الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الطهارة
(الكتاب) لغةً: الضم والجمع، واصطلاحاً: اسم لضمٍّ مخصوص، أو لجمة مختصة من العلم مشتملة على أبواب وفصول غالباً.
و(الطهارة): مصدر طَهَر - بفتح الهاء وضمها، والفت أفصح - يطهُر بضمها فيهما، وهي لغةً: النظافة والخلوص من الأدناس حسية كانت أو معنوية؛ كالعيوب، وشرعاً: زوال المنع المترتب على الحدث أو الخبث، أو الفعل الموضوع لإفادة ذلك، أو لإفادة بعض آثاره كالتيمم؛ فإنه يفيد جواز الصلاة الذي هو من آثار لك، فهي قسمان، ولهذا عرفها النووي وغيره باعتبار القسم الثاني بأنها: رفع حدث، أو إزالة نجس، أو ما في معناهما وعلى صورتهما؛ كالتيمم والأغسال المسنونة، وتجديد الوضوء، والغسلة الثانية والثالثة.
(وإنما يصح تطهيرٌ بما
…
أُطلق لا مستعملٍ، ولا بما)
(بطاهرٍ مخالطٍ تغيَّرا
…
تغيراً إطلاق الاسم غيَّرا)
(في طعمه أو ريحه أو لونه
…
ويمكن استغناؤه بصونه)
(واستثن تغييراً بعودٍ صُلْبِ
…
أو ورقٍ أو طُحلبٍ أو تُرب)
فيها ثلاث مسائل:
[لا يصح التطهير إلا بالماء]
الأولى: أنه إنما يصح التطهير - أي: في غير الاستحالة والتيمم - بالماء المطلق.
وأفاد تعبيره: بـ (إنما) المفيدة للحصر: حصر التطهير في الماء المطلق، وهو كذلك؛ لقوله تعالى:{وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً} ، وقوله تعالى:{ويُنزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به} ذكر الماس امتناناً، فلو طهر غيره .. فات الامتنان، ولما يأتي.
أما في الحديث وهو هنا: أمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص .. فلقوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا} ، وأما في النجس وهو: مستقذر يمنع صحة الصلاة
حيث لا مرخص .. فلقوله صلى الله عليه وسلم حين بال الأعرابي في المسجد: "صبوا عليه ذنوباً من ماء" رواه الشيخان، والأمر للوجوب.
فلو رفع غير الماء .. لم يجب التيمم عند فقده، ولا غسل البول به، ولا يقاس به غيره؛ لأن اختصاص التطهير به عند الإمام تعبد، وعند غيره لما فيه من الرقة واللطافة التي لا توجد في غيره.
ودخل في عبارته: تطهير دائم الحدث، والغسلة الثانية والثالثة، والوضوء المجدد، والأغسال المسنونة، وتناول الماء جميع أنواعه بأي صفةٍ من أحمر وأسود، ومنحل من الثلج أو برد، ومنعقد منه ملح أو حجر، وكذا متصاعد من بخار مرتفع من غليان الماء على الأصح؛ لأنه ماء حقيقة وينقص الماء بقدره.
وخرج به: ما لا يسمى ماء؛ كتراب التيمم، وحجر الاستنجاء، وأدوية الدباغ والشمس، والريح وغيرها، حتى التراب في غسلات النجاسة المغلظة؛ فإن المطهر لها هو الماء بشرط امتزاجه بالتراب في غسلة منها كما سيأتي في بابها.
و(المطلق): ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد وإن قيد لموافقة الواقع؛ كماء البئر والثلج والبرد، فدخل فيه المتغير كثيراً بما لا يؤثر كطين وطحلب، وخرج عنه المقيد بإضافة نحوية كماء الورد، وبصفة كماء دافق؛ أي: مني، وبلام عهد كقوله في الحديث:"نعم إذا رأت الماء" أي: المني.
[التطهُّر بالماء المستعمل]
الثانية: أنه لا يصح التطهير بالماء المستعمل القليل؛ وهو ما استعمل في فرض من رفع حدث أو إزالة نجس؛ لما سيأتي آخر هذا الكتاب.
ومقتضى كلام المصنف: أنه ليس بمطلق، وهو ما صححه النووي في "تحقيقه" وغيره، فلا يحنث بشربه من حلف لا يشرب ماء، ولا يقع شراؤه لمن وكل في شراء ماء،
لكن جزم الرافعي بأنه مطلق، لكنه منع من استعماله تعبداً، وقال النووي في "شرح التنبيه": إنه الصحيح عند الأكثرين.
[الماء المتغير بطاهر]
الثالثة: أنه لا يصح التطير بماءٍ تغير بطاهر مخالط له تغيراً كثيراً بغيِّر؛ أي: يمنع إطلاق اسم الماء عليه؛ بأن يحدث له اسم آخر حال كون التغير في طعمه أو ريحه أو لونه، ولهذا لا يحنث بشربه من حلف لا يشرب ماء، ولا يقع شراؤه لمن وكل في شراء ماء.
وشمل كلامه: التغير الحسي والتقديري؛ كما إذا وقع في الماء ما يوافقه في صفاته؛ كماء مستعمل، أو ماء شجر، أو عرق فلم يغيره، لكنه لو قدر مخالفاً له .. لغيَّره التغير المؤثر، والمعتبر تقديره بالأشياء المتوسطة؛ كلون العصير، وطعم الرمان، وريح اللَاّذَن، فلا يقدر بالأشد؛ كلون الحبر، وطعم الخل، وريح المسك، بخلاف النجس؛ لغلظه.
وخرج ما لم يتغير، أو يتغير لا بأحد الأوصاف الثلاثة كالمسخن والمبرد، أو بأحدهما لا بمخالط كالمتغير بما قرب منه، أو بطول المكث، أو بمجاور كدهن وكافور صلب وقطران لم يختلط بالماء، أو بما يخالطه لا غنى للماء عنه كالمتغير بطين، أو طحلب متفتت، أو نورة، أو زرنيخ بمقر الماء أو ممره، أو له عنه غنى وغيَّره يسيراً فكل منها يطهِّر؛ لبقاء إطلاق اسم الماء عليه.
وإذا لم يؤثر التغير بالخليط .. جاز استعماله في الجميع؛ لاستهلاكه وبقاء الاسم، وعليه: يلزم تكميل الناقص عن الطهر بالمستهلك إلا أن يجاوز ثمنه ثمن الماء المعجوز عنه.
و(المخالط): ما لا يتميز في رأي العين، وقيل: ما لا يمكن فصله، بخلاف المجاور فيهما، وقيل: المعتبر العرف.
ثم أمر المصنف المخاطب بأن يستثني من ذلك صوراً:
الأولى: المتغير بمجاور تغيراً كثيراً، وقد أشار إليه بقوله:(بِعُودٍ صُلب) فإنه يصح التطهير به؛ لأن تغيره بذلك لكونه تروحاً لا يمنع إطلاق الاسم عليه.
الثانية: المتغير بورق شجر تناثر وتفتت ولو كان ربيعيّاً أو بعيداً عن الماء؛ فإن يصح التطهير به؛ لعسر الاحتراز عنه، فإن طرح ولو صحيحاً وتفتت .. ضر؛ لأنه مخالط مستغنىً عنه، أما غير المتفتت .. فمجاور، وقد مر أنه لا يضر.
وخرج بالورق الساقط ونحوها؛ فإنها تضر؛ لإمكان التحرز عنها غالباً.
الثالثة: المتغير بما في مقر الماء وممره، وقد أشار ليه بـ (الطُّحلُب) بضم مع ضم اللام وفتحها، فإنه صح التطهير به؛ لتعذر صون الماء عنه.
الرابعة: المتغير بالتراب وإن طرح؛ فإنه يصح التطهير به؛ لأنه تغيره به مجرد كُدورة وهي لا تسلب الطهورية، ولموافقته الماء في الطهورية.
وكلامهم شامل للتراب المستعمل وهو ظاهر؛ فإن كلاً منهما علة مستقلة؛ إذ الأصل عدم التركيب، وظاهر أنه إن تغير حتى صار لا يسمى إلا طيناً رطباً .. سلب الطهورية، وقد صرح به الرافعي في "الشرح الصغير".
وفي تعلق (بماءٍ) بـ (تغيُّراً) تضمين وهو: ألا يظهر معنى البيت إلا بالآخر، وهو عيب في الشعر خلافاً للأخفش، وقس عليه نظائره.
والألف في قوله: (تغيراً) و (وغيَّرا) للإطلاق.
وقوله: (واستثن) بمعنى: استدرك؛ إذ هو استثناء منقطع، ويمكن أن يجعل منقطعاً فيما عدا الرابعة، متصلاً فيها؛ بناءً على رأي من يجعل التغير فيما عداها سالباً للاسم، وقد مر ما يؤخذ منه أن الراجح خلافه.
ومما يستثنى أيضاً: المتغير بملح مائي وإن طرح؛ فإنه يصح التطهير به لانعقاده من الماء كالجمد، بخلاف الملح الجبلي إذا لم يكن في مقر الماء أو ممره.
وقول الناظم: (أُطلق) مبني للمفعول، و (ما) من قوله:(ولا بِمَا) موصولة، أو نكرة موصوفة.
وقوله: (تُربِ) إحدى لغات التراب.
ولما أنهى الكلام على الماء الطهور والطاهر .. ذكر حكم الماء إذا حلت فيه نجاسة حال قلَّته أو كثرته، وبدأ بالأول فقال:
(ولا بماءٍ مطلقٍ حلَّته عين
…
نجاسةٍ وهو بدون القُلَّتين)
(واستثن ميتاً دمه لم يسل
…
أو لا يُرى بالطرف لمَّا يحصل)
فيهما مسألتان:
[تنجس الماء القليل إذا حلت فيه نجاسة]
الأولى: أنه لا يصح التطهير بماء مطلقٍ حلته؛ أي: حلت فيه عين نجاسة والحال أنه دون القلتين وإن كان جارياً ولم تغيره لتنجسه بها؛ لخبر مسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه .. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده"، نهاه عن الغمس خشية النجاسة، ومعلوم أنها إذا خفيت .. لا تغير الماء، فلولا أنها تنجسه بوصولها .. لم ينهه، ولمفهوم خبر أبي داود وغيره، وقال النووي: إنه حسن، والحاكم: إنه صحيح على شرط الشيخين: "إذا بلغ الماء قلتين .. لم يحمل خبثاً"، وفي روايةٍ صحيحةٍ كما قال البيهقي:"لم ينجس"، فمعنى (لم يحمل خبثاً): لم يقبله؛ لهذه الرواية.
وخرج بـ (الماء): غيره من المائع وإن كثر، ومن الجامد بتوسط رطوبة .. فإنه ينجس، وفارق كثير الماء كثير غيره بأن كثيرة قوي ويشق حفظه من النجس، بخلاف غيره وإن كثر، فإن بلغ ما تنجس بالملاقاة قلتين بماء ولو طاهراً أو متنجساً .. فهو طهور، وفي بعض النسخ:(وهو دون القلتين).
ووصف المصنف الماء بكونه مطلقاً قبل حلولها فيه؛ ليفيد تنجس الماء الطاهر غير الطهور بحلولها فيه بطريق الأولى.
[ما يستثنى من تنجس الماء القليل بوقوع النجاسة فيه]
والثانية: أمر المصنف المخاطب بأن يستثنى من تنجس الماء القليل بحلول النجاسة فيه مسألتين:
الأولى: الميت الذي لا يسيل دمه عند شق جزء منه في الحياة؛ كذباب ونمل ونحل وعقرب وبق وقمل وبرغوث ووزغ، لا حية وضفدع .. فلا ينجس ما حل فيه وإن قل؛ أي: إن لم يطرح فيه ميتاً ولم يغيره كما يفيده كلامه؛ وذلك لخبر البخاري: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم .. فليغمسه كله؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء"، زاد أبو داود: "وإنه
يتقي بجناحه الذي فيه الداء"، أمر بغمسه وقد يفضي إلى موته، فلو نجس .. لما أمر به.
وقيس بالذباب ما في معناه مما لا يسيل دمه، فلو شككنا في سيل دمه .. قال الغزالي في "فتاويه": فيمتحن بجنسه فيجرح للحاجة.
ولو كان مما يسيل دمه؛ لكن لا دم فيه، أو فيه دم لا يسيل لصغره .. فله حكم ما يسيل دمه، ذكره القاضي أبو الطيب.
فإن طرح فيه ميتاً ولو كان نشوؤه منه .. نجسه؛ لندرته؛ لأنه لا يشق الاحتراز عنه، وكذا لو غيره.
الثانية: النجس الذي لا يرى بالطرف - أي: البصر - لما يحصل؛ لقلته؛ كرشاش بول أو خمر .. فلا ينجس ما حل فيه؛ لمشقة الاحتراز عنه خلافاً للرافعي، ولو أرى قوي البصر ما لا يراه غيره .. قال الزركشي وغيره: فالظاهر العفو؛ كما في سماع نداء الجمعة، وكالماء في هاتين الصورتين المائع والرطب.
ويستثنى أيضاً مسائل:
منها: الحيوان غير الآدمي إذا وقع في الماء القليل وعلى منفذه نجاسة وخرج منه حياً .. فإنه لا ينجسه، بخلاف المستجمر؛ فإنه ينجسه.
ومنها: اليسير عرفاً من دخان النجاسة، ومن الشعر النجس من غير كلب وخنزير، ومن غبار السرجين.
وقول الناظم: (يَحصُل) بكسر اللام للوزن.
ثم ذكر القسم الثاني من الماء عاطفاً على قوله: (وهو بدون القلتين) قوله:
(أو قُلتين بالرُّطيل الرَّملي
…
فوق ثمانين قريب رطل)
(والقلتان بالدِّمشقيِّ ميه
…
ونحو أرطالٍ أتت ثمانيه)
(والنجس الواقع قد غيره
…
واختير في مشمسٍ لا يكره)
فيها مسألتان:
[الماء الكثير إذا تغير بالنجس الواقع فيه]
الأولى: أنه لا يصلح التطهير بالماء الكثير وهو: ما بلغ قلتين والحال أن النجس الواقع فيه قد غيَّره؛ بأن غيَّر طعمه أو لونه أو ريحه تغيراً حسياً أو تقديرياً، يسيراً أو كثيراً، بمخالط أو بمجاور، أو بميتة لا يسيل جمها؛ لتنجسه بالإجماع المخصص لخبر الترمذي وقال: إنه حسن صحيح: "الماء طهور لا ينجسه شيء" كما خصصه مفهوم خبر: (القلتين).
وخرج بما ذكره: تغيره بنجاسة بقربه؛ فإنه لا يؤثر.
والقلتان بالرطل الرملي - نسبة إلى بلده بالشام -: الذي وزنه ثمان مئة درهم، قريب أحد وثمانين رطلاً.
وبالدمشقي على ما صححه الرافعي من أن رطل بغداد مئة وثلاثون درهماً: مئة وثمانين أرطال وثلث رطل، وعلى ما صححه النووي من أنه مئة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم: مئة وسبعين أرال وسبع رطل.
وبالبغدادي: خمس مئة رطل.
وبالمصري على ما صححه الرافعي: أربع مئة وأحد وخمسون رطلاً وثلث رطل وثلثا أوقية لا أربعة أخماس أوقية كما توهمهم بعضهم، وعلى ما صححه النووي: أربع مئة وستة وأربعون رطلاً وثلاثة أسباع رطل.
وبالمساحة في المربع: ذراع وربع طولاً وعرضاً وعمقاً.
وفي بعض النسخ بدل البيت الثاني:
(أو قلتين بالدمشقي هيه
…
ثمان أرطالٍ أتت بعد ميه)
والماء الجاري وإن كانت جرياته متصلة حساً .. فهي منفصلة حكماً؛ إذ كل جرية طالبة لما أمامها، هاربة مما وراءها، فلو وقع فيها نجس .. فكما لو وقع في ماء راكد، حتى لو كانت قليلة .. تنجست بوصوله إليها وإن بلغت مع ما أمامها وخلفها قلتين؛ لتفاصل أجزاء الجاري؛ فلا يتقوى بعضه ببعض، بخلاف الراكد والجرية إذا بلغ كل منهما قلتين.
ولو وقع فيه وهي قليلة نجس جامد: فإن كان موافقاً لجريانها .. تنجست دون ما أمامها وما خلفها، أو واقفاً أو جريها أسرع .. فمحله وما أمامه مما مر عليه نجس وإن طال امتداده إلا أن يتراد أو يجتمع في حفره، وعليه يقال: ماء هو ألف قلة تنجس بلا تغير.
والجرية التي تعقب جريه النجس الجاري .. تغسل المحل، ولها حكم الغسالة، حتى لو كانت النجاسة مغلظة .. فلا بد من سبع جريات.
[حكم الماء المشمس]
الثانية: الماء المشمس؛ أي: ما سخنته الشمس بحدتها بمنطبع؛ أي: مطرق من غير النقدين في قطر حار كمكة .. الأصح: أنه يكره شرعاً تنزيهاً استعماله في البدن طهارة وغيرها حال حرارته إذا وجد غيره؛ لما روى البيهقي: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وقد سخنت ماء بالشمس: "يا حميراء؛ لا تفعلي هذا؛ فإنه يورث البرص"، ولما روى الشافعي عن عمر: أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس، وقال:(إنه يورث البرص).
والمعنى: أن الشمس بحدتها تفصل من المنطبع زهومة تعلو الماء فإذا لاقت البدن .. خيف عليه البرص، بخلاف المسخن بالنار؛ لذهاب الزهومة بها.
والعلة تقتضي أنه غير الماء من المائعات كالماء، وبه جزم الزركشي، ولو استعمله في طبخ طعام .. كره إن كان مائعاً، وإلا .. فلا، نقله في "المجموع" عن الماوردي والروياني وأقره، وظاهر كلام الجمهور: أنه يكره في الأبرص؛ لزيادة الضرر، وفي الميت؛ لأنه يحترم كما في الحياة.
قال البلقيني وغيره: وغير الآدمي من الحيوانات إن كان البرص يدركه كالخيل، أو يتعلق بالآدمي منه ضرر .. اتجهت الكراهة، وإلا .. فلا.
وقد ذكر المصنف: أنه لا يكره استعمال المشمس على المختار؛ أي: عند النووي دليلاً في "روضته" وغيرها، وصححه في "تنقيحه"، وقال في "مجموعة": إنه الصواب الموافق للدليل ولنص "الأم"، والخبر ضعيف باتفاق المحدثين، وكذا الأثر؛ فإنه من رواية إبراهيم بن أبي يحيى، وقد اتفقوا على تضعيفه وجرحوه إلا الشافعي فوثقه، فثبت أنه لا أصل لكراهته، ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء. انتهى.
وأجيب بأن دعواه أن الموافق للدليل ولنص "الأم" عدم الكراهة .. ممنوعة، وأثر عمر رواه الدارقطني بإسناد آخر صحيح، على أن الحصر في قوله: "إلا الشافعي فوثقه) .. ممنوع، بل وثقه ابن جريج وابن عدي وغيرهما كما ذكره الإسنوي.
وقوله: (ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء) شهادة نفي لا يرد بها قول الشافعي، ويكفي في إثباته قول السيد عمر الذي هو أعرف بالطب من غيره، وتمسكه به من حيث إنه خبر لا تقليد.
ومما يكره استعماله: شديد الحرارة والبرودة؛ لمنعه الإسباغ، فإن فقد غيره وضاق الوقت .. وجب، أو خاف منه ضرراً .. حرم كما نبه عليه المحب الطبري، وكل ماء مغضوب عليه كمياه ثمود إلا بئر الناقة، وماء ديار قوم لوط؛ لخسفها، وماء ديار بابل؛ لخبر أبي داود أنها أرض صار كنقاعة الحناء، وماء بئر برهوت؛ لخبر ابن حبان:"شر بئر في الأرض برهوت".
(وإن بنفسه انتفى التغير
…
والماء - لا كزعفرانٍ - يطهر)
فيه مسألتان:
[إذا انتفى تغير الكثير بنفسه]
الأولى: إذا انتفى تغير الماء الكثير بالنجس؛ بأن لم يدرك بنفسه لا بعين كطول مكث، وهبوب ريح، أو بماء نبع فيه أو صب عليه ولو متنجساً .. طهر؛ لانتفاء علة التنجس وهي التغير، ولا يضر عود تغيره إذا خلا عن نجس جامد.
[إذا انتفى تغير الكثير بعين ساترة]
الثانية: إذا زال التغير ظاهراً بعين ساترة له؛ كأن زال بنحو تراب أو جص، أو زال تغير لونه بالزعفران، أو ريحه بالمسك، أو طعمه بالخل .. لم يحكم بطهارته؛ للشك في أن التغير زال أو استتر، بل الظاهر: الاستتار.
وقضية العلة: أنه لو صفا الماء ولم يبق به تغير .. طهر، وبه صرح في "المجموع" في التراب، ومثله غيره.
(وكلُّ ما استعمل في تطهير
…
فرضٍ وقَلَّ ليس بالطَّهور)
[الماء المستعمل]
فيه مسألة:
وهي: أن الماء المستعمل في تطهير فرض من رفع حدث أو إزالة نجس وقد قلَّ .. غير طهور؛ لانتقال المنع إليه، ولأن السلف لم يجمعوه في أسفارهم لاستعماله ثانياً مع احتياجهم إليه وعدم استقذاره في الطهارة، بل عدلوا إلى التيمم.
والمراد بـ (الفرض): ما لابد منه أثم بتركه أم لا، فيشمل ما اغتسلت به الكتابية من حيض أو نفاس؛ لتحل لحليلها المسلم، وطهارة الحنفي ولو بلا نية، وطهارة الصبي، وتطهير الوجه قبل بطلان التيمم، وتطهير الخبث المعفو عنه؛ إ ذ هو فرض أصالة، والغسل بدل المسح، وغسل الميت.
وخرج بـ (الفرض): الماء المستعمل في النفل؛ كالأغسال المسنونة، وغسل الرجلين في الخف قبل بطلان مسحهما .. فإنه طهور.
وخرج بقوله: (وقَلَّ): ما لو بلغ قلتين .. فإنه طهور، ولو انغمس جنب في ماء دونهما، ثم نوى .. ارتفعت جنابته وصار مستعملاً بالنسبة لغيره، ولا يصير مستعملاً بالنسبة إليه حتى يخرج منه، حتى لو أحدث في حال انغماسه .. جاز ارتفاعه به؛ لأن صورة الاستعمال باقية، والماء حال استعماله باقٍ على طهوريته، ولو نوى قبل تمام انغماسه .. ارتفعت جنابة الجزء الملاقي، وله أن يتمم انغماسه وترتفع جنابته، فلو غرف بإناء أو بيده، ثم غسل الباقي .. لم ترتفع جنابته.
ولو انغمس فيه جنبان ونويا معاً بعد تمام الانغماس .. ارتفعت جنابتهما، أو نويا مرتباً .. ارتفعت جنابة الأول لا الثاني، ولو نويا معاً بعد غسل جزء منهما .. ارتفعت جنابة الجزء صار الماء مستعملاً بالنسبة إليهما.
والماء حال تردده على عضو ليس بمستعمل بالنسبة إليه، ولو جرى من عضو المتوضئ إلى عضو آخر ولو من يد إلى أخرى .. فمستعمل، ولو انفصل من عضو الجنب إلى عضو آخر .. فالأصح أنه مستعمل، ولو غمس المتوضئ يده في الإناء قبل فراغ الوجه .. لم يصر مستعملاً، وكذا بعده إن نوى الاغتراف، وإلا .. صار مستعملاً، والجنب بعد النية كالمحدث بعد غسل وجهه، ولو غسل كل منهما بما في كفه باقي يده .. أجزأه، بخلاف ما لو غسل به غيرها .. فإنه لا يكفي.
* * *
ثم لما ذكر تنجس الماء بالنجاسة .. استدعى ذكرها فقال: