المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الصلاة هي: لغة: الدعاء بخير؛ قال تعالى: {وصل عليهم} أي: - فتح الرحمن بشرح زبد ابن رسلان

[شهاب الدين الرملي]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطهارة

- ‌بابُ النّجاسة

- ‌باب الآنية

- ‌بابُ السِّواك

- ‌باب الوضوء

- ‌بابُ المسح على الخُفَّين

- ‌بابُ الاستنجاء

- ‌باب الغسل

- ‌بابُ التّيَمُّم

- ‌بابُ الحَيض

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب سجود السهو

- ‌باب صلاة الجماعة

- ‌باب صلاة المسافر

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌باب صلاة الجمعة

- ‌باب صلاة العيدين

- ‌باب صلاة الخسوف للقمر والكسوف للشمس

- ‌باب صلاة الاستسقاء

- ‌كتاب الجنائز

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب زكاة الفطر

- ‌باب قسم الصدقات

- ‌باب الصيام

- ‌باب الاعتكاف

- ‌باب الحج

- ‌باب محرمات الإحرام

- ‌كتاب البيوع

- ‌كتاب السلم

- ‌باب الرهن

- ‌باب الحجر

- ‌باب الصلح وما ذكر معه

- ‌باب الحوالة

- ‌باب الضمان

- ‌باب الشركة

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الإقرار

- ‌باب العارية

- ‌باب الغضب

- ‌باب الشفعة

- ‌باب القراض

- ‌[باب يملك العامل ربع حصته]

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الإجازة

- ‌بابُ الجُعَالة

- ‌بابُ إحياء المَوات

- ‌بابُ الوَقف

- ‌بابُ الهِبَة

- ‌بابُ اللُّقَطة

- ‌باب اللقيط

- ‌باب الوديعة

- ‌كتاب الفرائض

- ‌باب الوصية

- ‌باب الوصايا

- ‌كتاب النكاح

- ‌باب الصداق

- ‌باب الوليمة

- ‌باب القَسْمِ والنُشُوز

- ‌باب الخلع

- ‌بابُ الطَّلاق

- ‌باب الرجعة

- ‌باب الإيلاء

- ‌باب الظِهار

- ‌باب اللعان

- ‌بابُ العِدَّة

- ‌باب الاستبراء

- ‌بابُ الرّضاع

- ‌باب النفقات

- ‌باب الحضانة

- ‌كتاب الجنايات

- ‌باب دعوى القتل

- ‌باب البغاة

- ‌باب الردة

- ‌باب حد الزنا

- ‌باب حد القذف

- ‌باب السرقة

- ‌باب قاطع الطريق

- ‌باب حد الخمر

- ‌باب الصائل

- ‌كتاب الجهاد

- ‌باب الغنيمة

- ‌باب الجزية

- ‌باب الصيد والذبائح

- ‌باب الأضحية

- ‌بابُ العقيقة

- ‌بابُ الأَطِعمة

- ‌باب المسابقة على الخيل والسهام ونحوهما

- ‌باب الإيمان

- ‌باب النذر

- ‌كتاب القضاء

- ‌كتاب القسمة

- ‌باب الشهادة

- ‌باب الدعوى

- ‌بابُ العِتق

- ‌بابُ التدبير

- ‌بابُ الكِتابة

- ‌باب الإيلاد

الفصل: ‌ ‌كتاب الصلاة هي: لغة: الدعاء بخير؛ قال تعالى: {وصل عليهم} أي:

‌كتاب الصلاة

هي: لغة: الدعاء بخير؛ قال تعالى: {وصل عليهم} أي: ادع لهم، وشرعاً: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، والمفروض منها في كل يوم وليلة خمس، وهو معلوم من الدين بالضرورة.

والأصل فيها قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أي: حافظوا عليها دائماً بإكمال واجباتها وسننها، وقوله تعالى:{فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} أي: محتمة مؤقتة، وأخبار في "الصحيحين"؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"فرض الله على أمتي ليلة الإسراء خمسين صلاة، فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمساً في كل يوم وليلة"، وقوله للأعرابي:"خمس صلوات في الليلة" قال الأعرابي: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوَّع".

[شروط وجوب الصلاة]

(فرضٌ على مكلَّفٍ قد أسلما .... وعن محيضٍ ونفاسٍ سلما)

أي: الصلوات الخمس فرضٌ على كل مكلف؛ وهو البالغ العاقل قد أسلم، وسلم عن حيض ونفاس وإن لم تغتسل؛ للإجماع، ومثل المكلف: من زال عقله بسبب محرم كشرب دواء يزيل العقل بلا حاجة أو مسكر وقد علم حالهما، فيخرج بـ (المكلف): الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق"، وبـ (من قد أسلم): الكافر الأصلي، فلا تجب عليه وجوب مطالبة بها في الدنيا؛ لعدم صحتها منه، ولكن تجب عليه وجوب عقاب عليها في الآخرة؛ لتمكنه من فعلها بالإسلام بأن يسلم ثم يأتي بها؛ بناء على أن الكافر مخاطب بالفروع وهو

ص: 241

الأصح، وبقوله:(وعن محيض ونفاس سلما): الحيض والنفاس، فلا تجب عليهما ولو في زمن الردة، والسكر؛ لعدم صحتها منهما، وإسقاطها عنهما عزيمة.

وشمل قوله: (قد أسلما): المرتد فتجب عليه؛ لأنه التزمها بالإسلام، فلا تسقط عنه بالردة؛ كحق الآدمي، فيلزمه قضاؤها بعد إسلامه؛ تغليظاً عليه، فتعبيره به أحسن من تعبير غيره بـ (مسلم).

وقوله: (فرض) خبر مبتدأ محذوف عائد على الصلاة، وألف (أسلما) و (سلما) للإطلاق.

(وواجبٌ على وليِّ الشَّرعي

أن يأمر الطِّفل بها لسبع)

(والضَّرب في العشر، وفيها إن بلغ

أجزت، ولم يعد إذا منها فرغ)

فيهما ثلاث مسائل:

[أمر الطفل بالصلاة والضرب على تركها]

الأولى: أنه يجب على الولي الشرعي أباً كان أو جداً أو وصياً أو قيماً - قال في "المهمات": وفي معناه: الملتقط ومالك الرقيق، وكذا المودع والمستعير ونحوهما، فيما يظهر-: أن يأمر الطفل ذكراً كان أو أنثى بالصلاة لسبع سنين؛ أي: لتمامهما بشرط تمييزه؛ بأن يصير بحيث يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده، قال الطبري: ولا يقتصر في الأمر على مجرد صيغة، بل لابد معه من التهديد. انتهى.

وأن يضربه على تركها في العشر من السنين ولو عقب استكمال التسع سنين؛ لخبر أبي داود بإسناد حسن: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" ورواه الحاكم وصححه، وكذا الترمذي بدون:"فرقوا بينهم في المضاجع".

وذكروا لاختصاص الضرب بالعشر معنيين: أنه زمن احتمال البلوغ بالاحتلام، وأنه حينئذ يحتمل الضرب، وعدل المصنف عن قول غيره:(لعشر) لئلا يتوهم استكمالها، ويجب على الولي أيضاً نهيه عن المحرمات، وتعليمه الواجبات؛ كالطهارة، وأجرة تعليم الفرائض من

ص: 242

ماله، ثم على الأب، ثم على الأم، والأصح: أن للولي أن يصرف من مال الطفل أجرة ما سوى الفرائض كالقرآن والحديث والآداب؛ لأنه يستمر معه وينتفع به.

[بلوغ الطفل في الصلاة بالسن]

الثانية: لو بلغ الطفل في الصلاة بالسن .. أجزأته ولو عن الجمعة ولو أمكنه إدراكها؛ لأنه صلاها بشرائطها، فلزمه إتمامها وأجزأته، وقد يجب إتمام العبادة وإن كان أولها تطوعاً؛ كحج تطوع، وصوم مريض شفي في أثنائه، وحذف المصنف همزة (أجزأت) تخفيفاً.

[بلوغ الطفل بعد فراغه من الصلاة]

الثالثة: لو بلغ بعد فراعه من الصلاة بالسن أو الاحتلام أو الحيض .. أجزأته ولو عن الجمعة، ولا تجب إعادتها؛ لأنه أداها صحيحة مع مراعاة معتبراتها؛ كأمة صلت مكشوفة الرأس، ثم عتقت في الوقت، بخلاف نظيره من الحج؛ لأنه لا يتكرر، فاعتبر وقوعه حال الكمال، ويستحب له الإعادة في الصورتين؛ ليؤديهما حال الكمال.

[أعذار تأخير الصلاة]

(لا عذر في تأخيرها إلَاّ لساة

أو نومٍ أو للجمع أو للإكراه)

فيه مسألة:

وهي أنه لا عذر لأحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن وقتها؛ لئلا تفوت فائدة التأقيت إلا لساه؛ أي: ناسٍ؛ لخبر ابن حبان والحاكم في "صحيحهما" عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

أو نوم استغرق الوقت به أو غلبه، أو ظن تيقظه قبل خروج وقتها بزمن يسعها؛ لخبر مسلم عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى"، أما نومه بعد دخول وقتها وقد ظن عدم تيقظه فيه، أو قبل خروجه بزمن لا يسعها، أو شك فيه .. فحرام.

ص: 243

أو للجمع بالسفر؛ بأن أخر الظهر بنية جمعها مع العصر، أو المغرب بنية جمعها مع العشاء؛ لما سيأتي في بابها، وأما تأخيرها بالجمع بالمطر أو بالنسك .. فحرام على الأصح.

أو للإكراه على تأخيرها؛ للخبر السابق، وتصويره مشكل؛ لأن من أكره على ترك الأفعال الظاهرة .. يمكنه إجراؤها على قلبه، وحمله في "المجموع" على الإكراه على التلبس بما ينافي الصلاة ويفسدها، وحمله بعضهم على الإكراه على أن يأتي بها على غير الوجه المجزئ من الطهارة ونحوها، وقد يمنع المحدث عن الوضوء والتيمم.

وقال التاج السبكي: المكره قد يدهش حتى عن الإيماء بالطرف ويكون مؤخراً معذوراً؛ كالمكره على الطلاق لا تلزمه التورية إذا اندهش قطعاً، وكذا إن لم يندهش على الأصح، وأما قولهم:(لا يترك الصلاة ما دام عقله ثابتاً) .. فإن الدهشة مانعة لثبوت عقله في تلك الحالة.

ويعذر في تأخيرها عن وقتها أيضاً للجهل بوجوبها عليه من غير تفريط في التعليم؛ كمن أسلم في دار الحرب وتعذرت هجرته، أو نشأ منفرداً ببادية ونحوها، ولخوف فوات الوقوف بعرفة على الأصح، بل يجب عليه، وللاشتغال بإنقاذ غريق، ودفع صائل عن نفس أو مال، أو بالصلاة على ميت خيف انفجاره كما أفتى به القاضي صدر الدين موهوب الجزري.

وقول الناظم: (أو للجمع) بدرج الهمزة؛ للوزن.

[مواقيت الصلاة]

(ووقت ظهرٍ: من زوالها إلى .... أن زاد عن مثلٍ لشيء ظللَّا)

(ثمَّ به يدخل وقت العصر .... واختير مثلي ظلِّ ذاك القدر)

(جاز إلى غروبها أن تفعلا .... ووقت مغربٍ بهذا دخلا)

(والوقت يبقى في القديم الأظهر .... إلى العشاء بمغيب الأحمر)

(وغاية العشاء فجرٌ يصدق .... معترضٌ يضيء منه الأفق)

(واختير للثُّلث، وجوِّزه إلى .... صادق فجرٍ، وبه قد دخلا)

(ألصُّبح، واختير إلى الإسفار .... جوازه يبقى إلى الإدبار)

ص: 244

ذكر في هذه الأبيات أوقات الصلوات الخمس؛ لأنها تجب بدخولها وتفوت بخروجها؛ والأصل فيها: قوله تعالى: {فسبحن الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون} ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:(أرد بـ {حين تمسون}: صلاة المغرب والعشاء، وبـ {حين تصبحون}: صلاة الصبح، وبـ {عشيا}: صلاة العصر، {وحين تظهرون}: صلاة الظهر)، وخبر:"أمني جبريل عند البيت مرتين؛ فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكان الفيء قدر الشراك، والعصر حين كان ظل الشيء مثله، والمغرب حين أفطر الصائم - أي: دخل وقت إفطاره - والعشاء حين غاب الشفق، والفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد .. صلى بي الظهر حين كان ظله - أي: الشيء - مثله، والعصر حين كان ظله مثليه، والمغرب حين أفطر الصائم، والعشاء إلى ثلث الليل، والفجر فأسفر، وقال: هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين" رواه أبو داوود وغيره، وصححه الحاكم وغيره.

وقوله: "صلى بي الظهر حين كان ظله مثله" أي: فرغ منها حينئذ؛ كما شرع في العصر في اليوم الأول حينئذ، قاله إمامنا الشافعي نافياً به اشتراكهما في وقت؛ ويدل له خبر مسلم:"وقت الظهر: إذا زالت الشمس ما لم يحضر العصر".

والزوال: ميل الشمس عن وسط السماء المسمى بلوغها إليه بحالة الاستواء إلى جهة المغرب لا في الواقع، بل في الظاهر لنا؛ لأن التكليف إنما يتعلق به، وذلك بزيادة ظل الشيء على ظله حالة الاستواء، وحدوثه إن لم يبق عنده ظل كما في بعض البلاد التي على خط الاستواء، وقد يتصور في غيرها كمكة وذلك في ستة وعشرين يوماً قبل انتهاء طول النهار، ومثلها بعده، أو في يوم واحد وهو أطول أيام السنة نقلهما في "المجموع"، وبالثاني جزم في "الروضة" كـ "أصلها"، واليوم الذي ينتهي فيه الطول هو سابع عشر حزيران.

وبدأ المصنف كغيره بالظهر؛ تأسياً بإمامة جبريل، فوقت الظهر: من زوالها؛ أي: الشمس، فأعاد الضمير عليها وإن لم يتقدم لها ذكر؛ للعلم بها كما في قوله تعالى: {حتى توارت

ص: 245

بالحجاب}، إلى أن زاد ظل الشيء على ظله حالة الاستواء مثله؛ لخبر جبريل السابق.

وللظهر خمسة أوقات: وقت فضيلة: أوله وسيأتي بيانه، ووقت اختيار: إلى آخر الوقت، ووقت عذر: وهو وقت العصر لمن يجمع، ووقت ضرورة: وهو إذا زال المانع وقد من بقي الوقت قدر تكبيرة، ووقت حرمة: وهو آخر وقتها بحيث لا يسعها، ويجريان في سائر الصلوات.

وقول المصنف: (إلى أن زاد عن مثل لشيءٍ ظللا) جرى على الغالب من وجود ظل عند الاستواء.

وقوله: (ظللا) أي: صار ذا ظل عند الاستواء، فاعتبر ذلك بقامتك، أو شاخص تقيمه في أرض مستوية من عصا أو نحوها، قال العلماء: وقامة الإنسان ستة أقدام ونصف بقدمه.

ثم يصير ظل الشيء مثله بعد ظل الاستواء، إن كان يدخل وقت العصر وهي الوسطى، ووقت اختيارها: إلى مصير ظل الشيء مثليه بعد ظل الاستواء، وجوازها: إلى غروب الشمس؛ لخبر جبريل مع خبر "الصحيحين": "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس .. فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس .. فقد أدرك العصر"، وخبر ابن أبي شيبة:"وقت العصر: ما لم تغرب الشمس"، وإسناده في "مسلم"، وخبر مسلم:"ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى"، ظاهره: يقتضي امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الأخرى من الخمس؛ أي: في غير وقت الصبح؛ لما سيأتي في وقتها، وقوله في خبر جبريل بالنسبة إليها وإلى العشاء والصبح:"والوقت ما بين هذين" محمول على وقت الاختيار؛ جمعاً بين الأدلة.

قال في "المجموع": وللعصر خمسة أوقات: وقت فضيلة: من أول الوقت إلى أن يصير

ص: 246

ظل الشيء مثله ونصف مثله، ووقت اختيار: إلى أن يصير مثليه، ووقت جواز بلا كراهة: إلى اصفرار الشمس، ووقت جواز بكراهة: إلى غروب الشمس، ووقت عذر: وقت الظهر لمن يجمع.

ويدخل وقت المغرب بغروب الشمس؛ أي: متكاملة وإن بقي الشعاع، ويعرف في العمران بزوال الشعاع وإقبال الظلام، والوقت؛ أي: وقت المغرب يبقى في القديم الأظهر: إلى وقت العشاء بمغيب الشفق الأحمر، قال في "المجموع": بل هو الجديد أيضاً؛ لأن الشافعي علق القول به في "الإملاء" وهو من الكتب الجديدة على ثبوت الحديث فيه؛ فقد ثبت فيه أحاديث في "مسلم" منها حديث: "وقت المغرب: ما لم يغب الشفق"، ومنها حديث:"ليس في النوم تفريط" وأما حديث صلاة جبريل إياها في اليومين في وقت واحد .. فمحمولة على وقت الاختيار، وأيضاً أحاديث "مسلم" مقدمة عليه؛ لأنها متأخرة بالمدينة وهو متقدم بمكة، ولأنها أكثر رواة وأصح إسناداً، ولهذا خرجها مسلم في "صحيحه" دونه فقال: وعلى هذا: للمغرب ثلاثة أوقات: وقت فضيلة واختيار: أول الوقت، ووقت جواز: ما لم يغب الشفق، ووقت عذر: وقت العشاء لمن يجمع.

ومقابل الأظهر: أن وقتها يمتد بقدر تطهرٍ وسترٍ وسد جوعٍ، وخمس ركعات وأذان وإقامة، والاعتبار فيها بالوسط المعتدل.

ويدخل وقت العشاء بمغيب الشفق الأحمر، وغايته: الفجر الصادق، والاختيار: إلى ثلث الليل، والجواز: إلى الفجر الصادق وهو معترض؛ أي: منتشر يضيء منه الأفق؛ أي: نواحي السماء؛ لخبر جبريل، مع خبر:"ليس في النوم تفريط".

وخرج بـ (الأحمر): ما بعده من الأصفر والأبيض، وبـ (الصادق): الكاذب؛ وهو ما يطلع مستطيلاً بأعلاه ضوء كذنب السرحان وهو الذئب، ثم يذهب ويعقبه ظلمة، ثم يطلع الفجر الصادق.

وفي بلاد المشرق نواحي تقصر لياليهم فلا يغيب الشفق عندهم، فأول وقت العشاء في حقهم: أن يمضي بعد غروب الشمس قدر ما يغيب الشفق في مثله في أقرب البلاد إليهم.

قال في "المجموع": وللعشاء أربعة أوقات: وقت فضيلة: أول الوقت، ووقت اختيار:

ص: 247

إلى ثلث الليل على الأصح، ووقت جواز: إلى طلوع الفجر الصادق، ووقت عذر: وقت المغرب لمن يجمع.

ويدخل وقت الصبح بالفجر الصادق، والاختيار: إلى الإسفار بكسر الهمزة؛ أي: الإضاءة، والجواز: إلى الإدبار بكسرها؛ أي: إدبار الليل بأول طلوع الشمس؛ لما مر من خبر مسلم: "وقت صلاة الصبح: من طلوع الفجر الصادق ما لم تطلع الشمس"، وله أربعة أوقات: وقت فضيلة: أول الوقت، ووقت اختيار: إلى الإسفار، ووقت جواز بلا كراهة: إلى الحمرة التي قبل طلوع الشمس، ووقت جواز بكراهة: إلى الطلوع، وهي نهارية.

وألف (ظللا) و (تفعلا)، و (دخلا) في الموضعين للإطلاق.

[استحباب تعجيل الصلاة أول الوقت]

(وسن تعجيل الصلاة في الأول

إذ أول الوقت بالأسباب اشتغل)

أي: يسن تعجيل الصلاة ولو عشاء في أول وقتها؛ بأن اشتغل فيه بأسبابها كالطهارة والستر والأذان؛ لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} ، ومن المحافظة عليها تعجيلها، وقوله تعالى:{فاستبقوا الخيرات} ، ولخبر ابن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول وقتها" رواه الدارقطني وغيره وصححوه، ولخبر:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثه) رواه أبو داود بإسناد صحيح.

ولو لم يحتج إلى أسبابها وأخر بقدرها .. حصلت الفضيلة، ولا يكلف عجلة زائدة على العادة، ولا يضر التأخير لأكل لقم وكلام قصير، وتحقق الوقت وتحصيل الماء، وإخراج خبث يدافعه ونحو ذلك؛ لأنه حينئذ لا يعد متوانياً ولا مقصراً.

ص: 248

وقد علم: أن الصلاة تجب بأول وقتها وجوباً موسعاً فلا يأثم بتأخيرها إن عزم على فعلها فيه ولو مات قبل فواتها.

وقول المصنف: (الأول) بضم الهمزة وفتح الواو جمع أوَّل باعتبار الأوقات الخمسة، و (أوَّل) منصوب بـ (اشتغل)، و (بالأسباب) بنقل حركة همزها إلى الساكن قبلها متعلق به أيضاً، و (إذ) في كلامه: ظرفية أو تعليلية.

[استحباب الإبراد بفعل الظهر وشروطه]

وما تقدم من أنه يسن تعجيل الصلاة لأول وقتها .. محله ما لم يعارضه ما هو أرجح منه، فإن عارضه .. يسن تأخيرها، وذلك في مسائل كثيرة ذكر المصنف هنا منها: مسألة الإبراد بالظهر فقال:

(وسنَّ الآبراد بفعل الظُّهر

لشدَّة الحرِّ بقطر الحرِّ)

(لطالب الجمع بمسجدٍ أتي

إليه من بعدٍ خلاف الجمعة)

أي: وسن لمريد الصلاة الإبراد بفعل الظهر؛ أي: تأخيره؛ لشدة الحر إلى أن يصير للحيطان ظل يمشي فيه قاصد الجماعة، ولا يجاوز به نصف الوقت، بقطر الحر، لطالب الجمع؛ أي: الجماعة إماماً كان أو مأموماً، بمسجد؛ أي: ونحوه من أمكنة الجماعة، أتي للصلاة إليه من بعد؛ لكثرة الناس فيه، أو فقه إمامه أو نحوه؛ أي: ولا يجد كنا يمشي فيه؛ والأصل فيه: خبر "الصحيحين": "إذا اشتد الحر .. فأبردوا بالصلاة"، وفي رواية للبخاري:"بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم" أي: هيجانها، ولأن في تعجيل الصلاة في شدة الحر مشقة تسلب الخشوع أو كماله.

وما ورد مما يخالف ذلك .. منسوخ، فلا يسن الإبراد في غير شدة الحر ولو بقطر حار، ولا في قطر بارد أو معتدل وإن اتفق فيه شدة الحر، ولا لمن يصلي منفرداً أو جماعة ببيت، أو بمسجد حضره جماعة لا يأتيهم غيرهم، أو يأتيهم غيرهم من قرب، أو من بعد لكن يجد كناً يمشي فيه؛ إذ ليس ذلك كثير مشقة، وسن الإبراد أيضاً لمنفرد يريد فعل الظهر في

ص: 249

المسجد؛ كما أشعر به كلام الرافعي ونبه عليه الإسنوي.

ويؤخذ مما تقرر: أن المراد بالبعد: ما يذهب معه الخشوع أو كماله.

وقوله: (خلاف الجمعة) أي: بإسكان الميم، فلا يسن الإبراد بها؛ لخبر "الصحيحين" عن سلمة:(كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس)، ولشدة الخطر في فواتها المؤدي إليه تأخيرها بالتكاسل؛ لكون الجماعة شرطاً في صحتها وقد لا يدركها بعضهم، ولأن الناس مأمورون بالتبكير إليها فلا يتأذون بالحر، وما في "الصحيحين": من (أنه صلى الله عليه وسلم كان يبرد بها) .. بيان للجواز فيها؛ جمعاً بين الأخبار.

وخرج بقوله: (بفعل الظهر) أذانها فلا يسن الإبراد به، وقوله:(الإبراد) بنقل حركته لساكن قبلها، واللام في قوله:(لشدة الحر) تعليلية، أو بمعنى:(في) أو (عند).

(صلاة ما لا سببٌ لها امنعا

بعد صلاة الصبح حتى تطلعا)

(وبعد فعل العصر حتى غربت

وعندما تطلع حتى ارتفعت)

(والاستوا - لا جمعةٍ - إلى الزَّوال

والاصفرار لغروبٍ ذي كمال)

(أمَّا الَّتي لسببٍ مقدَّم

- كالنذر والفائت- لم تحرم)

(وركعتا الطواف والتحية

والشكر والكسوف والجنازة)

(وحرم الكعبة، لا الإحرام

ونكره الصلاة في الحمام)

(مع مسلخٍ، وعطنٍ، ومقبره

ما نبشت، وطرقٍ، ومجزره)

(مع صحةٍ كحاقنٍ وحازق

وعند مأكولٍ: صلاة التائق)

في هذه الأبيات مسألتان:

[الأوقات التي تكره فيها الصلاة]

الأولى: أن الصلاة التي لا سبب لها متقدم ولا مقارن تمتنع؛ أي: تحرم، ولا تنعقد بعد فعلين، وفي ثلاثة أوقات كما سيأتي: بعد فعل فرض صلاة الصبح أداء حتى تطلع الشمس،

ص: 250

وبعد فعل فرض العصر أداء ولو في وقت الظهر لجمع التقديم حتى تغرب الشمس؛ للنهي عن الصلاة فيهما في خبر "الصحيحين"، وخرج بفرض الصبح والعصر: سنتهما فلا تحرم الصلاة بعد فعلهما، وعندما تطلع الشمس حتى ترتفع قدر رمح تقريبا في رأي العين، وإلا .. فالمسافة طويلة جدا، وعند الاستواء؛ بأن تصير في وسط السماء إلى الزوال عنه، وهو وقت لطيف جدا لا يتسع لصلاة، إلا أن التحريم بها قد يقع فيه فلا ينعقد، وعند الاصفرار حتى يتم غروب الشمس؛ للنهي عنها في خبر مسلم، وليس فيه ذكر الرمح.

ويستثنى من تحريم الصلاة عند الاستواء: يوم الجمعة، فلا تحرم الصلاة فيه على أحد وإن لم يحضر الجمعة؛ لاستثنائه في خبر أبي داوود وغيره، وفيه:"أن جهنم لا تسجر يوم الجمعة" أي: لا توقد، ولا يضر كونه مرسلا؛ لاعتضاده بأنه صلى الله عليه وسلم استحب التبكير إليها، ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام من غير استثناء.

أما الصلاة التي لها سبب متقدم أو مقارن .. فلا تحرم فيها؛ كالنذر والفائت ولو نقلا اتخذه وردا، وركعتي الطواف والوضوء والتحية؛ أي: بأن دخل المسجد بنية غيرها كاعتكاف، أو بنيتهما، أو بلانية، أما الداخل بنيتها فقط .. فتحرم منه؛ كما لو أخر الفائتة ليقضيها في تلك الأوقات، وسجدة التلاوة والشكر، وصلاة كسوف الشمس أو القمر، وصلاة الجنازة؛ أما التحية .. فلخبر "الصحيحين":"إذا دخل أحدكم المسجد .. فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، وأما الفائتة .. فلخبر:"فليصلها إذا ذكرها"، وخبر "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد صلاة العصر ركعتين وقال: "هما اللتان بعد الظهر"، وأما الجنازة .. فقد نقل ابن المنذر الإجماع على أنها تفعل بعد الصبح والعصر، وأما غير الفائتة مما ذكر .. فبالقياس عليها؛ ولأن الأدلة الطالبة لهذه الصلوات عامة في الأوقات خاصة بتلك الصلوات، وأحاديث النهي بالعكس، ورجحت الأولى؛ بأنها لم يدخلها تخصيص، وأحاديث النهي دخلها التخصيص بالفائتة للحديث، وصلاة الجنازة؛ للإجماع كما مر.

ويستثنى من تحريم الصلاة في الأوقات المكروهة: حرم الكعبة؛ أي: الحرم المكي، فلا

ص: 251

تحرم الصلاة فيه بحال؛ لخبر: "يا بني عبد مناف؛ لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ولما فيه من زيادة فضل الصلاة.

نعم؛ هي خلاف الأولى كما في "مقنع المحاملي" خروجا من خلاف مالك وأبي حنيفة. وخرج بـ (حرم مكة): الحرم المدني؛ فلا تستثنى الصلاة فيه.

أما الصلاة التي سببها متأخر كالإحرام؛ أي: كركعتي الإحرام والاستخارة .. فتحرم فيها؛ لأن سببهما وهو الإحرام والاستخارة متأخر عنهما.

والمراد بالمتقدم وقسيميه بالنسبة إلى الصلاة كما في "المجموع"، وإلى الأوقات المكروهة كما في "الروضة" و"أصلها"، والأول منهما أظهر كما قاله الإسنوي وغيره، وعليه جرى ابن الرفعة، فعليه: صلاة الجنازة سببها متقدم، وعلى الثاني: قد يكون متقدما وقد يكون مقارنا بحسب وقوعه في الوقت أو قبله.

[أمكنة وأحوال تكره الصلاة فيها]

الثانية: تكره الصلاة كراهة تنزيه في أمكنة، منها: الحمام مع مسلخه، وعطن الإبل؛ أي: الموضع الذي تنحى إليه الإبل الشاربة ليشرب غيرها كما قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه وغيره، أو لتشرب هي عللا بعد نهل كما قاله الجوهري وغيره، ومقبرة -بتثليث حركة الباء- ما نبشت، وطرق؛ أي: في البنيان دون البرية، ومجزرة بفتح الزاي؛ أي: موضع جزر الحيوان؛ أي: ذبحه؛ للنهي عن الصلاة في المذكورات، رواه الترمذي.

وألحق بالحمام مواضع الخمر والحانة والمكس، والكنائس، والبيع، والحشوش ونحوها، والمعنى في الكراهة فيها: أنها مأوى الشياطين، وفي عطن الإبل: نفارها السالب للخشوع، وألحق به مأواها ليلا؛ للمعنى المذكور فيه، بخلاف عطن الغنم، ومراحها؛ أي: مأوها ليلا، والبقر كالغنم كما قاله ابن المنذر وغيره، وفي المقبرة والمجزرة؛ أي: ونحوهما كالمزبلة: نجاستها فيما يحاذي المصلي، ومن هنا يعلم: أنها لا تكره في مقبرة الأنبياء عليهم

ص: 252

الصلاة والسلام، وفي الطرق: اشتغال القلب بمرور الناس فيها وقطع الخشوع.

ومحل كراهة الصلاة فيما مر: إذا اتسع وقتها، وإلا .. فلا تكره.

وخرج بما ذكر: الصلاة على سطح الحمام والحش ونحوهما؛ فلا تكره، وبقوله:(ما نبشت): ما إذا نبشت، فلا تصح الصلاة فيها ما لم يحل طاهر، والمشكوك في نبشها كالتي ما نبشت.

وتصح الصلاة في الأمكنة المكورهة؛ لخبر "الصحيحين": "وجعلت لي الأرض مسجدا، وتربتها طهورا"، بخلافها في الأوقات المكروهة، والفرق: أن تعلقها بالوقت أشد من تعلقها بالمكان؛ لتوقفها على أوقات مخصوصة دون أمكنة مخصوصة، فكان الخلل في الوقت أعظم، ومع هذا صحت في المكان وإن كان النهي للتحريم كالمغصوب.

وقوله: (كحاقن) أي: بالنون؛ أي: مدافع للبول؛ فإن صلاته تكره كراهة تنزيه مع صحتها، وفي معناه: الحاقب بالموحدة، وهو المدافع للغائط، وحازق بالزاي، وهو المدافع للريح، وقيل: هو الحازق خفه على رجله لضيقه، وكراهة الصلاة مع ما ذكر؛ لإذهابه الخشوع، فيستحب أن يفرغ نفسه من هذه الأشياء ثم يصلي وإن فاتته الجماعة، وأما تحريم هذه الأشياء عند غلبة الظن بحصول الضرر بها .. فلأمر خارج عن الصلاة، وهذا: كما تكره صلاة التائق بالمثناة؛ أي: المشتاق إلى المأكول؛ أي: أو المشروب وقد حضره أو قرب حضوره؛ لخبر مسلم: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان"، ولخبر "الصحيحين":"إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة .. فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه".

ومحل الكراهة: عند اتساع الوقت، فإن ضاق .. وجب عليه أن يصلي مدافعا وجائعا وعطشانا؛ لحرمة الوقت ولا كراهة.

وقول المصنف: (صلاة ما لا سبب لها) مفعول مقدم لـ (امنعا)، وألفه بدل من التوكيد، وألف (تطلعا) للإطلاق، وأعاد الضمائر في (تطلعا) و (غربت) و (تطلع) و (ارتفعت) على الشمس وإن لم يتقدم لها ذكر؛ للعلم بها، وقصر (الاستوا) للوزن.

ص: 253

[الصلوات المسنونة]

ثم شرع في بيان الصلاة المسنونة فقال.

(مسنونها: العيدان والكسوف

كذاك الاستسقاء والخسوف)

المسنون والنقل والتطوع والمندوب والمستحب والمرغب فيه ما عدا الفرض، وأفضل العبادات البدنية بعد الإسلام: الصلاة، وتطوعها أفضل التطوع، وهو قسمان: قسم تسن الجماعة فيه وهو أفضل من القسم الآخر؛ لأن مشروعية الجماعة فيه تدل على تأكيد أمره، ومشابهته للفرائض، لكن الأصح: تفضيل الراتبة على التراويح.

وأفضل القسم الأول: العيدان؛ أي: صلاة عيد الفطر وصلاة عيد الأضحى؛ لشبههما بالفرض في الجماعة وتعين الوقت، وللخلاف في أنهما فرضا كفاية، وأما خبر مسلم:"أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" .. فمحمول على النقل المطلق، وجرى ابن المقري في "شرح إرشاده" على تساوي العيدين في الفضيلة، وعن ابن عبد السلام أن عيد الفطر أفضل، وكأنه أخذه من تفضيلهم تكبيره على تكبير الأضحى؛ لأنه منصوص عليه، ولكن الأرجح في النظر كما قال الزركشي: تفضيل عيد الأضحى؛ لأنه منصوص عليه، ولكن الأرجح في النظر كما قاله الزركشي: تفضيل عيد الأضحى؛ لأنه شهر حرام، وفيه نسكان: الحج، والأضحية، قيل: إن عشره أفضل من العشر الأخير من رمضان. انتهى، وبه جزام ابن رجب الحنبلي؛ ويدل له خبر أبي داوود عن عبد الله بن قرط: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر".

ثم صلاة كسوف الشمس، ثم صلاة خسوف القمر؛ لخوف فوتهما بالانجلاء كالمؤقت بالزمان، ولدلالة القرآن عليهما قال تعالى:{لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله} الآية، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يترك الصلاة لهما، بخلاف الاستسقاء؛ فإنه تركه أحيانا، وأما تقدم الكسوف على الخسوف .. فلتقدم الشمس على القمر في القرآن والأخبار؛ ولأن الانتفاع بها أكثر من الانتفاع به، وقد قيل: إن نوره مستمد من نورها، وقد اشتهر اختصاص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر فأطلقهما المصنف؛ بناء على ما اشتهر من الاختصاص،

ص: 254

وعلى قول الجوهري: إنه الأجود، وإن كان الأصح عند الجمهور: أنهما بمعنى.

ثم صلاة الاستسقاء؛ لطلب الجماعة فيها كالفريضة.

ثم شرع في بيان القسم الذي لا تسن الجماعة فيه فقال:

[صلاة الوتر]

(والوتر ركعة لإحدى عشر

بين صلاة للعشا والفجر)

أي: ثم الأفضل بعد ما مر صلاة الوتر؛ لخبر: "أوتروا؛ فإن الله وتر يحب الوتر" رواه أبو داوود، وصحح الترمذي، ولخبر:"الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس .. فليفعل، أو بثلاث .. فليفعل، أو بواحدة .. فليفعل" رواه أبو داوود بإسناد صحيح، وصححه الحاكم على شرط الشيخين.

والصارف عن وجوبه: قوله تعالى: {والصلوة الوسطى} إذ لو وجب .. لم يكن للصلوات وسطى، وخبر:"إن الله افترض عليكم خمس صلوات في اليوم والليلة"، وخبر: هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع".

وقول المصنف: (ركعة) بدل من (الوتر)، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو ركعة إلى إحدى عشرة ركعة؛ للأخبار الصحيحة فيه؛ بأن يوتر بواحدة، أو بثلاث، أو بخمس، أو بسبع، أو تسع، أو إحدى عشرة ركعة وهي أكثر الأخبار الصحيحة، كخبر "الصحيحين" عن عائشة رضي الله تعالى عنها:(ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة).

ووقته: بين فعل صلاة العشاء- وإن جمعها تقديما، أو لم يصل بعدها نافلة - وطلوع الفجر؛ للإجماع، ولخبر: "إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم؛ وهي

ص: 255

الوتر، فجعلها لكم من العشاء إلى طلوع الفجر" رواه أبو داوود والترمذي، وصححه الحاكم وابن السكن.

و(الوتر) بكسر الواو وفتحها، وقوله:(للعشا) بالقصر؛ للوزن.

لمن صلى الوتر أكثر من ركعة الفصل؛ بأن يسلم من كل ركعتين وهو أفضل؛ لأنه أكثر أخبارا وعملا، وظاهر: أن العدد الكثير الموصول أفضل من العدد القليل المفصول؛ لزيادة العبادة، والوصل بتشهد أو بتشهدين في الأخيرتين؛ للاتباع، رواه مسلم، فيمتنع تشهده في غير الأخيرتين وزيادته على تشهدين؛ لأنه خلاف المنقول، وأصح الأوجه: أن التشهد أفضل من التشهدين.

وتأخير الوتر أفضل لمن كان له تهجد أو وثق باستيقاظه؛ لخبر "الصحيحين": "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل الوتر"، ولخبري مسلم:"بادروا الصبح بالوتر"، و"من خاف ألا يقوم آخر الليل .. فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره .. فليوتر آخر الليل؛ فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل"، فإن لم يكن له تهجد ولم يثق باستيقاظه .. فتقديم الوتر أفضل؛ لما مر، وخبر أبي هريرة:(أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)، فإنه محمول على من لا يثق بالقيام آخر الليل؛ جمعا بين الأخبار، ولو أوتر ثم تهجد .. لم يعده؛ لخبر:"لا وتران في ليلة" رواه أبو داوود والترمذي وحسنه.

[رواتب الفرائض]

(ثنتان قبل الصبح، والظهر كذا

وبعده، ومغرب، ثم العشا)

(وسن ركعتان قبل الظهر

تزاد كالأربع قبل العصر)

ص: 256

أي: أن رواتب الفرائض المؤكدة عشر ركعات: ركعتان قبل فرض الصبح وهما أفضلهما؛ لخبر "الصحيحين" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر)، وخبر مسلم:"ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"، وركعتان قبل فرض الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد فرض المغرب، وركعتان بعد فرض العشاء؛ للاتباع رواه الشيخان.

وسن أن تزاد ركعتان قبل الظهر؛ أي: وركعتان بعده؛ لخبر: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها .. حرمه الله على النار" رواه الترمذي وغيره وصححوه.

والجمعة كالظهر، وأربع قبل العصر؛ لخبر:"رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا" رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه، وسن أيضا ركعتان خفيفتان قبل المغرب كما سيأتي في كلامه، وركعتان قبل العشاء.

و(ثم) في قوله: (ثم العشا) للترتيب الذكري لا المعنوي؛ إذ الثمان ركعات في مرتبة واحدة.

(ثم التراويح فندبا تفعل

ثم الضحى، وهي ثمان أفضل)

(ثنتان أدناها، ووقتها هوا

من ارتفاع الشمس حتى الاستوا)

فيهما مسألتان:

[صلاة التراويح]

الأولى: ثم الأفضل بعد الرواتب والتراويح؛ لسنية الجماعة فيها، وقوله:(فندبا تفعل) تأكيد، وهي عشرون ركعة بعشر تسليمات، وذلك خمس ترويحات، كل ترويحة أربع ركعات بتسليمتين؛ والأصل فيها: خبر "الصحيحين" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ليالي فصلوها معه، ثم تأخر فصلى في بيته باقي الشهر، وقال: "خشيت أن

ص: 257

تفرض عليكم فتعجزوا عنها"، ولأن عمر جمع الناس على قيام شهر رمضان الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان ابن أبي حثمة، رواه البيهقي، وأما خبر:(ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على أحد عشرة ركعة) .. فمحمول على الوتر.

قال الحليمي: والسر في كونها عشرين ركعة: أن الرواتب المؤكدة في غير رمضان عشر ركعات فضوعفت فيه؛ لأنه وقت جد وتشمير.

ولو صلاها أربعا أربعا بتسليمه .. لم تصح؛ لشبهها بالفرائض في طلب الجماعة؛ فلا تغير عما ورد، بخلاف الرواتب والضحى.

ولأهل المدينة فعلها ستا وثلاثين ركعة؛ لأن العشرين خمس ترويحات، وكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين سبعة أشواط، فجعل أهل المدينة بدل كل أسبوع ترويحة، ولا يجوز ذلك لغيرهم؛ لأن لأهلها شرفا بهجرته صلى الله عليه وسلم ومدفنه.

ووقتها: بين فعل فرض العشاء وطلوع الفجر.

[صلاة الضحى]

الثانية: ثم الأفضل بعد التروايح الضحى؛ لأنها مؤقتة بزمان، وأفضلها: ثمان ركعات؛ أي: وأكثرها: اثنتا عشرة ركعة، كذا في "الروضة" كـ"أصلها"، والأكثرون - كذا في "المجموع" -أن أكثرها: ثمان، وصححه في "التحقيق" لخبر "الصحيحين" عن أم هانئ:(أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ثمان ركعات) وعنها أيضا: (أنه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثمان ركعات، يسلم من كل ركعتين) رواه أبو داوود بإسناد صحيح، وما قيل من أن هذا لا يدل على أن ذلك أكثرها .. رد بأن الأصل في العبادات التوقيف ولم تصح الزيادة على ذلك.

ص: 258

وأقلها: ركعتان؛ لخبر أبي هريرة السابق، ولخبر مسلم:"يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يصليهما من الضحى".

وأدنى الكمال: أربع، وأكمل منه: ست، ويسن أن يسلم من كل ركعتين.

ووقتها: من ارتفاع الشمس إلى استوائها كما جزم به الرافعي، وفي "المجموع" و"التحقيق": إلى الزوال، ووقتها المختار: ربع النهار.

وألف (هوا) للإطلاق.

(والنفل في الليل من المؤكد

وندبوا تحية للمسجد)

(ثنتان في تسليمة لا أكثرا

تحصل بالفرض ونفل آخرا)

(لا فرد ركعة ولا جنازة

وسجدة للشكر أو تلاوة)

(كرر بتكرير دخول يقرب

وركعتان إثر شمس تغرب)

فيها ثلاث مسائل:

[النفل المطلق]

الأولى: النفل المطلق- وهو غير المؤقت وذي السبب- في الليل من المسنون المؤكد، فهو أفضل من النفل المطلق في النهار؛ لخبر مسلم:"أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر:"الصلاة خير موضوع استكثر منها أو أقل" رواه ابن حبان والحاكم في "صحيحيهما".

والأفضل أن يسلم من كل ركعتين؛ لخبر: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" صححه البخاري والخطابي والبيهقي وغيرهم، وإذا زاد على ركعة .. فله أن يتشهد في كل ركعتين أو

ص: 259

ثلاث أو أكثر؛ لأن ذلك معهود في الفرائض في الجملة، وليس له أن يتشهد في كلا ركعة وإن جاز له أن يتنقل بركعة مفردة؛ لأنه اختراع صورة في الصلاة لم تعهد.

[تحية المسجد]

الثانية: ندبوا؛ أي: الأئمة تحية للمسجد لداخله، ثنتان في تسليمة؛ أي: هي ثنتان، فهو خبر مبتدأ محذوف لا أكثر؛ أي: لا يزيد على تسليمة واحدة، فله أن يصليها مئة ركعة فأكثر بتسليمة وتكون كلها تحية؛ لاشتمالها على ركعتين، فإن سلم من ركعتين وزاد عليهما بنيتها في وقت الكراهة .. لم يصح، أو في غيره .. فكذلك إن علم امتناعه، وإلا .. انعقدت نافلة مطلقة؛ والأصل في ذلك: خبر "الصحيحين": "إذا دخل أحدكم المسجد .. فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، فيكره له أن يجلس من غير تحية بلا عذر.

وظاهر كلامه كغيره: أنه لا فرق في سنها بين مريد الجلوس وغيره، لكن قيده الشيخ نصر بمريده؛ ويؤيده الخبر المذكور، والظاهر كما قاله الزركشي: أن التقييد بذلك خرج مخرج الغالب، وأن الأمر بذلك معلق على مطلق الدخول؛ تعظيما للبقعة وإقامة للشعار، كما يسن لداخل مكة الإحرام، سواء أراد الإقامة بها أم لا.

وتحصل التحية بالفرض ولو قضاء أو نذرا، وبنفل آخر غيرها، سواء أنواها مع ذلك أم أطلق؛ لأن القصد بها ألا تنتهك حرمة المسجد بلا صلاة، وكلامهم كالصريح أو صريح في حصول فضلها وإن لم تنو، لما مر، وإن بحث بعض المتأخرين كالأذرعي عدم حصوله حينئذ.

ولا تحصل بركعة وصلاة جنازة وسجدة شكر أو تلاوة؛ للخبر السابق، وتحصل بصلاة ركعتين أولهما من قيام وثانيهما من جلوس.

ويتكرر سن التحية بتكرر دخول يقرب كما يتكرر عند بعده؛ إذ المسبب يتجدد بتجدد سببه؛ كتكرر سجدة التلاوة بتكرر آيتها ولو قربت، ويفوت بجلوسه قبل فعلها وإن قصر الفصل إلا بجلوس قصير سهوا أو جهلا.

وتكره تحية المسجد في صور، منها: إذا دخل والإمام في المكتوبة، أو في الإقامة أو قربت بحيث تفوته تكبيرة الإحرام لو اشتغل بها، أو دخل المسجد الحرام، بل يطوف، والأصح: عدم ندبها للخطيب عند صعوده المنبر.

ص: 260

[استحباب ركعتين قبل المغرب]

الثالثة: تسن ركعتان قبل المغرب؛ لخبر "الصحيحين": "بين كل أذانين صلاة"، والمراد: الأذان والإقامة، ولخبر البخاري:"صلوا قبل صلاة المغرب" أي: ركعتين كما رواه أبو داوود، ويسن تخفيفهما كما في "المنهاج" كـ"المحرر" و"الشرح الصغير"، قال في "المجموع": واستحبابهما قبل شروع المؤذن في الإقامة، فإن شرع فيها .. كره الشروع في غير المكتوبة.

وألف (أكثرا) و (آخرا): للإطلاق.

[ما يقضى من النوافل]

(وفائت النفل المؤقت اندب

قضاءه لا فائتاً ذا سبب)

أي: وفائت النفل المؤقت وإن لم تشرع له جماعة كنفل اتخذه ورداً .. اندب؛ أي: أنت قضاءه مطلقاً من غير تقييد بوقت؛ كقضاء الفرائض بجامع التأقيت، ولخبر "الصحيحين":"من نام عن صلاة أو نسيها .. فليصلها إذا ذكرها"، ولأنه صلى الله عليه وسلم (قضى بعد الشمس ركعتي الفجر)، و (بعد العصر الركعتين اللتين بعد الظهر) رواه مسلم وغيره، ولخبر أبي داوود بإسناد حسن:"من نام عن وتره أو نسيه .. فليصله إذا ذكره"، لا فائتاً ذا سبب؛ كالكسوف والاستسقاء والاستخارة والتحية، فإنه لا يقضى؛ إذ فعله لعارض وقد زال، وكذلك النفل المطلق لا يقضى كما اقتضاه كلامه.

نعم؛ إن شرع فيه ثم أفسده .. قضاه كما ذكره الرافعي في صوم التطوع، والقضاء فيه بمعناه اللغوي.

ص: 261

(والفور والترتيب فيما فاتا

أولى لمن لم يختش ألفواتا)

فيه مسألتان:

[الفور في قضاء الفوائت]

الأولى: الفور في قضاء ما فاته من الصلوات؛ أي: بعذر كنوم ونسيان أولى؛ تعجيلاً لبراءة ذمته، وتداركاً لما فاته من الخلل، فإن أخره .. جاز له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فاتته صلاة الصبح في الوادي فلم يقضها حتى خرج منه، أما ما فاته بغير عذر .. فالفور في قضائه واجب؛ لأن توسعة الوقت في القضاء رخصة، والرخصة لا تناط بالمعاصي، ولأنه مفرط في تأخير بغير عذر.

[الترتيب في قضاء الفوائت]

الثانية: الترتيب في قضاء ما فاته من الصلوات أولى؛ لترتيبه صلى الله عليه وسلم فوائت الخندق حين أخر الظهر والعصر والمغرب والعشاء إلى هوي من الليل، وللخروج من الخلاف، وإنما لم يجب ترتيبها؛ لأنها عبادات مستقلة، وترتيبها من توابع الوقت وضروراته، فلا يعتبر في القضاء كصيام أيام رمضان، ولأنها ديون عليه فلا يجب ترتيبها إلا بدليل، [و] فعله صلى الله عليه وسلم المجرد إنما يدل عندنا على الاستحباب.

وقوله: (لمن لم يختش الفواتا) أي: أن أولوية الفور في قضاء ما فاته وأولوية ترتيبه كلاهما لمن لم يخف فوات الصلاة الحاضرة بأن اتسع وقتها، فإن خاف فوتها .. قدمها على الفائتة وجوباً؛ لئلا تصير فائتة، فإن شرع في الفائتة ثم بان ضيق وقت الحاضرة .. وجب قطعها، ولو تذكر الفائتة ي أثناء الحاضرة .. لم يقطعها ضاق الوقت أو اتسع.

وتعبيره بـ (الفوات) كالرافعي في كتبه والنووي في "منهاجه" .. يقتضي استحباب الفورية والترتيب إذا أمكنه فعل الفائتة وإدراك ركعة من الحاضرة في وقتها، وبه صرح ابن الرفعة؛ بناءً على أن الكل أداء، لكن مقتضى تعبير "الروضة" بالضيق خلافه، ومال إليه الإسنوي

ص: 262

وغيره؛ لامتناع إخراج البعض عن الوقت في الأصح.

ولو خاف فوات جماعة الحاضرة ووقتها متسع .. فالأفضل عند النووي: أن يصلي الفائتة أولاً منفرداً؛ لأن الترتيب مختلف في وجوبه، والقضاء خلف الأداء مختلف في جوازه، لكن قال الإسنوي: إن الأفضل البداءة بالحاضرة جماعة، ونقله عن جمع، وقال: كأن ما قالهالنووي من تفقهه وهو مردود؛ للخلاف في الجماعة أيضاً، وامتازت بالخلاف عندنا، ورد بأن النووي لم ينفرد به، بل سبقه إليه جماعة، وبأن الخلاف في الترتيب خلاف في الصحة، فرعايته أولى من الجماعة التي هي من التكملات.

وشمل إطلاقهم: أولوية ترتيب الفوائت ما زاد على صلوات يوم وليلة وهو كذلك؛ خروجاً من خلاف أحمد وإن قال مالك وأبو حنيفة: لا يجب الترتيب فيما زاد على صلوات يوم وليلة، وما إذا فاتت كلها بعذر أو بغيره، أو بعضها بعذر وإن تأخر، وهو كذلك، وإن استشكل بعض المتأخرين القسم الأخير منها.

وألف (فاتا) و (الفواتا) للإطلاق.

[دخول وقت رواتب الفرائض وخروجها]

(وجاز تأخير مقدم أدا

ولم يجز لما يؤخر ابتدا)

(ويخرج النوعان جمعاً بانقضا

ما وقت الشرع لما قد فرضا)

أي: جاز تأخير راتب مقدم على الفرض عن فعله حال كونه أداء؛ لامتداد وقته بامتداد وقت فرضه وإن خرج وقته المختار بفعله، وقد يؤمر بتأخيره عنه كمن حضر والإمام فيه؛ لخبر:

"إذا أقيمت الصلاة .. فلا صلاة إلا المكتوبة"، ولا يجوز الابتداء بالرواتب المؤخرة عن الفرض قبل فعله؛ لأن وقته إنما يدخل بفعله، ويخرج النوعان؛ أي: الراتب المقدم والراتب المؤخر بانقضاء وقت الفرض المقدر له شرعاً؛ لأنهما تابعان له.

وألف (فرضا) للإطلاق.

ص: 263

[جواز القعود في صلاة النفل]

(ثم الجلوس جائز في النفل

بغير عذر، وهو نصف الفضل)

أي: ثم القعود جائز في صلاة النفل ولو في العيدين والكسوفين والاستسقاء لغير عذر؛ أي: من قادر على القيام فيها بغير مشقة شديدة، وهو - أي: فضل فعله قاعداً - نصف فضل فعله قائماً، كما أن فضل فعله مضطجعاً نصف فضله قاعداً؛ لخبر البخاري:"من صلى قائماً .. فهو أفضل، ومن صلى قاعداً .. فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً - أي: مضطجعاً - فله نصف أجر القاعد"، وهو وارد فيمن صلى النفل كذلك مع قدرته على القيام أو القعود.

وهذا في حقنا، أما في حقه صلى الله عليه وسلم .. فثواب نفله قاعداً مع قدرته على القيام كثوابه قائماً، وهو من خصائصه.

وخرج بما ذكر: ما فعله مومياً أو مستلقياً، فإنه لا يجوز وإن أتم الركوع والسجود؛ لعدم وروده، وخرج بقوله:(بغير عذر): ما إذا فعله قاعداً أو مضطجعاً بعذر، فإنه لا ينقص أجره كالفرض، بل أولى، ولا يجوز قعود الصبي في المكتوبة، ولا القعود في الفريضة المعادة على الأصح فيهما.

[أركان الصلاة]

ولما كانت الصلاة تشتمل على فروض تسمى أركاناً، وعلى سنن تنقسم إلى أبعاض وهيئات .. بدأ بذكر أركانها فقال:

(أركانها: ثلاث عشر: النية

في الفرض قصد الفعل والفرضية)

(أوجب مع التعيين، أما ذو السبب

والوقت: فالقصد وتعيين وجب)

(كالوتر، أما مطلق من نفلها

ففيه تكفي نية لفعلها)

(دون إضافة لذي الجلال وعدد الركعات واستقبال)

ص: 264

قد اشترك الركن والشرط في أنه لابد منهما، ولكن الفرق بينهما: أن الشرط: ما اعتبر في الصلاة بحيث يقارن كل معتبر سواه كالطهر والستر واستقبال القبلة؛ فإنها تعتبر مقارنتها للركوع وغيره، والركن: ما اعتبر فيها لا بهذا الوجه كالقيام والركوع وغيرهما، فأركانها ثلاثة عشر كما في "المنهاج" و"أصله" بجعل الطمأنينة في محالها الأربعة في الركوع وما بعده كالهيئة التابعة، وجعلها في "الروضة" و"التحقيق" سبعة عشر بجعل الطمأنينة في محالها الأربعة أركاناً؛ ويؤيد الأول كلامهم في التقدم والتأخر بركن أو أكثر، وبه يشعر خبر: "إذا قمت إلى الصلاة

" والمعنى لا يختلف.

[الركن الأول: النية]

الأول: النية؛ لأنها واجبة في بعض الصلاة وهو أولها فكانت ركناً؛ كالتكبير الأول، وقد تقدم الكلام عليها في (المقدمة).

قوله: (في الفرض) أوجب أنت في الفرض ولو كفاية أو نذراً قصد الفعل؛ أي: فعل الصلاة؛ ليمتاز عن بقية الأفعال، وهي هنا ما عدا النية؛ لأنها لا تنوى، فلا يكفي إحضارها في الذهن مع الغفلة عن الفعل؛ لأنه المطلوب، والفرضية؛ أي: إن كان المصلي بالغاً؛ تمييزاً لها عن صلاة الصبي، مع التعيين له من كونها ظهراً أو عصراً أو جمعة مثلاً، فلا تصح الجمعة بنية الظهر كعكسه، ولا يكفي نية فرض الوقت لصدقة بالفائتة التي ذكرها، وصوب في "المجموع" عدم وجوب نية الفرضية في صلاة الصبي؟ ! وصححه في "التحقيق" إذ كيف ينوي فرض ما لا يقع فرضاً؟ ! لكنه سوى في "الروضة" كـ"أصلها" بين البالغ والصبي.

أما النفل ذو السبب كالكسوف والاستسقاء، والمؤقت كالعيدين والرواتب .. فالقصد؛ أي: قصد فعله وتعيين له، ولا تجب نية الفعلية؛ لأنها ملازمة للنفل كالوتر، ولو زاد على ركعة وفصله .. فينوي في الركعتين وإن كانتا شفعاً الوتر؛ كما ينوي في جميع ركعات التراويح

ص: 265

التراويح، وله أن ينوي فيما سوى الأخيرة منه إذا فصله صلاة الليل، أو مقدمة الوتر أو سنته، وهو أولى.

وأفاد بقوله: (كالوتر) أنه لا يضيفه إلى العشاء؛ لأنه سنة مستقلة، ويميز عيد الفطر عن الأضحى، وسنة الظهر التي قبلها عن التي بعدها وإن لم يؤخرها، ولا يجب التعيين في تحية المسجد وركعتي الوضوء، والطواف والإحرام والاستخارة ونحوها.

وأما النفل المطلق؛ وهو ما لا وقت له ولا سبب .. فيكفي فيه نية فعل الصلاة؛ لأنه أدنى درجات الصلاة، فإذا نواها .. وجب أن يحصل له، ولا تجب الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن العبادات لا تكون إلا له، ولا عدد الركعات، لكن لو عين وأخطأ .. لم تنعقد؛ لأنه نوى غير الواقع، ولا استقبال القبلة؛ إذ لا يجب التعرض للشرط، وكونها أداء أو قضاء.

ولو ظن خروج الوقت فصلاها قضاء فبان بقاؤه، أو ظن بقاءه فصلاها أداء فبان خروجه .. أجزأته؛ لأن كلا من الأداء والقضاء يأتي بمعنى الأخر مع كونه معذوراً.

(ثان: قيام قادر القيام

وثالث: تكبيرة الإحرام)

(ولو معرفا عن التنكير

وقارن النية بالتكبير)

(في كله حتماً، ومختار الإمام

والنووي وحجة للإسلام: )

(يكفي بأن يكون قلب الفاعل

مستحضر النية غير غافل)

[الركن الثاني: القيام للقادر]

الركن الثاني: قيام القادر عليه ولو صبياً؛ أي: في الفرض ولو معاداً؛ لخبر البخاري عن عمران بن حصين قال: كان بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؟ فقال:"صل قائماً، فإن لم تستطع .. فقاعداً، فإن لم تستطع .. فعلى جنب"، زاد النسائي:"فإن لم تستطع .. فمستلقياً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها".

ص: 266

وخرج بـ (الفرض): النفل وقد تقدم، وبـ (القادر): العاجز وسيأتي.

وشرطه: نصب فقار الظهر، فلو استند إلى شيء .. أجزأه ولو تحامل عليه.

وإن كان بحيث يرفع قدميه، أو انحنى قريباً من حد الركوع، أو مائلاً على أحد جنبيه بحيث لا يسمى قائماً .. لم يصح.

ولو قدر العاجز عن القيام مستقلاً على القيام متكئاً على شيء، أو قدر على القيام على ركبتيه، أو قدر على النهوض بمعين ولو بأجرة مثل وجدها فاضلة عن مؤنثه ومؤنة ممونه يومه وليلته .. لزمه ذلك.

[الركن الثالث: تكبيرة الإحرام]

الركن الثالث: تكبيرة الإحرام في القيام أو بدله؛ لخبر المسيء صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة .. فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن رافعاً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" رواه الشيخان، وفي رواية للبخاري:"ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك"، وفي "صحيح ابن حبان" بدل قوله:"حتى تعتدل قائماً": "حتى تطمئن قائماً".

وكيفية التكبير: (الله أكبر)، أو (الله الأكبر)، منكراً أو معرفاً كما قال:(معرفاً عن التنكير)، وأشار به إلى أن الزيادة التي لا تمنع الاسم .. لا تضر؛ كـ (الله الجليل أكبر)، أو (الله عز وجل أكبر)، قال بعضهم: أو (الله الذي لا إله إلا هو أكبر)، أو نحوها مما لا يطول فيه الفصل.

فلا يجزئ: (الله كبير)، ولا:(الرحمن الرحيم أكبر)، ولا:(الله أعظم وأجل) لما مر، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ الصلاة بقوله:"الله أكبر" رواه ابن ماجه وغيره، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري، ولفوات معنى (أفعل) في الأول.

ص: 267

ولو عكس فقال: (أكبر الله)، أو (الأكبر الله) .. لم تنعقد؛ لأنه لا يسمى تكبيراً، بخلاف:(عليكم السلام).

ولو طال الفصل عرفاً بما تخلل من الصفات؛ كـ (الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس أكبر)، أو طال سكوته بين كلمتي التكبير، أو زاد حرفاً فيه يغير المعنى؛ كمد همزة (الله أكبر) وألف بعد الهاء، أو واو ساكنة أو متحركة بينهما .. لم تنعقد.

ويجب أن يكبر قائماً حيث يلزمه القيام، وأن يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع، ولا عارض عنده من لغط أو غيره، وأن يكبر بالعربية، فإن عجز عنها وهو ناطق .. ترجم عنها بأي لغة شاء، ولا يعدل إلى غيره من الأذكار، ووجب التعلم إن قدر عليه ولو بالسفر إلى بلد آخر، وبعد التعليم لا يجب عليه قضاء ما صلاة بالترجمة قبله، إلا أن يكون آخره مع التمكين منه .. فإنه لابد من صلاته بالترجمة عند ضيق الوقت؛ لحرمته، ويجب القضاء؛ لتفريطه بالتأخير.

ويجب على الأخرس تحريك لسانه وشفتيه ولهاته بالتكبير قدر إمكانه، قال في "المجموع": وهكذا حكم تشهده وسلامه وسائر أذكاره.

وقارن الناوي النية بالتكبير في كله حتماً؛ أي: وجوباً؛ لأنه أول الأركان، بأن يستحضر جميع ما أوجبناه عند أوله ويستمر ذاكراً له إلى آخره بحيث يقارن كل حرف منه؛ كما يجب حضور شهود النكاح إلى الفراغ منه، واختار النووي في شرحي "المهذب" و"الوسيط" تبعاً لإمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي: الاكتفاء بالمقارنة العرفية عند العوام؛ بحيث يعد مستحضراً للصلاة عرفاً غير غافل عنها اقتداء بالأولين في تسامحهم بذلك، وقال ابن الرفعة: إنه الحق، والسبكي: إنه الصواب.

وقول المصنف: (والنووي) بسكون الياء إجراء للوصل مجرى الوقف.

[حكم العاجز عن القيام في الفرض]

(ثم انحنى لعجزه أن ينتصب

من لم يطق يقعد كيفما يحب)

أي: ثم انحنى مصلي الفرض ولو كانحناء الراكع؛ لعجزه عن أن ينتصب قائماً؛ لأنه أقرب

ص: 268

إلى القيام، ويزيد انحناءً لركوعه إن قدر؛ لتتميز الركعتان، ولو أمكنه القيام والاضطجاع دون القعود .. أتى به قائماً؛ لأنه قعود وزيادة، فيومئ بالركوع والسجود إمكانه، ويتشهد قائماً، ولا يضطجع، ومن لم يطق القيام في الفرض؛ أي: بأن شق عليه مشقة شديدة؛ كخوف هلاك، أو زيادة مرض، أو غرق أو دوران رأس في ذلك .. يقعد كيفما يحب، لكن افتراشه أفضل من تربعه وغيره؛ لأنه قعود للعبادة فكان أولى من قعود العادة، ولأنه قعود لا يعقبه سلام كالقعود للتشهد الأول، وقال الماوردي: إن تربع المرأة أفضل؛ لأنه أستر لها، لكن قال في "المجموع": ولم أره لغيره، وإطلاق الشافعي والأصحاب يخالفه.

ومن صلى قاعداً .. انحنى لركوعه؛ بحيث تحاذي جبهته ما قدام ركبتيه، والأكمل: أن تحاذي موضع سجوده، ولو جلس الغزاة ورقيبهم في مكمن ولو قاموا لرآهم العدو وفسد التدبير .. صلوا قعوداً وأعادوا؛ لندرة العذر، ولو صلوا قعوداً لخوق قصد العدو .. فالأصح: لا إعادة.

قال في "زيادة الروضة": الذي اختاره الإمام في ضبط العجز: أن تلحقه مشقة تذهب خشوعه، وقال في "المجموع": لأنه لابد من مشقة ظاهرة.

قال المصنف: وكنت أخذت بقول الإمام في النظم فقلت:

(ومن خشوعه إذا قام ذهب

صلى وجوباً قاعداً كيف أحب)

ثم لما رأيت الجماعة خالفوه .. عدلت عنه. انتهى.

(وعاجز عن القعود صلى

لجنبه، وباليمين أولى)

(ثم يصلي عاجز على قفاه

وبالركوع والسجود أوماه)

(بالرأس، إن يعجز فبالأجفان

للعجز أجرى القلب بالأركان)

(ولا يجوز تركها لمن عقل

وبعد عجز إن يطق شيئاً فعل)

في هذه الأبيات مسألتان:

ص: 269

[حكم العاجز عن القعود في الفرض]

الأولى: أن من عجز عن القعود في الفرض بما مر في العجز عن القيام .. صلى لجنبه؛ أي: عليه متوجهاً بمقدمه القبلة؛ لخير عمران السابق، وباليمين؛ أي: والصلاة على الجنب اليمين أولى؛ لينال فضيلة التيامن، بل تكره على اليسار بلا عذر كما ذكره في "المجموع"، ثم يصلي الفرض عاجز عن الاضطجاع على قفاه؛ للخبر السابق، ويجعل رجليه إلى القبلة، ويرفع رأسه قليلاً، وأومأ المضطجع والمستلقي بالركوع والسجود إن عجز عن إتمامهما بأن يقرب جبهته من الأرض ما أمكن، ويكون سجوده أخفض من ركوعه؛ تمييزاً بينهما.

ولو قدر القاعد على أقل ركوع القاعد أو أكمله من غير زيادة .. أتى بالممكن مرة عن الركوع ومرة عن السجود، ولا يضر استواؤهما، ولو قدر على زيادة على أكمل الركوع .. تعينت للسجود، ولو عجز أن يسجد إلا بمقدم رأسه أو صدغه وكان بذلك أقرب إلى الأرض .. وجب.

ثم إن عجز عن الإيماء بالرأس .. فبالأجفان يومئ، ثم للعجز عن الإيماء بالأجفان .. أجرى أركانها على قلبه وجوباً؛ بأن يمثل نفسه قائماً، ثم راكعاً

وهكذا؛ لأنه الممكن، فإن اعتقل لسانه .. أجرى القرآن والأركان على قلبه، وأما إجراء سننها على قلبه .. فسنة، ولا يجوز ترك الصلاة ما دام عقله باقياً كالإيمان.

وإنما عبر المصنف بأركانها دون أفعالها الشاملة لسننها؛ لأن كلامه فيما يجب على المصلي أن يفعله.

[إذا قدر العاجز في الصلاة على شيء مما عجز عنه أتى به وجوباً]

الثانية: أن المصلي على هيئة من الهيئات السابقة إذا أطاق شيئاً .. فعله وجوباً، وبنى على صلاته ولا يلزمه استئنافها، فإذا قدر في أثناء القراءة على القيام أو القعود .. أتى بالمقدور، وكذلك لو عجز عنه، ويبني على قراءته، ولا تجزئ في نهوضه؛ لقدرته على القراءة فيما هو أعلى منه، ويجب في هوي العاجز؛ لأنه أكمل مما بعده، وإن قدر بعدها .. وجب قيامه

ص: 270

ليركع، ولا تجب الطمأنينة في هذا القيام؛ لأنه غير مقصود لنفسه، أو في الركوع قبل الطمأنينة .. ارتفع لها إلى حد الركوع، فإن انتصب .. بطلت صلاته، أو في الاعتدال قبل الطمأنينة .. قام واطمأن، وكذا بعدها إن أراد قنوتاً، وإلا .. فلا، فإن قنت قاعداً .. بطلت صلاته.

وقول المصنف: (للعجز أجرى القلب بالأركان) الباء فيه بمعنى: (على) أو (في) وهو بمعنى قول غيره: إجراء أركانها على قلبه؛ فإن معنى إجراء القلب على الأركان أو فيها: استحضارها، فلا حاجة إلى ادعاء كونه مقلوباً، وقوله:(يعجز) بكسر الجيم ويجوز فتحها.

[الركن الرابع: قراءة الفاتحة]

(و (الحمد) لا في ركعة لمن سبق

بـ (باسم) والحروف والشد نطق)

أي: وركنها الرابع: (الحمد) أي: قراءة (سورة الفاتحة) في القيام أو بدله، للمنفرد وغيره، في السرية والجهرية، فرضاً كانت أو نفلاً، حفظاً أو تلقيناً أو نظراً في مصحف أو نحوه؛ لخبر "الصحيحين":"لا صلاة لمن يقرأ بـ (فاتحة الكتاب) "، وخبر ابني خزيمة وحبان في "صحيحيهما":"لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بـ (فاتحة الكتاب) " أي: في كل ركعة؛ لما في خبر المسيء صلاته في رواية ابن حبان وغيره: "ثم اقرأ بـ (أم القرآن)

" إلى أن قال: "ثم اصنع ذلك في كل ركعة".

وأما قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} .. فوارد في قيام الليل لا في قدر القراءة، أو محمول مع خبر:"ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" على (الفاتحة) أو على العاجز عنها؛ جمعاً بين الأدلة.

وهي ركن في كل ركعة؛ لفعله صلى الله عليه وسلم كما في "مسلم"، مع خبر:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، إلا في ركعة لمن سبق بها؛ بأن لم يدرك بعد تحريمه مع

ص: 271

الإمام زمناً يسعها .. فليست ركناً فيها؛ لأنه يدركها بإدراكه ركوع الإمام، وليس المراد أنها لا تجب عليه أصلاً، بل تجب عليه ويتحملها عنه إمامه في الأصح، ولهذا لا تحسب ركعته إذا كان إمامه محدثاً، أو في ركعة زائدة؛ لأنه حينئذ ليس أهلاً للتحميل.

وفي معنى المسبوق: كل من تخلف بعذر عن الإمام بأكثر من ثلاثة أركان طويلة، وزال عذره والإمام راكع؛ كما لو كان بطيء القراءة، أو نسي أنه في الصلاة، أو امتنع من السجود بسبب زحمة، أو شك بعد ركوع إمامه في قراءة (الفاتحة) فتخلف.

[البسملة آية من الفاتحة]

والبسملة آية كاملة من (الفاتحة) فيجب النطق بها؛ لعدة صلى الله عليه وسلم إياها آية منها، صححه ابن خزيمة والحاكم، وهي آية من أول كل سورة سوى (سورة براءة) لخبر مسلم عن أنس:(بينما النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا؛ إذ أغفا إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا نبي الله؟ ! قال: "أنزلت علي سورة" فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم* إنا أعطينك الكوثر} .. إلى آخرها)، ولإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف بخطه في أوائل السور، سوى (سورة براءة) دون الأعشار وتراجم السور والتعوذ، فلم لم يكن قرآناً .. لما أجازوا ذلك؛ لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً.

والقول بأن إثباتها للفصل يلزم عليه ما ذكر، وأن تكتب أول (براءة)، وألا تكتب أول (الفاتحة)، وبأن الفصل كان ممكناً بتراجم السور كأول (براءة)، وألا تكتب أول (الفاتحة)، وبأن الفصل كان ممكناً بتراجم السور كأول (براءة)، والتواتر إنما يشترط فيما يثبت قرآناً قطعاً، أما ما ثبت قرآناً حكماً .. فيكفي فيه الظن كما يكفي في كل ظني.

وأما قول أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفتتحون الصلاة بـ"الحمد لله رب العالمين") .. فمعناه: كانوا يفتتحون بـ (سورة الحمد)، يبينه ما صح عنه؛ كما قاله الدارقطني: أنه كان يجهر بـ (البسملة)، وقال: (لا آلو أن أقتدى بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً

ص: 272

منهم يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" كما رواه مسلم .. فقال أئمتنا: إنه رواية اللفظ الأول بالمعنى الذي عبر عنه الراوي بما ذكر بحسب فهمه، ولو بلغ الخبر بلفظه كما في "البخاري" .. لأصاب، واللفظ الأول بالمعنى الذي عبر عنه الراوي بما ذكر بحسب فهمه، ولو بلغ الخبر بلفظه كما في "البخاري" .. لأصاب، واللفظ الأول هو الذي اتفق عليه الحفاظ.

ويجب النطق بالحروف؛ وهي مئة وأحد وأربعون حرفاً بقراءة {الملك} [الفاتحة: 3] بلا ألف، والشد؛ أي: التشديدات؛ وهي أربع عشرة شدة؛ لأن (الفاتحة) جملة الكلمات المنظومة، والجملة تنتفي بانتفاء جزئها كما تنتفي بانتفاء كلها، فلو خفف حرفاً مشدداً من (الفاتحة) .. بطلت قراءته؛ لإخلاله بحرف؛ إذ المشدد حرفان، ولو شدد المخفف .. جاز وأساء.

وقول المنصف: (بباسم) متعلق بـ (نطق) مبنياً للفاعل أو المفعول وهو أنسب بقوله:

(سبق) لأنه مبني للمفعول.

(لو أبدل الحرف بحرف أبطلا

وواجب ترتيبها مع الولا)

(وبالسكوت انقطعت إن كثرا

أو قل مع قصد لقطع ما قرا)

(لا لسجوده، وتأمين، ولا

سؤاله لما إمامه تلا)

فيها ثلاث مسائل:

[إبدال حرف من الفاتحة بآخر]

الأولى: لو أبدل مع سلامة لسانه حرفاً من (الفاتحة) أو بدلها بحرف؛ كإبدال ضاد (الضالين) بالظاء، وذال (الذين) المعجمة بالمهملة .. أبطل قراءته لتلك الكلمة؛ لتغييره النظم، ولو نطق بالقاف مترددة بينهما وبين الكاف كما ينطق بها العرب .. صح مع الكراهة، قاله نصر المقدسي والروياني وغيرهما، وجزم به في "الكفاية"، قال في "المجموع": وفيه نظر، قال: فإن لحن ولم يغير معنى .. كره، فإن تعمد .. حرم وصحت صلاته، وإن غير؛ كضم تاء (أنعمت) أو كسرها .. لم تصح قراءته، وتبطل صلاته إن تعمد.

وتجوز القراءة بالسبع دون الشواذ، فإن قرأ شاذاً .. صحت صلاته إن لم يغير المعنى ولا زاد حرفاً ولا نقصه. انتهى.

ص: 273

والشاذ عنده كغيره: ما وراء السبعة، وقال البغوي: هو ما وراء العشرة، وتبعه السبكي وصححه ولده الشيخ تاج الدين، قال في "المجموع": وإذا قرأ بقراءة .. كمل بها ندباً، ويجوز التنويع إن لم يرتبط الثاني بالأول.

[وجوب ترتيب الفاتحة]

الثانية: يجب ترتيب (الفاتحة) بأن يأتي بها على نظمها المعروف؛ لأن النظم والترتيب مناط البلاغة والإعجاز، فلو عكس .. بنى إن سها ولم يطل الفصل، وإلا .. استأنف إذا لم يخل بالمعنى، وإلا .. بطلت صلاته إن تعمد، واستشكل وجوب الاستئناف عند العمد بالوضوء والأذان والطواف والسعي، وأجيب بأن الترتيب هنا لما كان مناط الإعجاز كما مر .. كان الاعتناء به أكثر؛ فجعل قصد التكميل بالمرتب صارفاً عن صحة البناء، بخلاف تلك الصور.

[وجوب الولاء بين كلمات الفاتحة]

الثالثة: يجب الولاء بين كلمات (الفاتحة) للاتباع، وبالسكوت عمداً في أثنائها ولو لعائق غير ما يأتي .. انقطعت قراءتها إن كثر؛ أي: طال سكوته عرفاً وإن لم يقصد قطعاً؛ أي: أو أتى بذكر لا يتعلق بالصلاة؛ كحمده عند العطاس وإن كان مندوباً في الصلاة أيضاً؛ لإشعاره بالإعراض عنها، أو قل سكوته مع قصد منه لقطع ما قرأه به؛ لاقتران الفعل بنية القطع؛ كنقل الوديعة بقصد التعدي، فإن لم يقصد القطع ولم يطل السكوت .. لم يؤثر؛ كنقل الوديعة بلا قصد تعد، ولأن ذلك قد يكون لتنفس أو سعال، وكذا لو ترك الولاء ناسياً كتركه إياه في الصلاة بأن طول ركناً قصيراُ ناسياً، أو طال سكوته؛ لتذكر آية نسيها، أو للإعياء، وعلم أن قصده القطع بلا سكوت .. لا يؤثر؛ لأن القراءة باللسان ولم يقطعها، بخلاف ما لو قصد قطع الصلاة؛ لأن النية ركن فيها تجب إدامتها حكماً ولا يمكن ذلك مع نية القطع، وقراءة (الفاتحة) لا تفتقر إلى نية خاصة فلا تتأثر بنية القطع، لا بسجوده وتأمين منه وسؤاله الرحمة لما إمامه تلا في الصور الثلاث .. فلا يقطع به الولاء؛ لكونه مطلوباً في الصلاة لمصلحتها، أما إذا فعل شيئاً من ذلك لما تلاه غير إمامه .. فينقطع به الولاء، بل تبطل بسجوده إن تعمد، ولو سأل الرحمة لما تلاه هو .. لم ينقطع الولاء.

ص: 274

وألف (بطلا) و (كثرا) للإطلاق، والبيتان الأخيران ساقطان من بعض النسخ.

(ثم من الآيات سبع والولا

أولى من التفريق ثم الذكر لا)

(ينقص عن حروفها، ثم وقف

بقدرها، واركع بأن تنال كف)

(لركبة بالانحنا، والاعتدال

عود إلى ما كان قبله فزال)

[حكم العاجز عن قراءة الفاتحة]

أي: ثم إن عجز عن (الفاتحة) التي هي ركن .. فالركن بدلها سبع من الآيات من غيرها ولو متفرقة؛ كما في قضاء رمضان، خلافاً للرافعي رحمه الله تعالى، والولاء - أي: والآيات المتوالية - أولى من المتفرقة؛ لأنها أشبه بـ (الفاتحة)، وللخروج من الخلاف.

ولو قرأ العاجز عنها سبع آيات متفرقة لا تفيد معنى منظوماً كـ {ثم نظر} .. لم يكف عند إمام الحرمين، واقره في "الروضة" و"أصلها"، لكن اختار في "المجموع" و"التنقيح" الاكتفاء بها؛ كما أطلقه الجمهور، ومن يحسن بعض (الفاتحة) .. يأتي به ويبدل الباقي إن أحسنه، وإلا .. كرر في الأصح، وكذا من يحسن بعض بدلها من القرآن، ويجب الترتيب بين الأصل والبدل.

ثم إن عجز عن القرآن .. فالركن الذكر؛ لخبر الترمذي وحسنه: "إذا قمت إلى الصلاة .. فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد وأقم، فإن كان معك قرآن .. فاقرأ، وإلا .. فاحمد الله وكبره وهلله"، قال البغوي رحمه الله تعالى: يجب سبعة أنواع من أنواع الذكر؛ ليكون كل نوع مكان آية، وقال الإمام: لا يجب، قال الشيخان: والأول أقرب؛ تشبيهاً لمقاطع الأنواع بغايات الآي.

ص: 275

قال الإمام: والأشبه: إجزاء دعاء يتعلق بالآخرة دون الدنيا ورجحه في "المجموع"، قال الإمام: فإن لم يعرف غير ما يتعلق بالدنيا .. أتى به وأجزأه، قال في "الروضة" كـ"أصلها": ويشترط ألا يقصد بالذكر المأتي به غير البدلية؛ كمن استفتح أو تعوذ لا بقصد تحصيل سنتهما، لكن لا يشترط قصد البدلية فيهما ولا في غيرهما من الأذكار على الأصح.

قوله: (لا ينقص عن حروفها) أي: لا يجوز نقص البدل من قرآن أو غيره عن حروف (الفاتحة) وهي مئة وستة وخمسون حرفاً بقراءة {مالك} بالألف كالمبدل، بخلاف صوم يوم قصير عن طويل؛ لعسر مراعاة الساعات.

وأفهم كلامه: أنه لا يضر زيادة البدل ولا التفاوت بين حروف الآيات والأنواع وهو كذلك.

ثم إن عجز عن الذكر بترجمة وغيرها .. وقف وجوباً قدر (الفاتحة) في ظنه؛ لأنه المقدور وهو مقصود، ولا يترجم عنها، بخلاف الذكر؛ لفوات الإعجازء فيها.

[الركن الخامس: الركوع]

الركن الخامس: الركوع؛ لقوله تعالى: {اركعوا} ، ولخبر: "إذا قمت إلى الصلاة

"، وأقله للقائم: أن ينال كفه ركبتيه؛ يعني: راحتاه ركبتيه لو أراد ذلك عند اعتدال الخلقة وسلامة اليدين والركبتين بالانحناء لظهره، لا بالانخناس ولا بهما، أما ركوع القاعد .. فتقدم.

[الركن السادس: الاعتدال]

الركن السادس: الاعتدال ولو في النفل؛ كما صححه في "التحقيق" لخبر: "إذا قمت إلى الصلاة

"، وهو عوده إلى ما كان عليه قبله فزال عنه الركوع؛ من قيام أو غيره، ويشترط فيه وفي سائر الأركان: عدم صرفه إلى غيره، حتى لو رفع من ركوعه فزعا من شيء .. لم يكف، بل يعود للركوع، ثم يعتدل منه.

ص: 276

[الركن السابع: السجود]

(والسابع: السجود مرتين مع

شيء من الجبهة مكشوفاً يضع)

أي: الركن السابع: السجود مرتين في كل ركعة؛ لخبر: "إذا قمت إلى الصلاة

" وأقله: أن يضع شيئاً من جبهته مكشوفاً على مسجده؛ لخبر: "إذا سجدت .. فمكن جبهتك، ولا تنقر نقراً" رواه ابن حبان عن ابن عمر وصححه، ولخبر: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء

" إلى أن قال: "ويسجد فيمكن جبهته من الأرض"، وخبر خباب بن الأرت رضي الله عنه:(شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا)، أي: لم يزل شكوانا، رواهما البيهقي بسندين صحيحين، وجه الدلالة: انه لو لم يجب كشف الجبهة .. لأرشدهم إلى سترها، واعتبر كشفها دون بقية الأعضاء؛ لسهولته فيها دون البقية.

نعم؛ إن سترها لعذر كجراحة وشق عليه إزالة الساتر .. كفى السجود عليه من غير إعادة. ويجزئ السجود على شعر بجبهته وإن لم يستوعبها.

ويجب أن يتحامل على مسجده بثقل رأسه وعنقه؛ بحيث لو سجد على قطن أو نحوه .. لاندك؛ لما مر.

وألا يسجد على متحرك من ملبوسه بقيامه وقعوده؛ لأنه كالجزء منه، فإن سجد عليه عامداً عالماً بتحريمه .. بطلت صلاته، أو ساهياً أو جاهلاً .. لم تبطل، ويجب إعادة السجود، وأما خبر "الصحيحين" عن أنس:(كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض .. بسط ثوبه فسجد عليه) .. فمحمول على ثوب منفصل، فإن لم يتحرك بحركته كطرف عمامته أو لم يكن من ملبوسه كعود في يده .. كفى السجود عليه.

وأن يضع فيه يديه وركبتيه وقدميه؛ لخبر "الصحيحين": "أمرت أن أسجد على سبعة

ص: 277

أعظم: الجبهة، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين"، ورجح الرافعي رحمه الله تعالى عدم الوجوب، وعلله بأنه لو وجب وضعها .. لوجب الإيماء بها عند العجز، والإيماء بها لا يجب فلا يجب وضعها، وحمل الأمر في الخبر على الندب، وأجاب الأول بأنه إنما لم يجب الإيماء بها كالجبهة؛ لأن معظم السجود وغاية الخضوع بالجبهة دونها، ويكفي على الوجوب وضع جزء من كل واحد منها، والاعتبار في اليدين بباطن الكفين سواء الأصابع والراحة، وفي الرجلين ببطون الأصابع.

وأن يرفع أسافله على أعاليه؛ للاتباع رواه ابن حبان وصححه، مع خبر:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، فلا يكتفى برفع أعاليه على أسافله ولا تساويهما؛ لعدم اسم السجود؛ كما لو أكب ومد رجليه، فلو أمكن العاجز عن وضع جبهته على موضع السجود على وسادة بأن حصل معها التنكيس .. وجب، وإلا .. فلا كما قال في "الروضة" و"أصلها": إنه الأشبه بكلام الأكثرين، وصححه في "المجموع"، وجزم به في "الأنوار"، وفي "المهمات": أن الفتوى عليه؛ لفوات هيئة السجود، بل يكفيه الانحناء الممكن، وصحح في "الشرح الصغير" الوجوب؛ لأنه يلزمه هيئة التنكيس ووضع الجبهة، فإذا تعذر أحدهما .. أتى بالآخر؛ لأنه مقدوره، ورجحه في "الخادم".

(وقعدة بينهما للفصل

ويطمئن لحظة في الكل)

[الركن الثامن: القعود بين السجدتين]

أي: الركن الثامن: قعدة بين السجدتين في كل ركعة؛ للفصل بينهما ولو في النفل؛ لخبر: "إذا قمت إلى الصلاة

"، وأشار بقوله:(للفصل): إلى أنه ركن قصير كالاعتدال فيجب ألا يطوله، ولا الاعتدال.

ص: 278

ويطمئن لحظة وجوباً في الكل؛ أي: في الركوع، والاعتدال، والسجود مرتين، والقعود بينهما؛ للخبر المذكور، والطمأنينة: سكون بعد حركة، ففي الركوع مثلاً يكون بحيث ينفصل رفعه عن هوية بأن تستقر أعضاؤه قبل رفعه.

[التشهد الأخير وقعوده والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه]

ثم ذكر الركن التاسع والعاشر والحادي عشر: وهي التشهد الأخير: والقعود فيه وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفي التسليمة الأولى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال:

(ثم التشهد الأخير فاقعد

فيه مصليا على محمد)

أي: ثم التشهد الأخير - يعني: الذي في آخر الصلاة كتشهد الصبح والجمعة والمقصورة - فاقعد فيه في حال كونك مصلياً عقبه على محمد.

أما التشهد .. فلخبر الدارقطني والبيهقي بسند صحيح عن ابن مسعود قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله

" إلى آخره، والمراد: فرضه آخر الصلاة؛ لخبر "الصحيحين": (أنه صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس، فلما قضى صلاته .. كبر وهو جالس فسج سجدتين قبل السلام، ثم سلم)، دل عدم تداركه على عدم وجوبه، ولأن محله لا يتميز كونه عبادة عن العادة فوجب فيه ذكر؛ ليتميز كما في القراءة، بخلاف الركوع والسجود، وسمي تشهداً؛ لما فيه من الشهادتين من باب تسمية الكل باسم جزئه مجازاً، وأقله:(التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).

وأما القعود .. فلأن كل من أوجب التشهد أوجب القعود فيه.

وأما الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم .. فلقوله تعالى: {صلوا عليه} ، قال أئمتنا:

ص: 279

قد أجمع العلماء على أنها لا تجب في غير الصلاة فتعين وجوبها فيها، والقائل بوجوبها مرة في غيرها محجوج بإجماع من قبله، وفي "الصحيحين" عن كعب ابن عجرة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال:"قولوا: اللهم؛ صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم؛ إنك حميد مجيد"، خرج الزائد على الصلاة عليه بالإجماع كما في "المهذب" بقي وجوبها عليه، وفي رواية صححها ابن حبان وغيره: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال: "قولوا

" إلى آخره، وأولى المحال بها خاتمة الأمر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وأما عدم ذكرها في خبر: "إذا قمت إلى الصلاة

" .. فمحمول على أنها كانت معلومة له، ولهذا: لم يذكر له النية والتشهد والجلوس له والسلام.

وأقلها: (اللهم؛ صل على محمد)، أو (صلى الله على محمد)، أو (على رسوله)، أو (على النبي) دون أحمد، أو عليه في الأصح، ذكره في "التحقيق" وغيره.

وأكملها: (اللهم؛ صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد)، ذكره في "الروضة" و"أصلها".

وفي "الأذكار" وغيره: الأفضل أن يقول: (اللهم؛ صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد).

وأكمل التشهد: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) رواه مسلم من خبر ابن عباس.

ص: 280

وجاء في "الصحيحين" عن ابن مسعود بلفظ: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك

) إلى آخره، إلا أنه قال:(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وفيه أخبار أخر نحو ذلك، قال النووي: وكلها مجزية يتأدى بها الكمال، وأصحها: خبر ابن مسعود، ثم خبر ابن عباس، لكن الأفضل: تشهد ابن عباس؛ لزيادة لفظ (البركات) فيه؛ ولموافقته قوله تعالى: {تحية من عند الله مبركة طيبة} ، ولتأخره عن تشهد ابن مسعود، ولقوله:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن).

وإنما كان أقله ما مر؛ لأن ما بعد التحيات من الكلمات الثلاث توابع لها، بل سقط أولاها في خبر غير ابن عباس، قال النووي: وإثبات (أل) في (السلام) أفضل؛ لكثرته في الأخبار.

وكلام الشافعي ومقتضى كلام الرافعي: أنه لا يكفي (وأن محمداً رسوله)، وصرح به النووي في "مجموعه" وغيره، لكن في "الروضة" أنه يكفي، ورجحه السبكي وغيره.

(ثم السلام أولا لا الثاني

والآخر الترتيب في الأركان)

[الركن الثاني عشر: السلام]

أي: ثم الركن الثاني عشر: السلام؛ أي: التسليمة الأولى لا التسليم الثاني؛ فإنه سنة كما سيأتي؛ لخبر: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم"، وأقله:(السلام عليكم)، أو (عليكم السلام)، لكنه يكره، وصحح الرافعي: أنه يجزئ (سلام عليكم) منكراً؛ إقامة للتنوين مقام اللام كما في التشهد، وقال النووي: الأصح المنصوص: أنه لا يجزئ؛ لما ثبت في الأخبار الصحيحة من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "السلام عليكم"، ولم ينقل

ص: 281

(سلام عليكم) بخلاف التشهد، قال: والقول بأن التنوين يقوم مقام اللام فاسد وإن لم يجتمعا؛ لأنه لا يسد مسده في العموم والتعريف وغيرهما، فلا يكفي (عليكما السلام)، ولا (السلام عليكما)، ولا (سلام عليكم) بلا تنوين، ولا (سلام عليك) ولا (سلامي عليك) ولا (سلام الله عليكم)، ولا (سلام عليكم) بلا تنوين، ولا (السلم عليكم)، ولا (السلم عليكم) ولا (سلم عليكم) بكسر السين وسكون اللام، ولا (سلام عليهم) بل تعتمد ذلك مبطل إلا الأخيرة؛ فإنها دعاء لا خطاب فيه، وأما أكمله .. فسيأتي.

[الركن الثالث عشر: الترتيب بين الأركان]

والآخر وهو الثالث عشر: الترتيب في الأركان؛ أي: بينها كما مر في عدها المشتمل على وجوب قرن النية بالتكبير، وجعلهما مع القراءة في القيام والتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسليمة الأولى في القعود، وأما تقديم الانتصاب على ابتداء تكبيرة الإحرام .. فشرط للتكبيرة لا ركن؛ لخروجه عن الماهية، فالترتيب المراد" فيما عدا ذلك، ودليل وجوبه: الاتباع في الأخبار الصحيحة مع خبر: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وعده من الأركان بمعنى الفروض .. صحيح، وبمعنى الأجزاء .. فيه تغليب.

وقضية كلامه: وجوب الترتيب بين التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما ركنان وهو ما في "المجموع" كـ"فتاوى البغوي"، ونقله القاضي عياض في "الشفاء" عن الشافعي، فلو تعمد تركه في الفعلي .. بطلت صلاته كبقية الأركان، وإن تركه سهواً .. لم يعتد بما فعله حتى يأتي بما تركه، فإن تذكر قبل بلوغ مثله .. فعله، أو بعده .. تمت به ركعته، ولغا ما بينهما، هذا إن علم عينه ومكانه، وإلا .. أخذ بالأسوأ وبنى، وفي الأحوال كلها يسجد للسهو إلا إذا وجب الاستئناف؛ بأن ترك ركناً وجوز أن يكون النية أو تكبيرة الإحرام، وإلا إذا كان المتروك هو السلام: فإنه إذا تذكر .. سلم ولم يسجد للسهو، أما الركن القولي غير السلام .. فتقديمه غير مبطل.

وخرج بقول المصنف: (في الأركان) ترتيب السنن بعضها على بعض كالافتتاح والتعوذ، أو ترتيبها على الفرائض كالسورة و (الفاتحة) فإنه شرط للاعتداد بها سنة لا في صحة الصلاة.

ص: 282

ولم يتعرض المصنف لعد الموالاة ركناً؛ لأن الأصح في "التنقيح": أنها شرط، والمراد بها: عدم تطويل الركن القصير، كما ذكره الرافعي تبعاً للإمام، وصور ابن الصلاح تركها بما إذا سلم ناسياً وطال الفصل .. فإن صلاته تبطل؛ للتفريق، وصوره بعضهم بما إذا شك في نية صلاته ولم يمض ركن، لكن طال زمن الشك .. فإنها تبطل في الأصح، قال ابن الرفعة: لأن ذلك يبطل الولاء.

[أبعاض الصلاة]

ولما فرغ من أركان الصلاة .. شرع في ذكر سننها، وهي: أبعاض وهيئات، وبدأ بالأولى فقال:

(أبعاضها: تشهد إذ تبتديه

ثم القعود، وصلاة الله فيه)

(على النبي، وآله في الآخر

ثم القنوت، وقيام القادر)

(في الاعتدال الثان من صبح، وفي

وتر لشهر الصوم إن ينتصف)

أي: أبعاض الصلاة هذه الستة:

أما التشهد الأول وقعوده .. فللأخبار الصحيحة فيهما، وصرفهما عن وجوبهما أنه صلى الله عليه وسلم (قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس، فلما قضى صلاته .. كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل السلام، ثم سلم) رواه الشيخان، دل عدم تداركهما على عدم وجوبهما.

قال في "المجموع": ويكره أن يزيد في التشهد الأول على لفظة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فعله .. لم يسجد للسهو.

وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في جلوس التشهد الأول، والصلاة على آله في جلوس التشهد الأخير .. فللأخبار الصحيحة فيهما.

وأما القنوت وقيامه في الصبح وفي وتر النصف الأخير من رمضان .. فللاتباع فيهما رواه

ص: 283

الشيخان في الأولى، والبيهقي في الثانية، وقال الحسن بن علي: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم؛ اهدني

") إلى آخره، رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه على شرط الشيخين.

وروى البيهقي عن ابن عباس وغيره: (أنه صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع أيضاً، لكن رواه القنوت بعده أكثر وأحفظ؛ فهو أولى، وعلى هذا درج الخلفاء الراشدون في أشهر الروايات عنهم وأكثرها، فلو قنت قبله .. لم يجزه ويسجد للسهو إن قنت بنيته؛ لأنه عمل من أعمال الصلاة أوقعه في غير محله، نقله في "المجموع" عن نص "الأم"، وهو موافق لما قالوه في القراءة في غير محلها، ولا يشكل بدعاء الافتتاح والتسبيح والدعاء في غير محلها؛ حيث لا يسجد فيها للسهو كما جزم به في "المجموع"، خلافاً لما يقتضيه كلام "الكفاية" في (باب العيد) لأن الأبعاض آكد من بقية السنن.

نعم، صحح فيه: أنه يسجد لقراءة غير (الفاتحة) في غير محلها كـ (الفاتحة)، ويوجه بتأكيدها وشبهها بـ (الفاتحة) فالأبعاض المذكورة يجبر تركها عمداً أو سهواً بالسجود، وسميت أبعاضاً؛ لتأكد شأنها بالجبر تشبيهاً بالبعض حقيقة.

وفي بعض النسخ بدل البيت الأخير:

(في الصبح ثاني ركعة والوتر

في نصف شهر رمضان الآخر)

ولفظ القنوت: (اللهم؛ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت؛ فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت).

قال الرافعي: وهذا ما روي في الحديث، وزد العلماء:(ولا يعز من عاديت) قبل (تباركت ربنا وتعاليت) وبعده: (فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك)،

ص: 284

زاد في "الروضة": ولا بأس بهذه الزيادة، وقال الشيخ أبو حامد وآخرون: هي مستحبة؛ وقد جاءت رواية البيهقي بزيادة: (ولا يعز من عاديت).

فإن كان إماماً .. أتى بلفظ الجميع في ضمير المتكلم، وعليه حملت رواية البيهقي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاءً ندعو به في قنوت صلاة الصبح: اللهم؛ اهدنا

) إلى آخره.

قال في "الأذكار": ويستحب أن يقول عقب هذا الدعاء: (اللهم؛ صل على محمد وعلى آل محمد وسلم).

قال في "المجموع" عن البغوي: وتكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، ويسن للإمام والمنفرد برضا محصورين: الجمع في قنوت الوتر بين القنوت السابق وقنوت عمر رضي الله تعالى عنه وهو: (اللهم؛ إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثنى عليك الخبر كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم؛ إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك؛ إن عذابك الجد بالكفار محلق، اللهم؛ عذب الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم؛ اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق، واجعلنا منهم).

والأولى تأخيره عن القنوت السابق، فإن اقتصر على أحدهما .. فعلى الأول.

والصحيح: سن رفع يديه في القنوت؛ للاتباع رواه البيهقي بإسناد جيد، وكذا في كل دعاء، ويسن جعل ظهرهما للسماء إن دعا لدفع بلاء، وعكسه إن دعا لتحصيل شيء، قال في "المجموع": في سن مسج وجهه بهما وجهان: أشهرهما: نعم، وأصحهما: لا، قال البيهقي: لا أحفظ في مسحه هنا عن أحد من السلف شيئاً وإن روي عن بعضهم في الدعاء

ص: 285

خارج الصلاة، وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر ضعيف مستعمل عند بعضهم خارجها، فأما فيها .. فعمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس، والأولى ألا يفعله، وأما مسح غيره من الصدر وغيره .. فمكروه، وما نقله من سن مسحه خارجها .. جزم به في "التحقيق".

ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت وإن كانت الصلاة سرية؛ للاتباع رواه البخاري، قال الماوردي: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة، ويؤمن المأموم للدعاء.

ومنه: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما جزم به الطبري شارح "التنبيه"، ويقول الثناء، فإن لم يسمعه أو سمع صوتاً لم يفهمه .. قنت، ويسن القنوت في سائر المكتوبات للنازلة؛ كالوباء والقحط والعدو، لا مطلقاً على المشهور.

[الأذان والإقامة]

(سننها من قبلها: الأذان مع

إقامة، ولو بصحراء تقع)

أي: من سنن الصلاة التي قبلها: الأذان والإقامة؛ أي: فهما سنتا كفاية في المكتوبات ولو فائتة دون النافلة والمنذورة، والأصل في مشروعيتها قبل الإجماع من الكتاب قوله تعالى:{إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة} ، وقوله:{وإذا ناديتم إلى الصلوة} ، ومن السنة أخبار كثيرة، منها: خبر "الصحيحين": "إذا حضرت الصلاة .. فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"، وفي رواية:"فأذنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما"، وخبر عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس؛ لجمع الصلاة .. طاف بي وأنا نائم يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله؛ أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعوا به إلى الصلاة، قال: أولا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، فقال: تقول: (الله أكبر، الله أكبر، الله

ص: 286

أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله).

ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا قمت إلى الصلاة: (الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله).

فلما أصبحت .. أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيته، فقال:"إنها رؤيا حق إن شاء الله، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت؛ فإنه أندى صوتاً منك"، فقمت مع بلال فجلعت ألقيه عليه .. فيؤذن به، فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو في بيته .. فخرج يجر رداءه وهو يقول: والذي بعثك بالحق نبياً يا رسول الله؛ لقد رأيت مثل ما رأى، فقال صلى الله عليه وسلم:"فلله الحمد" رواه أبو داوود بإسناد صحيح، وروى الترمذي بعضه بطريق أبي داوود وقال: حسن صحيح.

وإنما لم يجبا وإن كانا من شعائر الإسلام الظاهرة؛ لأنهما إعلام بالصلاة ودعاء إليهما كقوله: (الصلاة جامعة) حيث يسن في نفل تشرع فيه الجماعة، ولأنه لم يأمر بهما في خبر المسيء صلاته كما ذكر فيه الوضوء والاستقبال وأركان الصلاة، ولأنه ترك الأذان في اثانية الجمع، ولو كان واجباً .. لما ترك للجمع الذي ليس بواجب.

وأقل ما تحصل به سنة الأذان: أن ينتشر في جميع أهل ذلك المكان، حتى إذا كبر .. أذن في كل جانب واحد؛ لينشر في جميعهم، فإن أذن واحد فقط .. حصلت السنة في جانب السامعين دون غيرهم، وكما أن الأذان والإقامة سنتان للجماعة .. فهما سنتان للمنفرد ولو كان في صحراء أو بلد وبلغه أذان غيره؛ كما صححه النووي في "تحقيقه" وغيره، ونقله في "مجموعه" عن نص "الأم"، وإن صحح في "شرح مسلم" أنه لا يؤذن إن سمع أذان غيره.

ص: 287

ويكفي في أذانه إعلام نفسه، بخلاف أذان الإعلام، ويسن أن يرفع صوته؛ لخبر البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أن أبا سعيد الخدري قال له: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة .. فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء .. إلا شهد له يوم القيامة، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: سمعت ما قلت لك بخطاب لي، كما فهمه الماوردي والإمام والغزالي، وأوردوه باللفظ الدال على ذلك؛ ليظهر الاستدلال به على أذان المنفرد ورفع صوته به، وقيل: إن ضمير (سمعته) لقوله: (لا يسمع

) إلى آخره.

واستثني من رفع صوته ما إذا أذن في مكان وقعت فيه جماعة، قال في "الروضة" و"أصلها": وانصرفوا؛ لئلا يتوهم السامعون دخول وقت صلاة أخرى.

(شرطهما: الولا، وترتيب ظهر

وفي مؤذن: مميز ذكر)

(أسلم والمؤذن المرتب

معرفة الأوقات لا المحتسب)

[شروط الأذان والإقامة]

أي: شرط الأذان والإقامة: الولاء والترتيب لهما؛ لأنهما جاءا كذلك في خبر مسلم وغيره، ولأن ترك كل منهما يوهم اللعب ويخل بالإعلام، فلو ترك الترتيب .. لم يصح، لكن يبني على المنتظم، والاستئناف أولى؛ إذ الولاء لم يصح، ولا يضر يسير سكوت؛ لأن مثله يقع للتنفس والاستراحة، ولا يسير الكلام؛ لأنه لا يخل بالغرض، ولا يسير نوم وإغماء، لكن يسن فيهما الاستئناف، وألا يتكلم ولو لمصلحة، فلو عطس .. حمد الله تعالى في نفسه وبنى، ولا يرد السلام، فلو رد أو شمت عاطساً أو تكلم لمصلحة .. لم يكره، ولو خاف وقوع أعمى في بئر، أو لدغ حية أو عقرب لغافل أو نحوهما .. وجب إنذاراه.

وشرط كل منهما أيضاً: عدم صدوره من شخصين، فلا يصح بناء غيره على ما أتى به وإن قصر الفصل واشتبها صوتاً.

ص: 288

[شروط المؤذن]

وشرط المؤذن: التمييز، فلا يصح أذان غير مميز من صبي ومجنون وطافح السكر؛ لعدم أهليته للعبادة.

والذكورة، ولو عبداً أو صبياً، فلا يصح أذان الأنثى والخنثى للرجال والخناثى؛ كما لا تصح إمامتهما لهم، أما أذانهما لغير الرجال والخناثى .. فلا يسن، فلو أذنت امرأة لنفسها أو النساء سراً .. لم يكره، أو جهراً بأن رفعت صوتها فوق ما تسمع صواحبها .. حرم.

والإسلام، فلا يصح أذان كافر؛ لعدم أهليته للعبادة؛ ولأنه لا يعتقد مصمونه، ولا الصلاة التي هو دعاء إليها؛ فإتيانه به ضرب من الاستهزاء، فلو أذن .. حكم بإسلامه بالشهادتين إن لم يكن عيسوياً، ويعتد بأذانه إن أعاد، أما العيسوي .. فلا يحكم بإسلامه بهما، والعيسوية: فرقة من اليهود تنسب إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصبهاني، كان في خلافة المنصور يعتقد أن محمداً رسو الله إلى العرب خاصة.

والتمييز والإسلام شرطان للإقامة أيضاً.

[شرط المؤذن المرتب]

وشرط المؤذن المرتب: معرفة الأوقات، لا المحتسب الذي يؤذن لنفسه أو لجماعة احتساباً في بعض الأوقات، فلا تشترط معرفته الأوقات، بل إذا علم دخول الوقت .. صح أذانه، ولو أذن جاهلاً بدخول الوقت فصادفه .. اعتد به على الأصح، وفارق التيمم والصلاة باشتراط النية فيهما، هذا تبع فيه النووي في "مجموعة" حيث قال: وتشترط معرفة المؤذن بالمواقيت هكذا صرح باشتراطه صاحب "التتمة" وغيره، وأما ما حكاه الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي رضي الله عنه وقطع به، ووقع في كلام المحاملي وغيره: أنه يستحب كونه عارفاً بها .. فمؤول، قال: ونعني بالاشتراط في الراتب للأذان، أما من يؤذن لنفسه أو يؤذن لجماعة مرة .. فلا يشترط معرفته بها، بل إذا علم دخول الوقت .. صح أذانه؛ بدليل أذان الأعمى، ومن سمع الأذان من ثقة عالم بالوقت اطمأن إليه في تقليده؛ فجرى مجرى إخباره عن دخول الوقت. انتهى.

وقد علم: أن شرط الأذان: الوقت، فلا يصح قبله إلا للصبح فيصح من نصف الليل، ويستحب له أذانان: قبل الفجر وبعده.

ص: 289

وقول المصنف: (مميز) بالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: والشرط في مؤذن: مميز؛ أي: تمييز، من إطلاق اسم الفاعل على المصدر، وقوله:(والمؤذن المرتب)، وقوله:(لا المحتسب) بالجر عطفاً على (مؤذن)، وقوله:(معرفة الأوقات) بالرفع خبر ذلك المبتدأ المحذوف؛ أي: والشرط في المؤذن المرتب: معرفة الأوقات، ويصح كونها مرفوعة على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه في إعرابه؛ أي: وشرط المؤذن المرتب: معرفة الأوقات، وقد يجوز جرها على حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه على جره.

[سنن الأذان والإقامة]

(وسنة: ترتيله بعج

والخفض في إقامة بدرج)

(والالتفات فيهما إذ حيعلا

وأن يكون طاهراً مستقبلا)

(عدلاً أميناً صيتاً مثوبا

لفجره مرجعاً محتسبا)

(مرتفعاً، كقوله أجابه

مستمع ولو مع الجنابة)

(لكنه يبدل لفظ الجيعله

- إذا حكى أذانه - بالحوقله)

أي: السنة ترتيب الأذان؛ أي: التأني فيه؛ بأن يأتي بكلماته مبينة بلا تمطيط؛ لخبر: "إذا أذنت .. فترسل في أذانك، وإذا أقمت .. فاحدر" أي: بمهملات، ومعناه: أسرع، رواه الحاكم في "المستدرك" وأبو داوود والترمذي، ولأن الأذان للغائبين فالترتيل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين فالإدراج فيها أشبه.

ويسن أن يقف على كلمات الأذان إلا التكبير فعلى كل كلمتين.

وقوله: (بعج) أي: مع رفع صوت من المؤذن ما أمكنه بلا ضرر؛ للأمر به في خبر أبي سعيد المار، والسنة الخفض في إقامة بدرج؛ أي: مع إسراع من المقيم بكلماتها؛ لما مر.

ولو أسر المؤذن لجماعة بشيء غير الترجيع الآتي .. لم يجزه؛ لفوات الإعلام، فيجب الإسماع ولو لواحد، وإسماع النفس يجزئ المؤذن لنفسه؛ لأن الغرض منه الذكر

ص: 290

لا الإعلام، وعلى هذا: حمل ما نقل عن النص من أنه لو أسر ببعضه .. صح، ولا يجزئ إسماع النفس من المقيم للجماعة؛ كما في الأذان وإن كان الرفع بها أخفض منه كما مر.

والسنة: الالتفات فيهما؛ أي: في الأذان والإقامة إذ حيعلا؛ أي: وقت حيعلته يميناً في الأولى وشمالاً في الثانية من غير تحويل صدره عن القبلة وقدميه عن مكانهما؛ بأن يلتفت المؤذن عن يمينه فيقول: (حي على الصلاة) مرتين، ثم يلتفت عن يساره فيقول:(حي على الفلاح) مرتين، ويلتفت المقيم عن يمينه فيقول:(حي على الصلاة)، ثم يلتفت عن يساره فيقول:(حي على الفلاح)، والأصل في ذلك: خبر "الصحيحين" عن أبي جحيفة: (رأيت بلالاً يؤذن فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، فيقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة حي على الفلاح)، وفي رواية لأبي داوود بإسناد صحيح:(فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح .. لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر)، وفي رواية للترمذي صححها:(وإصبعاه في أذنيه).

وسن الالتفات في الحيعلتين دون غيرهما؛ لأن غيرهما ذكر الله تعالى وهما خطاب الآدمي؛ كالسلام في الصلاة يلتفت فيه دون غيره من الأذكار، وفارق كراهة الالتفات في الخطبة؛ بأن المؤذن داع للغائبين والالتفات أبلغ في إعلامهم، والقصد من الإقامة أيضاً: الإعلام، والخطيب واعظ للحاضرين، فالأدب ألا يعرض عنهم، ولا يلتفت في قوله:(الصلاة خير من النوم) كما اقتضاه كلامهم.

والسنة في المؤذن: أن يكون طاهراً من الحدث ولو أصغر، ومن الخبث؛ لخبر:"كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" أو قال: "على طهارة" رواه أبو داوود وغيره، وقال في "المجموع": إنه صحيح، ولأنه يدعو إلى الصلاة فليكن بصفة من يمكنه فعلها، وإلا .. فهو واعظ غير متعظ، فيكره أذان المحدث، وأذان الجنب أشد كراهة، وكراهة الإقامة من كل منهما أشد من كراهة الأذان منه، ويجزئ أذان الجنب وإقامته وإن كان في المسجد ومكشوف العورة؛ لحصول الإعلام، والتحريم لمعنى آخر، فإن أحدث ولو حدثاً أكبر في أذانه ..

ص: 291

استحب إتمامه، ولا يقطعه ليتوضأ، فإن توضأ ولم يطل .. بنى.

وأن يكون مستقبلاً للقبلة؛ لأنه المنقول سلفاً وخلفاً، ولأنها أشرف الجهات.

وأن يكون عدلاً أميناً؛ ليقبل خبره عن الأوقات، ويؤمن نظره إلى العورات، فيكره أذان الصبي والفاسق؛ لأنه لا يؤمن أن يؤذن في غير الوقت، ولا أن ينظر إلى العوراتن لكن تحصل بأذانه السنة وإن لم يقبل خبره في الوقت.

وقول المصنف: (أميناً) بدل من قوله: (عدلاً) أفاد به: أن المراد عدل الرواية لا عدل الشهادة، ولكن يسن كونه حراً أيضاً؛ لأنه أكمل من غيره.

وأن يكون صيتاً؛ أي: عالي الصوت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في خبر عبد الله بن زيد: "ألقه على بلال؛ فإنه أندى منك صوتاً" أي: أبعد مدى، وقيل: أحسن صوتاً، ولهذا: يسن كونه حسن الصوت، ولأنه صلى الله عليه وسلم اختار أبا محذورة لحسن صوته، ولأنه أرق لسامعيه فيكون ميلهم إلى الإجابة أكثر، ولزيادة الإبلاغ.

وأن يكون مثوباً - بالمثلثة - لفجره؛ بأن يقول بعد الحيعلات في أذانه: (الصلاة خير من النوم) مرتين لوروده في خبر أبي داوود وغيره بإسناد جيد كما في "المجموع"، وهو من ثاب؛ أي: رجع؛ لأن المؤذن دعا إلى الصلاة بالحيعلتين، ثم عاد فدعا إليها بذلك، وخص بالصبح؛ لما يعرض للنائم من التكاسل بسبب النوم، وشمل إطلاقه - كالغزالي وغيره -: أذاني الصبح؛ فيثوب فيهما، وصححه في "التحقيق"، لكن في "التهذيب": إن ثوب في الأول .. لا يثوب في الثاني على الأصح، وأقراه في "الروضة" و"أصلها"، واقتصر على نقله في "الشرح الصغير"، وفي "المجموع": ظاهر كلام الأصحاب: أنه يثوب فيهما، ثم ذكر كلام "التهذيب"، ويثوب في أذان الفائتة أيضاً كما صرح به ابن عجيل اليمني؛ نظراً إلى أصله، ويكره التثويب لغير الصبح؛ لخبر "الصحيحين":"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه .. فهو رد".

ص: 292

وأن يكون مرجعاً في أذانه؛ بأن يخفض صوته بكلمات الشهادتين وهن أربع؛ بأن يسمع من يقربه، أو أهل المسجد إن كان واقفاً عليهم وكان المسجد مقتصد الخطة قبل رفعه بها؛ كما رواه مسلم عن أبي محذورة، وسمي ترجيعاً؛ لأنه رجع إلى الرفع بعد أن تركه، أو إلى الشهادتين بعد ذكرهما، وحكمته: تدبر كلمتي الشهادة والإخلاص فيهما؛ لكونهما المنجيتين من الكفر المدخلتين في الإسلام، وتذكر خفائهما في أول الإسلام، ثم ظهورهما، وظاهر كلام "الروضة" و"أصلها": أنه اسم للمجموع، لكن صرح النووي في "مجموعه" و"تحقيقه" و"دقائقه" و"تحريره" بأنه اسم للأول، وصوبه بعضهم وفي "شرح مسلم" كـ"حاوي الماوردي" بأنه اسم للثاني، فكلمات الأذان بالترجيع تسع عشرة كلمة، وكلمات الإقامة إحدى عشرة.

وأن يكون محتسباً بأذانه أجراً عند الله تعالى بألا يأخذ عليه أجراً؛ لخبر الترمذي وغيره: "من أذن سبع سنين محتسباً .. كتب الله له براءة من النار"، ولقول عثمان ابن أبي العاصي: آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً" رواه الترمذي وحسنه، ولكل أحد الرزق عليه من ماله، وللإمام عند فقد محتسب الرزق عليه من مال المصالح عند الحاجة بقدرها.

قال في "المجموع": قال أصحابنا: ولا يجوز أن يرزق مؤذناً وهو يجد متبرعاً عدلاً؛ كما نص عليه، قال القاضي حسين: لأن الإمام في بيت المال كالوصي في مال اليتيم، والوصي لو وجد من يعمل في مال اليتيم متبرعاً .. لم يجز له أن يستأجر عليه من مال اليتيم فكذا الإمام، فلو احتسب فاسق .. فله رزق أمين، أو أمين .. فله رزق من هو أحسن صوتاً منه إن رآه مصلحة، ويجوز الاستئجار عليه، ثم إن كان من بيت المال .. لم يشترط بيان المدة، بل يكفي كل شهر بكذا؛ كالجزية والخراج، أو من مال الإمام، أو كان المستأجر أحد الرعية .. اشترط بيانها، والرزق: أن يعطيه ما يكفيه وعياله، والأجرة: ما يقع به التراضي.

وأن يكون مرتفعاً على شيء عال كمنارة وسطح؛ لخبر "الصحيحين": (كان لرسول الله

ص: 293

صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم، ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا)، ولخبر البيهقي بإسناد صحيح: أن عبد الله بن زيد قال: (يا رسول الله؛ رأيت في المنام رجلاً قام على جذم حائط فأذن وأقام)، ولزيادة الإعلام، و (الجذم) بكسر الجيم وسكون المعجمة: الأصل، بخلاف الإقامة لا تسن على عال إلا في مسجد كبير يحتاج فيه إلى علو للإعلام بها.

وقوله: (كقوله أجابه

) إلى آخره؛ أي: مثل قول المؤذن؛ أي: أو المقيم أجابه ندباً مستمع له؛ أي: وسامعه؛ بأن يجيب كل كلمة عقبها ولو مع الجناية أو الحيض أو النفاس، لكنه يبدل لفظ الحيعلة إذا حكى أذانه؛ أي: أو إقامته بالحوقلة؛ أي: بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله) أربعاً في إجابة المؤذن، ومرتين في إجابة المقيم، والمعنى: لا حول لي عن المعصية، ولا قوة لي على ما دعوتني إليه إلا بك، ويقول في كلمتي الإقامة:(أقامها الله وأدامها، وجعلني من صالحي أهلها)، ويقول في التثويب:(صدقت وبررت)؛ والأصل في ذلك خبر: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبرن فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه .. دخل الجنة" رواه مسلم، وهو مبين لخبره الآخر:"إذا سمعتم المؤذن .. فقولوا مثلما يقول"، ولأن إجابته تدل على رضاه به وموافقته في ذلك.

وإنما سن للجنب ونحوه ذلك؛ لأنه ذكر، وهم من أهله.

وأفهم كلامه كغيره: أنه لو علم أذانه ولم يسمعه لصمم أو نحوه .. لا تسن إجابته، وقال في "المجموع": إنه الظاهر؛ لأنها معلقة بالسماع في خبر: "إذا سمعتم المؤذن"، وكما في نظيره من تشميت العاطس، ولو تركها بغير عذر حتى فرغ المؤذن .. فالظاهر: تداركه إن قصر الفصل، قال: وإذا لم يسمع الترجيع .. فالظاهر: أنه يسن له الإجابة فيه؛ لقوله صلى الله

ص: 294

عليه وسلم: "فقولوا مثل ما يقول"، ولم يقل: مثل ما تسمعون، وأفتى البارزي بأنها لا تسن، نقله في "التوشيح".

قال في "المجموع": وإذا سمع مؤذناً بعد مؤذن .. فالمختار: أن أصل الفضيلة في الإجابة شامل للجميع إلا أن الأول متأكد يكره تركه، وقال ابن عبد السلام: إجابة الأول أفضل إلا أذاني الصبح فلا أفضلية فيهما؛ لتقدم الأول ووقوع الثاني في الوقت، وإلا أذاني الجمعة؛ لتقدم الأول ومشروعية الثاني في زمنه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وشمل كلامه: القارئ فيقطع القراءة ويجيب، بخلاف المصلي ولو نفلاً يكره له أن يجيب في صلاته، بل تبطل إن أتى بشيء من الحيعلتين، أو بـ (الصلاة خير من النوم)، أو بـ (صدقت وبررت) لأن ذلك كلام آدمي.

نعم؛ يندب أن يجيب عقب الفراغ منها إن لم يطل الفصل، ومثله المجامع، وقاضي الحاجة.

ويسن لكل من المؤذن والسامع أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، ثم يقول:(اللهم؛ رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته).

وأن يقول عقب الفراغ من أذان المغرب: (اللهم؛ هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي).

ومن أذان الصبح: (اللهم؛ هذا إقبال نهارك وإدبار ليلك

) إلى آخره.

وأن يقول المؤذن بعد فراغه في ليلة مطيرة أو ريح أو ظلمة: (ألا صلوا في رحالكم)، فإن قاله بعد الحيعلتين .. فلا بأس، قاله في "الروضة" وغيرها، ويجيبه السامع بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله) قياساً على الحيعلتين، قاله في "المهمات".

وألف (حيعلا) للإطلاق، واللام في قوله:(لفجره) للتعليل، أو بمعنى:(في)، وتعبيره كالأزهري بـ (الحوقلة) بأخذ الحاء والواو من (حول) والقاف من (قوة) واللام من اسم الله تعالى، قال بعضهم: إنه أحسن؛ لتضمنه جميع الألفاظ، ويجوز فيه التعبير

ص: 295

بـ (الحولقة) كما عبر به الجوهري بتركيبه من حاء (حول) وقاف (قوة)، وما قيل: من أن الصواب: إدخال الباء بعد لفظ الإبدال على المتروك لا المأخوذ كما عبر به المصنف كغيره .. مردود.

(والرفع لليدين للإحرام سن

بحيث الإبهام حذا شحم الأذن)

(مكشوفة، وفرق الأصابعا

ويبتدي التكبير حين رفعا)

(ولركوع واعتدال بالفقاز

ووضع يمناه على كوع اليسار)

(أسفل صدر ناظراً محلا

سجوده، (وجهت وجهي) الكلا)

في هذه الأبيات تسع مسائل:

[استحباب رفع اليدين في تكبيرة الإحرام]

الأولى: يسن الرفع لليدين في تكبيرة الإحرام؛ بحيث تكون الإبهام حذاء شحم الأذن مستقبلاً بكفيه؛ لخبر ابن عمر: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة .. يرفع يديه حذو منكبيه) متفق عليه، قال النووي في "شرح مسلم": معنى حذو منكبيه، وذال (حذو) ما تصرف منه: معجمة.

ولو قطعت يده من الكوع .. رفع الساعد، أو من الرفق .. رفع العضد؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، فإن عجز عن رفع يديه أو إحداهما إلى هذا الحد وأمكنه الزيادة أو النقص .. فعل الممكن، أو أمكناه .. فالأولى الزيادة.

[استحباب كشف الكفين عند الرفع]

الثانية: يسن كشف الكفين عند الرفع، وهذا معنى قوله:(مكشوفة) أي: حال كون كل من كفيه مكشوفة.

ص: 296

[استحباب تفرقة الأصابع في رفع اليدين]

الثالثة: يسن تفرقة أصابعهما قال في "الروضة" كـ"أصلها": وسطاً، وحكاه في "المجموع" عن الرافعي، ثم قال: والمشهور: ما قطع به الجمهور استحباب التفريق، وصححه في "التحقيق" أي: بلا تقييد بوسط، وفهم عنه في "المهمات" استحباب المبالغة فصرح بها.

[ابتداء التكبير وانتهاؤه مع رفع اليدين]

الرابعة: يبتدئ التكبير ندباً حين يرفع يديه؛ بأن يبتدئه مع ابتداء تحرمه وينهيه مع انتهائه كما صححه في "التحقيق" وشرحي "المهذب" و"الوسيط" ونقله فيهما عن نص "الأم"، قال في "المهمات": وهو المفتى به، لكنه صحح في "الروضة" كـ"أصلها": أنه لا استحباب في الانتهاء، بل إن فرغ منهما معاً .. فلا كلام، وإن فرغ من أحدهما قبل الآخر .. أتممه.

[استحباب رفع اليدين للركوع]

الخامسة: يسن رفع يديه للركوع؛ بأن يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، فإذا حاذى كفاه منكبيه .. انحنى.

[استحباب رفع اليدين للاعتدال]

السادسة: يسن رفع يديه للاعتدال بنصب الفقار؛ بأن يبتدئ الرفع مع ابتداء رفع رأسه من الركوع، فإذا استوى .. أرسلهما إرسالاً خفيفاً إلى تحت صدره فقط، فلو ترك الرفع سهواً أو عمداً .. تداركه في أثناء التكبير أو التسميع، وإن أتممه .. لم يرفع، قال في "المجموع": قال في "الأم": ولو تركه في جميع ما أمرته به أو فعله حيث لم آمره به .. كرهت له ذلك.

وأفهم كلام المصنف: أنه لا يسن الرفع للسجود ولا للقيام من جلسة الاستراحة والتشهد

ص: 297

الأول، وهو ما في "الرافعي" وغيره، ونقله النووي في الأخيرة عن الجمهور، لكنه حكى فيها وجهاً: أنه يسن الرفع، وقال: إنه الصحيح أو الصواب؛ فقد ثبت في "صحيح البخاري" وغيره، ونص عليه الشافعي.

و(الفقار) بفتح الفاء: عظام الظهر؛ جمع فقره بفتح الفاء وكسرها وسكون القاف.

[هيئة اليدين أثناء القيام]

السابعة: يسن للمصلي في القيام أو بدله وضع يمناه على كوع يسراه وبعض ساعده ورسغه باسطاً أصابعها في عرض المفصل أسفل صدره، وقيل: يتخير بين بسط أصابع يمناه في عرض المفصل وبين نشرها في صوب الساعد؛ والأصل في ذلك: خبر مسلم عن وائل بن حجر: (أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى)، زاد ابن خزيمة:(على صدره) أي: فيكون آخر اليد تحته، وروى أبو داوود بإسناد صحيح:(على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد).

قال في "الأم": والقصد م وضع اليمنى على اليسرى: تسكين يديه، فإن أرسلهما بلا عبث .. فلا بأس، والحكمة في جعلهما تحت الصدر: أن تكونا فوق أشرف الأعضاء وهو القلب؛ فإنه تحت الصدر، وقيل: الحكمة فيه: أن القلب محل النية، والعادة جارية بأن من احتفظ على شيء .. جعل يديه عليه، ولهذا: يقال في المبالغة: أخذ بكلتا يديه.

و(الكوع) والكاع: العظم الذي يلي إبهام اليد، كما أن البوع: العظم الذي يلي إبهام الرجل، وأما الذي يلي الخنصر .. فكرسوع بضم الكاف، و (الرسغ) بالسين المهملة أفصح من الصاد؛ وهو المفصل بين الكف والساعد، و (اليد) مؤنثة، ولهذا: توصف باليمنى واليسرى.

[استحباب نظر المصلي لموضع سجوده]

الثامنة: يسن للمصلي إدامة نظره في جميع صلاته إلى محل سجوده، وهذا معنى قوله:(ناظراً محلاً سجوده) أي: حال كون ناظراً في جميع صلاته موضع سجوده ولو في ظلمة؛ لأن

ص: 298

جمع النظر في مكان واحد أقرب إلى الخشوع، ومكان سجوده أشرف من غيره، إلا في تشهده .. فالسنة: ألا يجاوز بصره مسبحته، واستثنى جماعة منهم الماوردي والروياني المصلي في المسجد الحرام .. فالمستحب له النظر إلى الكعبة لا إلى موضع سجوده، لكن صوب البلقيني في "فتاويه" أنه كغيره، قال بعضهم: وينبغي أن ينظر في صلاة الجنازة إلى الميت.

[استحباب دعاء الافتتاح]

التاسعة: يسن للمصلي بعد تحرمه ولو بالنفل: (وجهت وجهي

الكلا) أي: إلى آخره، وهو:(وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين) للاتباع، رواه مسلم إلا (مسلماً) فابن حبان.

ولا فرق في التعبير بهذا اللفظ بن الرجل والمرأة والخنثى على إرادة الشخص، وفي "مستدرك الحاكم": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "قومي فاشهدي أضحيتك، وقولي: إن صلاتي ونسكي

" إلى قوله: "وأنا المسلمين".

قال في "الروضة" كـ"أصلها": ويزيد المنفرد وإمام محصورين علم رضاهم بالتطويل: (اللهم؛ أنت الملك لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعها؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاف لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك).

وقد صح في دعاء الافتتاح أخبار، منها:"اللهم؛ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم؛ نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم؛ اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" رواه الشيخان، ومنها:

ص: 299

"الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً طيباً فيه"، ومنها:"الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً" رواهما مسلم.

قال النووي: وبأيها افتتح .. أتى بأصل السنة، لكن أفضلها الأول.

فلو ترك الافتتاح حتى تعوذ .. لم يأت به؛ لفوات محله، ويأتي به المسبوق بعد تأمينه مع الإمام؛ لقصره لا بعد جلوسه أو سجوده معه؛ لطوله، ولا إذا خشي عدم إكماله (الفاتحة)، ولا المصلي على الجنازة؛ لطلب التخفيف.

والألف في قوله: (الأصابعا) و (رفعا) و (محلا) و (الكلا) للإطلاق.

(وكل ركعة تعوذ يسر

ومع إمامه بـ (آمين) جهر

فيه مسألتان:

[استحباب التعوذ في كل ركعة]

الأولى: يسن بعد الافتتاح التعوذ في كل ركعة؛ لقوله تعالى {فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطن الرجيم} أي: إذا أردت قراءته، ولحصول الفصل بين القراءتين بالركوع وغيره، لكنه في الأولى آكد؛ لأن افتتاح قراءته في الصلاة إنما يكون فيها، ويحصل بكل ما اشتمل على التعوذ من الشيطان، وأفضله:(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، ويستثنى المأموم؛ إذا خاف عدم إكماله (الفاتحة) كما مر.

ومقتضى كلام الشيخين: استحباب التعوذ لمن أتى بالذكر؛ لعجزه عن القراءة، لكن قال في "المهمات": إن المتجه خلافه.

وخرج بقول المصنف: (كل ركعة) ما لو فصل بين القراءتين بسجود التلاوة .. فإنه لا يسن إعادة التعوذ.

وقوله: (يسر) ببنائه للمفعول؛ أي: يسن الإسرار بالتعوذ ولو في الجهرية كالافتتاح

ص: 300

بجامع تقديمهما (الفاتحة)، بخلافه خارج الصلاة؛ فإنه يجهر به قطعاً، ويكفيه تعوذ واحد ما لم يقطع قراءته بكلام أو سكوت طويل.

[ندب التأمين عقب الفاتحة]

الثانية: يسن للمأموم أن يجهر بـ (آمين) مع جهر إمامه بها في الصلاة الجهرية؛ موافقة له.

أما ندب التأمين .. فلخبر "الصحيحين": "إذا أمن الإمام .. فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة .. غفر له ما تقدم من ذنه"، وفيهما أيضاً:"إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى .. غفر له ما تقدم من ذنبه"، زاد مسلم:«إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين» ، على أن ندب التأمين لا يختص بالصلاة، لكنه فيها آكد.

وأما ندب الجهر .. فللإتباع، رواه أبو داوود وغيره، وصححه ابن حبان وغيره، مع خير:«صلوا كما رأيتموني أصلي» .

وأما ندب المعية .. فللخبرين الأولين؛ فإن ظاهرهما الأمر بها؛ بأن يقع تأمين الإمام والمأموم والملائكة دفعة واحدة، ولأن المأموم لا يؤمن لتأمين إمامه، بل لقراءته وقد فرغت، فإن لم تتفق موافقته للإمام .. أمن عقبه، فإن لم يم تأمينه أو أخره عن وقته المندوب .. أمن.

قال في "المجموع": ولو قرأ معه وفرغا معاً .. كفى تأمين واحد، أو فرغ قبله .. قال البغوي: ينتظره، والمختار أو الصواب: أنه يؤمن لنفسه ثم للمتابعة.

قال: ولو قال: (آمين رب العالمين)، وغيره من ذكر الله تعالى .. كان حسناً، ومتى اشتغل بغيره .. فات وإن قصر الفصل.

وجهر الأنثى والخنثى به كجهرهما بالقراءة وسيأتي، وندب التأمين والجهر به يستوي فيه المنفرد وغيره إلا المأموم .. فيسر به لقراءة نفسه.

ص: 301

و (آمين) بالمد مع التخفيف كما في النظم وهو الأشهر، وبه مع الإمالة، وبه مع التشديد، وبالقصر مع التخفيف، وبه مع التشديد وهي شاذة، وهو على غير الثالثة: اسم فعل بمعنى: استجب، وعلى الثالثة بمعنى: قاصدين إليك، قال النووي: وهي شاذة، لكن لا تبطل بها الصلاة؛ لأن القصد بها الدعاء.

وقوله: (وكل ركعة) يصح رفعه ونصبه.

(وسورة والجهر أو سر أثر

وعند أجنبي الأنثى تسر)

فيه ثلاث مسائل:

[استحباب سورة عقب الفاتحة]

الأولى: يسن بعد (الفاتحة) سورة غيرها؛ أي: لغير فاقد الطهورين ذي الحدث الأكبر، ومأموم سمع قراءة إمامه في الركعتين الأوليين دون غيرهما؛ للاتباع، رواه الشيخان في غير المغرب، والنسائي فيه بإسناد حسن.

وقيل: في غيرهما أيضاً؛ للاتباع، رواه الشيخان في الظهر والعصر، ومالك في المغرب، ويقاس بذلك العشاء.

وفي ترجيحهم الأول تقديم لدليله النافي على دليل الثاني المثبت، عكس الراجح في الأصول؛ لما قام عندهم في ذلك.

ومن سبق بالأخيرتين .. قرأها فيهما حيث يتداركهما؛ لئلا تخلو صلاته عن سورة.

ويتأدى أصل السنة بقراءة شيء من القرآن، لكن السورة أفضل، حتى أن السورة القصيرة أولى من قدرها من طويلة كما في "الروضة" و"المجموع"، وفي "الشرحين": أولى من

ص: 302

بعض طويلة؛ أي: وإن طال، وهذا في غير التراويح، أما فيها .. فقراءة بعض الطويلة أفضل؛ كما أفتى به ابن عبد السلام، وعلله بأن السنة فيها القيام بجميع القرآن.

ويسن للصبح طوال المفصل، وللظهر قريب منها، وللعصر والعشاء أوساطه إن انفرد أو آثره محصورون، وللمغرب قصاره، ولصبح الجمعة:[آلم تنزيل] السجدة و [هل أتى] بكمالهما، فإن ضاق الوقت .. أتى منهما بقدر ما أمكنه.

وفي المفصل عشرة أقوال، أصحها: من الحجرات، قال ابن معن: وطواله إلى {عم} ، ومنها إلى {الضحى} أوساطه، ومنها إلى آخر القرآن قصاره.

قال في "المجموع": ويسن أن يقرأ على ترتيب المصحف، فلو خالف .. فخلاف الأولى، قال نقلاً عن المتولي: والمتنقل بأكثر من ركعتين إن اقتصر على تشهد .. سن له في كل ركعة، وإن أتى بتشهدين .. ففيه خلاف الأخيرتين في الفرائض.

[استحباب الجهر بالقراءة والإسرار بها حيث أثرا]

الثانية: يسن الجهر بالقراءة؛ حيث أثر ببنائه للمفعول؛ أي: نقل عن السنة، والإسرار بها؛ حيث نقل عن السنة، فيسن الجهر بالقراءة في الصبح والجمعة والأوليين من المغرب والعشاء، والمقضية فيما بين غروب المس وطلوعها، وفي العيدين، وخسوف القمر، والاستسقاء، والتراويح والوتر عقبها، وركعتي الطواف وقت الجهر، ويسن إسرار بها للمأموم مطلقاً ولغيره في الظهر ولعصر، وأخيرتي العشاء، وأخيرة المغرب، والمقضية فيما بين طلوع الشمس وغروبها، والجنازة، وفي الراتبة ولو ليلية.

ويتوسط في بقية نوافل اللي بين الجهر والإسرار إلا أن يتاذى بجهره أحد أو يخاف الرياء قال بعضهم: التوسط بين الجهر والإسرار يعرف بالمقايسة بهما؛ كما أشار إليه قوله تعال: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} ، قال الزركشي: والأحسن في تفسيره ما قاله بعض الأشياخ: أن يجهر تارة ويسر أخرى؛ كما ورد في فعله صلى الله عليه وسلم في صةلا الليل، ولا يستقيم تفسيره بغير ذلك؛ لعدم تعقل الواسطة بينهما؛ إذ حد الجهر أيسمع من يليه، والإسرار أن يسمع نفسه، فإن كان به مم أو ثم شاغل .. حرك لسانه وشفتيه؛ بحيث لو خلي عن ذلك .. لسمع.

ص: 303

[إسرار المرأة عند الأجنبي]

الثالثة: تسر المرأة عند الأجنبي رجلاً كان أو خنثى؛ لأن صوتها وإن لم يكن عورة على الأصح .. يخشى منه الافتتان، فلو جهرت .. لم تبطل صلاتها، وتجهر فيما عداه، والخنثى كالأنثى، قال البندنيجي: وحيث قلنا تجهر المرأة .. فليكن جهرها دون جهر الرجل. انتهى، ومثلها الخنثى.

[التكبير لانتقالات الصلاة]

(وكبرن لسائر انتقال

لكن مع التسميع لاعتدال)

أي: يسن التكبير لسائر انتقالات الصلة؛ للاتباع، رواه الشيخان، مع قوله:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، ويجهر به الإمام والمبلغ، لكن مع التسميع لاعتدال؛ أي: من الركوع بأن يقول: (سمع الله لمن حمده) مع رفع رأسه، ثم إن كان إماماً أو مبلغا .. جهر به، وإلا .. أسر، كره في "المجموع".

ومعنى (سمع الله لمن حمده): تقبله منه.

فإذا اعتدل .. سن له أن يقول سراً: (ربنا ولك الحمد)، أو (ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد)، ويسن لغير الإمام، وله برضا محصورين زيادة:{أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد؛ وكلنا عبد: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي ما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} ، وإن لم يرضوا .. كره له ذلك، كذا في "الروضة" و"أصلها" وغيرهما.

وإنما ندب التسميع للمأموم؛ للاتباع كما في "الصحيحين"، مع قوله:«صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وانه ذكر يسن للإمام فسن لغيره كذكر الركوع وغيره، وأما خبر:"إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده .. فقالوا: ربنا لك الحمد" .. فمعناه: قولوا ذلك مع

ص: 304

ما علمتموه من (سمع الله لمن حمده) لعلمهم بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" مع قاعدة التأسي به مطلقاً، وإنما خص (ربنا لك الحمد) بالذكر؛ لأنهم كانوا لا يسمعونه غالباً ويسمعون (سمع الله لمن حمده).

ويستحب مد التكبير إلى آخر الركوع، وكذا في سائر الانتقالات، فيمد التكبير من الفعل المتنقل عنه إلى الحصول في المتنقل إليه ولو فصل بينهما بجلسة الاستراحة حتى لا يخلو فعل من الصلاة عن ذكر.

[الهيئة المستحبة للرجل في الركوع]

(والرجل الراكع جافى مرفقه

كما يسوي ظهره وعنقه)

أي: والرجل الراكع جافى؛ أي: رفع ندباً مرفقه وبطنه عن فخذيه؛ للاتباع، رواه مسلم، وكما يفعل ذلك في ركوعه .. يفعله في سجوده كما سيأتي؛ للاتباع، رواه مسلم، فإن ترك ذلك .. كره، نص عليه في "الأم"، أما المرأة والخنثى .. فيسن لهما ضم بعضهما إلى بعض وإلصاق بطنيهما بفخذيهما؛ لأنه أستر لهما وأحوط له.

كما يسوي الراكع ظهره وعنقه ندباً؛ بحيث يصيران كالصفيحة؛ للاتباع، رواه مسلم، فإن ترك ذلك .. كره نص عليه في "الأم" ويسن هـ جعل كفيه على ركبتيه، ويأخذهما بهما منصوبتي الساقين والفخذين، وتفرقة أصابعه تفريقاً وسطاً للقبلة؛ للاتباع، رواه ابن حبان في "صحيحه" والبيهقي، ولأن ذلك أعون للمصلي، فلو عجز عن جعل كفيه على ركبتيه كما ذكر .. أتى بالممكن، أو عن وضعهما عليهما أصلاً .. أرسلهما، ولو قطع من الزندين .. لا يبلغ بهما الركبتين؛ إذ به يفوت استواء الظهر، بخلاف نظيره من رفع اليدين للتحرم وغيره، ذكره في "المجموع".

ص: 305

(والوضع لليدين بعد الركبة

منشورة مضمومة للكعبة)

(ورفع بطن ساجد عن فخذيه

مفرقاً كالشبر بين قدميه)

فيهما أربع مسائل:

[ما يسن للمصلي إذا هوى لسجوده]

الأولى: يسن للمصلي إذا هوى لسجوده .. أن يضع ركبتيه أولاً، ثم يضع يديه؛ أي: كفيه على الأرض في سجوده حذو منكبيه؛ لخبر وائل بن حجر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد .. وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض .. رفع يديه قبل ركبتيه) رواه الترمذي وحسنه، وابنا خزيمة وحبان وصححاه.

ثم يسن له أيضاً: أن يضع جبهته وأنفه؛ للاتباع، رواه أبو داوود، ويضعهما دفعة واحدة، جزم به في "المحرر"، ونقله في "المجموع" عن البندنيجي وغيره، وفي موضع آخر منه عن الشيخ أبي حامد: يقدم أيهما شاء، وإنما لم يجب وضع الأنف كالجبهة مع أن خبر "الصحيحين" يقتضي الوجوب؛ حيث قال" "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وعلى الجبهة" وأشار بيده إلى أنفه، للأخبار الصحيحة المقتصرة على الجبهة، وتحمل أخبار الأنف على الندب.

[ما يسن للمصلي في سجوده]

الثانية: يسن له في سجوده أن كون أصابعه منشورة لا مقبوضة، مضمومة لا متفرقة، للقبلة؛ للاتباع بهما، رواه البخاري، قال الرافعي: حيث استحببنا نشر الأصابع .. فالسنة فيها التفريج المقتصد، لا في السجود، فإنها تضم ولا تفرق؛ لأن التفريق عدول عن القبلة.

ص: 306

ويسن أتكون مكشوفة؛ لظاهر الأخبار الصحيحة، وإنما لم يجب كشفها كالجبهة؛ لأنها إنما تكشف للحاجة فكانت كالقدم.

[ما يسن للساجد الذكر]

الثالثة: يسن للساجد الذكر رفع بطنه عن فخذيه ومرفقيه عن جنبيه؛ لما مر.

[التفريق بين القدمين في الصلاة]

الرابعة: يسن للمصلي أن يفرق بين قدميه في قيامه وركوعه واعتداله وسجوده تفريقاً وسطاً؛ بأن يكون بينهما قدر شبر، فيكون تفريقه ركبتيه في سجوده بقدر شبر.

[جلسة الاستراحة]

(وجلسة الراحة خففنها

في كل ركعة تقوم عنها)

أي: اجلس أيها المصلي جلسة الاستراحة وخففها ندباً؛ بأن تكون بقدر الجلوس بين السجدتين، ويكره أن تزيد على ذلك، في كل ركعة تقوم عنها؛ لخبر البخاري:"فإذا كان في وتر من صلاته .. لم ينهض حتى يستوي قاعداً" رواه أبو حميد الساعدي في عشرة من الصحابة، وأما خبر وائل بن حجر:(أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجود .. استوى قائماً) .. فغريب أو محمول على بيان الجواز.

وشمل كلامه: ما لو وصل أربع ركعات بتشهد .. فإنه يجلس للاستراحة في كل ركعة يقوم عنها؛ لأنها إذا ثبتت في الأوتار .. فمحل التشهد أولى، ولو فعلها المأموم دون إمامه أو عكسه .. لم يضر تخلفه؛ لأنه يسير، بخلاف التشهد الأول.

ولا تسن بعد سجدة التلاوة في الصلاة، ولا للمصلي قاعداً؛ وهي أصلة بين الركعتين كالتشهد الأول وجلوسه، وقيل: من الأولى، وقيل: من لثانية، وفائدة الخلاف تظهر في التعليق على ركعته، قال البارزي في المسبوق: إذا أحرم والإمام فيها .. فيجلس معه على الأولين، وله انتظاره إلى القيام على الأخير، قال الإسنوي: فيه نظر.

ص: 307

(وسبح أن ركعت أو إن تسجد

وضع على الفخذين في التشهد)

(يديك، وأضمم ناشراً يسراكا

وأقبض سوى سبابة يمناكا)

(وعند (إلا الله) فالمهللة

إرفع التوحيد الذي صليت له)

فيها مسألتان:

[استحباب التسبيح في الركوع والسجود]

الأولى: يسن للمصلي التسبيح في ركوعه وسجوده؛ وهو أن يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم)، وفي سجوده:(سبحان ري الأعلى) لخبر أبي داوود: أنه لما نزل: {فسبح باسم ربك العظيم} .. قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل {سبح اسم ربك الأعلى} .. قال:" اجعلوها في سجودكم"، ويكون تسبيحه في كل منهما ثلاثاً؛ للاتباع، رواه أبو داوود، ويحصل أصل السنة في كل منهما بتسبيحه واحدة، والثلاث أدنى الكمال، وأكمله للمنفرد وإمام من علم رضاهم بالتطويل: إحدى عشرة.

وهل يستحب أن يضيف إليه (وبحمده)؟ قال الرافعي: استحبه بعضهم، وقال النووي: استحبه الأكثرون، وجزم به في "التحقيق".

ويزيد النفرد وإمام الراضين به في الركوع: (اللهم؛ لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي، وما استقلت به قدمي، لله رب العالمين) للاتباع، رواه مسلم إلى (عصبي)، وابن حبان إلى آخره.

وفي السجود: (اللهم؛ لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) للاتباع، رواه مسلم.

ص: 308

[هيئة اليدين في التشهد]

الثانية: يسن للمصلي وضع يديه على فخذيه قريباً من ركبتيه؛ اليمنى على اليمنى واليسرى على اليسرى، ويسن كونه ناشراً اصابع يسراه مضمومة؛ لتتوجه جميعها إلى القبلة لا متفرقة، وكونه قابضاً من أصابع يمناه ما سوى السبابة وهي التي تلي الإبهام؛ للاتباع، رواه مسلم؛ وذلك بأن يقبض من يمناه الخنصر والبنصر والوسطى ويرسل السبابة، ويضع الإبهام على حرف راحته، ويرفع المهللة؛ أي: المسبحة عند بلوغ همزة (إلا الله) للاتباع، رواه مسلم، وإشارة إلى توحيد الذي صلى له؛ ليجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد، وفي "رونق الشيخ أبي حامد" و"لباب المحاملي" يرفعها منحنية قليلاً، وفيه خبر صحيح في "أبي داود"، ووجه الجيلي ذلك: بأنه أبلغ في الخضوع.

وخصت المسبحة بذلك؛ لأن لها اتصالاً بنياط القلب فكأنها سبب لحضوره، ولا يسن تحريكها؛ للاتباع، رواه أبو داوود والبيهقي، وقيل: يحركها؛ للاتباع، رواه البيهقي وقال: الحديثان صحيحان، قال: ويحتمل أن يكون المراد بتحريكها في خبره: رفعها لا تكرير تحريكها، وتقديمهم النافي على المثبت؛ لما قام عندهم في ذلك، قال بعضهم ولعل منه كون التحريك قد يذهب الخشوع، وعلى الأصح: يكره تحريكها.

ويسن أن يكون رفعها إلى القبلة، وأن ينوي به الإخلاص بالتوحيد، قال الشيخ نصر المقدسي: وأن يقيمها ولا يضعها.

ويكره رفع مسبحة اليسرى؛ لفوات سنة بسطها ولهذا: لا يرفعها ولا غيرها لو قطعت اليمنى، وسميت بالسبابة؛ لأنه يشار بها عند المخاصمة والسب، وتسمى أيضاً: بالمسبحة؛ لأنه يشار بها إلى التوحيد والتنزيه؛ إذ التسبيح التنزيه.

وقوله: (وسبح أن ركعت) بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، والألف في (يسراكا) و (يمناكا) للإطلاق.

ص: 309

(والثان من تسليمه التفاته

ونية الخروج من صلاته)

(ينوي الإمام حاضريه بالسلام

وهم نووا رداً على هذا الإمام)

فيهما أربع مسائل:

[استحباب التسليمة الثانية]

الأولى: التسليمة الثانية سنة؛ لخبر ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله) قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأجاب ائمتنا عن أخبار التسليمة الواحدة بأنها ضعيفة، أو لبيان الجواز، وبأن أخبار التسليمتين زيادة ثقة فيجب قبولها.

نعم؛ يجب الاقتصار على واحدة إذا عرض له عقبها ما ينافي صلاته؛ كأن خرج وقت الجمعة بعد الأولى، أو انقضت مدة المسح أو شك فيها أو تخرق الخف، أو نوى القاصر الإقامة، أو انكشفت عورته، أو علم خطأ اجتهاده.

قال في "المجموع": ولا يسن زيادة (وبركاته) على الصحيح والصواب الموجود في الأخبار الصحيحة وكتب الشافعي والأصحاب.

والتسليمة الثانية من لواحق الصلاة ومستحباتها لا منها نفسها، وإلا .. بطلت بوجود منافيها قبلها.

[استحباب التفات المصلي في التسليمتين]

الثانية: يسن التفات المصلي في تسليمته الأولى حتى يرى خده الأيمن، وفى الثانية الأيسر؛ للاتباع، رواه ابن حبان في "صحيحه"، ويسن أن يبتدئ بالتسليمة مستقبل القبلة ثم يلتفت؛ بحيث يكون انقضاؤها مع تمام الالتفات، والابتداء باليمين مستحب.

[استحباب نية الخروج من الصلاة بالتسليمة الأولى]

الثالث: يسن لكل مصل أن ينوي الخروج من صلاته بالتسليمة الأولى مقارنة لها كما في تكبيرة التحريم؛ خروجاً من خلاف من أوجبها كنية التحرم؛ لأن السلام ذكر واجب في أحد

ص: 310

طرفي الصلاة كالتكبير، وأجاب من لم يوجبها بالقياس على سائر العبادات، حيث لا يجب فيها نية الخروج، لأن النية تليق بالإقدام دون الترك، ولأن السلام جزء من أجزاء الصلاة غير أولها فلم يفتقر إلى نية تخصه كسائر الأجزاء، ولهذا لا يضر الخطأ في تعيين غير ما هو فيه، كما لو دخل في ظهر وظنها في الركعة الثانية عصرا، ثم ذكر في الثالثة .. تصح صلاته.

ويسن للمأموم أن يسلم بعد تسليمتي إمام ولو قارن سلامه سلام إمامه .. جاز مع الكراهة.

[ما يستحب أن ينوي الإمام والمأموم بسلامهما]

الرابعة: ينوي الإمام ندبا بسلامه السلام على حاضريه، أي: على من التفت من ملائكة ومؤمني إنس وجن، بأن ينويه بمرة اليمين على من عن يمينه، وبمرة اليسار على من مر على يساره، وبآيتهما شاء على من خلفه وبالأولي أفضل.

وكالإمام في ذلك: المأموم والمنفرد.

وهم، أى: المأمون نووا ندبا الرد على الإمام، فينويه منهم من على يمينه بالتسليمة الثانية، ومن على يساره بالأولي، ومن خلفه بأيهما شاء، وبالأولي أفضل، ويستحب أن ينوي بعض المأمومين الرد على بعض، والأصل في ذلك: خبر علي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن معهم من المسلمين والمؤمنين) رواه الترمذي وحسنه، وخبرة سمرة:(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن نتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض) رواه أبو داوود وغيره.

ويسن أن يدرج السلام، لقول أبي هريرة رضي الله عنه:(حذف السلام سنه) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، قال ابن المبارك: معناه: لا يمد مدا.

وقول المصنف: (والثان) بحذف الياء للتخفيف.

ص: 311

[شروط الصلاة]

ولما فرغ من سننها

ذكر شروطها فقال:

(شروطُهَا الإسلامُ والتَّمييزُ

للسَّبْعِ في الغالِبِ والتَّمييزُ)

(للفرضِ مِن نَفْلٍ لِمَن يَشتَغِلُ

والفَرضُ لا يُنوَى به التَّنَفُّلُ)

الشروط: جمع شرط، وهو لغة: العلامة، واصطلاحا: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.

وشروط الصلاة على ما ذكره المصنف اثنا عشر:

[الشرط الأول: الإسلام]

أولها: الإسلام في تصح لكافر، كغيرها من العبادات.

[الشرط الثاني]

ثانيهما: التمييز لسبع سنين في الغالب، فلا تصح من غير مميز كمجنون، لعدم أهليته للعبادة.

[الشرط الثالث: تمييز فرض الصلاة من نفلها]

ثالثهما: تمييز فرض الصلاة من نفلها لمن يشتغل بالفقه وهو غير العامي، فلو اعتقد أن جميع أفعالها سنة، أو بعضها فرض وبعضها سنة ولم يميز

لم تصح صلاته قطعا، وإن اعتقد أن جميع أفعالها فرض

صحت صلاته على الأصح، لأنه ليس فيه أكثر من أنه أدي سنه باعتقاد الفرض وذلك لا يؤثر.

وقوله: (والفرض لا ينوي به التنفل) أى: من العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها، بأن يعتقد أن جميع أفعالها فرض، أو بعضها فرض وبعضها سنه ولم يقصد التنفل بما هو فرض، فقد قال الغزالي في (فتاوية): العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها .. تصح صلاته بشرط ألا يقصد التنفل بما هو فرض، فإن نوى الفرض بنفل .. لم يحتسب له، فلو

ص: 312

غفل عن التفضيل .. فنية الجملة في الابتداء كافية، حكاه عنه النووي في (الروضة) وغيرها، قال: وهو الصحيح الذي تقتضيه ظاهر أحوال الصحابة فمن بعدهم، ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام ألزم الأعراب ذلك، ولا أمر بإعادة صلاة من لا يعلم ذلك.

وفي البيت الأول من أنواع البديع: الجناس التام المماثل، وهو أن يتفق اللفظان من نوع واحد في أنواع الحزوف وأعدادها وهيأتها وترتيبها، ومنه قوله تعالى:{ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} [سورة الروم: 55].

[الشرط الرابع: طهارة الثوب والبدن والمكان]

وطهر ما لم يعف عنه من خبث

ثوبا مكانا بدنا ومن حدث))

رابعها: طهر، أى طهارة ما لم يعف عنه من خبث، أى: نجس مغلظا كان أو متوسطا أو مخففا في بدن المصلي وثوبه ومكانه، لقوله تعالى:{وثيابك فطهر} [سورة المدثر: 4]، ولخبر (الصحيحين):(إذا أقبلت الحيضة .. فدعي الصلاة، وإذا أدبرت .. فاغسلي عنك الدم وصلي)، ولخبر:(تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه) رواه الدارقطني بإسناد حسن، ثبت الأمر باجتناب الخبث وهو لا يجب في غير الصلاة فيجب فيها، والأمر بالشئ يفيد النهى عن ضده، والنهي في العبادات يقتضي فسادها، على أنه قد صحح في (الروضة) و (أصلها) تحريم التضمخ بالخبث في البدن والثوب بلا حاجة في غير الصلاة أيضا، وصحح في (التحقيق) تحريمه به في البدن دون غيره، ومراده بالبدن: ما يعم ملابسه من الثوب، ليوافق ما في (الروضة) و (أصلها).

فلو تنجس ثوبه. بما لا يعفي عنه، ولم يجد ما يغسله به .. وجب قطع موضع النجاسة إن لم تنقص قيمته أكثر من أجرته، وإن جهل مكانها في جميع البدن أو الثوب .. وجب غسل جميعه، لأن الأصل بقاء النجاسة ما بقي منه جزء بغير غسل، ومن مسه بعضه رطبا

لم يتنجس، ولو

ص: 313

شق الثوب نصفين

لم يجز التحري، ولو غسل نصفه أو نصف ثوب نجس بالصب عليه في غير إناء، ثم غسل الجزء الباقي مع ما جاوره .. طهر كله، ولو اقتصر عليه دون المجاور .. فالمنتصف نجس من النجس مجتنب من المتنجس، فإن غسله في إناء .. فالأصح كما في (المجموع): أنه لا يطهر حتى يغسله دفعة.

ولو وقعت النجاسة في موقع ضيق كالبساط والبيت وأشكل .. وجب غسل كله، أو واسع كالصحراء .. اجتهد ندبا إن غلب على ظنه طهارته ووجوبا إن لم يغلب على ظنه.

ولو تنجس أحد كمي القميص، أو أحدي يديه وأشكل، فغسل أحدهما بالاجتهاد وصلي .. لن تصح صلاته إلا أن يفصل أحد الكمين قبل الاجتهاد، وإن اشتبه ثوبان فغسل إحداهما بالاجتهاد .. فله الصلاة فيهما ولو جمعهما عليه، ولو تحير .. اجتنبهما، فلو لم يجد غيرهما ولا ماء .. صلى عريانا وأعاد.

وتبطل صلاة من لاقي ثوبه أو بدنه أو محمولة نجسا وإن لم يتحرك بحركته، كمن قبض على حبل متصل بميتة، أو مشدود بكلب أو بساجوره، أو بدابة حاملة نجسا، أو بسفينة فيها نجس إن انجرت بجرة، وإلا .. لم تبطل، كما لو جعل الحبل تحت رجله.

[الشرط الخامس: الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر]

خامسها: الطهارة من الحدث الأكبر والصغر، فتبطل بغير الحدث الدائم وغن سبقه بلا اختيار، كمن تنجس ثوبه، أو تخرق خفه، أو أبعد الريح ثوبه بلا تقصير، فإن نحى النجاسة أو رد الثوب فورا .. لم يضر، وإن نحاها بكمه .. بطلت.

والأصل في ذلك: خبر مسلم (لا يقبل الله صلاة بغير طهور)، وخبر (إذا فسا أحدكم في صلاته

فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته) رواه الترمذي وحسنه، فلو صلى بدون طهارة ناسيا

أثيب على قصده دون فعله، إلا القراءة والذكر ونحوهما مما لا يتوقف على الطهر .. فإنه يثاب على فعله، قال الشيخ عز الدين: وفي إثابة الناسي على القراءة إذا كان جنبا نظر.

ص: 314

[الشرط السادس: ستر العورة]

(وغير حرة عليها السترة

لعورة من ركبه لسره)

(وحرة- لا الوجه والكف- بما

لا يصف اللون ولو كدرة ما)

سادسها: ستر العورة ولو كان المصلي في خلوة وظلمة، ويجب سترها خارج الصلاة أيضا بين الناس، وكذا في خلوة وظلمة، لأن الله تعالى أحق أن يستحي منه، ولا يجب ستر عورته عن نفسه، بل نظره إليها مكروه، ويباح كشفها لغسل ونحوه خاليا.

وغيره حرة، من رجل حرا كان أو رقيقا بالغا أو صبيا، وأمة، ومبعضة، وخنثي إذا كان رقيقا .. عليها السترة وجوبا لعورة لها، وهي من ركبتها إلى سرتها.

أما الرجل .. فلخبر: (عورة المؤمن ما بين سرته غلى ركبته) رواه الحارث بن أبي أسامة بسند فيه رجل مختلف فيه، لكن له شواهد تجبره، وقيس بالرجل الأمة، بجامع أن رأس كل منهما ليس بعورة، وروي أبو داوود:(إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره .. فلا ينظر إلي ما دون السره وفوق الركبة).

ويؤخذ من كلامه: أن الركبة والسره ليستا بعورة وهو الأصح، لكن يجب ستر بعضهما، ليحصل سترهما.

وحرة عليها السترة لجميع بدنها وجوبا إلا وجهها وكفيها ظهرا وبطنا إلى الكوعين، لقوله تعالى:(ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [سورة النور: 30]، قال ابن عباس وغيره: وجهها وكفيها، ولخبر: (لا يقبل صلاة حائض- اى: بالغة - إلا بخمار) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ويؤخذ منه ومن قوله تعالى:{خذوا زينتكم عن كل مسجد} [سورة الأعراف: 31] يعني: الثياب في الصلاة، كما قاله ابن عباس رضي الله عنه: اشتراط ستر العورة، وإنما لم يكن الوجه والكفان عورة، لأن الحاجة قد تدعو إلى إبرازهما.

أما الخنثي الحر .. فكالحرة، حتى لو اقتصر على ستر عورة الرجل .. لم تصح صلاته على

ص: 315

والأصح في (زوائد الروضة)، وفي (المجموع) هنا: أنه الأفقه، للشك في الستر، لكن الأصح في (التحقيق): صحتها، ونقل في (المجموع) في نواقض الوضوء عن البغوي وكثير القطع به، للشك في عورته، قال الإسنوي في (أحكام الخناثي): والفتوى عليه، فإنه الذي يقتضيه كلام الأكثرين.

ويجب الستر بما لا يصف الرائي منه بمجلس التخاطب اللون للبشرة وإن وصف الحجم ولو كان كدرة ماء، لحصول الستر بذلك، وصورته في الماء فيمن يمكنه الركوع والسجود، وفي صلاة الجنازة، فلو قدر أن يصلي في الماء ويسجد على الشط .. لم يلزمه، للمشقة، أم ما لا يمنع وصف اللون كزجاج .. فلا يكفي.

وشرط الساتر: أن يشمل المستور لبسا ونحوه كالتطيين، فلا يكفي الخيمة الضيقة ونحوها، وكذا الحب الضيق الرأس على الأشبه في (الشرح الصغير)، لكن الأصح في (الروضة) و (التحقيق) و (المجموع): خلافه كثوب واسع الذيل، والحفرة إذا لم يرد عليها ترابها كالحب، ولا تكفي الظلمة وإن منعت وصف اللون.

قال الأذرعي: وقضية تعبيرهم بما لا يصف اللون: الاكتفاء بالأصباغ التي لا جرم لها من حمرة وصفرة وغيرهما، وهو مشكل، وقضية المحاملي والمارودي: الجزم بخلافه وهو الوجه، فليحمل كلام أولئك على ما إذا كان للساتر جرم.

وخرج ب (الكدر): الصافي، فلا يكفي إلا إذا غلبت خضرته، ويكفي الستر بلحاف التحف بها امرأتان، وبإزار اتزر به رجلان، قاله القاضي والبغوي.

ولو فقد الثوب ونحوه .. لزمه التطيين، ويجب الستر من الأعلى والجوانب لا من الأسفل، فلو صلي على طرف سطح في قميص متسع الذيل يري الواقف تحته عورته منه

صحت صلاته، ولو كانت عورته بحيث تري من طوقه في ركوع أو غيره .. لم تصح، فليزره أو يشط وسطه، ولو ستر بلحيته، أو ستر خرق الثوب بكفه .. كفي.

ص: 316

ولو عدم السترة، أو وجدها متنجسة ولا ماء، أو حبس على نجاسة واحتاج فرش السترة عليها .. صلى عريانا وأتم الأركان ولا إعادة

ولو وجد بعض سترة .. لزمه البداءة بالسوءتين القبل والدبر، فإن وجد كافي أحدهما .. تعين القبل، والخنثي يبدأ بما شاء من قبليه، والأولي: أن يستر ذكره عند النساء، وفرجه عند الرجال. ولو أمر بدفع سترة لأولي الناس .. قدمت المرأة، ثم الخنثي، أما مالك السترة المحتاج إليها .. فلا يؤثر بها غيره.

(وعلم أو ظن لوقت دخلا

واستقبلن لا في قتال حللا)

(أو نافلات سفر وإن قصر

وتركه عمدا كلاما للبشر)

(حرفين أو حرف بمد صوتكما

أو مفهم ولو بضحك أو بكا)

(أو ذكر أو قرءاه تجردا

للفهم أو لم ينو شيئا أبدا)

(أو خاطب العاطس بالترحم

أو رد تسليما على المسلم)

(لا بسعال أو تنحنح غلب

أو دون ذين لم يطق ذكرا وجب)

(وإن تنحنح الإمام فبدا

حرفان فالأولي دوام الاقتدا)

[الشرط السابع: العلم بدخول الوقت]

سابعها: علم المصلي بدخول الوقت أو ظنه، ليصح تحرمه بصلاة ذلك الوقت، فلو صلاها بدون ذلك

لم تصح وإن وقعت في وقتها.

[الشرط الثامن: استقبال القبلة]

ثامنها: استقبال القبلة، أى: الكعبة للقادر عليه، فلا تصح صلاته بدونه إجماعا، لقوله تعالى:{فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [سورة البقرة: 144] أي: جهته، والاستقبال لا يجب في غير الصلاة فتعبن أن يكون فيها، ولخبر (الصحيحين):(إذا قمت إلي الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر)، وخبرهما: أنه صلي الله عليه

ص: 317

وسلم صلي ركعتين قبل الكعبة وقال: (هذه القبلة)، مع خبر:(صلوا كما رأيتموني أصلي)، و (قبل): بضم القاف والباء ويجوز إسكانهم، قال بعضهم: معناه مقابلها، وقال بعضهم: ما استقبلك منها، أى: وجهها، ويؤيده رواية ابن عمر:(فصلي ركعتين في وجه الكعبة).

وأما خبر الترمذي: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)

فمحمول على أهل المدينة ومن داناهم.

أما العاجز عنه كمريض لم يجد من يوجهه، ومربوط على خشبة .. فيصلي على حسب حاله ويعيد.

والمعتبر الاستقبال بالصدر لا بالوجه أيضا، لأن الالتفات به ليس مبطلا للصلاة، بل هو مكروه كما صرحوا به.

(إلا في قتال حللا) أى: أبيح في شدة الخوف، كقتال المسلمين للكفار، وأهل العدل للبغاة، والرفقة لقطاع الطريق، فلا يشترط الاستقبال فيه في الفرض ولا في النفل، للضرورة لما سيأتي في (باب صلاة الخوف).

[لا يشترط الاستقبال في نافلة السفر]

ونافلات سفر، أي: مباح، وإن قصر ولو عيدا واستسقاء

فلا يشترط الاستقبال فيها، فله أن يصليها صوب مقصده المعين راكبا وماشيا، لأنه صلى الله عليه وسلم (كان يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به) أي: في جهة مقصده رواه الشيخان، وفي رواية لهما:(غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة)، وفي رواية للبخاري:(فإذا أراد أن يصلي المكتوبة .. نزل فاستقبل القبلة)، وقيس بالراكب: الماشي.

و(السفر القصير) قال الشيخ أبو حامد وغيره: مثل: أن يخرج إلى ضيعة مسيرتها ميل أو

ص: 318

نحوه، والقاضي والبغوي: أن يخرج إلى مكان لا تلزمه فيه الجمعة، لعدم سماعه النداء، إلا راكب نحو سفينة أو هودج، فإنه يجب عليه الاستقبال وإتمام الأركان، لتمكنه منهما، ويستثني منه ملاح السفينة الذي يسيرها فلا يشترط استقباله، ومن ركب على سرج أو نحوه .. لم يلزمه الاستقبال إلا عند إحرامه إن سهل عليه، كأن كانت دابته سهلة غير مقطورة، أو يستطيع الانحراف بنفسه، بخلاف ما إذا عسر عليه، كأن كانت عسرة أو مقطورة لا يستطيع الانحراف، فلا يلزمه الاستقبال في إحرامه أيضا، للمشقة واختلال أمر السير عليه، قال ابن الصباغ: والقياس: أنه مهما دام واقفا .. لا يصلي إلا إلي القبلة، قال في (المهمات): وهو متعين.

وفي (الكفاية): أنه لو وقف لاستراحة أو انتظار رفقة

لزمه الاستقبال ما دام واقفا، فإن سار .. أتم صلاته إلى جهة سفره إن كان سفره لأجل سير الرفقة، وإن كان مختارا له بلا ضرورة .. لم يجز أن يسير حتى تنتهي صلاته، لأنه بالوقوف لزمه فرض التوجه، وفي (المجموع) عن (الحاوي) نحوه. انتهى.

أما الماشي

فيستقبل في إحرامه وركوعه وسجوده وجلوسه بين السجدتين، ويلزمه إتمامها، وله المشي في القيام والتشهد والاعتدال، ولو انحرف المتنفل عن مقصده إلى القبلة .. لم يضر، أو إلي غيرها عمدا ولو قهرا

بطلت صلاته، وكذا لنسيان أو خطأ أو جماح إن طال زمنه، وإلا

فلا تبطل، ولكنه يسجد للسهو.

ولو توجه إلى مقصده في غير الطريق .. لم يضر، ومن لا مقصد له معين كالهائم، أو له مقصد معين غير مباح كالآبق والناشزة

لا رخصة له.

فإن بلغ المسافر المكان الذي ينقطع به السير أو بنيان بلد الإقامة

لزمه أن ينزل عن دابته إن لم يستقر في نحو هودج، ولم يمكنه أن يتمها مستقبلا وهي واقفة، لا المار ولو بقرية له فيها أهل.

وله الركض لحاجة، فلو أجري الدابة، أو عدا الماشي بلا حاجة

بطلت، ولو أوطأها نجاسة .. لم يضر، لا إن وطئها الماشي ناسيا وهي رطبة، فلا يعفي عما يعلق به منها، أو عامدا ولو يابسة وإن لم يجد عنها مصرفا. ويشترط في صحة صلاة الفريضة: الاستقرار والاستقبال وإتمام الأركان، فلو صلاها في هودج على دابة واقفة، أو سرير يحمله رجال وإن مشوا به، أو في الأرجوحة أو الزورق الجاري .. صحت.

ص: 319

[الشرط التاسع: ترك الكلام]

تاسعها: تركه، أي: المصلي عمد كلام البشر، أى: الإمساك عنه، فلو تكلم المصلي عامدا بما يصلح لخطاب البشر وإن لم يقصد خطابهم، أو تعلق بمصلحة الصلاة، كقوله للإمام:(لم تصل إلا ثلاثا) .. بطلت صلاته، والأصل فيه: ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} [سورة البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام)، وعن معاوية بن الحكم: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني .. سكت، فلما صلي النبي صلى الله عليه وسلم .. قال:(إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس).

ثم بين المصنف كلام البشر بقوله: (حرفين أو حرف بمد صوتكا أو مفهم) أى: حرفين أو أكثر ولو بغير إفهام، لأن ذلك من جنس كلامهم، والكلام يقع على المفهم وغيره مما هو حرفان فأكثر، وتخصيصه بالمفهم اصطلاح للنحاة، أو حرف ممدود وإن لم يفهم، نحو (آ)، والمد: ألف أو واو أو ياء، وهي حروف مخصوصة، فضمها إلي الحرف كضم حرف آخر إليه، أو حرف مفهم، نحو (ق) من الوقاية و (ع) من الوعي، لأنه كلام تام لغة وعرفا وإن أخطأ بحذف هاء السكت، بخلاف غير المفهم فاعتبر فيه أقل ما يبني عليه الكلام وهو حرفان.

ولا تبطل الصلاة بإجابة النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا في عصره مصليا على الأصح، ولا بالنذر على الأصح، لأنه مناجاة فهو من جنس الدعاء، قاله في (المجموع)، ومحله: إذا لم يكن فيه خطاب آدمي، ولا بإنذار مشرف على الهلاك إذا لم يمكن إلا به على ما في (التحقيق) واقتضاه كلام (المجموع)، لكن الأصح في (الروضة) و (أصلها) وغيرهما: البطلان مع وجوبه.

ص: 320

وخرج بقوله: (عمدا) ما لو سبق لسانه إليه فإن صلاته لا تبطل به إن كان قليلا، لأن الناسي مع قصده الكلام معذور، فهذا أولي، وإن كان كثيرا بطلت صلاته في الأصح، ومثله من نسي كونه في الصلاة، كأن سلم ناسيا، ثم تكلم عامدا، لخبر (الصحيحين) عن أبي هريرة:(صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر فسلم من ركعتين، ثم أتي خشبة بالمسجد واتكأ عليها كأنه غضبان، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال للصحابة: (أحق ما يقول ذو اليدين؟ ) فقالوا: نعم، فصلي ركعتين آخرين ثم سجد سجدتين) وجه الدلالة: أنه تكلم معتمدا أنه ليس في صلاة وهم تكلموا مجوزين النسخ، ثم بني هم وهو عليها.

أو جهل تحريم الكلام إن قرب عهده بالإسلام، لخبر معاوية السابق، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء، أو جهل تحريم ما أتي به مع علمه بتحريم جنس الكلام، أو جهل كون التنحنح مبطلا على الأصح، لخفاء حكمه على العوام.

وبقوله: (كلاما للبشر) الذكر والدعاء، فإن الصلاة لا تبطل بشئ منها إذا لم يكن فيه خطاب على ما سيأتي، والمرجع في القلة أو الكثرة إلى العرف.

قال في (المجموع): ولو سلم إمامه فسلم معه، ثم سلم الإمام ثانيا فقال له المأموم: قد سلمت قبل هذا، فقال له كنت ناسيا

لم تبطل صلاته، لأن سلامه الأول سهو، ولا صلاة المأموم، لأنه لم يخرج منها بسلامه الأول، وتكليمه الإمام سهو، لأنه يظن أنه تحلل فيسلم ثانيا، ويندب له سجود السهو، لأنه تكلم سهوا بعد انقطاع القدوة.

وقوله: (ولو بكره) أى: تبطل الصلاة بكل مما ذكر ولو كان بكره، لأنه نادر كما لو أكره على الصلاة بلا طهارة، أو قاعدا .. فإن الإعادة تجب، وهذا بخلاف النسيان، وإنما لم تبطل الصلاة بغضب ثوب المصلي، لأن للغاضب فيه غرضا، قاله في (المجموع)، وفي بعض النسخ:(ولو بضحك).

ص: 321

وقوله: (أو بكا) أى: وتبطل الصلاة بكل مما ذكر ولو كان ببكاء ولو من خشية الله تعالى، أو ضحك أو تنحنح أو أنين، أو نفخ ولو من الأنف.

وقوله: (أو ذكر .... ) إلى آخره، أى: وتبطل الصلاة بكل مما ذكر، ولو كان بذكر، كقوله لعاطس:(يرحمك الله)، أو بشارة (الحمد لله)، ولتنبيه إمامه:(سبحان الله)، ولتبليغ الانتقالات:(الله أكبر)، أو قراءة، كقوله لجماعة يستأذنون:(ادخلوها بسلام آمنين)، تجرد كل منهما للفهم، بأن قصد المصلي به تفهيم الغير فقط، أو لم ينو به شيئا أبدا، لأنه حينئذ من كلام البشر، بخلاف ما إذا قصد الذكر أو القراءة فقط، أو قصد أحدهما مع التفهيم.

وشمل قوله: (أو قراءة): القراءة للفتح على إمامه، ففيه التفصيل، خلافا لبعضهم، قال في (المجموع): ولو أتي بكلمات من القرآن من مواضع متفرقة كقوله: (يا إبراهيم سلام كن) .. بطلت، فلو أتي بها متفرقة

لم تبطل إن قصد بها القراءة. انتهى.

وقضيته: أنه لو قصد بها القراءة في الشق الأول .. بطلت صلاته، أي: إذا لم يقصد القراءة بكل كلمة على انفرادها، ومثل الذكر والقراءة فيما ذكره: الدعاء.

وقوله: (أو خاطب العاطس

) إلى آخره، أى: وتبطل الصلاة إذا خاطب العاطس بقوله: (يرحمك الله)، أو رد تسليما على المسلم عليه بقوله:(عليك السلام) لأنه حينئذ من كلام البشر، بخلاف قوله:(يرحمه الله) أو عليه السلام ونحوه مما لا خطاب فيه.

وخرج بما ذكر: خطاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يبطل الصلاة، لوروده في التشهد، وقوله:(لا بسعال أو تنحنح غلب) أى: لا تبطل الصلاة بسعال وتنحنح، أى: وضحك وبكاء وأنين ونفخ وعطاس غلب المصلى فلم يستطع رده، لأنه معذور، هذا إذا لم يكثر عرفا، وإلا .. بطلت به، كما قاله الشيخان في الضحك والسعال، والباقي في معناهما، لكن قال جماعة من المتأخرين كالإسنوي: الصواب: عدم بطلانها به وإن كثر، لعدم القدرة على الاحتراز منه.

وقوله: (أو دون ذين لم يطق ذكرا وجب) أى: ولا تبطل صلاة من يطق ذكرا واجبا، أى: إتيانه به كـ (الفاتحة) وبدلها من قرآن أو ذكر، أو التشهد الأخير، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه بدون السعال والتنحنح.

ص: 322

وخرج بقوله: (ذكرا وجب) ما لو لم يطق الجهر به أو النطق بالذكر المندوب، كالسورة والقنوت بدون التنحنح أو السعال فأتي به وخرج منه حرفان .. فإن صلاته تبطل كما علم مما مر أيضا، لأنه ليس بعذر، غذ هو سنة، بخلاف الواجب الذي لا تصح الصلاة إلا به، قال في (المهمات): والمتجه: جواز التنحنح للجهر بأذكار الانتقال عند الحاجة إلى إسماع المأمومين.

وقوله: (وإن تنحنح الإمام .... ) إلى آخره، أى: وإن تنحنح الإمام فظهر منه حرفان فأكثر .. فالأولي للمأموم دوام الاقتداء به في تلك الصلاة لا مفارقته، إذ الأصل بقاء العيادة على صحتها وعدم المبطل حتى يتحقق، والظاهر: أنه معذور.

وقوله: (أو ظن) بحذف الهمزة للوزن، وألف (دخلا) و (حللا) للإطلاق، وفي نسخة:(وتركه عمدا كلاما للبشر) وهي لا يناسبها ما بعدها من جهة الإعراب، وألف (صوتكا) للإطلاق، وألف (تجردا) يصح كونه للتثنية أو للإطلاق.

[الشرط العاشر: ترك الفعل الكثير]

(وفعله الكثير لو بسهو

مثل موالاة ثلاث خطو)

(ووثبة تفحش، والمفطر

ونية الصلاة إذ تغير)

عاشرها: ترك فعله الكثير الذي ليس من جنس الصلاة ولو بسهو، مثل موالاة ثلاث خطوات ولو بقدر خطوه واحده كما قاله الإمام، أو ثلاث ضربات متواليات، سواء أكانت الفعلات من جنس واحد كما مر، أم من جنسين، أم أجناس، كضربة وخطوة وخلع نعل، فإن لم يترك المصلي ذلك .. بطلت صلاته، لإشعاره بالإعراض عن الصلاة، والسهو لا يؤثر في خطاب الوضع، ويعفي عن الأفعال الكثيرة في صلاة شدة الخوف.

ص: 323

وقوله: (ووثبة تفحش) يعني: وترك وثبة تفحش، أي: أو تصدر للعب ولو غير فاحشة، فإن لم يترك ذلك .. بطلت صلاته، لمنافاة كل منهما للصلاة.

واحترز بقوله: (الكثير) عن الفعل القليل عرفا غير ما مر، كإشارة برد السلام، وخلع نعل، ولبس ثوب خفيف ونزعه، وفعلتين كضربتين، فإن ذلك لا يبطل الصلاة ولو عمدا، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل القليل وأذن فيه (فأخذ بإذن ابن عباس وهو في الصلاة فأداره عن يساره إلى يمينه) رواه الشيخان، (وسلم عليه نفر من الأنصار فرد عليهم بالإشارة) رواه الترمذي وصححه، (وخلع نعليه في الصلاة ووضعهما عن يساره) رواه أبو داوود وصححه الحاكم، (وصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص من ابنته زينب، فإذا سجد .. وضعها، وإذا قام .. حملها) رواه الشيخان، زاد مسلم:(وهو يؤم الناس في المسجد)، وأذن في تسوية الحصا، وأمر بقتل الأسودين: الحية والعقرب في الصلاة رواه الترمذي وصححه.

وفارق الفعل القول، حيث استوي قليله وكثيرة في الإبطال: بأن الفعل يتعذر، أو يتعسر الاحتراز منه فعفي عن القدر الذي لا يخل بالصلاة، بخلاف القول.

واحترز بقوله: (موالاة) عن الأفعال المتفرقة، فإنها لا تؤثر كما لو خطا خطوة، ثم بعد زمان خطا أخري وهلم جرا، لما مر في خبر أمامة، وحد التفريق: أن يعد الثاني منقطعا عن الأول عرفا، ولو نوى فعلات متوالية وفعل واحدة .. بطلت صلاته.

وخرج بقوله: (مثل موالاة ثلاث خطو) الحركات الخفيفة المتوالية، كتحريك أجفانه، أو أصابعه في سبحة أو حك أو عد، أى: مع قرار اليد في محل واحد، فإنها لا تؤثر، لأنها لا تخل بنظم الصلاة، بخلاف ما إذا حرك اليد ثلاثا .. فإنها تبطل به، إلا أن يكون به حكة لا يمكنه الصبر عنها، ذكره القاضي والخوارزمي، ومد اليد وجذبها مرة واحدة، وكذا رفعها عن الصدر ووضعها في محل الحك.

ص: 324

أما إذا فعل في صلاته غيرها من جنسها، كزيادة ركوع لا للمتابعة: فإن كان عامدا .. بطلت صلاته، أو ناسيا .. فلا. وقوله:(خطو): مصدر خطا يخطو

[الشرط الحادي عشر: ترك ما يفطر الصائم]

حادي عشرها: المفطر للصائم وإن قل، أى: تركه فتبطل بالمفطر 0 كبلع ذوب سكرة، لإشعاره بالإعراض إلا أن يكون ناسيا أو جاهلا تحريمه .. فلا تبطل به إلا أن يكثر، فتبطل به على الأصح وإن صحح الرافعي عدم بطلانها بالكثير ناسيا كالصوم، والفرق بينهما على الأول: أن المصلي متلبس بهيئة يبعد معها النسيان، بخلاف الصائم، فإن الصلاة ذات أفعال منظومة، والفعل الكثير يقطع نظمها، بخلاف الصوف فإنه كف.

[الشرط الثاني عشر: التحرز عما ينافي النية أو يغيرها]

ثاني عشرها: تغيير النية، وهو معني قوله:(ونية الصلاة إذ تغير) أى: بتغيير المصلي، فإن لم يترك ذلك، كأن نوى الخروج منها ولو في ركعة أخري .. بطلت، لمنافاة نيته قصده، بخلاف ما لو نوى في الأولي أن يفعل في الثانية منافيا للصلاة كأكل .. فإنها لا تبطل قطعا، قاله في (التحقيق) و (المجموع)، وفرق فيه: بأنه في الأولي غير جازم بالنية، ونازي الفعل في الثانية جازم، والحرام فعل المنافي ولم يوجد.

وحاصلة: أن منافي النية يؤثر في الحال، ومنافي الصلاة إنما يؤثر عند وجوده، بأن يشرع فيه، فلو نوى فعلات متوالية وفعل واحدة .. بطلت صلاته كما مر، وكأن تردد في قطعها، أو علقه بشئ وإن لم يعلم وجوده، لمنافاته الجزم، وكتعليق قطع الإيمان، ولا عبرة بما يجري في الفكر أنه لو تردد كيف يكون الحال، فإن الموسوس قد يبتلي به، وقد يقع في الإيمان فلا عبرة به، وكأن نقل النية من فرض إلى فرض آخر، ومن فرض إلى نفل بلا مسوغ، أو من نفل إلى نفل آخر.

وخالفت الصلاة فيما تقرر الصوم والاعتكاف فلا يبطلان بشئ منه، لأن الصلاة يتعلق تحرمها وتحللها بالاختيار فيكون تأثرها بضعف النية فوق تأثر الصوم، ولأنها أفعال وهي أحوج إلى النية من التروك، وألحق الاعتكاف بالصوم، لأنه أشبه به، ومثلهما الحج والعمرة.

ص: 325

[تسبيح الذكر وتصفيق الأنثي لما ينوبهما في الصلاة]

ولما كان الفعل القليل قد يندب في الصلاة .. ذكر بقوله:

(ندبا لما ينوبه يسبح

وهي بظهر كفها تصفح)

أي: يسبح الذكر ندبا، لأجل ما ينوبه في صلاته، كتنبيه إمامه، وإذنه لداخل، وإنذاره أعمي، وهي، أي: الأنثي تصفح، أى: تصفق لذلك ندبا بضرب ظهر كفها اليمين على بطن اليسرى، أو ظهر كفها اليسرى على بطن اليمني، أو ظهرها، أى: أو تضرب بطن كفها اليمين على ظهر اليسرى أو عكسه، لخبر (الصحيحين):(من نابه شئ في صلاته .. فليسبح، فإنه إذا سبح .. التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء)، فلو صفق الذكر وسبحت الأنثي .. جاز، لكن خالفا السنة، قال في (المجموع): والخنثي كالأنثى.

ومحل التسبيح: إذا قصد الذكر فقط، أو قصده مع الإعلام كما علم من كلامه فيما مر، قال في (التحقيق): والتسبيح والتصفيق مندوبان لقربة، أى: مندوبة، ومباحان لمباح. انتهى، وواجبان لواجب، ولا ينبغي للأنثى أن تضرب بطن كفها على بطن الأخري، فإن تعمدته لاعبة عالمة بتحريمه .. بطلت صلاتها ولو بمرة واحدة، كما علم مما مر.

[استحباب الصلاة إلى سترة]

ويسن للشخص إن يصلي إلى سترة، كجدار أو سارية أو عصا مغروزة ويميلها عن وجهه، فإن لم يجد .. افترش مصلي، فإن لم يجد .. خط خطأ، كما في (التحقيق) و (شرح مسلم) وإن قال في (المهمات): الحق أنهما في مرتبة.

ص: 326

ويعتبر في السترة: أن يكون بينها وبين المصلي ثلاثة أذرع فأقل، وكون ارتفاع الشاخص ثلثي ذراع فأكثر، قال في (المهمات): والقياس: أن [بين] المصلي والخط كقدر السترة، وحينئذ فيحرم المرور بين المصلي وسترته وإن لم يجد المار سبيلا، وللمصلي وغيره حينئذ الدفع، بل يندب وإن أدي إلى قتله بالتدريج.

نعم، لو وجد فرجة أمامه .. خرق الصفوف ليصليها، ولا تبطل صلاته بمرور شئ بين يديه.

ومحل تحريم المرور: إذا لم يقصر المصلي، فإن قصر، كأن وقف بقارعة الطريق .. فلا تحريم، بل ولا كراهة، كما قاله في (الكفاية) أخذا من كلامه، وحينئذ فلا دفع، فإن لم يصل إلى سترة أو تباعد عنها فوق ثلاثة أذرع، أو كانت دون ثلثي ذراع .. لم تحصل السنة، ولم يحرم المرور، ولم يكن له الدفع.

[بطلان الصلاة بترك ركن أو فوات شرط]

(ويبطل الصلاة ترك ركن أو

فوات شرط من شروط قد مضوا)

أي: ويبطل الصلاة ترك ركن من أركانها، كالاعتدال والجلوس بين سجدتين ولو في النافلة، لأن الماهية تنتفي بانتفاء أجزائها، ويبطلها فوات شرط من شروط لها قد مضت كاستقبال القبلة، لاستحالة حصول المشروط بدون شرط من شروطه.

ص: 327

[مكروهات الصلاة]

ولما فرغ من ذكر شروطها .. ذكر مكروهاتها فقال:

(مكروهها: بكف ثوب أو شعر

ورفعه إلى السماء بالبصر)

(ووضعه يدا على خاصرته

ومسح ترب وحصى عن جبهته)

(وحطه اليدين في الأكمام

في حالة السجود والإحرام)

(والنقر في السجود كالغراب

وجلسة الإقعاء كالكلاب)

(تكون أليتاه مع يديه

بالأرض لكن ناصبا ساقيه)

(والالتفات لا لحاجة له

والبصق لليمين أو للقبلة)

ذكر في هذه الأبيات من مكروهات الصلاة تسعة أشياء:

أولها: كف ثوبه أو شعره، لخبر:(أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف ثوبا ولا شعرا) رواه الشيخان واللفظ لمسلم، ولفظ البخاري:(أمرنا أن نسجد)، (ولا نكف)، والمعني في النهي عن كفه: أنه يسجد معه، قال في (المجموع): والنهي لكل من صلي كذلك، سواء أتعمده للصلاة، أم كان قبلها لمعني وصلي على حاله، وذكر من ذلك: أن يصلي وشعره معقوص، أو مردود تحت عمامته، أو كمه مشمر.

ثانيهما: رفعه بصره إلى السماء، لخبر البخاري:(ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ ! لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم)، ولخبر الحاكم في (مستدركه):(أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلي .. رفع بصره إلى السماء فنزلت: {قد افلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون} [سورة المؤمنون: 1، 2] .. فطأطأ رأسه).

ص: 328

ثالثهما: وضعه يده على خاصرته، لخبر (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي أن يصلي الرجل مختصرا)، والمرأة في ذلك كالرجل كما ذكره في (المجموع)، ولخبر بن حبان في (صحيحه):(الاختصار في الصلاة راحة أهل النار)، قال ابن حبان: يعني: فعل اليهود والناصري وهم أهل النار، لأنه فعل المتكبرين، وفي (شرح مسلم): أن إبليس أهبط من الجنة كذلك، ويستثني ما إذا وضعها لحاجة، كعلة بجنبه.

رابعها: مسح التراب والحصا عن جبهته، لخبر (الصحيحين): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: (إن كانت فاعلا .. فواحدة)، وروي البيهقي عن أبي ذر قال:(مسح الحصا واحدة، وألا افعلها أحب إلي من مئة ناقة سوداء الحدق)، ورواه ابن خزيمة في (مسنده)، وقال الذهبي: إسناده صالح.

خامسها: وضعه يديه في كميه أو غيرهما في حالتي إحرامه وسجوده، لأن كشفهما أنشط للعبادة وأبعد عن التكبر، وظاهر إطلاقهم: أنه لا فرق بين البرد والحر وغيرهما، وقد قال في (الأم): أحب أن يباشر براحتيه الأرض في الحر والبرد.

سادسها: النقر في السجود، كما ينقر الغراب بمنقاره فيما يريد التقاطه، والمراد: كراهة تخفيف المصلي سجوده، بحيث لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره في الأرض، لخبر أبي داوود وابني خزيمة وحبان في (صحيحيهما):(نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع).

سابعها: الإقعاء في جميع جلسات الصلاة، بحيث تكون أليتاه مع يديه على الأرض وينصب ساقيه، للنهي عنه كما أخرجه الحاكم وصححه، وما ذكره المصنف في تفسيره من

ص: 329

وضع يديه على الأرض .. تبع فيه أبا عبيدة معمر بن المثني، وظاهر كلام الشيخين وغيرهما: أن كراهته لا تتقيد بذلك، ومعناه: أن يلصق ألييه بالأرض وفخذيه، وينصب فخذيه وساقيه كهيئة المستوفز، ووجه النهي عنه: ما فيه التشبه بالكلاب والقردة، كما وقع التصريح به في بعض الروايات.

ثامنها: الالتفات بوجهه يمينا وشمالا من غير تحويل صدره عن القبلة، لخبر البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)، ولخبر أحمد بإسناد حسن عن أبي هريرة قال:(أوصاني خليلي بثلاث، ونهاني عن ثلاث، نهاني عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإيقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب) لا حاجة له، أي: للالتفات في يكره، لخبر أبي داوود بإسناد صحيح:(أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فأرسل فارسا إلى شعب، من أجل الحرس، فجعل يصلي وهو يلتفت إلى الشعب).

تاسعها: البصق عن اليمين أو للقبلة، لخبر (الصحيحين):(إذا كان أحدكم في الصلاة .. فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه)، ثم غن كان في المسجد .. بصق في ثوبه وفركه، أو حك بعضه ببعض، أو في غيره .. بصق في ثوبه أو تحت قدمه، والأول أولي، وفي (الروضة) أن البصاق في المسجد خطيئة، وفي (التحقيق) و (المجموع) أنه حرام، ويجب الإنكار على فاعله، وعلى من دلكها بأسفل نعله الذي داس به نجسا أو قذرا، لأنه ينجس المسجد أو يقذره.

قال بعض المتأخرين: وينبغي أن يستثني من كراهة البصاق عن يمينه: ما إذا كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإن بصاقه عن يمينه أولي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره.

وقول المصنف: (أو شعر) بدرج الهمزة للوزن، وقوله:(ورفعه) وما عطف عليه إلي

ص: 330

آخره يجوز جره عطفا على المجرور بالباء، ورفعه عطفا على الجار والمجرور، فإنه في محل خبر قوله:(مكروهها).

ومما يكره أيضا: وضع يده على فمه بلا حاجة، والمبالغة في خفض الرأس في ركوعه، والإشارة بما يفهم لا لحاجة، كرد السلام ونحوه، والجهر في غير موضعه، والإسرار في غير موضعه، والجهر خلف الإمام.

ص: 331