الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الرَّابِعُ التَّخْصِيصُ بِالْغَايَةِ]
وَهِيَ نِهَايَةُ الشَّيْءِ وَمُنْقَطَعُهُ وَهِيَ حَدٌّ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا وَانْتِفَائِهِ بَعْدَهَا. وَلَهَا لَفْظَانِ " حَتَّى، وَإِلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [البقرة: 187] وَقَوْلِهِ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَنَحْوُ أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، حَتَّى يَدْخُلُوا أَوْ إلَى أَنْ يَدْخُلُوا، فَيَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَالْمَقْصُودُ بِالْغَايَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى يَرْتَفِعُ بِهَذِهِ الْغَايَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ الْغَايَةِ لَمْ تَكُنْ الْغَايَةُ مُنْقَطِعًا، فَلَمْ تَكُنْ الْغَايَةُ غَايَةً؛ لَكِنْ هَلْ يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ ضِدِّ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَمْ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَقَطْ؟ هُوَ مَوْضُوعُ الْخِلَافِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ.
وَأَمَّا مَا جُعِلَ غَايَةً فِي نَفْسِهِ فَهَلْ يَنْدَرِجُ فِي حُكْمِ الْمَعْنَى أَمْ لَا؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْآتِي فِي الْمَفْهُومِ. فَإِذَا قُلْت: اشْتَرَيْت مِنْ كَذَا إلَى كَذَا، أَوْ مِنْ كَذَا حَتَّى كَذَا، فَلَا خِلَافَ فِيمَا قَبْلَ الْغَايَةِ أَنَّهُ. دَاخِلٌ وَأَنَّ مَا بَيْنَ مُبْتَدَأِ الْغَايَةِ وَمُنْتَهَاهَا دَاخِلٌ إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ، مِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ " حَتَّى " فَتَدْخُلَ وَ " إلَى " فَلَا تَدْخُلْ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَيَتَعَلَّقُ بِالْغَايَةِ إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ
وَالشَّرْطِ، إذْ الشَّرْطُ مُوجِبٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بَعْدَهُ، وَلَا يَبْقَى بِهِ قَبْلَهُ، وَالْغَايَةُ مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا لَا بَعْدَهَا. فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْغَايَةِ شَرْطُ الْإِثْبَاتِ بِهِمَا وَالنَّفْيُ بِأَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَهَذَا غَايَةٌ. ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] وَهَذَا شَرْطٌ، فَلَا يُسْتَبَاحُ وَطْؤُهَا إلَّا بِالْغُسْلِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَتَنْتَفِي الِاسْتِبَاحَةُ بِعَدَمِهِمَا، أَوْ عَدَمِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ. وَكَذَا جَعَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْآيَةَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِغَايَةٍ وَشَرْطٍ، وَالْغُسْلُ شَرْطٌ، فَكَانَا مُعْتَبَرَيْنِ فِي إبَاحَةِ الْإِصَابَةِ.
وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ: يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْحُكْمِ غَايَتَانِ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": الْغَايَةُ هِيَ الْأَخِيرَةُ، لِأَنَّهَا الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَسُمِّيَتْ الْأُولَى غَايَةً مَجَازًا لِقُرْبِهَا مِنْ الْغَايَةِ وَاتِّصَالِهَا بِهَا، وَنُوزِعَ بِأَنَّ هَاتَيْنِ غَايَتَانِ لِشَيْئَيْنِ فَمَا اجْتَمَعَ غَايَتَانِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ النَّاشِئَ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ غَايَتُهُ انْقِطَاعُ الدَّمِ، فَإِذَا انْقَطَعَ حَدَثَ تَحْرِيمٌ آخَرُ نَاشِئٌ عَنْ عَدَمِ الْغَسْلِ، فَالْغَايَةُ الثَّانِيَةُ غَايَةُ هَذَا التَّحْرِيمِ الثَّانِي. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ هُنَا غَايَتَانِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَهَا حَرْفَانِ " حَتَّى، وَإِلَى " وَلَيْسَ هُنَا غَيْرُ " حَتَّى "، فَلَوْ كَانَ الْحَرْفَانِ هُنَا لَأَمْكَنَ مَا قَالُوا، وَإِنَّمَا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِك لَا تُكْرِمْ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَكْرِمْهُ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ فِي (يَطَّهَّرْنَ) فَالْغَايَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ تَأْكِيدٌ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ، أَيْ يَنْقَطِعُ حَيْضُهُنَّ، فَبَعْدَهُ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ اغْتَسَلْنَ، وَهُوَ شَرْطٌ، فَيَتَعَارَضُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ، فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ الظَّاهِرُ تَقْدِيمُ مَفْهُومِ الشَّرْطِ،
وَحَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى تَكْثِيرِ الْفَوَائِدِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّأْكِيدِ.
وَحَكَى التَّبْرِيزِيُّ فِي اخْتِصَارِ الْمَحْصُولِ ": فِيمَا إذَا كَانَتْ الْغَايَةُ لَهَا جُزْءَانِ أَوْ أَجْزَاءٌ خِلَافًا فِي أَنَّ الْغَايَةَ هِيَ الْأُولَى أَمْ الْأَخِيرَةُ؟ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلَمْ أَرَهُ إلَّا فِيهِ، وَغَيْرُهُ يَحْكِي الِانْدِرَاجَ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْأَجْزَاءِ. قُلْت: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْخِلَافِ الْفِقْهِيِّ فِي أَنَّ الْحَدَثَ هَلْ يَرْتَفِعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِ الْأَعْضَاءِ؟ الْأَصَحُّ الْأَوَّلُ. فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» فَالْحَدَثُ مُغَيًّا بِالْوُضُوءِ، وَالْوُضُوءُ ذُو أَجْزَاءٍ فَهَلْ يَرْتَفِعُ عَنْ الْعُضْوِ بِمُجَرَّدِهِ، أَمْ لَا يَرْتَفِعُ شَيْءٌ مِنْهُ حَتَّى تُوجَدَ الْغَايَةُ بِتَمَامِهَا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ» هَلْ الْمُرَادُ تَطَهَّرَ طُهْرًا كَامِلًا، أَوْ طُهْرًا مَا حَتَّى غَسَلَ رِجْلًا. وَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ أُخْرَى وَأَدْخَلَهَا جَازَ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، هَذَا مَأْخَذُهُ.
وَحَكَى غَيْرُهُ مَذْهَبًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ ذِي الْغَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَالْغَايَةُ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنْفَصِلَةً كَقَوْلِهِ:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَالْغَايَةُ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ أَطْلَقُوا كَوْنَ الْغَايَةِ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَهَذَا الْكَلَامُ مُقَيَّدٌ بِغَايَةٍ تَقَدَّمَهَا لَفْظٌ يَشْمَلُهَا، لَوْ لَمْ يُؤْتَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فَإِنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لَوْ لَمْ يُؤْتَ بِهَا لَقَاتَلْنَا الْمُشْرِكِينَ، أَعْطَوْا الْجِزْيَةَ أَوْ لَمْ يُعْطُوهَا. وَوَرَاءَهُ صُورَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: غَايَةٌ لَمْ يَشْمَلْهَا الْعُمُومُ وَلَا صَدَقَ عَلَيْهَا اسْمُهُ، فَلَا يُؤْتَى بِهَا
إلَّا لِعَكْسِ مَا يُؤْتَى بِالْغَايَةِ فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ، فَإِنَّ تِلْكَ يُؤْتَى بِهَا لِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ أَوْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ؛ وَهَذِهِ يُؤْتَى بِهَا لِتَحْقِيقِ الْعُمُومِ وَتَأَكُّدِهِ وَإِعْلَامِ أَنَّهُ لَا خُصُوصَ فِيهِ، وَأَنَّ الْغَايَةَ فِيهِ ذَاكِرَةٌ بِحَالِ قَصْدٍ مِنْهُ أَنْ يَتَعَقَّبَ الْحَالَ الْأُولَى بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُهَا شَيْءٌ.
وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» . فَحَالَةُ الْبُلُوغِ وَالِاسْتِيقَاظِ وَالْإِفَاقَةِ تُضَادُّ حَالَاتِ الصِّبَا وَالنَّوْمِ وَالْجُنُونِ، وَقُصِدَ بِالْغَايَةِ هُنَا اسْتِيعَابُ رَفْعِ الْقَلَمِ لِتِلْكَ الْأَزْمِنَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَدَعْ وَلَا آخِرَ الْأَزْمِنَةِ الْمُلَاصِقَةِ لِلْبُلُوغِ وَالِاسْتِيقَاظِ وَالْإِفَاقَةِ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْعُمُومِ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] قُصِدَ بِهِ تَحْقِيقُ أَنَّ الْحَالَةَ الْمُلَاصِقَةَ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِمَّا شَمِلَهُ " سَلَامٌ " بِمَا قَبْلَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فَإِنَّ حَالَةَ الطُّهْرِ لَا يَشْمَلُهَا اسْمُ الْحَيْضِ.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: غَايَةٌ شَمِلَهَا الْعُمُومُ، أَتَتْ أَوْ لَمْ تَأْتِ، فَهَذِهِ أَيْضًا لَا يُؤْتَى بِهَا إلَّا لِتَحْقِيقِ الْعُمُومِ، كَقَوْلِك: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ. الْمُرَادُ تَحْقِيقُ قِرَاءَتِك لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ، بِحَيْثُ لَمْ تَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ قَطَعْت أَصَابِعَهُ مِنْ الْخِنْصَرِ إلَى الْبِنْصِرِ، الْمُرَادُ تَحْقِيقُ الْعُمُومِ وَاسْتِغْرَاقُهُ لَا تَخْصِيصُهُ. انْتَهَى.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَشْمَلُهُ الْعُمُومُ لَوْ لَمْ يَأْتِ هُوَ مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ، وَوَرَاءَهُ صُورَتَانِ: مَا لَمْ يَشْمَلْهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَا يَشْمَلُهُ وَإِنْ أَتَتْ. وَهَاتَانِ لَا تَكُونُ الْغَايَةُ فِيهِمَا لِلتَّخْصِيصِ
هَذَا كُلُّهُ فِي حُكْمِ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ نَفْسِهَا، هَلْ يَدْخُلُ فِي الْمُغَيَّا، كَقَوْلِك: أَكَلْت حَتَّى قُمْتُ؟ هَلْ يَكُونُ الْقِيَامُ مَحَلًّا لِلْأَكْلِ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي بَرْهَانٍ ".
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْوُضُوءِ.
وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ دَخَلَ وَإِلَّا فَلَا، نَحْوُ بِعْتُك التُّفَّاحَ إلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَيُنْظَرُ فِي تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَهِيَ مِنْ التُّفَّاحِ فَتَدْخُلُ أَمْ لَا، فَلَا تَدْخُلُ؟ قَالَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فِي بَابِ الْوُضُوءِ، وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ الْمُبَرِّدِ.
وَالْخَامِسُ: قَالَ فِي الْمَحْصُولِ: وَهُوَ الْأَوْلَى إنْ تَمَيَّزَ عَمَّا قَبْلَهُ بِالْحِسِّ، نَحْوُ {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَإِنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَهَا خِلَافُ مَا قَبْلَهَا، وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ حِسًّا اسْتَمَرَّ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى مَا بَعْدَهُ، مِثْلُ:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَإِنَّ الْمِرْفَقَ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْيَدِ بِمِفْصَلٍ مَحْسُوسٍ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَوْلُ الْإِمَامِ: يَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا مَدْخُولٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَعْدَ الْغَايَةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِلَافِ فِيهِ، وَالْخِلَافُ لَيْسَ إلَّا فِي الْغَايَةِ نَفْسِهَا.
وَالسَّادِسُ: إنْ اقْتَرَنَ " بِمِنْ " لَمْ يَدْخُلْ، نَحْوُ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَحْدِيدًا وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى " مَعَ ".
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ ": إنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ خَرُوفٍ وَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ مِنْهُ حَرْفًا، وَلَا هُوَ مَذْهَبُهُ؛ وَاَلَّذِي قَالَهُ فِي كِتَابِهِ: إنَّ " إلَى " مُنْتَهَى الِابْتِدَاءِ. تَقُولُ: مِنْ مَكَانِ كَذَا إلَى كَذَا، وَكَذَلِكَ " حَتَّى " قَالَ: وَلَهَا فِي الْفِعْلِ حَالُ لَيْسَ " لِإِلَى ". تَقُولُ: قُمْت إلَيْهِ، فَتَجْعَلُهُ مُنْتَهَاك مِنْ مَكَانِك، وَلَا تَكُونُ " حَتَّى " هُنَا. فَهَذَا أَثَرُ " إلَى "، وَأَصْلُهَا، وَإِنْ اتَّسَعَتْ فَهِيَ أَعَمُّ فِي الْكَلَامِ مِنْ " حَتَّى ": تَقُولُ: قُمْتُ إلَيْهِ، فَتَجْعَلُهُ مُنْتَهَاك مِنْ مَكَانِك. وَلَا تَقُولُ " حَتَّاهُ ". هَذَا لَفْظُ سِيبَوَيْهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَايَةِ الِانْتِهَاءِ، أَمَّا غَايَةُ الِابْتِدَاءِ فَفِيهَا قَوْلَانِ فَقَطْ. قَالَهُ الْقَرَافِيُّ. وَطَرَدَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فِيهَا، فَقَالَ: وَفِيهَا مَذَاهِبُ: يَدْخُلَانِ. لَا يَدْخُلَانِ، ثَالِثُهَا: تَدْخُلُ غَايَةُ الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ. رَابِعُهَا: إنْ قَرُبَ حِسًّا خَرَجَتْ، وَإِلَّا دَخَلَتْ. خَامِسُهَا: إنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ خَرَجَتْ. ثُمَّ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا الْخِلَافُ مَخْصُوصٌ " بِإِلَى " وَلَا يَجْرِي فِي " حَتَّى " لِقَوْلِ النُّحَاةِ: إنَّ الْمَعْطُوفَ بِحَتَّى شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا، وَدَاخِلًا فِي حُكْمِهِ، وَآخِرُ جُزْءٍ مِنْهُ أَوْ مُتَّصِلًا بِهِ، أَوْ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ أَوْ التَّحْقِيرِ، فَقَطَعُوا بِانْدِرَاجِ مَا بَعْدَهَا فِي الْحُكْمِ، وَخَالَفَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ. قَالَ: بَلْ يَجْرِي فِيهَا وَهِيَ إذَا جَاءَتْ عَاطِفَةً لَيْسَتْ بِمَعْنَى " إلَى " فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ.
وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ مَحَلُّهُ فِي غَايَةٍ يَتَقَدَّمُهَا لَفْظٌ يَشْمَلُهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُغَيَّا أَنْ يَثْبُتَ قَبْلَ الْغَايَةِ، وَيَتَكَرَّرَ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهَا، كَقَوْلِك: سِرْت مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ؛ فَإِنَّ السَّيْرَ الَّذِي هُوَ الْمُغَيَّا ثَابِتٌ قَبْلَ الْكُوفَةِ، وَيَتَكَرَّرُ فِي طَرِيقِهَا. وَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى:{إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] غَايَةً لِغَسْلِ الْيَدِ، لِأَنَّ غَسْلَ الْيَدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى الْإِبِطِ. فَلَيْسَ ثَابِتًا قَبْلَ الْمِرْفَقِ الَّذِي هُوَ غَايَةٌ، فَلَا يَنْتَظِمُ غَايَةً لَهُ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ أَنْ لَوْ قِيلَ: اغْسِلُوا إلَى الْمَرَافِقِ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْغُسْلِ ثَابِتٌ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَمُتَكَرِّرٌ.
قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَيَّا غَيْرَ الْغُسْلِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: اُتْرُكُوا مِنْ آبَاطِكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ فَيَكُونُ مُطْلَقُ التَّرْكِ ثَابِتًا قَبْلَ الْمِرْفَقِ، وَيَتَكَرَّرُ إلَيْهِ، وَيَكُونُ الْغُسْلُ نَفْسُهُ لَمْ يُغَيَّ، فِي هَذَا يَتَعَارَضُ الْمَجَازُ وَالْإِضْمَارُ، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَتَجَوَّزَ بِلَفْظِ الْيَدِ إلَى جُزْئِهَا حَتَّى يَثْبُتَ قَبْلَ الْغَايَةِ، وَلَا يُضْمَرُ. وَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ كَمَا يَقُولُ: هَذَا الْحَنَفِيُّ، وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] يَقْتَضِي ثُبُوتَ الصِّيَامِ بِوَصْفِ التَّمَامِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيَتَكَرَّرُ إلَى غُرُوبِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَيُشْكَلُ كَوْنُ اللَّيْلِ غَايَةً لِلصَّوْمِ التَّامِّ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ، لَوْ قِيلَ صُومُوا إلَى اللَّيْلِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَتِمُّوا كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ بِسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ. وَكَرِّرُوا ذَلِكَ إلَى اللَّيْلِ، وَالْكَمَالُ فِي الصَّوْمِ قَدْ يَحْصُلُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ دُونَ جُزْءٍ، مِنْ جِهَةِ اجْتِنَابِ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْبَاهُ الصَّوْمُ، وَكَذَلِكَ آدَابُهُ الْخَاصَّةُ: كَتَرْكِ السِّوَاكِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي أُمُورِ النِّسَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَأُمِرْنَا بِتَكْرِيرِ هَذَا إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ أَصْحَابَنَا فِي الْفُرُوعِ صَحَّحُوا عَدَمَ دُخُولِهَا فِيهَا إذَا