الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: وَدَلَالَةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْقَرِينَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ يَعْنِي يَجْعَلُ الْجَمِيعَ مَجَازًا، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَشْرٌ إلَّا خَمْسَةً فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إقْرَارٌ بِخَمْسَةٍ: وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ وَالْمُتَّصِلِ، فَإِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا اتَّصَلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ بُنِيَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فَكَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً فِيمَا بَقِيَ وَإِذَا انْفَصَلَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ لَمْ يُبَيِّنْ فَكَانَ مَجَازًا فِيهِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِينَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ فِي أَنَّ اللَّفْظَ بُنِيَ عَلَيْهَا وَدَالَّةٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْهُ وَمَا بَقِيَ يَكُون ثَابِتًا فِيهَا بِاللَّفْظِ لَا بِالْقَرِينَةِ فَيَخْتَارُ أَنْ لَا يَفْتَرِقَ حَالُهُمَا بِوَجْهٍ انْتَهَى.
[مَسْأَلَةٌ الْعَامُّ إذَا خُصَّ فَإِمَّا أَنْ يُخَصَّ بِمُبْهَمٍ أَوْ مُعَيَّنٍ]
ٍ فَإِنْ خُصَّ بِمُبْهَمٍ كَمَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا بَعْضَهُمْ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَفْرَادِ، إذْ مَا مِنْ فَرْدٍ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْرَجُ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَعْلُومِ يُصَيِّرُهُ مَجْهُولًا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ إلَّا صَاعًا مِنْهَا لَا يَصِحُّ، وَمِثْلُهُ فِي " الْمَنْخُولِ " بِمَا لَوْ تَمَسَّكَ فِي مَسْأَلَةِ الْوِتْرِ بِقَوْلِهِ: افْعَلُوا الْخَيْرَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ هَذَا الْأَمْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَكُونُ مُجْمَلًا.
وَهَذَا قَدْ ادَّعَى، فِيهِ جَمَاعَةٌ الِاتِّفَاقَ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَالْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ". وَقَالَ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا كَانَ الْمُخَصَّصُ مُجْمَلًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا فِي أَمْرٍ وَاجِبٍ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ مَنْ أَجَازَ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْعَامِّ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ عَلَى الْفَوْرِ.
قُلْت: وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبَالَغَ فِي تَصْحِيحِ الْعَمَلِ بِهِ مَعَ الْإِبْهَامِ، وَاعْتَلَّ بِأَنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى فَرْدٍ شَكَكْنَا فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ الْمُخَرَّجِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَيُعْمَلُ بِهِ إلَى أَنْ يُعْلَمَ بِالْقَرِينَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُخَصِّصَ مُعَارِضٌ لِلَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعَارِضًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ. انْتَهَى.
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِضْرَابِ عَنْ الْمُخَصِّصِ، وَالْعَمَلُ بِالْعَامِّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَقَدْ رَدَّ الْهِنْدِيُّ هَذَا الْبَحْثَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي الْكُلِّ الْمَخْصُوصِ وَغَيْرِهِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ انْتَهَى.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ صَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَعِبَارَتُهُ: وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَجْهُولًا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخُصُوصُ أَصْلًا، بَلْ يَبْقَى النَّصُّ عَامًّا كَمَا كَانَ. كَذَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ فِي " التَّقْوِيمِ ".
وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ. فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: الْخِطَابُ إذَا عُلِمَ خُصُوصُهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِمَّا يَخُصُّهُ كَيْفَ يُعْمَلُ بِهِ؟ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى إحَالَةِ هَذَا. وَقَالَ: إنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى تَأْخِيرِهِ إنْ أَجَزْنَاهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيُعْتَقَدُ فِيهِ الْعُمُومُ إلَّا مَوْضِعًا خُصَّ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْعُمُومُ أَمْضَاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ خُصُوصٌ لَخَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَهُ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقِفُ فِي هَذَا، لِأَنِّي قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ مَخْصُوصٌ. وَلَعَلَّ الْحُكْمَ الَّذِي حُكِمَ مِنْ حَيِّزِ الْخُصُوصِ كَمَا لَوْ عَلِمَ فِي الْآيَةِ نَسْخًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْرِيَهُ عَلَى الْأَصْلِ، لِجَوَازِ النَّسْخِ. فَكَذَلِكَ التَّخْصِيصُ. انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ حَكَاهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ، مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، فَقَالُوا: إذَا خُصَّ وَجَبَ الْوَقْفُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ، سَوَاءٌ خُصَّ بِمَجْهُولٍ أَوْ مَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ عِنْدَ التَّخْصِيصِ يَصِيرُ مَجَازًا فِي الْبَعْضِ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولٌ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةً. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إنْ خُصَّ بِمَجْهُولٍ لَمْ يَثْبُتْ التَّخْصِيصُ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي ثَبَتَ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، سَوَاءٌ خُصَّ بِمَجْهُولٍ أَوْ مَعْلُومٍ، لَكِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى أَفْرَادِهِ تَبْقَى ظَنِّيَّةً، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ صَاحِبُ " اللُّبَابِ ": ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنْ يَبْقَى عَامًّا فِيمَا وَرَاءَ التَّخْصِيصِ، وَيَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَصَّصُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَلَكِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ لَا لِلْعِلْمِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّخْصِيصِ عِنْدَنَا، فَإِنَّهُ قَطْعِيٌّ.
وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ مَعْلُومًا صَحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ: لَا يَبْقَى لِلْبَاقِي عُمُومٌ، وَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ مَعْلُومًا يَبْقَى مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، أَوْ مَجْهُولًا لَا يُوجِبُهُمَا؛ بَلْ يُوقَفُ عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ مَجْهُولًا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخُصُوصُ أَصْلًا، بَلْ يَبْقَى النَّصُّ عَامًا كَمَا كَانَ. انْتَهَى.
وَإِنْ خُصَّ بِمُعَيَّنٍ كَمَا لَوْ قِيلَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ أَوْ الْمُسْتَأْمَنَ، فَهَلْ يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ
الْآمِدِيُّ، وَالرَّازِيَّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: إنَّهُ الْأَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الْمُتَّصِلِ بِالْخِطَابِ وَالْمُنْفَصِلِ عَنْهُ. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَلَكِنَّهُ دُونَهُ مَا لَمْ يَتَطَرَّقْ التَّخْصِيصُ إلَيْهِ، فَيُكْسِبُهُ ضَرْبًا مِنْ التَّجَوُّزِ، وَلَوْ رَجَحَ «نَهْيُهُ عليه السلام عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا لَكَانَ الْخَمْرُ وَالْقَاذُورَاتُ الْمُحَرَّمَةُ خَارِجَةً عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي " التَّقْوِيمِ ": إنَّهُ الَّذِي صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ. قَالَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ قَطْعًا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّخْصِيصِ. وَكَذَا قَالَ السَّرَخْسِيُّ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خُصَّ هَذَا الْعَامُّ بِالْقِيَاسِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ
لِلْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " عَنْ أَصْحَابِهِمْ وَالشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَنُقِلَ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَحَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ، قَالَ: ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ. قَالَ: وَكَلَامُ الْوَاقِفِيَّةِ فِي الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ أَظْهَرُ لَا مَحَالَةَ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ يَصِيرُ مُجْمَلًا، وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَا إذَا كَانَ الْمُخَصَّصُ مَجْهُولًا، هَكَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِلْكِيَا، قَالَ: وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضِعٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِقَرِينَةٍ، وَمِقْدَارُ التَّأْثِيرِ لِلْقَرِينَةِ فِي اللَّفْظِ مَجْهُولٌ، فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مَجْهُولًا.
قَالَ: وَهُوَ مُتَّجِهٌ جِدًّا، وَغَايَةُ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ عَلِمُوا بِمَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ مِنْ الْعُمُومِ. وَلَهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّهُمْ نَقَلُوهُ مِنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي شَاهَدُوهَا وَأَلِفُوهَا، وَكَانُوا بِمَرْأَى مِنْ الرَّسُولِ، وَمَسْمَعٍ مِنْ الْوَحْي.
الثَّانِي: أَنَّ صِيغَةَ الْعُمُومِ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الِاسْتِغْرَاقِ لِاحْتِمَالِ إرَادَةِ الْخُصُوصِ، وَإِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى غَالِبِ الْمُسَمَّيَاتِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَخْطُرُ بِالْبَالِ. نَعَمْ، إنْ كَانَ مَضْمُونُ التَّخْصِيصِ اسْتِثْنَاءَ مَا لَا يَشِذُّ عَنْ الذِّهْنِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَيَتَّجِهُ مَا قَالَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ، ثُمَّ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ بِأَنَّهُ إسْقَاطُ أَمْرِ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْمُمْكِنِ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ الْقَرِينَةِ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ، وَلَا يُقَدَّرُ وَرَاءَهُ قَرِينَةٌ هِيَ غَائِبَةٌ عَنَّا فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يَتَنَاوَلْهُ تَخْصِيصٌ إجْمَاعًا لِإِمْكَانِ أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى سُؤَالٍ، وَقَرِينَةِ حَالٍ. اهـ.
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: الْقَائِلُ بِهَذَا، إنْ كَانَ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْعُمُومَ، فَقَدْ أَثْبَتْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُثْبِتُهُ فَمِنْ نَفْسِ قَوْلِهِ يَسْقُطُ قَوْلُهُ هَذَا، لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ عَمَّا بَقِيَ لِأَنَّ الْبَعْضَ خَصَّ، وَمَا لَمْ يُخَصَّ دَاخِلٌ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ فِيمَا جَاءَ عَامًّا لِإِمْكَانِ خُصُوصِهِ، فَلَا يُحْكَمُ بِهِ، حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يُخَصَّ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ إلَى أَنَّ الصِّيغَةَ الْمَوْضُوعَةَ إذَا خُصَّتْ صَارَتْ مُجْمَلَةً، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهَا فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ كَسَائِرِ الْمَجَازَاتِ، وَإِلَيْهِ مَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ.
وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: هَذَا الْمَذْهَبُ يُعْتَبَرُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْكُلِّ بِمَا هُوَ كُلٌّ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ بِالتَّخْصِيصِ أَنَّ الْكُلَّ لَيْسَ مُرَادًا بَقِيَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا، لَا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ مُجْمَلًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِصِفَةِ الظُّهُورِ، فَإِذَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ، تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّمُولَ لَيْسَ مُرَادًا، فَيَبْقَى اللَّفْظُ مُجْمَلًا، فَيَكْتَسِبُ الْإِجْمَالَ.
وَالثَّالِثُ: إنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِيمَا بَقِيَ، وَإِنْ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ فَلَا؛ بَلْ يَصِيرُ مُجْمَلًا. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ، وَكَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الْكَرْخِيِّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ: كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ فِي الْعَامِّ: إذَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ، وَصَارَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا
عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ، فَيَكُون بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ، وَكَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ، فَيَقُولُ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ بَقَاءِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا فَكَانَ يَقُولُ: هَذَا بَدِيهِيٌّ، وَلَا أَقْدِرُ أَعْزِيهِ إلَى أَصْحَابِنَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ إنْ لَمْ يَمْنَعْ اسْتِفَادَةَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ وَتَعْلِيقِهِ بِظَاهِرِهِ، جَازَ التَّعْلِيقُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ أَهْلَ الذِّمَّةِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْقَتْلُ بِاسْمِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ، وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطِ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ الظَّاهِرُ لَمْ يَجُزْ التَّعَلُّقُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَالْحِرْزِ، وَكَوْنِ الْمَسْرُوقِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِلسَّارِقِ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِعُمُومِ اسْمِ السَّارِقِ، وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ تِلْمِيذِ الْكَرْخِيِّ.
وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ كَالْمُشْرِكِينَ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا، كَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَيَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ عَلَى بَيَانِ التَّخْصِيصِ، وَهُوَ إخْرَاجُ الْحَائِضِ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ. حَكَاهُ الْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ: إنَّهُ تَحَكُّمٌ وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَعَلَّهُ قَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ إلَيْهِ، وَحُكِيَ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي وَاحِدٍ، وَلَا يَتَمَسَّكُ بِهِ جَمْعًا.
وَالسَّابِعُ: الْوَقْفُ، فَلَا نَقُولُ: خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ إلَّا بِدَلِيلٍ. حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَجَعَلَهُ مُغَايِرًا لِقَوْلِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى الْخُصُوصِ. تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: مَحَلُّ قَوْلِنَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَمَّا الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ " وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَهُ أَيْضًا.
الثَّانِي: حَيْثُ قُلْنَا: إنَّهُ مُجْمَلٌ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ هُوَ مُجْمَلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ الْمُرَادَ مِنْ ظَاهِرِهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ، أَوْ مُجْمَلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ؟ وَجْهَانِ: قَالَ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْمُجْمَلِ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيفِ بِمَا هُوَ مُرَادٌ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَافْتِقَارُ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ جِهَةِ أَنْ يُعْرَفَ بِهَا مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مَجَازٌ
لَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ جَوَّزَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَجَازٌ، ثُمَّ أَجَازَ التَّعَلُّقَ بِهِ يَعْنِي كَالْقَاضِي صَارَ الْخِلَافُ مَعَهُ لَفْظِيًّا. كَذَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ فَمَنْ قَالَ: قَطْعِيَّةٌ جَعَلَ الَّذِي خُصَّ كَاَلَّذِي لَمْ يُخَصَّ وَإِلَّا فَلَا. وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ: هَلْ يَتَنَاوَلُ الْجِنْسَ أَوْ لَا، وَتَنْدَرِجُ الْآحَادُ تَحْتَهُ ضَرُورَةَ اشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ، أَوْ يَتَنَاوَلُ الْآحَادَ وَاحِدًا وَاحِدًا، حَتَّى يَسْتَغْرِقَ الْجِنْسَ؟ فَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَظْهَرُ عُمُومَهُ. فَإِذَا تَخَصَّصَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْعُمُومَ، وَعِنْدَ إرَادَةِ عَدَمِ الْعُمُومِ لَيْسَ بَعْضٌ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَيَكُونُ مُجْمَلًا.