الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
22 - باب الاشتراط في الحج
1557 -
عن ابن عباس:
أن ضُبَاعَةَ بنت الزُّبَيْرِ بن عبد المطلب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج؛ أشترط؟ قال:
"نعم". قالت: فكيف أقول؟ قال:
"قولي: لبيك اللهم! لبيك، ومَحِلِّي من الأرض حَيْث حَبَسْتَنِي".
(قلت: إسناده حسن صحيح. وأخرجه مسلم بنحوه عنه، والشيخان وابن الجارود وابن حبان عن عائشة).
إسناده: حدثنا أحمد بن حنبل: ثنا عَبَّاد بن العَوَام عن هلال بن خبّابٍ عن عكرمة عن ابن عباس.
قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال البخاري؛ غير هلال، وهو حسن الحديث.
وقد تابعه جمع من الثقات. عند مسلم.
وله شواهد خرجتها في "الإرواء"(1009 - 1010).
23 - باب في إفراد الحج
1558 -
عن عائشة:
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفْرَدَ الحِجَّ.
(قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجه مسلم، وابن حبان (3923)).
إسناده: حدثنا القعنبي: ثنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجه مسلم كما يأتي.
والحديث في "الموطأ"(1/ 310)
…
سندًا ومتنًا.
وعنه: أخرجه مسلم أيضًا (4/ 31)، والنسائي (2/ 13)، والترمذي (820) -وقال:"حديث حسن صحيح"-، والدارمي (2/ 35)، وابن ماجة (20/ 226)، والبيهقي (5/ 3)، وأحمد (6/ 104) من طرق عن مالك
…
به.
وتابعه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد
…
به.
أخرجه أحمد (6/ 107).
وتابعه عروة عن عائشة
…
به.
أخرجه مسلم (4/ 28)، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد (6/ 107 و 243).
وله عنده طريق ثالثة عنها.
1559 -
ومن طريق ثانية عنها قالت:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَافِينَ هلالَ ذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة قال:
"من شاء أن يُهِلَّ بحجَ؛ فَلْيُهِلَّ، ومن شاء أن يُهِلَّ بعمرة؛ فَلْيُهِلَّ بعمرة، -قال موسى في حديث وهيب: فإني لولا أني أهديت؛ لأهللت بعمرة. وقال في حديث حماد بن سلمة: وأما أنا فأهل بالحج؛ فإن معي الهدي-، -ثم اتفقوا-؛ فكنت فيمن أهل بعمرة، فلما كان في بعض
الطريق؛ حِضْتُ، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:
"ما يبكيك؟ ". قلت: وَدِدْتُ أني لم أكن خرجت العامَ. قال:
"ارفضي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي -قال موسى: وأهلِّي بالحج. وقال سليمان: واصنعي ما يصنع المسلمون في حَجِّهِمْ-".
فلما كان ليلة الصَّدَرِ؛ أمر -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرحمنِ، فذهب بها إلى التنعيم -زاد موسى: فأهلَّتْ بعمرة مكان عمرتها، وطافت بالبيت، فقضى الله عُمْرَتَها وحَجَّها. قال هشام: ولم يكن في شيء من ذلك هديٌ. زاد موسى في حديث حماد بن سلمة: فلما كانت ليلة البَطْحَاءِ؛ طَهُرَتْ عائشة رضي الله عنها.
(قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ إلا حديث ابن سلمة فهو على شرط مسلم، وقد أخرجه في "صحيحه"، وأخرجه هو والبخاري من حديث غيره).
إسناده: حدثنا سليمان بن حرب قال: ثنا حماد بن زيد. (ح) وثنا موسى بن إسماعيل: ثنا حماد -يعني: ابن سلمة-. (ح) وثنا موسى: ثنا وهيب عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة.
قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين من الوجوه الثلاثة عن هشام بن عروة؛ غير حماد بن سلمة، فهو على شرط مسلم وحده، وقد أفرد المصنف لفظه قريبًا بعد ثلاث روايات عنها، وفيه جملة مستنكرة عندي، كما سأبينه هناك إن شاء الله تعالى.
والحديث أخرجه البخاري (1/ 331 - 332 و 3/ 480 - 481)، ومسلم (4/ 28
- 29)، وأحمد (6/ 191) من طرق عن هشام بن عروة
…
به.
وكذلك أخرجه ابن ماجة (2/ 234) -بتمامه-، والنسائي -بعضه - (2/ 13).
1560 -
وفي رواية عنها قالت:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حَجَّةِ الوداع، فمنَّا من أهل بعمرة، ومنا من أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ، ومنا من أهلَّ بالحج، وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بالحج، أو جمع الحجَّ والعمرة؛ فلم يَحِلُّوا حتى كان يومُ النحْرِ.
(قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجاه).
إسناده: حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الأسود عن محمد بن عبد الرحمن ابن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة
…
به.
قلت: وهذا صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجاه كما يأتي.
والحديث في "الموطأ"(1/ 35)
…
بإسناده ومتنه.
وعنه: أخرجه الشيخان وغيرهما، كما هو مخرج في "إرواء الغليل"(1003).
1561 -
وفي رواية؛ زاد:
فأما من أهل بعمرة؛ فَحَلَّ.
(قلت: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه).
إسناده: حدثنا ابن السَّرْحِ: أخبرنا ابن وهب: أخبرني مالك عن أبي الأسود
…
بإسناده مثله؛ زاد
…
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ غير ابن السرح -واسمه: أحمد بن عمرو-، فهو على شرط مسلم وحده.
والحديث مكرر الذي قبله، وإنما أعاده المصنف لهذه الزيادة التي فيه، وهي عند مسلم وأحمد.
وهي عند الشيخين من طريق ابن شهاب عن عروة، وهي في الرواية الآتية في الكتاب.
1562 -
وفي أخرى عنها قالت:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كان معه هدي؛ فَلْيُهِلَّ بالحج مع العمرة، ثم لا يَحِلَّ حتى يَحِلَّ منهما جميعًا"، فقَدِمْتُ مكة وأنا حائض، ولم أطُفْ بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال:
"انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلِّي بالحج، ودعي العمرة".
قالت: ففعلت، فلما قضينا الحج؛ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرتُ، فقال:
"هذه مكان عمرتك".
قالت: فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حَلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منىً لِحَجِّهِمْ. وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة؛ فإنما طافوا طوافًا واحدًا.
(قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجاه).
إسناده: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت
…
قال أبو داود: "رواه إبراهيم بن سعد ومعمر عن ابن شهاب
…
نحوه؛ لم يذكروا طواف الذين أهلوا بعمرة، وطواف الذين جمعوا بين الحج والعمرة".
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجاه من طريق مالك أيضًا، وهذا في "الموطأ"، وهو مخرج في "الإرواء"(1159).
1563 -
وفي رواية من الطريق الأولى عنها قالت:
لَبَّينا بالحجِّ، حتى إذا كنَّا بِسَرِفَ؛ حضْتُ، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:
"ما يبكيك يا عائشة؟ ! ".
فقلت: حِضت، ليتني لم أكنْ حججت! فقال:
"سبحان الله! إنما ذلك شيء كتبه الله علي بنات آدم"؛ فقال:
"انْسُكِي المناسكَ كلَّها؛ غَيْرَ أن لا تطوفي بالبيت".
فلما دخلنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من شاء أن يجعلها عمرة؛ فليجعلها عمرة؛ إلا من كان معه الهَدْيُ".
قالت: وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر. فلما كانت ليلة البطحاء وطهرت عائشة؛ قالت: يا رسول الله! أتَرْجعُ صَوَاحِبِي بحجٍّ وعمرةٍ، وأرجع أنا بالحجِّ؟ ! فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر،
فذهب بها إلى التنعيم، فَلَبَّتْ بالعمرة.
(قلت: إسناده على شرط مسلم. وقد أخرجه، ولكنه لم يَسُقْ منه إلا طرفه الأول، وأحال في سائر لفظه على رواية أخرى بنحوه؛ وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوها عمرة". وهذا هو الصواب كما في الرواية الآتية؛ دون قوله: "من شاء أن يجعلها عمرة"؛ فإنه منكر، تفرد به حماد بن سلمة دون كل الثقات الذين رووا هذه القصة من جميع الطرق عن عائشة، فليس في شيء منها هذا التخيير بعد دخول مكة، وإنما هو في بعضها عند ذي الحليفة، كما في الطريق الثانية المتقدمة (1559)، وهو المحفوظ).
إسناده: حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل: ثنا حماد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت
…
قلت: إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات على شرط البخاري ومسلم؛ غير حماد -وهو ابن سلمة-، فهو على شرط مسلم وحده؛ وقد أخرجه كما يأتي.
قلت: والحديث أخرجه أحمد (6/ 219): ثنا بهز: ثنا حماد بن سلمة
…
به.
ومسلم (4/ 31) من طريق بهز
…
به، ولكنه لم يسق من لفظه إلا طرفه الأول، وأحال في سائره على لفظ حديث عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن ابن القاسم؛ ولكنه قال:"نحوه".
فكأنه يشير إلى اختلاف لفظ حديث حماد عن حديث الماجشون.
وهو ظاهر؛ فإنه ليس في حديث الماجشون: "من شاء أن يجعلها عمرة"، المفيد التخيير فيما أمرهم به من فسخ الحج إلى العمرة؛ وإنما فيه قوله صلى الله عليه وسلم:"اجعلوها عمرة"؛ جزمًا دون التخيير.
وكذلك أخرجه أحمد (6/ 273) من طريقه -أعني: الماجشون-، وهو أوثق من حماد بن سلمة بكثير؛ فإنه ثقة فقيه محتج به في "الصحيحين".
وأما حماد؛ فثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغيَّرَ حفظه بأخرة، ولم يحتجَّ به البخاري، وإنما مسلم وحده، كما في "التقريب". وقال فيه الذهبي في "المغني":
"إمام ثقة، له أوهام وغرائب، وغيره أثبت منه". على أن الحاكم قال في "المدخل":
"ما خرج مسلم لحماد في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وقد خرج له في الشواهد عن طائفة".
قلت: وهذا الحديث إنما أخرجه له مسلم في الشواهد؛ ولذلك لم يسق لفظه كما سبق ذكره.
ولذلك؛ فإني أجزم بأنه وهم في هذا الحرف من الحديث؛ لمخالفته فيه للماجشون، وهو أوثق منه، ولذلك اعتمد عليه مسلم في لفظ الحديث دون لفظ حماد. ويؤيد ذلك أمور:
الأول: أن ابن إسحاق قد خالفه أيضًا في لفظه، موافقًا للفظ الماجشون، فقال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم
…
به.
أخرجه أحمد أيضًا (6/ 273).
واثنان أحفظ من واحد؛ ولا سيما إذا كان أحدهما أحفظ منه!
الثاني: أن الزيادة التي تفرد بها حماد دون الثقتين المذكورين -وهي قوله: "من شاء أن يجعلها عمرة"- إنما محلها في أول حجته صلى الله عليه وسلم في ذي الحليفة، كما
في الحديث المتقدم (1559) من رواية تجمع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأحدهم حماد بن سلمة نفسه.
وهذه الرواية الصحيحة، الأخذ بها أولى من حديث حماد الذي خالف الثقتين المذكورين، والتي تؤكد خطأه في جعله التخيير بالفسخ بعد دخول الصحابة مكة.
لا سيما ولها شاهد من حديث أسماء بنت أبي بكر: عند أحمد (6/ 350).
نعم، قد استمر هذا التخيير إلى ما بعد (سرف) فيما يبدو من رواية أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة قالت
…
حتى نزلنا بسرف، فخرج إلى أصحابه فقال:
"من لم يكن معه منكم هدي، فأحب أن يجعلها عمرة؛ فليفعل".
وأكد أن الأمر المذكور للتخيير قولُها -في تمام هذه الرواية-: فمنهم الآخذ بها والتارك لها ممن لم يكن معه هدي.
أخرجه البخاري (3/ 328)، ومسلم (4/ 31).
وفي رواية لهما -وهي المتقدمة برقم (1560) - بلفظ: قالت
…
فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج.
الثالث: أن في رواية الأسود عن عائشة الآتية في الكتاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بعد قدومهم مكةَ بفسخ الحج إلى العمرة أمرًا لا تخيير فيه. بل في رواية عَمْرَةَ عنها: أنه أمرهم بذلك أيضًا قبل دخول مكة فقالت:
…
حتى إذا دنونا من مكة؛ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي -إذا طاف بالبيت- أن يَحِلَّ.
أخرجه الشيخان وغيرهما، كما في "الإرواء"(1159).
فهذا كله يدل على خطأ حماد في قوله: إن التخيير بالفسخ كان بعد دخول مكة.
ومما يؤكد ذلك: أن سائر الصحابة الذين رووا الأمر بالفسخ بعد الدخول لمكة رووه بصيغة الأمر الجازم الذي لا تخيير فيه، مثل جابر في حديثه الآتي بجميع رواياته الآتية (1566 - 1570)، وحديث ابن عباس الذي بعده، وحديث أنس رقم (1576)، وحديث البراء الذي بعده، وحديث سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رقم (1580)، وحديث ابن عمر رقم (1584).
ويزيد ذلك تأكيدًا: أن في رواية ذكوان مولى عائشة عنها قالت: ..
فدخل صلى الله عليه وسلم عليَّ وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله! أدخله الله النار! قال:
"أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر؛ فإذا هم يترددون؟ ! ".
رواه مسلم (4/ 34) وغيره كما يأتي مني بعد حديث.
فهذا الغضب منه صلى الله عليه وسلم على تردد أصحابه في تنفيذ أمره صلى الله عليه وسلم بالفسخ أكبر دليل على أنه لم يكن على سبيل التخيير؛ ولذلك بادر أصحابه بعد ذلك إلى إطاعته؛ كما قال جابر.
فحللنا وسمعنا وأطعنا.
فثبت -يقينًا- خطأ حماد في روايته التخيير هنا.
ومما ينبغي أن يُذْكَرَ بهذه المناسبة: أن حمادًا رحمه الله قد وقع له مثل هذا الوهم في حديث آخر له؛ فقد روى عن حميد عن بكر بن عبد الله عن ابن عمر أنه قال:
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابه مُلَبِّينَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من شاء أن يجعلها عمرة؛ إلا من كان معه الهدي".
فخالفه يزيد بن هارون وسهل بن يوسف ومحمد بن أبي عدي
…
فقالوا:
"ومن لم يكن معه هدي؛ فليجعلها عمرة". لم يذكروا التخيير.
أخرج هذه الروايات الأربع: الإمام أحمد (2/ 28 و 41 و 53 و 80).
وهؤلاء الثلاثة كلهم ثقات حفاظ، وكل واحد منهم أحفظ من حماد على حدة، فكيف بهم مجتمعين؟
واعلم أن الباعث على تحرير هذا التحقيق: أنني فوجئت في موسم السنة الماضية (1393) بخبر مفاده: أن أحد الأساتذة من إخواننا -أهل الحديث- قد رجع عن القول بوجوب فسخ الحج إلى العمرة، الذي تدل عليه أحاديث الفسخ المشار إليها وغيرها، محتجًّا بما في حديث ابن عمر هذا من التخيير المنافي للوجوب! فأجبت يومئذٍ بأنه حديث شاذ، أخطأ فيه حماد، وذكرت ما حضرني من الأدلة، فها نحن الآن قد بعث الله لنا المناسبة التي قضت بضرورة البحث في ذلك مبسطًا محققًا، بما لا تراه محررًا في مكان آخر فيما أعلم. والله ولي التوفيق.
1564 -
وفي طريق ثالث عنها قالت:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نَرَى إلا أنه الحج، فلما قدمنا؛ تَطَوَّفْنَا بالبيت، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ لم يكن ساق الهدي أن يَحِلَّ. فأحلَّ مَنْ لم يكن ساق الهدي.
(قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجاه).
إسناده: حدثنا عثمان بن أبي شيبة: ثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجاه كما يأتي.
والحديث أخرجه مسلم من طرق أخرى عن جرير.
والبخاري (3/ 464)، وأحمد (6/ 122 و 191 و 253 و 266) من طرق أخرى عن منصور بن المعتمر
…
به.
1565 -
وفي رواية من الطريق الثانية عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لو استقبلت، من أمري ما استدبرت؛ لما سقت الهدي -قال محمد: أحسبه قال: ولحلَلْتُ مع الذين أحلُّوا من العمرة-".
قال: أراد أن يكون أمر الناس واحدًا.
(قلت: إسناده صحيح على شرط البخاري. وقد أخرجه، وأخرجه مسلم من طريق أخرى، كلاهما بتمامه دون الشك، وليس عندهما: أراد أن يكون
…
).
إسناده: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس: ثنا عثمان بن عمر: أخبرنا يونس عن الزهري عن عروة عنها.
قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ غير ابن فارس، فهو على شرط البخاري؛ وقد أخرجه كما يأتي.
والحديث أخرجه أحمد (6/ 247): ثنا عثمان بن عمر
…
به؛ دون الشك، وقوله: قال: أراد
…
إلخ.
وتابعه عُقَيْلٌ عن ابن شهاب
…
به: أخرجه البخاري (13/ 185).
وتابعه ذكوان مولى عائشة عنها قالت:
قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مَضَيْنَ من ذي الحجة -أو خمس-، فدخل عليَّ وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله! أدخله الله النار؟ ! قال:
"أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر؛ فإذا هم يترددون؟ ! ولو أني استقبلت
…
الحديث مثله، وزاد:
حتى أشتريه.
أخرجه مسلم (4/ 33 - 34)، وأحمد (6/ 175).
1566 -
عن جابر قال:
أقبلنا مُهِلِّينَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مُفْرَدًا، وأقبلت عائشة مُهِلَّةً بعمرةٍ، حتى إذا كانت بـ (سَرِفَ)؛ عَرَكَتْ، حتى إذا قدمنا؛ فطفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَحِلَّ منَّا مَنْ لم يكن معه هدي. قال: فقلنا: حِلَّ ماذا؟ فقال:
"الحِلَّ كُلَّهُ". فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أرْبَعُ ليالٍ، ثم أهللنا يَوْمَ التروية.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فوجدها تبكي، فقال:
"ما شأنك؟ ! ".
قالت: شأني أني قد حضت، وقد حَلَّ الناس ولم أحْلِلْ، ولم أطُفْ بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن! فقال:
"أن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم؛ فاغتسلي، ثم أهلِّي بالحج".
ففعلت، ووَقَفَتِ المواقف كلها، حتى إذا طهرتْ؛ طافت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال:
"قد حللت من حَجِّكِ وعمرتك جميعًا".
قالت: يا رسول الله! إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت! قال:
"فاذهب بها يا عبد الرحمن! فأعْمِرْها من التنعيم"، وذلك ليلة الحَصْبَة.
(قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجه مسلم).
إسناده: حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجه مسلم كما يأتي.
والحديث أخرجه مسلم (4/ 35)، والنسائي (2/ 19)
…
بسند المصنف.
ومسلم، وأحمد (3/ 394) من طرق أخرى عن الليث
…
به.
1567 -
وفي رواية عنه قال:
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة
…
ببعض هذه القصة؛ قال -عند قوله: "وأهلي بالحج"-:
"ثم حُجِّي، واصنعي ما يصنع الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تُصَلِّي".
(قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجه البخاري من
طريق أخرى عنه
…
نحوه).
إسناده: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: ثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابرًا قال
…
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين من طريق أحمد، وعلى شرط البخاري من طريق مسدد؛ على أنه لم يقع لمسدد ذكر في بعض النسخ، وهو رواية البيهقي عن المصنف كما يأتي.
والحديث أخرجه البيهقي (5/ 95) عن المصنف: ثنا أحمد بن حنبل: ثنا يحيى بن سعيد
…
به.
ولم أره في "المسند" بهذا السند إلا طرفًا منه؛ أخرجه (3/ 318) مختصرًا؛ نحو البعض الذي أشار إليه؛ دون قوله: "واصنعي ما يصنع الحاج
…
" إلخ.
وهذه الزيادة: عند البخاري (13/ 185 - 186) من طريق حَبيبٍ المُعَلِّمِ عن عطاء، الآتية بعد حديث بمعناها.
وحديث مسدد: عند البيهقي (5/ 18 - 19).
1568 -
ومن طريق ثانية عنه قال:
أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصًا لا يخالطه شيء، فقدمنا مكة لأربعِ ليالٍ خَلَوْنَ من ذي الحجة، فطفنا وسعينا، ثم أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَحِلَّ، وقال:
"لولا هديي لحللت". ثم قام سُرَاقَةُ بن مالك فقال: يا رسول الله! أرأيت مُتْعَتَنَا هذه؛ لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بل هي للأبد".
(قلت: إسناده صحيح. وأخرجه الشيخان بنحوه).
إسناده: حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيَدٍ: أخبرني أبي: حدثني الأوزاعي: حدثني من سمع عطاء بن أبي رباح: حدثني جَابر بن عبد الله قال
…
قال الأوزاعي: سمعت عطاء بن أبي رباح يحدث بهذا؛ فلم أحفظه، حتى لقيت ابن جريج فأثبته لي.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات؛ فإن الرجل الذي لم يُسَمَّ: هو ابن جريج كما في آخر الحديث.
والحديث أخرجه ابن ماجة (2/ 230): حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي: ثنا الوليد بن مسلم: ثنا الأوزاعي عن عطاء
…
به؛ فأسقط الوليد الواسطة بين الأوزاعي وعطاء، وهذا من تدليسه تدليس التسوية، ولكن ذلك لا يضر هنا؛ لأن الواسطة هي ابن جريج كما في رواية المصنف.
وابن جريج مدلس أيضًا، ولكنه قد صرح بالتحديث كما سأذكره.
وقال الإمام أحمد (3/ 317): ثنا إسماعيل: أنا ابن جريج عن عطاء
…
به نحوه؛ دون ذكر قصة سراقة.
لكن أخرجها النسائي (2/ 23) من هذا الوجه، وصرح فيه ابن جريج بالتحديث.
وكذلك أخرجه مسلم (4/ 36 - 37) من طريق أخرى عن ابن جريج.
وأخرجه البخاري أيضًا (5/ 103).
وتابعه عبد الوهاب بن عبد المجيد عن عطاء
…
به؛ وزاد فقال:
وأن سراقة بن مالك بن جُعْشُمٍ لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالعقبة وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ ! قال:
"لا، بل للأبد".
أخرجه البخاري (3/ 478 - 480)، وأحمد كما يأتي.
وللحديث طريق أخرى عن جابر في حديثه الطويل في الحج: أخرجه مسلم وغيره، وهو الآتي برقم (1663).
1569 -
وفي رواية عنه قال:
قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خَلَوْنَ من ذي الحِجَّةِ، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اجعلوها عمرة؛ إلا من كان معه الهدي". فلما كان يوم التروية أهَلُّوا بالحج، فلما كان يوم النحر؛ قَدِمُوا فطافوا بالبيت، ولم يطوفوا بين الصفا والمروة.
(قلت: إسناده جيد على شرط مسلم. وقد أخرجه هو والبخاري من طريق أخرى دون ذكر الطواف بعد النحر، وهذا عند مسلم من طريق أخرى تأتي برقم (
…
)).
إسناده: حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا حماد عن قيس بن سعد عن عطاء عن جابر.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم؛ وحماد: هو ابن سلمة، وهو من رجال مسلم.
وكذا قيس بن سعد، وقد توبع كما تقدم قبله، ويأتي بعده.
ورواية حماد هذه تؤكد خطأ روايته المتقدمة من حديث عائشة (1563)؛ فراجعه.
1570 -
وفي أخرى عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم يومئذ هَدْي؛ إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وطلحةَ، وكان علي رضي الله عنه قَدِمَ من اليمن ومعه الهَدْي، فقال: أهللتُ بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة -يطوفون-، ثم يقصروا وَيحِلَّوا؛ إلا من كان معه الهدي. فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تَقْطُرُ؟ ! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما أهديت، ولولا أن معي الهَدْي لأحللت"(1).
(قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجه البخاري).
(1) زاد في "المسند" و"البخاري" كما تقدم:
وأن سراقة لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالعقبة وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ !
قال: "لا، بل للأبد".
وهذا بظاهره مخالف لما سيأتي من طريق أخرى عن جابر في حديثه الطويل (1663): أن سراقة قال للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك وهو عليه الصلاة والسلام في آخر الطواف على المروة.
فجمع الحافظ بينهما باحتمال التعدد، وراجع لهذا تعليقي على "حجة النبي صلى الله عليه وسلم"(ص 83).
إسناده: حدثنا أحمد بن حنبل: ثنا عبد الوهاب الثقفي: ثنا حبيب -يعني: المعلم- عن عطاء: حدثني جابر بن عبد الله.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجه البخاري كما يأتي.
والحديث في "المسند"(3/ 305)
…
بهذا الإسناد والمتن؛ إلا أنه زاد في آخره قصة سراقة التي ذكرتها آنفًا من رواية البخاري.
وكذلك أخرجه البيهقي (5/ 4) من غير طريق المصنف عن أحمد.
وأخرجه أيضًا من طريق المصنف دونها.
وتابعه عليها: يزيد بن زُرَيْعٍ: ثنا حبيب المعلم
…
به: أخرجه البخاري (13/ 185)، والبيهقي (5/ 95).
1571 -
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
"هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده هدي؛ فَلْيَحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ، وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
(قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجه مسلم. وأعلَّهُ المصنف رحمه الله بما لا يقدح! ولذا صححه المنذري وابن القيم).
إسناده: حدثنا عثمان بن أبي شيبة أن محمد بن جعفر حدثهم عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس.
قال أبو داود: "هذا منكر؛ وإنما هو قول ابن عباس"!
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجه مسلم كما يأتي.
وأعله المصنف بالوقف كما رأيت! ولا وجه له البتة، فقد رواه جمع آخر من الثقات عن شعبة
…
به مرفوعًا، فممن الوهم، وما الدليل عليه؟ !
ولذلك لم يقبل العلماء ذلك منه، فقال المنذري في "مختصره":
"وفيما قاله أبو داود نظر، وذلك أنه قد رواه الإمام أحمد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وعثمان بن أبي شيبة عن محمد بن جعفر عن شعبة
…
مرفوعًا. ورواه أيضًا يزيد بن هارون ومعاذ بن معاذ العنبري وأبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة
…
مرفوعًا، وتقصير من قصر به من الرواة لا يؤثر فيما أثبته الحفاظ". وقال ابن القيم في "التهذيب":
"وقوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة "لا ريب في أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد: إنه من قول ابن عباس. وكذلك قوله: "هذه عمرة تمتعنا بها". وهذا لا يشك فيه من له أدنى خبرة بالحديث".
قلت: ولقد صدق رحمه الله.
أما الجملة الأولى: "دخلت العمرة
…
"؛ فلها طريق أخرى عن مجاهد، سأخرجها بعد حديث.
ولها شاهد صحيح من حديث جابر الطويل، الآتي برقم (1663).
وله طريق أخرى: أخرجه الدارقطني (ص 282) من طريق أبي الزبير عن جابر عن سراقة بن مالك
…
مرفوعًا به. وقال:
"كلهم ثقات".
وصححه النووي في "المجموع"؛ وأبو الزبير مدلس.
وقد رواه أحمد (4/ 175) من طريق طاوس والنزال بن يزيد بن سبرة عن
سراقة
…
به.
والطريق الأولى رجالها ثقات؛ لكن طاوس لم يسمع من سراقة.
والأخرى موصولة، ولكن فيها داود بن يزيد -وهو الأوْدِي- ضعيف.
وعنه: الطحاوي (1/ 379).
وأما الجملة الأخرى -وهي قوله: "هذه عمرة تمتعنا بها"-؛ فلها شواهد كثيرة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، كما هو القول الصحيح المؤيد بأحاديث كثيرة، في بعضها التصريح بذلك، كحديث البراء الآتي قريبًا، ومثله بعض أصحابه من الذين كانوا ساقوا الهدي فلم يَحِلُّوا، وسائرهم أحَلُّوا؛ لأنهم ما ساقوا الهدي، فهو صلى الله عليه وسلم والصحابة جميعًا كانوا قد تمتعوا بالعمرة إلى الحج على التفصيل المذكور.
ولذلك قال ابن عمر -كما يأتي (1584) -:
تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وتمتع الناس معه
…
ولذلك فَهُمْ جميعًا يشملهم قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} . فقول البيهقي (5/ 18): إنه "أراد أصحابه الذين حَلُّوا واستمتعوا"! غير قوي؛ لما ذكرنا، وتجد تفصيله في "زاد المعاد" لابن القيم رحمه الله تعالى.
ثم أن ابن القيم جزم بعد كلامه السابق بأن قول المصنف المذكور في إعلال الحديث؛ إنما محله بعد الحديث الآتي، أخطأ بعض النساخ، فنقله إلى هنا، وهو أمر محتمل، وسأنقل كلامه في ذلك قريبًا، وأبين ما يَرِدُ عليه أيضًا.
والحديث أخرجه مسلم (4/ 57)، والنسائي (2/ 24)، والدارمي (2/ 50)، والبيهقي (5/ 18)، وأحمد (1/ 236 و 341) من طريق أخرى عن شعبة
…
به.
وعزاه العراقي في "طرح التثريب"(5/ 19) لـ "الصحيحين"، وهو وهم.
ورواه الترمذي عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد
…
به، وقال (932):
"حديث حسن".
1572 -
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا أهلَّ الرجلُ بالحجِّ، ثم قَدِمَ مكة، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة؛ فقد حَل، وهي عمرة".
(قلت: حديث صحيح).
إسناده: حدثنا عبيد الله بن معاذ: حدثني أبي: ثنا النهاسُ عن عطاء عن ابن عباس.
قال أبو داود: "رواه ابن جريج عن عطاء:
دخل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بالحج خالصًا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عمرة".
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات؛ غير النهاس -وهو ابن قَهْمٍ- ضعيف.
وأما إعلال المصنف إياه بمخالفة ابن جريج، فرواه عن عطاء مرسلًا! فليس بشيء عندي؛ لأنه قد رواه جمع من الثقات عن ابن جريج عن عطاء عن جابر
…
مسندًا نحو رواية النهاس هذه، كما تقدم عند المؤلف برقم (1568) من طريق الأوزاعي عن ابن جريج، وذكرت له هناك متابعًا عنه؛ فراجعه إن شئت.
فإذن قد توبع النهاس على إسناده، ولو أنه خولف في اسم الصحابي، فالصحابة كلهم عدول، بل إنه قد توبع عليه؛ فأخرجه مسلم (4/ 58) من طريق محمد بن بكر: أخبرنا ابن جريج: أخبرني عطاء قال:
كان ابن عباس يقول:
لا يطوف بالبيت حاجٌّ ولا غير حاجٍّ إلا حَلَّ. قلت لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله تعالى: {ثم مَحِلُّها إلى البيت العتيق} . قال: قلت: فإن ذلك بعد المُعَرَّفِ. فقال: كان ابن عباس يقول:
هو بعد المُعَرَّفِ وقبله، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أن يَحِلوا في حجة الوداع.
قلت: فقد وصله محمد بن بكر، فذكر ابن عباس في إسناده؛ فهي متابعة قوية للنهاس، لكنه قد خالفه في متنه؛ فأوقفه على ابن عباس. وأشار ابن القيم إلى ترجيحه، فقال تعليقًا على حديث الباب:
"والتعليل الذي تقدم لأبي داود في قوله: "هذا حديث منكر"؛ إنما هو لحديث عطاء هذا عن ابن عباس يرفعه: "إذا أهل الرجل بالحج"؛ فإن هذا قول ابن عباس الثابت عنه بلا ريب، رواه عنه أبو الشعثاء وعطاء وأنس بن سُلَيم وغيرهم من كلامه، فانقلب على الناسخ، فنقله إلى حديث مجاهد عن ابن عباس، وهو إلى جانبه، وهو حديث صحيح لا مطعن فيه
…
".
قلت: لكن قد جاء الحديث من طريق أخرى عن ابن عباس
…
مرفوعًا نحوه، فقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن كُريب مولى ابن عبد الله بن عباس عن ابن عباس، قال:
قلت له: يا أبا العباس! أرأيت قولك: ما حج رجل لم يسق الهدي معه، ثم طاف بالبيت؛ إلا حل بعمرة، وما طاف بها حاج قد ساق معه الهدي؛ إِلا اجتمعت له عمرة وحجة، والناس لا يقولون هذا؟ ! فقال: ويحك! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وَمَنْ معه من أصحابه، لا يذكرون إلا الحج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من
لم يكن معه الهدي أن يطوف بالبيت، ويَحِلَّ بعمرة، فجعل الرجل منهم يقول: يا رسول الله! إنما هو الحج؟ ! فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنه ليس بالحج؛ ولكنها عمرة".
وإسناده حسن.
وتابعه يونس بن يزيد عن ابن شهاب
…
به.
أخرجه الطبراني في "الكبير"(3/ 150 - 151).
ويقويه ما رواه قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج قال:
قال رجل من بني الهُجيم لابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد تشغفت أو تَشَعَّبَتْ بالناس: أن من طاف بالبيت فقد حَلَّ؟ فقال: سُنةُ نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ وإن رغمتم! زاد في رواية: يعني: من لم يكن معه هدي.
أخرجه أحمد 1 (/ 278 و 280 و 342) -والزيادة له في رواية-، ومسلم (4/ 58).
ثم إن للحديث شاهدًا قويًّا من رواية سَبْرَةَ بن مَعْبَدٍ
…
مرفوعًا بلفظ:
"إن الله قد أدخل عليكم في حجكم هذا عُمْرَةً، فإذا قدمتم؛ فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة؛ فقد حَلَّ؛ إلا من كان معه هدي".
أخرجه المصنف وغيره بسند جيد، كما سيأتي بيانه برقم (1580).
قلت: فهذا الشاهد وما قبله من المتابعات، وقول ابن عباس:"سنة نبيكم"؛ أقوى دليل على أن النهاس قد حفظ الحديث ولم يخطيء فيه. والله أعلم.
1573 -
ومن طريق أخرى عنه قال:
أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قَدِمَ؛ طاف بالبيت وبين الصفا والمروة -قال ابن شَوْكَر: ولم يقصر، ثم اتفقا-، ولم يَحِلَّ من أجل الهدي، وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف وأن يسعى، ويقصر، ثم يَحِلَّ. قال ابن مَنِيعٍ في حديثه: أو يَحْلِقَ، ثم يَحِلَّ.
(قلت: حديث صحيح).
إسناده: حدثنا الحسن بن شَوْكَرٍ وأحمد بن مَنِيعٍ قالا: ثنا هُشَيْمٌ عن يزيد بن أبي زياد -المعنى- عن مجاهد عن ابن عباس.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات؛ غير يزيد بن أبي زياد -وهو الهاشمي مولاهم-، وهو ضعيف من قبل حفظه، لكنه لم يتفرد به، كما يتبين لك من الطريقين السابقين عن ابن عباس، ومن الأحاديث المتقدمة في الباب.
والحديث أخرجه أحمد (1/ 241 و 253 و 259) من طرق أخرى عن يزيد
…
به؛ وزاد: ثم قال:
"لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لفعلت كما فعلوا، ولكن دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"؛ ثم أنشب أصابعه بعضها في بعض.
وروى منه الترمذي قوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"؛ وقال: "حديث حسن"! وحقه أن يقول:
"صحيح"؛ فإن له طريقًا وشواهد، كما تقدم قبل حديثين.
1574 -
عن أبي شَيْخٍ الهُنَائِي خَيْوَانَ بْنِ خَلْدَةَ -ممن قرأ على أبي موسى الأشعري؛ من أهل البصرة-:
أن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وكذا، وركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم. قال: فتعلمون أنه نهى أن يُقْرنَ بين الحج والعمرة؟ فقالوا: أما هذا فلا! فقال: أما إنها معهن؛ ولكنكم نسيتم.
(قلت: حديث صحيح؛ إلا النهي عن القَرْنِ بين الحج والعمرة؛ فهو منكر؛ لمخالفته الأحاديث المتقدمة، وفيها إقراره صلى الله عليه وسلم الذين جمعوا بين الحج والعمرة وساقوا الهدي، وأمرُه من لم يَسُقِ الهدي أن يفسخ الحج إلى العمرة، ثم يلبِّيَ بالحج يوم التروية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة").
إسناده: حدثنا موسى أبو سلمة: ثنا حماد عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير أبي شيخ هذا، وقد وثقه ابن سعد وابن حبان والعجلي، وروى عنه جمع من الثقات، ولذلك جزم الحافظ في "التقريب" بأنه:
"ثقة".
وأما قول ابن القيم في "الزاد"(1/ 264)، وفي "مختصر السنن":
"لا يُحْتَجُّ به، وهو مجهول"!
فليس له سلف من أئمة الجرح والتعديل؛ وإنما قال ذلك اجتهادًا من عنده، بناءً على ما في الحديث من النهي عن القَرْنِ؛ وإنما العلة عنعنة قتادة؛ فإنه موصوف بالتدليس، وقد رواه عنه جمع كما يأتي.
والحديث أخرجه أحمد (4/ 99): ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا سعيد عن قتادة
…
به.
وأخرجه النسائي (2/ 95) من طريق ابن أبي عدي عن سعيد
…
به مختصرًا؛ بلفظ:
أتعلمون أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبْسِ الذهب إلا مقطعًا؟ قالوا: اللهم! نعم.
وأخرجه أحمد أيضًا (4/ 92): ثنا عفان قال: ثنا همام قال: ثنا قتادة
…
به.
وأخرج طرفًا منه: الطحاوي في "المشكل"(4/ 263 - 264) من طريق حجاج ابن منهال عن قتادة
…
به.
ثم أخرجه أحمد (4/ 95) من طريق معمر عن قتادة
…
به.
كلهم رووه عنه بالعنعنة؛ فهي العلة.
وثمة علة أخرى، وهي أن يحيى بن أبي كثير قد خالف قتادة، فأدخل بين أبي شيخ ومعاوية: أخاه حِمَّانَ، وهو مجهول، كما هو مبين ومخرج في "الأحاديث الضعيفة"(4722).
نعم؛ تابعه مطر -وهو الوراق- عن أبي شيخ
…
به مختصرًا مثل رواية ابن أبي عدي: أخرجه النسائي.
لكن مطرًا سَيئ الحفظ، وهو من أصحاب قتادة، فيحتمل أن يكون قتادة سمعه منه؛ فدلسه. والله أعلم.
(تنبيه): وهذا الحديث المنكر لم أجد له شاهدًا معتبرًا.
وقد روى المصنف في الباب حديثًا آخر بمعناه عن عمر. ولكنه حديث باطل، كما قال ابن القيم؛ ولذلك أوردته في الكتاب الآخر (314).
ووهم الأمير الصنعاني وهمًا فاحشًا، حين قال في "الروض الباسم"(ص 116).
"وله شاهد عن ابن عمر، رواه مالك في "الموطأ"
…
مرفوعًا. وعن عمر وعثمان، رواه مسلم
…
موقوفًا عليهما"!
وحديث ابن عمر المشار إليه شاهد عليه لا له!
فإنه قال حينما خرج إلى مكة معتمرًا في الفتنة: إن صُدِدْتُ عن البيت؛ صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأهل بعمرةٍ
…
ثم قال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجَبْتُ الحج مع العمرة
…
الحديث.
أخرجه مالك (1/ 329)، وكذلك أخرجه البخاري (4/ 4 - 5).
وأما الموقوف على عمر وعثمان؛ فلا حجة فيه؛ لأنهما إنما نهيا عن الجمع بين الحج والعمرة متأوِّليْنِ، وقد ثبت يقينًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا بينهما، وأنه قال:
"دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
فلا يُقْبَل قولهما المخالف للسنة.
ولذلك أنكر علي رضي الله عنه على عثمان قولَه المذكور. وكذلك أنكر ذلك على عمر عمران بن حصين وابنه عبد الله بن عمر، وغيرهما، كما هو مبسوط في "زاد المعاد" وغيره.
ولو أن النهي عن القرآن ثبت إسناده لوجب حمله على القِرَانِ الذي لم يُسَقْ معه الهَدْيُ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أهله بفسخه، وغضب على الذين لم يبادروا إليه