الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكمة الميراث:
التوريث نظام طبيعي، بدليل أن أكثر الأمم قديما وحديثا أخذت به، كما قد أقرته الأمم الحديثة إلا روسيا أخيرا.
والميراث نظام ضروري لحفز الإنسان إلى الكدح والتعب في الحياة، وبعبارة أخرى: إنه ضروري لإثارة ضروب النشاط الاقتصادي في الإنسان، وهذا ما يراه جمهور علماء الاجتماع ولم يشذ عنه إلا الاشتراكيون.
والشريعة الإسلامية من بين الشرائع أخذت بنظام التوريث، وأنزل الله له شرعة مفصلة محدودة تناولت أشخاص الوارثين ومقادير أنصبائهم، حتى إذا علم الممنوع من الإرث أن منعه آتٍ من السماء اطمأنت نفسه ورضي حكم الله، ولا كذلك إذا ترك الأمر في الميراث للناس يحكمون فيه، فإن هذا يكون مصدر اضطراب وشقاق.
والمتتبع لقانون الميراث يرى أنه يبنى على قواعد وأصول، يمكن حصرها فيما هو آتٍ:
1-
الحب.
2-
العشرة.
3-
النصرة والولاية.
4-
العطف.
لذلك خصّص الميراث بطائفة معينة من الأقارب، وهم:
1-
الذين لهم من حبه أكبر نصيب كالأبناء.
2-
الذين صاحبوه وخالطوه في الحياة أطول زمن كالزوجة.
3-
الذين كان يعتز بهم، ويعتمد عليهم في الدفاع عنه إذا احتاج إلى هذا الدفاع كالعصبة.
4-
الذين كان بينه وبينهم تعاطف وتراحم مدى الحياة، وهم غير من ذكرنا من الورثة.
ولذلك رتب الورثة، وجعل هذا الترتيب مبنيا على القاعدة الآتية وهي:
"قيام الوارث مكان المورث في الولاية، وحفظ اسم الأسرة".
وقدم الأبناء على الآباء؛ لأن قيام الابن مقام أبيه هو الوضع الطبيعي الذي عليه بناء العالم. فالأجيال المقبلة تخلف الأجيال الحاضرة، كما خلفت الأجيال الحاضرة الأجيال الغابرة.
على أن تقديم الابن على الأب تعززه حكمة أخرى، وهي أن المورث لو سئل: أين يضع ماله، لما تردد في أن يؤثر به ابنه على أبيه.
أما القيام مقام الميت بعد من ذكرنا من الأبناء والآباء، فطبقة الإخوة ومن في معناهم ممن هم كالعضد من الأعمام؛ ولذلك جعلت مرتبتهم في العصبة متأخرة عن المرتبتين السابقتين، كما جعلت مرتبة العمومة متأخرة عن الأخوة.
وكانت أسباب الإرث عند الجاهليين ثلاثة:
أحدها النسب: وهو خاص بالرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون الأعداء، وليس للضعيفين الطفل والمرأة منه شيء.
ثانيها التبني: فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيرثه، ويكون له غير ذلك من أحكام الدين الصحيح. وقد أبطل الله التبني بآيات من
سورة الأحزاب، ونفذ النبي عليه السلام ذلك بذلك العمل الشاق، وهو التزوج بمطلقة زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه قبل الإسلام.
ثالثها الحلف والعهد: كان الرجل يقول للرجل: دمي دمك وهدمي هدمك، وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك، فإذا تعاهدا على ذلك فمات أحدهما قبل الآخر، كان للحي ما اشترط من مال الميت.
أما الإسلام قبل نزول آية المواريث، فقد جعل التوارث أولا بالهجرة والمؤاخاة، فكان المهاجر يرث المهاجر البعيد، ولا يرثه غير المهاجر وإن كان قريبا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين الرجلين فيرث أحدهما الآخر، وقد نسخ هذا وذاك واستقر الأمر عند المسلمين بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب، والصهر، والولاء.
ثم إن الإسلام أزال الغبن الذي كان لاحقا بالمرأة في العصر الجاهلي، فإنهم ما كانوا يورثون إلا من يحمل السيف ويدافع عن الأوطان. فلما جاء الإسلام رفع مكانة المرأة وأعلى من قدرها، وجعل لها حقا في الميراث كما للرجل، بل أكد هذا الحق وجعله كأنه قاعدة مسلمة، يرشد إليه قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 1. فإن الله تعالى اختار هذا التعبير لإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء.
ولكنه حين منحها هذا الحق، جعل نصيبها في الميراث على النصف من نصيب من يحاذيها في القرابة من الرجال. وهذا هو الذي تقتضيه الحكمة ويلائم وظيفة كل من الرجل والمرأة في الحياة، ذلك أن الله تعالى وزع أعمال الحياة بين الرجل والمرأة، فخلق الرجل للكفاح والسعي وجعله
1 سورة النساء الآية 10.
راعيا للأسرة وحاميا لها، يحمل أعباءها المادية والمعنوية، وجعل المرأة مدبرة للمنزل وقائمة بتدبير الأولاد ورعايتهم.
وبهذا التقسيم والتوزيع تنتظم الحياة وتستقيم شئونها، وقد استدعى هذا التقسيم ألا تكلف المرأة الإنفاق على نفسها بل جعل نفقتها على أبيها، فإذا فقدت عائلها أو طلقت رجع حق الإنفاق على أوليائها، فهي في جميع أحوالها مكفية المئونة؛ رحمة بأنوثتها وضعف بنيتها، وتقديرا لشرف وظيفتها في الجماعة الإنسانية.
وليس من مصلحة المرأة، ولا من مصلحة الأسر أن تسوّى المرأة بالرجل في الميراث؛ لأن ذلك معناه أن تنزل المرأة إلى ميدان العمل والكفاح في الحياة على قدم المساواة مع الرجل، ما دام نصيبها من الميراث مساويا نصيب الرجل، إذ لا يعقل أن يكون نصيبها من الإرث مثل الرجل ثم تطالب الرجل بالإنفاق عليها والحماية لها. زد على ذلك أن البنات إذا تزوجن لهن من مال أزواجهن ما يعوض نقصهن، وإذا لم يتزوجن فالغالب أنهن يكنَّ في كفالة إخوتهن ولا يكون لهن أولاد ينفقن عليهم.
أما وهذا هو النظام الإسلامي الذي يقضي على الرجل أن يحمي المرأة، ويكون قوّاما عليها، فمن خطأ الرأي وفساد القول تسوية المرأة بالرجل، على أن وضع المال في يد الرجل أدعى إلى استثماره وتنميته؛ لأنه أدرى بضروب النشاط وأقدر عليها من المرأة، فإن وظيفة الأمومة تحول بينها وبين ذلك.
فدعوة المساواة التي يقوم بها من يسمون أنفسهم مجددين أو منتصرين للمرأة، لا تقوم على أساس من الحكمة ولا من الحق والعدل، وإنما هي دعايات تدفع إليها الأهواء والشهوات.
على أن الإسلام قد سوَّى بينهما في بعض الأحوال إذا اقتضت
الحكمة ذلك، كما ورد في أولاد الأم فإنه سوَّى بين ذكورهم وإناثهم في الميراث. ومنشأ ذلك أن الصلة التي تجمع بينهم وبين المورث ترجع إلى عاطفة التراحم الناشئة من صلة الأمومة وحدها. تلك بعض حكم الميراث، ولا يصعب على العقل البشري أن يلتمس لكل حكم حكمة وسببا، وإن كان الأساس فيه الرضا بما قسمه الله وارتضاه لعباده، وهو أعدل القاسمين وأحكم الحاكمين.
فإذا تخطى بعض العباد هذه القسمة واحتال لتوزيع ثروته بطرق أخرى، فما ذلك إلا رد لما شرعه الله وزيغ عن الصراط المستقيم، ولو أن للمالك حرية التصرف في ماله يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، ولكن ليعلم هذا القاسم على غير ما شرع الله أنه سيخلق بعمله هذا الشحناء، ويورث ورثته العداوة والبغضاء، والشارع جد حريص على صلة الرحم وربط الأسر؛ وبذا تكون الأمة متحدة قوية.
منزلة علم الميراث:
يحتل باب الميراث من بين أبواب الفقه الإسلامي مكانة رفيعة، ومنزلة سامية لم تقتصر على عناية المؤلفين من المسلمين به وإفرادهم إياه بالتأليف، بل إن الخلفاء أنفسهم منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولوه جانبا من الاهتمام. فقد روي أن سيدنا عمر رضي الله عنه ذهب إلى بلاد الشام سنة "18" هجرية؛ ليعلِّم الناس علم المواريث "كما جاء في ابن الأثير جزء2 صحيفة237".
أولا: لأن أكثر أحكامه أحكام نهائية لا مجال لاستئنافها أو نقضها؛ لأنها من توزيع الحكيم العليم الذي يعلم ما يصلح النفوس وما يفسدها.
ثانيا: لأنه يتناول شئون الحياة وروحها وعمادها والعنصر الفعال فيها، وهو المال.
ثالثا: إن طريقة التوريث تبين لنا العلاقة بين الأفراد والحكومة من جهة، وتبين لنا العلاقة بين أفراد الأسرة بعضهم مع بعض من جهة أخرى، فالميراث في الإسلام مثلا يدل على الاتجاه الذي يرمي إليه الإسلام ويدعو له في جملته، وهو اتجاه يوحي بالاشتراكية العادلة التي تحرص على توزيع الثروات توزيعا يدل على درجة التضامن في الأسر بين الأقارب الأقربين والأقارب البعيدين بالنسبة لغيرهم. حتى إن وجوب النفقة بين الأقارب ساير الميراث في كثير من الأحوال جريا على قاعدة الغرم بالغنم.
وإن قانون الأحوال الشخصية الجديد رقم "59" المادة "159" منه جعلت نفقة القريب الفقير العاجز عن الكسب على من يرثه من أقاربه الموسرين بحسب حصصهم الإرثية.
بل من أحكام الميراث، يمكننا أن نحكم على الأمة حكما نعلم منه أهي حربية أم صناعية أم زراعية أم غير ذلك. ولعل ما تقدم يرشدنا إلى سر قوله صلى الله عليه وسلم: $"تعلموا الفرائض وعلموها الناس؛ فإنها نصف العلم".