الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] .
وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ
مِنْهَا: وُجُوبُ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ وَمِنْهَا: تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ الظَّنِّيَّيْنِ ابْتِدَاءً، وَالْعَامِّ بِالْخَاصِّ وَأَنَّ الْخَاصَّ لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا بِالْعَامِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ خَبَرَ الْعَرَايَا عَلَى خَبَرِ التَّمْرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ. تَنْبِيهٌ قَوْلُهُمْ الْعَامُّ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ، وَالْخَاصُّ مَقْطُوعُ الدَّلَالَةِ، لَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ فِيهِ قَطْعِيَّةٌ، بَلْ إنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، وَالْخَاصَّ لَا يَحْتَمِلُهُ. فَرْعٌ
لَوْ قَالَ فِي الْإِقْرَارِ: لَهُ عِنْدِي خَاتَمٌ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَدْت الْفَصَّ، فَفِي قَوْلِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا؛ لِأَنَّ الْفَصَّ مُتَنَاوَلٌ لِاسْمِ الْخَاتَمِ، فَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ عِنْدَنَا، وَقَدْ قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: الْخَاتَمُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْحَلَقَةِ مَعَ الْفَصِّ، وَإِلَّا فَهُوَ حَلَقَةٌ. وَقِيلَ فَتْخٌ.
[مَسْأَلَةٌ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ]
مَسْأَلَةٌ فِي أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ: هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ؟ وَيَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا أَثَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ، بَلْ وَقَعَ فِي كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَالْمَشْهُورُ: نَعَمْ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ فِي " الْقَوَاطِعِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، فَقَالَ: لِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ دَالٌّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فِي الْأَعْيَانِ وَفِي الْأَزْمَانِ، وَفِي أَيِّ عَيْنٍ وُجِدَ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، هَذَا كَلَامُهُ. وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ حَيْثُ قَالَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ: قُلْنَا: لَمَّا كَانَ أَمْرًا بِجَمِيعِ الْأَقْيِسَةِ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَا مَحَالَةَ لِجَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَإِلَّا قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْأَقْيِسَةِ انْتَهَى.
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي فَتَاوِيهِ " فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ الْحَامِلِ: كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ، أَنَّهُ كَمَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى يَشْمَلُ اخْتِلَافَ الْوَقْتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ، وَيَتَكَرَّرَ. هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، إنَّهُ لَا يَدِينُ وَإِذَا نَوَى إلَى شَهْرَيْنِ يَدِينُ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ مُجَلِّي فِي " الذَّخَائِرِ " وَالرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ، فَإِنَّهُمَا حَكَيَا وَجْهَيْنِ فِي التَّدْيِينِ فِي " إنْ دَخَلْت الدَّارَ " وَقَالَ الْإِمَامُ: وَلِلْفَقِيهِ نَظَرٌ فِي هَذَا، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا يَتَعَلَّقُ بِالْأَزْمَانِ ظَاهِرًا عَلَى الْعُمُومِ، بِخِلَافِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَتَبِعَهُ
الْغَزَالِيُّ حَيْثُ قَالَ: اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْأَزْمَانِ، فَإِذَا قَالَ: أَرَدْت شَهْرًا، فَكَأَنَّهُ خَصَّصَ الْعَامَّ؛ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقَدْ تُقَابَلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، فَيُقَالُ: اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّصَهُ بِحَالِ دُخُولِ الدَّارِ. انْتَهَى.
لَكِنَّ الْإِمَامَ قَائِلٌ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْأَزْمَانِ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا عُمُومَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقٌ، وَزَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ فِي الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ وَالْأَحْوَالِ وَالتَّعَلُّقَاتِ. فَلَا تَعُمُّ الصِّيغَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ الْعُمُومِ فِي غَيْرِهَا، حَتَّى يُوجَدَ لَفْظٌ يَقْتَضِي فِيهَا الْعُمُومَ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى خُصُوصِ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ وَلَا مَكَان مُعَيَّنٍ وَلَا حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَإِذَا قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، عَمَّ كُلَّ مُشْرِكٍ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فَرْدٌ، وَلَا يَعُمُّ الْأَحْوَالَ، حَتَّى لَا يُقْتَلَ فِي حَالِ الْهُدْنَةِ وَالذِّمَّةِ، وَلَا خُصُوصِ الْمَكَانِ، حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي أَرْضِ الْهِنْدِ مَثَلًا، وَلَا الْأَزْمَانِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى يَوْمِ السَّبْتِ مَثَلًا، وَيُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ فِي دَفْعِ كَثِيرٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالَاتِ بِأَلْفَاظٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيُؤَدِّي إلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْخَصْمَانِ، فَيُقَالُ: إنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ، وَقَدْ عَمِلْت بِهِ فِي الصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَالْمُطْلَقُ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَلْزَمُ الْعَمَلَ بِهِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ. وَقَدْ ارْتَضَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ " فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " وَفِي كَلَامِ الْآمِدِيَّ فِي مَسْأَلَةِ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ مَا يُشِيرُ إلَى الْقَوْلِ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ. وَقَدْ رَدَّهَا جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْعُمْدَةِ " فَقَالَ: وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ؛ بَلْ الْوَاجِبُ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعُمُومُ فِي الذَّوَاتِ مَثَلًا يَكُونُ دَالًّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ ذَاتٍ تَنَاوَلَهَا اللَّفْظُ، وَلَا يَخْرُجُ
عَنْهَا ذَاتٌ إلَّا بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ، فَمَنْ أَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ، نَعَمْ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ مَرَّةً كَمَا قَالُوا، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْعُمُومِ فِي كُلِّ ذَاتٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِهِ مَرَّةً مُخَالَفَةً لِمُقْتَضَى صِيغَةِ الْعُمُومِ، قُلْنَا بِالْعُمُومِ، مُحَافَظَةً عَلَى مُقْتَضَى صِيغَتِهِ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُطْلَقَ يَعُمُّ.
مِثَالُ ذَلِكَ إذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، فَمُقْتَضَى الصِّيغَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ ذَاتٍ صَدَقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَزْمَانِ، وَقَدْ عَمِلْت بِهِ مَرَّةً، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ أُخْرَى لِعَدَمِ عُمُومِ الْمُطْلَقِ. قُلْنَا لَهُ: لَمَّا دَلَّتْ الصِّيغَةُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ ذَاتٍ دَخَلَتْ الدَّارَ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الذَّوَاتُ الدَّاخِلَةُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَإِذَا أَخْرَجْت تِلْكَ الذَّوَاتِ، فَقَدْ أَخْرَجْت مَا دَلَّتْ الصِّيغَةُ عَلَى دُخُولِهِ، وَهِيَ كُلُّ ذَاتٍ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَوَى قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:«لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ» . . . الْحَدِيثَ، أَتْبَعهُ بِأَنْ قَالَ:" فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَنُحَرِّفُ عَنْهَا، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عز وجل "، قَالَ. فَإِنَّ أَبَا أَيُّوبَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالشَّرْعِ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ قَوْلَهُ:«وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا» . . . عَامًّا فِي الْأَمَاكِنِ، وَهُوَ مُطْلَقٌ فِيهَا، وَعَلَى مَا قَالَهُ
هَؤُلَاءِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ، وَعَلَى مَا قُلْنَاهُ يَعُمُّ بِمَعْنَى، فَيَكُونُ الْعَامُّ فِي الْأَشْخَاصِ عَامًّا فِي الْأَمْكِنَةِ.
وَقَدْ رَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي اللَّفْظِ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ وُقُوعُ الِاسْتِقْبَالِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَمَاكِنِ فِي الشَّامِ وَغَيْرِهِ، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْقَرَافِيِّ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عُمُومُ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْمَكَانِ لَمَا كَانَ لِتَعْرِيفِ الْمَكَانِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَائِدَةٌ. وَتَمَسَّك آخَرُونَ فِي رَدِّ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِحَدِيثِ «أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى حَيْثُ دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عليه السلام: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ» الْحَدِيثَ. فَقَدْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامًّا فِي الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. وَرَدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ جَاءَ مِنْ صِيغَةِ " إذَا " الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكْرَارِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ.
وَقَدْ خَالَفَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْعُمْدَةِ " فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ بَيْعِ الْخِيَارِ. إنَّ الْخِيَارَ عَامٌّ، وَمُتَعَلِّقُهُ وَهُوَ مَا
يَكُونُ فِيهِ الْخِيَارُ مُطْلَقٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِمَقَالَةِ الْقَرَافِيِّ، وَرُبَّمَا أَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] قَالَ: فَلَوْ كَانَ الْعَامُّ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ {وَجَدْتُمُوهُمْ} تَكْرَارًا وَ {حَيْثُ} مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْمَكَانِ، قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ.
وَقَدْ تَوَسَّطَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْعَامِّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقًا فِي الْأَحْوَالِ: وَالْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ أَنَّهُ إذَا عَمِلَ بِهِ فِي الْأَشْخَاصِ فِي زَمَانٍ مَا وَمَكَانٍ مَا وَحَالَةٍ مَا لَا يَعْمَلُ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَشْخَاصِ مَرَّةً أُخْرَى فِي زَمَانٍ آخَرَ وَنَحْوِهِ، أَمَّا فِي أَشْخَاصٍ أُخْرَى مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْعَامُّ فَيَعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَزِمَ التَّخْصِيصُ فِي الْأَشْخَاصِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، فَالتَّوْفِيَةُ بِعُمُومِ الْأَشْخَاصِ أَنْ لَا يَبْقَى شَخْصٌ مَا فِي أَيِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَحَالٍ إلَّا حُكِمَ عَلَيْهِ، وَالتَّوْفِيَةُ بِالْإِطْلَاقِ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَكُلُّ زَانٍ مَثَلًا يُجْلَدُ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَإِذَا جُلِدَ مَرَّةً وَلَمْ يَتَكَرَّرْ زِنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُجْلَدُ ثَانِيَةً فِي زَمَانٍ آخَرَ. وَمَكَانٍ آخَرَ، فَإِنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الزَّانِي وَالْمُشْرِكُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا الشَّخْصُ، وَالثَّانِي الصِّفَةُ، كَالزِّنَى وَالشِّرْكِ لَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِمَا أَدَاةُ الْعُمُومِ أَفَادَتْ عُمُومَ الشَّخْصِ لَا عُمُومَ الصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى إطْلَاقِهَا، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: الْعَامُّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ، فَبِمُطْلَقِ زَنَى حُدَّ، وَكُلُّ شَخْصٍ حَصَلَ مِنْهُ مُطْلَقُ شِرْكٍ قُتِلَ بِشَرْطِهِ، فَرَجَعَ الْعُمُومُ وَالْإِطْلَاقُ إلَى لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِهَا. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ عَدَمَ التَّكْرَارِ جَاءَ مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي
التَّكْرَارَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ الْإِطْلَاقِ. وَرُدَّ بِأَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرِ أَحَدُ الْمُقْتَضَيَاتِ لِلْإِطْلَاقِ فِي الْأَزْمَانِ وَغَيْرِهَا، فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا.
قُلْت: وَهَذَا مُسْتَمَدٌّ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ " حَيْثُ قَالَ: إنَّا نَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقًا فِي الْأَحْوَالِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذُكِرَ فَصَحِيحٌ؛ وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَيَلْزَمُ مِنْهَا عَوْدُ التَّخْصِيصِ إلَى صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَيَبْقَى الْعُمُومُ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِغْرَاقِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى صِيغَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَشْخَاصِ وَاجِبٌ، فَالْعُمُومُ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الصِّيغَةِ الْعَامَّةِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُطْلَقَ عُمُومُ اسْتِغْرَاقٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُطْلَقَ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً، فَنَقُولُ: هَلْ يَكْتَفِي فِيهِ بِالْمَرَّةِ فِعْلًا أَوْ حَمْلًا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَمَمْنُوعٌ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا فُعِلَ مُقْتَضَاهُ مَرَّةً وَوُجِدَتْ الصُّورَةُ الْجُزْئِيَّةُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ الْكُلِّ كَفَى ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا إذَا قَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً، فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً لَا يَلْزَمُ إعْتَاقُهُ رَقَبَةً أُخْرَى، لِحُصُولِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ الْعُمُومَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَحَنِثَ، لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا ثَانِيَةً، لِوُجُودِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فِعْلًا مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ. أَمَّا إذَا عَمِلَ بِهِ مَرَّةً حَمْلًا، أَيْ فِي أَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمُطْلَقِ لَا يَلْزَمُ التَّقَيُّدُ بِهَا، وَلَا يَكُونُ وَفَاءً بِالْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى تَقْيِيدِ الْإِطْلَاقِ بِالصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ حَمْلًا أَنْ لَا يَحْصُلَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ الْإِطْلَاقَ، وَمِثَالُهُ إذَا قَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً، فَإِنَّ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ أَنْ يَحْصُلَ الْإِجْزَاءُ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى رَقَبَةً، لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ فِي كُلِّ مَنْ يُعْتَقُ مِنْ الرِّقَابِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ