الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ الْوَارِدُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ يُمْكِنُ عَوْدُهُ لِجَمْعِهَا وَلِبَعْضِهَا]
مَسْأَلَةٌ
الِاسْتِثْنَاءُ الْوَارِدُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ يُمْكِنُ عَوْدُهُ لِجَمْعِهَا وَلِبَعْضِهَا. وَمَثَّلَهُ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] فِيهِ مَذَاهِبُ
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّهُ يَعُودُ إلَى جَمِيعِهَا مَا لَمْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الْآيَةَ وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ " فِي بَابِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالثُّنْيَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ ذَلِكَ أَحَدٌ انْتَهَى
وَقَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي بَابِ الْخِلَافَةِ فِي إجَازَةِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ لِمَنْ يُنَاظِرُهُ: أَرَأَيْت رَجُلًا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُك أَبَدًا، وَلَا أَدْخُلُ
لَك بَيْتًا، وَلَا آكُلُ لَك طَعَامًا، وَلَا أَخْرُجُ مَعَك سَفَرًا، وَإِنَّك لَغَيْرُ حَمِيدٍ عِنْدِي، وَلَا أَكْسُوك إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ وَاقِعًا عَلَى مَا بَعْدَ غَيْرُ حَمِيدٍ عِنْدِي، أَمْ عَلَى الْكَلَامِ كُلِّهِ؟ قَالَ: بَلْ عَلَى الْكَلَامِ كُلِّهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: إنَّهُ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. إنَّهُ الْمَحْكِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ: وَمَا وَجَدْت مِنْ كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ " الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ " إذَا تَابَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، ذَلِكَ بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَدَّهُ إلَى الْفِسْقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ بِعُمُومِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْجَمِيعِ انْتَهَى.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: نَسَبَهُ ابْنُ الْقَصَّارِ لِمَالِكٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِهِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: قَالَ الْقَاضِي: لَوْ قُلْنَا بِالْعُمُومِ فَأَوْضَحُ الْمَذَاهِبِ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ، وَهَذَا الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» قَالَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى كُلِّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْأَخِيرَةِ خَاصَّةً، إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّعْمِيمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي
الْمَعَالِمِ " وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " الْقَوَاعِدِ ": إنَّهُ الْأَشْبَهُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْفَارِسِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمَهَابَاذِيُّ مِنْ النَّحْوِيِّينَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ "
وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ: وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَطَلْقَةً إلَّا طَلْقَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَطْلُقُ طَلْقَةً. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ أَنَّهَا تَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ. لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيهِ، وَهُوَ الطَّلْقَةُ وَاسْتِثْنَاءُ طَلْقَةٍ مِنْ طَلْقَةٍ بَاطِلٌ، فَيَسْقُطُ. وَتَبْقَى الطَّلْقَاتُ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: قَالَ فِي " الْبُوَيْطِيِّ ": إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إلَّا أَرْبَعًا، وَقَعَتْ ثَلَاثًا. وَهَذَا إنَّمَا هُوَ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ جُمْلَتَيْنِ، وَاسْتَثْنَى إحْدَاهُمَا بِجُمْلَتِهَا، فَلَمْ يَقَعْ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى الْأَخِيرِ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ. أَيْ وَلَوْ عَادَ إلَى الْجَمِيعِ لَوَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: سِتًّا إلَّا أَرْبَعًا اهـ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَأْخَذُ مَا ظَنُّوهُ، وَإِنَّمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مُفَرَّعًا عَلَى أَنَّ الْمُفَرَّقَ لَا يُجْمَعُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. فَإِنْ قُلْنَا: يُجْمَعُ وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: سِتًّا إلَّا أَرْبَعًا، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى الْمَلْفُوظِ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْمَنْوِيِّ وَقَعَ الثَّلَاثُ ثُمَّ إنَّ هَذَا لَبْسٌ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُ
الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ ": لَوْ قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا، فَاَلَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ، ثُمَّ عَقَّبَهُمَا بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ لِمَا يَلِيه، وَهُوَ يَسْتَغْرِقُهُ، فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ فَيَبْطُلُ. كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، فَكَذَلِكَ هُنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَطَلْقَةً إلَّا طَلْقَةً يَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ إبَاحَةِ الطَّلَاقِ
قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِيهَا وَجْهًا أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَطَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ كَانَتَا بِمَنْزِلَةِ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ دِرْهَمَانِ إلَّا دِرْهَمًا، وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ إلَّا طَلْقَةً. وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ. انْتَهَى.
وَتَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِتَعْلِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُتَقَدِّمِ كَوْنُهُ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالْأَخِيرَةِ صَارَ مُفِيدًا فَلَا حَاجَةَ إلَى صَرْفِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْجُمَلَ إذَا تَعَاطَفَتْ صَارَتْ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ بِدَلِيلِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى مَا تَقَدَّمَ إجْمَاعًا، فَإِنْ فَرَّقَ بِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَتَقَدَّمُ كَمَا يَتَأَخَّرُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُوقَفَ مَا قَبْلَ الْآخَرِ عَلَى الِاتِّصَالِ بِالشَّرْطِ، وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ. قُلْنَا: هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْجَمْعِ إذْ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَا يَلِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاَلَّذِي يَلِيهِ وَالْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ فِي هَذَا الْفَرْقِ سَوَاءٌ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّوْبَةَ قَبْلَ الْحَدِّ وَلَا بَعْدَهُ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ شُرَيْحٌ، لَكِنَّهُ قَالَ بِقَبُولِهَا قَبْلَهُ لَا بَعْدَهُ، فَخَالَفَ أَصْلَهُ
تَنْبِيهٌ
قِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَقَدَّمَ اخْتَصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا الَّتِي تَلِيهِ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ
وَالثَّالِثُ: وَالْوَقْفُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْأَوَّلِ وَإِلَى الْمُتَوَسِّطِ وَإِلَى الْأَخِيرِ؛ وَلَكِنْ فِي الْحَالِ تَوَقَّفَ، وَالْمُتَّبَعُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى انْصِرَافِهِ لِأَحَدِهَا صِرْنَا إلَيْهِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ ": فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ عَادَ، كَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ؛ وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَنْعِهِ امْتَنَعَ، كَآيَةِ الْقَذْفِ. قَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ. وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْقَاضِي وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمُنْتَخَبِ "، وَصَرَّحَ بِهِ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ اخْتِيَارِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. قَالَ فَقِيلَ لَهُ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا قَالَ الْوَاقِفُ: وَقَفْت دَارِي عَلَى [بَنِي] فُلَانٍ، وَحَبَسْت أَرْضِي عَلَى بَنِي فُلَانٍ، وَذَكَرَ نَوْعًا آخَرَ، ثُمَّ قَالَ: إلَّا الْفُسَّاقَ، فَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْكُلِّ.
فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِظُهُورِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَنْوَاعِ، وَلَكِنْ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَهُمَا احْتِمَالُ عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ، أَوْ إلَى مَا يَلِيهِ، وَالتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَلَا صَرْفَ مَعَ التَّوَقُّفِ
قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا الْمَأْخَذُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ. فَإِنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْمُسْتَثْنَى، يُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، حَتَّى لَا يَنْصَرِفَ إلَى الْعُدُولِ أَيْضًا. وَنَحْنُ نَصْرِفُ
كُلَّ الْمَالِ إلَى الْعُدُولِ، وَالتَّوَقُّفُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَإِنَّا لَا نَدْرِي أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ أَمْ لَا، وَهُوَ كَالتَّوَقُّفِ فِي الْمِيرَاثِ لِلْحَمْلِ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْمَازِرِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مَسْلَكَ التَّفْصِيلِ فِي التَّوَقُّفِ، فَرَأَى أَنَّ الْجُمَلَ إنْ كَانَتْ مُتَنَاسِبَةً، وَالْغَرَضُ مِنْهَا مُتَّحِدٌ، فَاللَّفْظُ مُتَرَدِّدٌ، وَلَا قَرِينَةَ؛ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْجِهَاتِ مُتَبَايِنَةَ الْمَأْخَذِ، فَالظَّاهِرُ الِاخْتِصَاصُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ لِانْقِطَاعِ مَا بَيْنَ الْجُمَلِ فِي الْمَعْنَى وَالْغَرَضِ؛ وَإِنْ أَمْكَنَ انْعِطَافُهُ عَلَى جَمِيعِهَا وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، فَقَالَ: نَعَمْ، لَوْ تَبَايَنَتْ الْجُمَلُ فِي الْأَحْكَامِ بِأَنْ يَذْكُرَ حُكْمًا، ثُمَّ يَأْخُذَ فِي حُكْمٍ آخَرَ. فَالْأَوَّلُ: مُنْقَطِعٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِهِ، وَالْوَاوُ هُنَا لَا تُعَدُّ مُشْرِكَةً نَاسِفَةً لِلنَّظْمِ، كَقَوْلِك: ضَرَبَ الْأَمِيرُ زَيْدًا، وَخَرَجَ إلَى السَّفَرِ، وَخَلَعَ عَلَى فُلَانٍ. قَالَ: وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا، وَبِهِ تَهَذَّبَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَيُغْنِي عَمَّا عَدَاهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ حَكَوْا قَوْلَ الْوَقْفِ عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، وَأَنَّهُ يُغَايِرُ مَذْهَبَ الْقَاضِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ تَوَقَّفَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ لُغَةً، وَالْمُرْتَضَى تَوَقَّفَ لِكَوْنِهِ عِنْدَهُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ عَوْدِهِ إلَى الْكُلِّ وَعَوْدِهِ إلَى الْأَخِيرِ فَقَطْ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُرَكَّبَاتِ لَا فِي الْمُفْرَدَاتِ.
قُلْت: وَاَلَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهُ يُقْطَعُ بِعَوْدِهِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَتَوَقَّفَ فِي رُجُوعِهِ إلَى غَيْرِهَا لِمَا تَقَدَّمَ، فَجَوَّزَ صَرْفَهُ إلَى الْجَمِيعِ، وَقَصَرَهُ عَلَى الْأَخِيرَةِ، كَمَذْهَبِهِ فِي الْأَمْرِ، هَذَا لَفْظُهُ، وَهُوَ أَثْبَتُ مَنْقُولٍ عَنْهُ، لِأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِهِ الشِّيعِيِّ.
وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَتْ الْجُمَلُ كُلُّهَا سِيقَتْ لِمَقْصُودٍ وَاحِدٍ انْصَرَفَ إلَى
الْجَمِيعِ، وَإِنْ سِيقَتْ لِأَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ. حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ
وَالْخَامِسُ: إنْ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاوَ لِلِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَالنُّحَاةَ الْبَصْرِيِّينَ إلَّا الْبَغَادِدَةَ، اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، وَإِنْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ فَالْوَاقِفُ.
وَالسَّادِسُ: إنْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ إعْرَاضًا وَإِضْرَابًا عَنْ الْأُولَى اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، وَإِلَّا انْصَرَفَ إلَى الْجَمِيعِ. حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. وَاَلَّذِي وَجَدْته فِي " الْمُعْتَمَدِ " حِكَايَةُ هَذَا عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَقَرَّرَ دَلِيلَهُ.
وَحُكِيَ فِي " الْمَحْصُولِ " عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقٌ عَادَ إلَى الْجَمِيعِ، وَإِلَّا اخْتَصَّ بِالْأَخِيرِ. وَقَالَ: إنَّهُ دَخَلَ التَّحْقِيقُ، وَإِنَّهُ حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا، وَإِنَّمَا أُخِذَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَحْدُودِ بِالْقَذْفِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْجُمَلِ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ إضْرَابًا عَنْ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ الْآيَاتِ سِيقَتْ لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى تِلْكَ الْجَرِيمَةِ. انْتَهَى.
وَقَدْ اخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " أَيْضًا، فَقَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجًا مِنْ قَضِيَّةٍ إلَى قَضِيَّةٍ أُخْرَى لَا يَلِيقُ بِهَا عَادَ إلَى الْكُلِّ وَإِلَّا اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، وَنَظِيرُهُ: اضْرِبْ بَنِي تَمِيمٍ وَالْأَشْرَافُ هُمْ قُرَيْشٌ، إلَّا أَهْلَ الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ الْأَوَّلُ إلَى مِثْلِ هَذَا، وَأَحَدُهُمَا لَا يَلِيقُ
بِالْآخَرِ، أَوْ أَحَدُهُمَا قَضِيَّةٌ وَالْأُخْرَى قَضِيَّةٌ أُخْرَى، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَرَضَهُ مِنْ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَدَلَّ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْغَرَضِ بِالْكَلَامِ مِنْ الْعُدُولِ عَنْهُ إلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْكَلَامِ. وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: مَنْ اسْتَقَامَتْ طَرِيقَتُهُ فَأَكْرِمْهُ، وَمَنْ عَصَاك فَاضْرِبْهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ أَيْضًا. انْتَهَى.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنْ صَلُحَ الْعَوْدُ إلَى الْكُلِّ عَادَ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا تَحْرِيرٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا سَيَأْتِي، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَذْهَبًا آخَرَ.
وَقَالَ فِي الْمُقْتَرَحِ: لَا خِلَافَ فِي صَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ لِعَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ أَوْ الْبَعْضِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَخِيرَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْ بِالْعَكْسِ؟ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالثَّانِي، وَالشَّافِعِيُّ بِالْأَوَّلِ.
وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ مِنْ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ، حَدَاهُمْ هَذَا الِاخْتِلَافُ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ لِذَلِكَ الْفَرْعِ، لَا أَنَّهُمْ ذَهَبُوا فِيمَا هُوَ فَرْعُ هَذَا الْأَصْلِ إلَى مَذَاهِبَ، ثُمَّ رَتَّبُوا عَلَيْهِ هَذَا الْأَصْلَ، لِأَنَّ هَذَا عَكْسُ الْوَاجِبِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْفَرْعَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَصْلِهِ، وَيَسْتَوِي عَلَيْهِ لَا أَنْ يَتَرَتَّبَ الْأَصْلُ عَلَى فَرْعِهِ وَيَسْتَوِي عَلَيْهِ عَلَى مِقْدَارِ الْمُبْتَاعِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ، إذًا الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ أَنْ يَسْتَوِيَ مِقْدَارُ الْمُبْتَاعِ الْمَوْزُونِ عَلَى الصَّنْجَةِ الْمُعْتَدِلَةِ. انْتَهَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَوْلِ بِعَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ عِنْدَنَا شُرُوطًا:
الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمَلُ مُتَعَاطِفَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَطْفٌ، فَلَا يَعُودُ إلَى الْجَمِيعِ قَطْعًا، بَلْ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ إذْ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الشَّرْطِ الْقَاضِيَانِ: أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَأَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ،
وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ، وَالْهِنْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا مَنْ أَطْلَقَ فَأَمْرُهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ لِوُضُوحِهِ. وَأَمْثِلَتُهُمْ وَكَلَامُهُمْ يُرْشِدُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ بِحَالَةِ الْعَطْفِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: لَوْ قَالَ: يَا طَالِقُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْصَرِفٌ إلَى الثَّلَاثَةِ، وَوَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ: يَا طَالِقُ، وَلَوْ كَانَ الْعَطْفُ يُشْتَرَطُ، لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا إلَى الْجَمِيعِ
وَأَمَّا مَا فَهِمَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ جَرَيَانِ الْخِلَافِ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَفْ، فَغَرَّهُ إطْلَاقُ الرَّازِيَّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَطْفٌ فَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُمَا. نَعَمْ، ذَكَرَ الْبَيَانِيُّونَ أَنَّ تَرْكَ الْعَطْفِ قَدْ يَكُونُ لِكَمَالِ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] فَإِذَا كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ فَلَا يَبْعُدُ مَجِيءُ الْخِلَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَالْمُؤَكِّدَةِ لِلْأُولَى، فَيَعُودُ لِلْجَمِيعِ قَطْعًا.
وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ بَابَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ بِهِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَصَدَ التَّأْكِيدَ أَنَّهُ يَعُودُ لِلْجَمِيعِ. وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَائِدَةٌ إلَى الثَّلَاثِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْكَلَامِ، نَعَمْ، قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي " كِتَابِ الْأَيْمَانِ " فِيمَا لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ، عَبْدِي حُرُّ، أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ، وَلَا يُعْتَقُ. قَالَ: وَلْيَكُنْ هَذَا فِيمَا إذَا نَوَى صَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ أَطْلَقَ فَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَمْ
يَعُمُّهُمَا؟ قَالَ فِي " الرَّوْضَةِ ": قُلْت: الصَّحِيحُ التَّعْمِيمُ. وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا فَائِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْخِلَافَ جَارٍ مَعَ عَدَمِ الْعَطْفِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَخُصُّ بِمَا إذَا تَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ، بَلْ تَكُونُ فِي حَالَةِ تَأَخُّرِهِ، وَحَالَةِ تَقَدُّمِهِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، فَإِنْ كَانَ بِثُمَّ اخْتَصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي تَدْرِيسِهِ، حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْوَقْفِ، بَعْدَ أَنْ صَرَّحَ أَنَّ أَصْحَابَنَا أَطْلَقُوا الْعَطْفَ. وَعَلَيْهِ جَرَى الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ، وَالْعَجَبُ أَنَّ الْأَصْفَهَانِيَّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " حَكَاهُ عَنْ الْآمِدِيَّ، وَقَالَ: لَمْ أَرَ مَنْ تَقَدَّمَهُ بِهِ؛ لَكِنْ ذَكَرَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ " مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ التَّمْثِيلَ: بِثُمَّ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مَذْهَبَنَا عَوْدُهُ إلَى الْجَمِيعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ " ثُمَّ، وَالْفَاءَ، وَحَتَّى " مِثْلُ " الْوَاوِ " فِي ذَلِكَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ "" بِالْفَاءِ " وَغَيْرِهَا، فَقَالَ: وَهَذِهِ سَبِيلُ جُمَلٍ عُطِفَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِأَيِّ حُرُوفِ الْعَطْفِ عُطِفَتْ، مِنْ " فَاءٍ، وَوَاوٍ " وَغَيْرِهَا. انْتَهَى.
وَأَطْلَقَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْجُمَلِ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ جَامِعٌ فِي مُقْتَضَى الْوَضْعِ، وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ " الْعُدَّةِ " فَإِنَّهُ قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ احْتَجَّ بِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ تَشْتَرِكُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فَتُجْعَلَانِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، فَطَالِقٌ، إلَّا وَاحِدَةً لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ كَانَ الْإِيقَاعُ جُمْلَةً وَاحِدَةً صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ. هَذَا لَفْظُهُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ حُرُوفِ الْعَطْفِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ " بَلْ، وَلَا، وَلَكِنْ " لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ " أَوْ، وَأَمْ، وَأَمَّا " لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ لَكِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ وَغَيْرَهُ مَثَّلُوا الْمَسْأَلَةَ بِآيَةِ الْمُحَارَبَةِ، مَعَ أَنَّ الْعَطْفَ فِيهَا بِ " أَوْ " وَحَكَى الرَّافِعِيُّ الْخِلَافَ فِي " بَلْ " قُبَيْلَ الطَّلَاقِ بِالْحِسَابِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثَلَاثًا، إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا - وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ - تَقَعُ وَاحِدَةٌ، بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَثِنْتَانِ بِدُخُولِ الدَّارِ. رَدًّا لِلشَّرْطِ إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً. وَالثَّانِي يَرْجِعُ الشَّرْطُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، إلَّا أَنْ يَقُولَ: أَرَدْت تَخْصِيصَ الشَّرْطِ بِقَوْلِي: بَلْ ثَلَاثًا.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَخَلَّلَ الْجُمْلَتَيْنِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، فَإِنْ تَخَلَّلَ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَأَعْقَبَ كَانَ نَصِيبُهُ لِأَوْلَادِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِلَّا فَنَصِيبُهُ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ، فَإِذَا انْقَرَضُوا صُرِفَ إلَى إخْوَانِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ الْفُقَرَاءِ إلَّا أَنْ يَفْسُقُوا. حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ طُولَ الْفَصْلِ يُشْعِرُ بِقَطْعِ الْأُولَى عَنْ الثَّانِيَةِ
الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمَلُ مُنْقَطِعَةً، بِأَنْ تُنْبِئَ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَمَّا لَا تُنْبِئُ عَنْهُ أَخَوَاتُهَا. ذَكَرَهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ. قَالَ: فَإِنْ تَوَالَتْ عِبَارَاتٌ كُلُّهَا تُنْبِئُ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِاسْتِثْنَاءٍ، كَقَوْلِك: اضْرِبْ الْعُصَاةَ، وَالْجُنَاةَ، وَالطُّغَاةَ، وَالْبُغَاةَ إلَّا مَنْ تَابَ، رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ قَطْعًا. وَيُوَافِقُهُ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِنِيَّةِ التَّكْرَارِ، وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَفِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْجَمِيعِ قَالَ: لِأَنَّ الْكَلَامَ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِرَابِطَةِ التَّأْكِيدِ كَانَ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْجُمَلِ تَنَاسُبٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا تَنَاسُبٌ لَا يَصِحُّ الْعَطْفُ فَضْلًا عَنْ إرَادَةِ الْبَعْضِ أَوْ الْكُلِّ. وَهَذَا الشَّرْطُ اعْتَبَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ فِي صِحَّةِ عَطْفِ الْجُمَلِ، فَمَنَعُوا عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَعَكْسَهُ. وَوَافَقَهُمْ ابْنُ مَالِكٍ، لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا.
وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَحْسُنُ التَّمْثِيلُ بِآيَةِ الْقَذْفِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ. عُطِفَتْ عَلَى إنْشَائِيَّةٍ؛ لَكِنْ يُقَالُ: وَإِنْ كَانَتْ خَبَرِيَّةً لَفْظًا. لَكِنَّهَا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى. نَعَمْ، مَنْ اشْتَرَطَ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ اتِّفَاقَهُمَا فِي الِاسْمِيَّةِ أَوْ الْفِعْلِيَّةِ، حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَتَا امْتَنَعَ، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مِنْهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:{وَأُولَئِكَ هُمْ} جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ:{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، بَلْ " الْوَاوُ " هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ أَوْ الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ لَمْ يَنْصَرِفْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ.
السَّادِسُ: أَنْ يُمْكِنَ عَوْدُهُ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى انْفِرَادِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَادَ إلَى مَا أَمْكَنَ، أَوْ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ. قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي " التَّلْوِيحِ ".
قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا كَآيَةِ الْجَلْدِ، فَلَا يُمْكِنُ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا إلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْجَلْدُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَزَالَتْ عَنْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَالتَّوْبَةُ لَا تَرْفَعُهُ إنَّمَا تَرْفَعُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ " قَاطِعِ الطَّرِيقِ " عَنْ ابْنِ كَجٍّ أَنَّهُ حَكَى قَوْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ بِسُقُوطِ الْجَلْدِ بِالتَّوْبَةِ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَحَكَاهُ النَّحَّاسُ فِي " مَعَانِي الْقُرْآنِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. فَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ لَهُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ قَوْلَانِ. ثُمَّ أَكْثَرُهُمْ يُمَثِّلُونَ الْآيَةَ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَلَى تَقْدِيرِ نَظْمِ الِاخْتِصَاصِ بِالْأَخِيرَةِ: إنَّ الْأَخِيرَةَ هِيَ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ الْمَحْكُومُ بِهِ، وَأَمَّا سِمَةُ الْفِسْقِ فَهِيَ عِلَّةُ هَذَا الْحُكْمِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ إذَا تَعَقَّبَ حُكْمًا وَتَعْلِيلًا؛ فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْكُلِّ، أَوْ إلَى الْحُكْمِ دُونَ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَلَا سَبِيلَ إلَى رُجُوعِهِ إلَى التَّعْلِيلِ فَقَطْ.
قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] فَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إلَى الْأَخِيرَةِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَالرَّقَبَةُ حَقُّ اللَّهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ مِنْ الْآدَمِيِّ. وَكَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] يَعُودُ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ الْجُنُبُ، لَا السَّكْرَانُ؛ فَإِنَّ السَّكْرَانَ مَمْنُوعٌ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، لِمَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ تَلْوِيثِهِ إيَّاهُ.
وَخَرَجَ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَطَلْقَةً إلَّا طَلْقَةً، فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ لِلشَّافِعِيِّ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ فِي " الْمُهَذَّبِ "، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: لِأَنَّهَا تَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى مَا يَلِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَسْقُطُ وَيَبْقَى الطَّلْقَتَانِ. وَلَا يُظَنُّ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ، لِأَنَّ شَرْطَ الرُّجُوعِ إلَى الْكُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ، هُوَ مَفْقُودٌ هَاهُنَا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ دِرْهَمَانِ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا، لَزِمَ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوص، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى دِرْهَمًا مِنْ دِرْهَمٍ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ بَابُ الْإِقْرَارِ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ " الْوَافِي " فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ "، فَقَالَ: هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْفُرُوعِ وَمَذْهَبُهُ، فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إلَى الْجَمِيعِ، وَلَا أَعْلَمُ الْفَرْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ
هَاهُنَا احْتَاطَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت جَوَابَهُ.
السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْمُولُ وَاحِدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ وَاحِدًا وَالْمَعْمُولُ مُتَعَدِّدًا، فَلَا خِلَافَ فِي عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ، كَقَوْلِهِ: اُهْجُرْ بَنِي فُلَانٍ وَبَنِي فُلَانٍ إلَّا مَنْ صَلُحَ. فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْجَمِيعِ، إذًا لَا مُوجِبَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَلَوْ ثَبَتَ مُوجِبُ فِعْلٍ بِمُقْتَضَاهُ، نَحْوُ لَا تُحَدِّثْ النِّسَاءَ وَلَا الرِّجَالَ إلَّا زَيْدًا وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْأَمْرَيْنِ آيَةُ الْمَائِدَةِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَاشْتَمَلَتْ عَلَى مَا فِيهِ مَانِعٌ، وَهُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] وَ {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْخَمْسَةِ، إذْ كَانَتْ تَذْكِيَتُهُ سَبَبَ مَوْتِهِ.
قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَعَلُّقِ الشَّرْطِ بِالْجَمِيعِ فِي نَحْوِ: لَا تَصْحَبْ زَيْدًا، وَلَا تَزْنِ، وَلَا تُكَلِّمْ، إلَّا تَائِبًا مِنْ الظُّلْمِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ تَسَاوِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْجَمِيعِ. وَهُوَ صَحِيحٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى سَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مَسَدَّ الْآخَرِ، نَحْوُ اُقْتُلْ الْكَافِرَ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَاقْتُلْهُ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ. انْتَهَى.
الثَّامِنُ: أَنْ يَتَّحِدَ الْعَامِلُ، فَإِنْ اخْتَلَفَ خُصَّ بِالْأَخِيرَةِ. ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَنَحْوُ اُكْسُوا الْفُقَرَاءَ، وَأَطْعِمُوا أَبْنَاءَ السَّبِيلِ، إلَّا مَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا، وَصَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ بِأَنَّ الشَّرْطَ اتِّحَادُ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ. قَالَ: فَإِنْ اخْتَلَفَا اخْتَصَّ بِمَا يَلِيهِ، وَنَحْوُ ضَرَبَ الْأَمِيرُ زَيْدًا وَخَرَجَ إلَى السَّفَرِ، وَخَلَعَ عَلَيَّ فُلَانٌ. قَالَ: وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا. وَبِهِ يَتَهَذَّبُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ اتِّحَادُهُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، فَإِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ جَعَلَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ: وَقَفْت، وَحَبَسْت، وَتَصَدَّقْت، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الصِّفَةِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ قَوْله تَعَالَى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فَإِنَّ
الشَّافِعِيَّ يَجْعَلُ هَذَا الْوَصْفَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] مُخْتَصًّا بِالْأَخِيرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ:{وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] لِأَنَّ الرَّبِيبَةَ عِنْدَهُ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ، وَأُمُّ الزَّوْجَةِ تَحْرُمُ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْعَامِلِ، إذْ الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] الْإِضَافَةُ، وَفِي رَبَائِبُكُمْ حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ:{مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ أَشْعَرَ بِانْقِطَاعِ الْأُولَى عَنْ الثَّانِيَةِ. وَلَك أَنْ تَقُولَ: إذَا جَعَلْنَا الْعَامِلَ فِي الْإِضَافَةِ حَرْفَ الْجَرِّ الْمُقَدَّرِ اتَّحَدَ الْعَامِلُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَهَذَا الشَّرْطُ أَيْضًا مُخَرَّجٌ مِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ.
التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْجُمَلِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمُفْرَدَاتِ عَادَ لِلْجَمِيعِ اتِّفَاقًا وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ اخْتِيَارِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِك: أَكْرِمْ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا إلَّا مَنْ فَسَقَ مِنْهُمْ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " وَابْنِ الْحَاجِبِ فِي جَوَابِ شُبْهَةِ الْخَصْمِ: أَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ وِفَاقٍ، وَحِينَئِذٍ فَتَعْبِيرُ أَصْحَابِنَا بِالْجُمَلِ لَيْسَ لِلتَّقَيُّدِ، وَإِنَّمَا جَرَى الْغَالِبُ. نَعَمْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَطَالِقَةً إلَّا طَلْقَةً، أَنَّهَا تَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ، فَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ لِمَا يَلِيهِ فِي الْمُفْرَدَاتِ.
وَمِنْ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ بِالْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا الْمُرَكَّبَةُ مِنْ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، أَوْ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَالَ: إنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا اللَّفْظُ الَّذِي فِيهِ شُمُولٌ، وَيَصِحُّ إخْرَاجُ بَعْضِهِ، وَلِهَذَا ذَكَرُوا مِنْ صُوَرِهَا الْأَعْدَادَ وَاحْتَجَّ بِآيَةِ الْمُحَارَبَةِ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] قَالَ: وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الْجُمْلَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرْنَاهُ، وَبِمَا رَوَى الصَّحَابَةُ، أَنَّ