْدِ، لَا عَلَى مَا يَطْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَائِدِ فِي النُّقُودِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْعَوَائِدِ مَا كَانَ مُقَارِنًا لَهَا، وَكَذَا نُصُوصُ الشَّارِعِ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَخْصِيصِهَا إلَّا الْمُقَارِنُ.
وَمِمَّنْ اقْتَصَرَ عَلَى إيرَادِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الْأُصُولِ، وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ: الْعَادَةُ لَا تَخُصُّ الْعَامَّ مِنْ الشَّارِعِ، فَلَوْ عَمَّ فِي النَّاسِ طَعَامٌ وَشَرَابٌ وَكَانُوا لَا يَعْتَادُونَ تَنَاوُلَ غَيْرِهِمَا، فَإِذَا وَرَدَ نَهْيٌ مُطْلَقٌ عَنْ الطَّعَامِ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْمُعْتَادِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْعُرْفُ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ،
وَحُمِلَ الطَّعَامُ عَلَى الْبُرِّ، لِأَنَّهُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْحِجَازِ كَذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. قَالَ: وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَرِدَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام خَبَرٌ فِي بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَادَةُ النَّاسِ تُخَالِفُهُ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ، وَإِطْرَاحُ تِلْكَ الْعَادَةِ. قَالَ: وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ خَصَّصْتُمْ عُمُومُ لَفْظِ الْيَمِينِ بِالْعَادَةِ، فَقُلْتُمْ: إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا، أَوْ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِمَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ مِنْ الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ؟ فَهَلَّا قُلْتُمْ فِي أَلْفَاظِ الشَّارِعِ مِثْلَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: نَحْنُ لَا نَخُصُّ الْيَمِينَ بِعُرْفِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا نَخُصُّهُ بِعُرْفِ الشَّرْعِ، مِثْلُ: لَا يُصَلِّي أَوْ لَا يَصُومُ، فَيَحْنَثُ بِالشَّرْعِيِّ، أَوْ بِعُرْفٍ قَائِمٍ بِالِاسْمِ مِثْلُ: لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ أَوْ الرُّءُوسَ الَّذِي يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ فَيُخَصُّ الْيَمِينُ بِعُرْفٍ قَائِمٍ فِي الِاسْمِ، فَأَمَّا بِعُرْفِ الْعَادَةِ فَلَا يُخَصُّ، فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا بِبَلَدٍ لَا يُؤْكَلُ فِيهِ إلَّا خُبْزُ الْأَرُزِّ، حَنِثَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللِّسَانِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعُمُومِ ذَلِكَ الِاسْمِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يَقَعُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى حَقِيقَةِ لُغَتِهَا، فَلَوْ خَصَّصْنَاهُ بِالْعَادَةِ لَلَزِمَ تَنَاوُلُهُ بَعْضَ مَا وُضِعَ لَهُ؟ وَحَقُّ الْكَلَامِ الْعُمُومُ، وَلَسْنَا نَدْرِي: هَلْ أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَالْحُكْمُ لِلِاسْمِ، حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ. قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ اللَّهِ وَخِطَابِ رَسُولِهِ، فَأَمَّا خِطَابُ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا، فَيُنَزَّلُ عَلَى مَوْضُوعَاتِهِمْ كَنَقْدِ الْبَلَدِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَغَيْرِهِ، إذَا أَرَادُوهُ، وَإِلَّا عُمِلَ بِالْعَامِّ. وَلَا يُحَالُ اللَّفْظُ عَنْ حَقِّهِ إلَّا بِدَلِيلٍ انْتَهَى. وَقَالَ سُلَيْمٌ: لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْعَادَةِ، مِثْلُ أَنْ يَرِدَ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَادَةُ النَّاسِ تُخَالِفُهُ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ،
وَإِطْرَاحُ تِلْكَ الْعَادَةِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَرِدُ لِنَقْلِ النَّاسِ عَنْ عَادَتِهِمْ، فَلَا يُتْرَكُ بِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ مِنْ النِّهَايَةِ ": يَجِبُ فِي خَمْسٍ شَاةٌ، أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ غَنَمِ غَالِبِ الْبَلَدِ وَغَيْرِهِ. لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«فِي خَمْسٍ شَاةٌ» ، وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَلَفْظُ الشَّارِعِ لَا يَتَخَصَّصُ بِالْعُرْفِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. ثُمَّ هُنَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي تُخَصِّصُ إنَّمَا هِيَ السَّابِقَةُ لِوَقْتِ اللَّفْظِ الْمُسْتَقَرِّ، وَقَارَنَتْهُ حَتَّى تُجْعَلَ كَالْمَلْفُوظِ بِهَا، فَإِنَّ الْعَادَةَ الطَّارِئَةَ بَعْدَ الْعَامِّ لَا أَثَرَ لَهَا، وَلَا يُنَزَّلُ اللَّفْظُ السَّابِقُ عَلَيْهَا قَطْعًا؛ وَأَغْرَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَكَى خِلَافًا فِي أَنَّ الْعُرْفَ الطَّارِئَ، هَلْ يُخَصِّصُ الْأَلْفَاظَ الْمُتَقَدِّمَةَ؟ الثَّانِي: أَطْلَقَ كَثِيرُونَ التَّخْصِيصَ بِالْعَادَةِ، وَخَصَّهَا الْمُحَقِّقُونَ بِالْقَوْلِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " الْعَادَةُ الَّتِي تُخَالِفُ الْعُمُومَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَادَةٌ فِي الْفِعْلِ وَالْآخَرُ عَادَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعُمُومِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِأَنْ يَعْتَادَ النَّاسُ شُرْبَ بَعْضِ الدِّمَاءِ، فَيُحَرِّمَ اللَّهُ سبحانه وتعالى الدِّمَاءَ بِكَلَامٍ يَعُمُّهَا، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْعُمُومِ. بَلْ يَجِبُ تَحْرِيمُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مُسْتَغْرِقًا فِي اللُّغَةِ، وَيَتَعَارَفُ النَّاسُ الِاسْتِعْمَالَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَقَطْ. كَاسْمِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ
لِكُلِّ مَا دَبَّ وَقَدْ تُعُورِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْلِ فَقَطْ، فَمَتَى أَمَرَنَا اللَّهُ بِالدَّابَّةِ لِشَيْءٍ حُمِلَ عَلَى الْعُرْفِ، لِأَنَّهُ بِهِ أَحَقُّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَخْصِيصٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ لَا يُعْتَادَ الْفِعْلُ أَوْ لَا يُعْتَادُ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ مِثْلَهُ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: إنْ كَانَتْ الْعَادَةُ فِعْلِيَّةً لَمْ تَخُصَّ الْعُمُومَ، كَغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ، هَلْ يُحْمَلُ عَلَى إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ إلَّا بِهِ، أَوْ يَعُمَّ الْمَاءَ وَالطَّعَامَ وَغَيْرَهُ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَإِنْ كَانَتْ قَوْلِيَّةً، كَأَنْ يَعْتَادَ الْمُخَاطَبُونَ إطْلَاقَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عَلَى الضَّأْنِ دُونَ مَا سِوَاهُ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَصِّصُ بِهَذِهِ الْعَادَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُخَصِّصُ بِهَا.
قَالَ: وَهَذَا فِيهَا إذَا كَانَ التَّعَارُفُ بَيْنَ غَيْرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَأَمَّا تَعَارُفُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى تَسْمِيَةٍ، فَإِنَّهُ يُرْجَعُ إلَيْهِ إذَا وَجَبَ التَّمَسُّكُ بِلُغَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعَارُفِ مَنْ سِوَاهُمْ عَلَى قَصْرِ مُسَمَّيَاتِهِمْ عَلَى بَعْضِ مَا وُضِعَتْ لَهُ، هَلْ يُقَدَّمُ الْعُرْفِيُّ أَوْ اللُّغَوِيُّ؟
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: الْعَادَةُ إنْ كَانَتْ فِعْلِيَّةً لَمْ يُخَصَّ بِهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: حَرَّمْت عَلَيْكُمْ أَكْلَ اللُّحُومِ، وَعَادَتُهُمْ أَكْلُ لُحُومِ الْغَنَمِ، فَيَجْرِي الْعَامُّ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَةً فِي التَّخَاطُبِ خُصَّ بِهَا الْعُمُومُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَا تَرْكَبُوا دَابَّةً، فَيُخَصُّ بِهَا الْخَيْلُ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومُ فِي عَادَةِ التَّخَاطُبِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْخَارِجِ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ، وَهُوَ عَامٌّ غَيْرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا خَصُّوهُ
بِالْأَحْدَاثِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَوْ خَرَجَ مَا لَا يُعْتَادُ كَالْحَصَى وَالدُّودِ لَمْ يَكُنْ نَاقِضًا وَإِنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا أُطْلِقَ لَمْ يَتَبَادَرْ الذِّهْنُ إلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ نَصًّا، وَكَانَ غَيْرُهُ غَيْرَ مُرَادٍ.
قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي الْأَصْلِ ابْتَنَى الْخِلَافُ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ، فَإِذَا حَلَفَ بِلَفْظٍ لَهُ عُرْفٌ فِعْلِيٌّ، وَوَضْعٌ لُغَوِيٌّ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْوَضْعِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ؟ قَوْلَانِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: شَذَّ الْآمِدِيُّ بِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ حِكَايَةُ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ. لَعَلَّهُ مِمَّا الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْقَوْلِيَّةُ بِالْفِعْلِيَّةِ. وَأَظُنُّ أَنِّي سَمِعْت الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ يَحْكِي الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُخَصِّصُ، أَعْنِي الْفِعْلِيَّةَ. وَقَالَ الْعَالَمِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: الْعَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ لَا تَكُونُ مُخَصِّصَةً إلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِحْسَانِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا تَخْصِيصٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالْعَادَةِ. انْتَهَى.
وَقَالَ إلْكِيَا: الْخِلَافُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ لَا يَعْنِي بِهَا الْفِعْلِيَّةَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ تِلْكَ الْعَادَةِ وَإِنَّمَا الْمَعْنِيُّ بِهَا اسْتِعْمَالُ الْعُرْفِ فِي بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ عليه السلام لَهُمْ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ، فَيَبْتَنِي عَلَيْهَا، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ، فَيَتَّبِعُ مَوْضُوعَ اللُّغَةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيرٍ، لِأَنَّهُ قَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالْخِلَافِ فِيهَا، وَتَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فِيهَا. وَالصَّوَابُ أَنْ يُفَصِّلَ بَيْنَ عَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْفِعْلِ، وَعَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ؛ فَمَا يَرْجِعُ إلَى الْفِعْلِ يُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ فِيهِ الْعُمُومُ عَلَى الْعَادَةِ، مِثْلُ أَنْ يُحَرَّمَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ، وَيَكُونَ الْعَادَةُ بَيْعَ الْبُرِّ مِنْهُ، فَلَا يُخَصَّصُ عُمُومُ اللَّفْظِ بِهَذِهِ الْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ.
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْعُرْفِ اعْتَادُوا تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ اعْتِبَارًا بِمَا سَبَقَ الذِّهْنُ بِسَبَبِهِ إلَى ذَلِكَ الْخَاصِّ، فَإِذَا أُطْلِقَ اللَّفْظُ الْعَامُّ فَيَقْوَى تَنْزِيلُهُ عَلَى الْخَاصِّ الْمُعْتَادِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ بِاللَّفْظِ عَلَى مَا شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ. اهـ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " الْمُعْتَزِلِيُّ: أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْعَادَاتِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يُخَصُّ بِالْعُرْفِ فِي الْأَقْوَالِ، وَلَا يُخَصُّ بِهِ فِي الْأَفْعَالِ فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: اشْتَرِ دَابَّةً، فَاشْتَرَى كَلْبًا، كَانَ مُخَالِفًا، لِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ مَا دَبَّ إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ قَدْ قَيَّدَهُ بِالْخَيْلِ، وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ لَحْمًا، فَاشْتَرَى لَحْمَ كَلْبٍ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا، لِأَنَّ الِاسْمَ عَامٌّ فِي كُلِّ لَحْمٍ، وَالْعُرْفُ فِي الْفِعْلِ خَاصٌّ فِي بَعْضِ اللُّحْمَانِ فَلَمْ يُخَصَّ الْعَامُّ بِالْعُرْفِ فِي الْفِعْلِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ عُرْفَ أَهْلِ اللِّسَانِ كَالدَّابَّةِ وَالْغَائِطِ، فَهَذَا لَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ قَطْعًا، إنْ قُلْنَا: إنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي اللُّغَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَتَصَرَّفُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ عُرْفِهِ، وَوَجَبَ التَّخْصِيصُ بِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ لِغَيْرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَمْ يَكُنْ الشَّرْعُ يَعْرِفُ غَيْرَ عُرْفِهِمْ فِي الِاخْتِصَاصِ، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ تُنَزَّلَ أَلْفَاظُ الشَّارِعِ عَلَى مُقْتَضَاهَا، إمَّا فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي عُرْفِ السَّامِعِ، وَهَذَا لَا يُتَّجَهُ فِيهِ خِلَافٌ، إذْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ خِطَابِهِمْ عَلَى حَسَبِ عُرْفِهِمْ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ؟
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ لَيْسُوا أَهْلَ لُغَةٍ، وَالشَّارِعُ يَعْرِفُ عُرْفَهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خِطَابُهُمْ عَلَى مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ، وَلَا يَظْهَرُ الْإِضْرَابُ عَنْ ذَلِكَ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَى مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ أَمْ لَا؟
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ اعْتَادُوا بَعْضَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعُمُومُ، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ اللَّحْمِ مَثَلًا، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَكْلَ لَحْمٍ مَخْصُوصٍ، فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مَقْصُورًا عَلَى مَا اعْتَادُوا أَكْلَهُ أَمْ لَا؟ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ تَخْصِيصُ الْأَيْمَانِ بِالْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ. تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ عَنْ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّهُ لَمَّا حُمِلَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّقِيقِ:«وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ» الْحَدِيثَ، عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، دُونَ الْوُجُوبِ، حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَتْ مَطَاعِمُهُمْ وَمَلَابِسُهُمْ مُتَفَاوِتَةً، وَكَانَ عَيْشُهُمْ ضَيِّقًا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ، وَخَالَفَ مَعَاشُهُ مَعَاشَ السَّلَفِ وَالْعَرَبِ فِي أَكْلِ رَقِيقِ الطَّعَامِ، وَلُبْسِ جَيِّدِ الثِّيَابِ، فَلَوْ وَاسَى رَقِيقَهُ كَانَ أَكْرَمَ وَأَحْسَنَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلَهُ مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ» ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَا عُرِفَ لِمِثْلِهِ فِي بَلَدِهِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. قَالَ: فَأَنْتَ تَرَاهُ كَيْفَ خَصَّصَ عُمُومَ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِعْلَهُ فِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ. قُلْت: إنَّمَا خَصَّصَهُ بِقَوْلِهِ: «نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ» ، وَفَسَّرَ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ، وَسَاعَدَهُ