الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي الْقَرَائِنِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا صَارِفَةٌ لِلَّفْظِ عَنْ الْعُمُومِ وَفِيهِ مَسَائِلُ] [
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْخَارِجُ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ]
فَصْلٌ
فِي الْقَرَائِنِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا صَارِفَةٌ لِلَّفْظِ عَنْ الْعُمُومِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى
الْخَارِجُ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ، نَحْوُ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14]، وَقَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] وَالْمُرَادُ مَدْحُ قَوْمٍ وَذَمُّ آخَرِينَ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ ذِكْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذِكْرُ النِّسَاءِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَفِي التَّعَلُّقِ بِعُمُومِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمْ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَنُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ، وَلِهَذَا مُنِعَ التَّمَسُّكُ بِآيَةِ الزَّكَاةِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا لَهُ، وَرُبَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَامُ مُفَصَّلٌ فِي مَقْصُودِهِ، وَمُجَمِّلٌ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ.
وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ الْقَاشَانِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: لَا يُحْكَمُ الْعُمُومُ بِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ الْعَامِّ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَخْصُوصُ
بِالذِّكْرِ عَلَى مَا حُكِمَ فِيهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَا لِلْعُمُومِ، وَأَطَالَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ.
قَالَ: فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَثِيرِهِمَا، بَلْ مَقْصُودُ الْآيَةِ الْوَعِيدُ لِتَارِكِ الزَّكَاةِ، وَكَذَا لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَحِلُّ، وَلَكِنْ فِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْفَرْجَ لَا يَجِبُ حِفْظُهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ إذَا اُحْتِيجَ إلَى تَفْصِيلِ مَا لَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ صُيِّرَ فِيهِ إلَى مَا قُصِدَ تَفْصِيلُهُ، مِثْلُ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَنَحْوُهُ.
قَالَ: وَمَنْ ضَبَطَ هَذَا الْبَابَ أَفَادَهُ عِلْمًا كَثِيرًا، وَاسْتَرَاحَ مَنْ لَا يُرَتِّبُ الْخِطَابَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَا يَضَعُهُ مَوْضِعَهُ. انْتَهَى. وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النِّكَاحِ، وَعِبَارَتُهُ: قُلْنَا: الْآيَةُ إذَا سِيقَتْ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ، فَإِنَّمَا يُوجَبُ التَّعْمِيمُ فِي مَحَلِّ الْمَقْصُودِ، فَأَمَّا فِي مَحَلِّ غَيْرِ الْمَقْصُودِ وَالْغَرَضِ بِالْخِطَابِ فَلَا يُقْصَدُ بِالْخِطَابِ، بَلْ يُعْرَضُ عَنْهُ صَفْحًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة: 187] الْآيَةَ اهـ.
وَالثَّانِي: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَصْدِ الْعُمُومِ وَالذَّمِّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ "، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَذْهَبَ الشَّافِعِيَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ صِحَّةُ ادِّعَاءِ الْعُمُومِ فِيهِ حَتَّى لَا يُعَارِضَهُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ " عَلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " وَخَطَّأَ مُخَالِفَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ جَعَلَهُ وَجْهَ الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ.
قُلْتُ: وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلَى أَنَّ النَّوْمَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] قَالَ: فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ، وَمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ يُنْفَى عَنْهُ إبْطَالُ الْعِبَادَةِ، وَاحْتَجَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَبْقَى إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ (أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَفِي الثَّانِي عِنْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ) وَهَذَا نَصٌّ فِي مُسَاوَاتِهَا فِي الْوَقْتِ بِغَيْرِهَا، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ وَقْتِ الضَّرُورَةِ، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَعْلِيمَ أَوَائِلِ أَوْقَاتِ الِاخْتِيَارِ وَآخِرِهَا، لَكِنْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى مُوَافَقَةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَطْوَلُ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَعْمَالًا وَأَقَلُّ أَجْرًا. قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الْوَقْتِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَمْ يُقْصَدْ بِالْخَبَرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّتَهُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، فَمُنِعَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ.
وَكَذَا يُمْنَعُ تَمَسُّكُ الْحَنَفِيَّةِ بِحَدِيثِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ. وَقَالَ: إنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ، لَا لِبَيَانِ الْوَاجِبِ فِيهِ، لَكِنْ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ
الشَّافِعِيُّ هُنَا لِمُعَارِضٍ آخَرَ، لَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِغَيْرِهِ. هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ عُمُومٌ آخَرُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمَدْحُ أَوْ الذَّمُّ، فَإِنْ عَارَضَهُ فَلَا خِلَافَ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لِذَلِكَ، فَيَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ، وَيُقْصَرُ مَا سِيقَ لِلْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ عَلَيْهِمَا. هَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ " التَّحْصِيلِ " وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ لَكِنْ حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا أَنَّهُ يُوقَفُ هَذَانِ الْعَامَّانِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْحَالُ كَالْمُتَعَارَضِينَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ دُونَ الْعَدَدِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فَإِنَّهُ سِيقَ لِلْعَدَدِ، وَهُوَ يَعُمُّ الْأُخْتَ وَغَيْرَهَا، فَيُقْضَى بِتِلْكَ لِأَنَّهَا مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَا يُقْضَى بِهَا عَلَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] مَعَ قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فَالْأُولَى سِيقَتْ لِبَيَانِ الْحُكْمِ، فَقُدِّمَ عَلَى مَا سِيَاقُهَا لِلْمَدْحِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إذَا قَدَّرْنَا دُخُولَ الشَّعْرِ فِيهَا قُدِّمَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} [النحل: 80] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِمَا سِيقَ لِلْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا سِيقَ لِغَرَضٍ، كَمَا سَبَقَ مِنْ نَحْوِ (فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ) وَغَيْرِهِ.