الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة الجمعة
بضم الميم وإسكانها وفتحها، وحكي كسرها، وهي كغيرها من الخمس في الأركان والشروط، وتختص باشتراط أمور في لزومها، وأمور في صحتها، والباب معقود لذلك مع آداب تشرع فيها.
(وركعتان فرضها لمؤمن
…
كلف حرٍّ ذكرٍ مستوطن)
(ذي صحةٍ، وشرطها: في أبنيه
…
جماعةً، بأربعين- وهيه)
(بصفة الوجوب- والوقت، فإن
…
يخرج يصلوا الظهر بالبنا، ومن)
(شروطها: تقديم خطبتين
…
يجب أن يقعد بين تين)
[شروط وجوب الجمعة]
أي: والجمعة ركعتان، فرضها فرض عين على كل مؤمن مكلف؛ أي: بالغ عاقل حر ذكر مستوطن- أي: مقيم إقامة تمنع حكم السفر بمحل الجمعة وإن لم يتوطن بها، أو حيث يبلغ نداؤها، وعبر بـ (مستوطن) لأنه أحال عليه فيما سيأتي صحتها اختصاراً، وإلا .. فالشرط هنا الإقامة؛ كما حملت عليه كلامه- صحيح.
فلا جمعة على كافر، ولا صبي ومجنون؛ كغيرها من الصلوات، قال في "الروضة": والمغمى عليه كالمجنون، بخلاف السكران، فإنه يلزمه قضاؤها ظهراً كغيرها.
ولا على غير الحر ولو مكاتباً، أو مبعضاً وإن وقعت في نوبته حيث تكون مهايأة، ولا على امرأة وخنثى، ومسافر سفراً مباحاً ولو قصيراً، ومريض؛ أي: ومعذور بمرخص في ترك الجماعة.
والأصل في ذلك: قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] أي: فيه {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} وقال صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن ودعهم
الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين"، وقال: "رواح الجمعة واجب على كل محتلم"، وقال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض"، وقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فعليه الجمعة، إلا امرأة، أو مسافر، أو عبد، أو مريض"، روى الأول: مسلم، والثاني: النسائي بإسناد على شرط مسلم، والرابع: الدارقطني وغيره، والثالث: أبو داوود عن طارق بن شهاب بإسناد على شرط الشيخين، إلا أنه قال: طارق رأى النبي ولم يسمع منه شيئاً، قال في "المجموع": وما قاله لا يقدح في صحة الخبر؛ لأنه على هذا التقدير مرسل صحابي، وهو حجة عند كل العلماء، إلا أبا إسحاق الإسفراييني.
ويسن لمسافر وصبي وعبد حضورها إذا أمكن، ولهم الانصراف ويصلون الظهر، وكذا النساء، لا المريض أو نحوه؛ فيحرم انصرافه إن حضر في الوقت، ولم يزد ضرره بانتظاره، والفرق: أن المانع في المريض ونحوه من وجوب الجمعة: المشقة في حضور الجامع، وقد حضروا متحملين لها، وتعب العود لا بد منه، والمانع في غيرهم: صفات قائمة بهم لا تزول بالحضور.
نعم؛ إن أقيمت الصلاة .. فليس للمعذورين الانصراف، فإن أحرم بها المريض والمسافر ونحوهما، وكذا المرأة والعبد والخنثى .. أجزأتهم وحرم الخروج منها.
وتلزم شيخاً هرماً وزمناً وجدا مركباً ولم يشق الركوب، وأعمى وجد قائداً، وأهل القرية إن كان فيهم جمع تصح به الجمعة .. لزمتهم فيها، فإن صلوها في مصر .. سقط الفرض وأثموا على الصحيح، وإلا: فإن بلغهم صوت عال في هدوء من طرف يليهم لبلد جمعة، والمستمع مصغ معتدل السمع .. لزمتهم، وإلا .. فلا، ولو سمعوا من بلدين .. تخيروا بينهما، ويشترط استواء الأرض في الأصح، فلو سمعوا لكونهم في علو .. لم تجب، أو لم يسمعوا لكونهم في وهدة .. وجبت، لكن عكسه في "الشرح الصغير".
ولو لازم أهل الخيام موضعاً: فإن سمعوا النداء .. لزمتهم، وإلا .. فلا، والعذر الطارئ
بعد الزوال يبيح تركها، إلا السفر فيحرم إنشاؤه إلا أن يمكنه الجمعة، أو يتضرر بتخلفه عن الرفقة، وقبل الزوال كبعده ولو كان السفر طاعة، ومتى حرمناه فسافر .. لم يترخص حتى تفوت الجمعة، فمنه ابتداء سفره.
ويسن لمن أمكن زوال عذره تأخير ظهره إلى اليأس من الجمعة؛ وذلك برفع الإمام رأسه من الركوع الثاني، ولغيره كزمن وامرأة تعجيلها في الأصح، وتسن الجماعة في ظهرهم في الأصح، وإخفاؤها إن خفي عذرهم.
ولو زال العذر بعد فراغه من الظهر وأمكنته الجمعة .. لم تلزمه إلا الخنثى، وغير المعذور إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة .. لم تصح، وفواتها بسلام الإمام منها.
[شروط صحة الجمعة]
وقوله: (وشرطها) أي: الجمعة: كونها في أبنية من خطة أوطان المجمعين، سواء أكانت الأبنية من حجر أم طين، أم خشب ام قصب، أم سعف أم غيرها، وسواء في ذلك المسجد والفضاء والدار، بخلاف خارج الخطة الذي ينشأ منه سفر القصر؛ لأنها لم تقم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين إلا في دار الإقامة كما هو معلوم، وهي ما ذكر، بخلاف الخيام وإن استوطنها أهلها دائماً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر المقيمين حول المدينة بها، فإنهم على هيئة المستوفزين.
ولو انهدمت أبنية الخطة، فأقام أهلها على عمارتها .. لزمتهم الجمعة فيها؛ لأنها وطنهم، وسواء أكانوا في مظال أم لا، ولا تنعقد في غير بناء إلا في هذه؛ ذكره في "المجموع".
وكونها جماعة؛ لأنها لم تفعل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فمن بعدهم إلا كذلك كما هو معلوم، وشرطها فيها كشرطها في غيرها؛ كنية الاقتداء، والعلم بانتقالات الإمام، وعدم التقدم عليه، وغير ذلك مما مر في (باب صلاة الجماعة)، وزيادة: أن تقام بأربعين رجلاً ولو بالإمام في كل من الخطبة والجمعة؛ لخبر كعب بن مالك قال: (أول من جمع بنا في المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في نقيع الخضمات وكنا أربعين) رواه أبو داوود وغيره، وروى البيهقي عن ابن مسعود:
(أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلاً)، قال في "المجموع": قال أصحابنا: وجه الدلالة: أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم تثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه، قال: وأما خبر: (انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر) .. فليس فيه أن ابتداءها باثني عشر، بل يحتمل عودهم أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة، وفي "مسلم":(انفضوا في الخطبة)، وفي رواية للبخاري:(انفضوا في الصلاة)، وهي محمولة على الخطبة جمعاً بين الأخبار.
واعلم: أنه لا يلزم من اشتراط العدد اشتراط الجماعة، ولا العكس؛ لانفكاك كل منهما عن الآخر، أما العدد .. فلأنه قد يحضر أربعون من غير جماعة، وأما الجماعة .. فلأنها للارتباط الحاصل بين صلاتي الإمام والمأموم؛ وهو لا يستدعي عدد الأربعين؛ قاله الرافعي.
وقوله: (وهبه) أي: الجماعة الأربعون بصفة الوجوب؛ بأن يكون كل منهم مسلماً مكلفاً حراً ذكراً، مستوطناً بمحل الجمعة؛ أي: لا يظعن عنه شتاء ولا صيفاً إلا لحاجة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجمع بحجة الوداع مع عزمه على الإقامة أياماً؛ لعدم الاستيطان، وكان يوم عرفة فيها يوم الجمعة؛ كما ثبت في "الصحيحين"، وصلى به الظهر والعصر تقديماً؛ كما ثبت في حديث مسلم، ولكن الصحيح: انعقادها بالمرضى؛ لكمالهم، وإنما لم تجب عليهم تخفيفاً.
قاعدة
[أقسام الناس في الجمعة]
الناس في الجمعة ستة أقسام:
الأول: من تلزمه وتنعقد به؛ وهو من اجتمعت فيه هذه الصفات المعتبرة ولا عذر له.
والثاني: من تنعقد به ولا تلزمه؛ وهم المعذورون بمرض ونحوه.
والثالث: من لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه؛ وهو من به جنون، أو إغماء، أو كفر أصلي.
والرابع: من لا تلزمه ولا تنعقد به، لكن تصح منه؛ وهو العبد، والمبعض، والمسافر، والمقيم خارج البلد إذا لم يسمع النداء، والصبي المميز، والأنثى، والخنثى.
والخامس: من تلزمه ولا تصح منه؛ وهو المرتد.
والسادس: من تلزمه وتصح منه ولا تنعقد به؛ وهو المقيم غير المتوطن، والمتوطن خارج بلدها إذا سمع نداءها.
[شرط الجمعة فعلها وقت الظهر]
وشرطها: الوقت؛ أي: وقت الظهر؛ بأن تفعل مع خطبتيها كلها فيه؛ لخبر البخاري عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس)، وخبر مسلم عن سلمة بن الأكوع قال:(كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتبع الفيء)، فلا يجوز شيء من ذلك قبل وقت الظهر ولا بعده.
ولو جاز تقديم الخطبة .. لقدمها صلى الله عليه وسلم؛ لتقع الصلاة أول الوقت.
ولو ضاق الوقت عن الواجب .. صلوا ظهراً، ولو شرعوا فيه ووقع بعض الصلاة ولو تسليمة المسبوقة خارجه .. صلوا الظهر وجوباً؛ لأنها عبادة لا يجوز الابتداء بها بعده، فتنقطع بخروجه كالحج، وإلحاقاً للدوام بالابتداء كدار الإقامة؛ بناء على ما فعل منها، فيسر القراءة من حينئذ؛ لأنهما صلاتا وقت واحد فجاز بناء أطولهما على أقصرهما؛ كالإتمام والقصر.
ولو شك في أثنائها في خروجه .. أتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاؤه.
[من شروط الجمعة تقديم الخطبتين]
ومن شروطها: تقديم خطبتين يجب أن يقعد بينهما مطمئناً؛ للاتباع.
قال في "المجموع": ثبتت صلاته صلى الله عليه وسلم بعد خطبتين، وقال صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولخبر "الصحيحين" عن ابن عمر قال: (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما)، وهذا بخلاف العيد، فإن الخطبتين فيه مؤخرتان؛ للاتباع، ولأن خطبة الجمعة شرط، والشرط مقدم على مشروطه، ولأن الجمعة إنما تؤدي جماعة فأخرت؛ ليدركها المتأخر، وللتمييز بين الفرض والنفل.
ولو خطب قاعداً لعجزه عن القيام .. لم يضطجع بينهما للفصل، بل يفصل بينهما بسكتة قدر الطمأنينة للجلوس.
وأشار بقوله: (ومن شروطها) إلى أنه لم يستوفها؛ إذ بقي منها: ألا يسبقها، أو يقارنها جمعة في بلدتها، إلا إذا كبرت وعسر اجتماعهم في موضع واحد؛ فيجوز التعدد في الأصح بحسب الحاجة، وحيث منعنا فسبقت جمعة .. فهي الصحيحة، ولا أثر لكون السلطان مع الثانية في الأظهر.
والأصح: أن السبق بالإحرام، وأنه بالفراغ منه، ولو أخبروا فيها بكونهم مسبوقين .. سن استئنافها ظهراً، ولهم إتمام الجمعة ظهراً، وإن وقعتا معاً، أو شك .. بطلتا، واستؤنفت جمعة، وإن سبقت إحداهما ولم تتعين، أو تعينت ونسيت .. صلوا ظهراً.
وقوله: (وهيه) الهاء فيه للسكت.
[أركان الخطبتين]
(ركنهما: القيام، والله أحمد
…
وبعده صل على محمد)
(وليوص بالتقوى أو المعنى كما
…
نحو: (أطيعوا الله) في كلتيهما)
(والستر، والولاء بين تين
…
وبين ما صلى، وبالطهرين)
(ويطمئن قاعداً بينهما
…
ويقرأ الآية في إحداهما)
(واسم الدعا ثانية للمؤمنين
…
وحسن تخصيصه بالسامعين)
أفاد كلامه: أن أركان الخطبتين عشرة أشياء، وأراد بها ما لا بد منه فيهما، وإلا فأركانهما خمسة، وهي: حمد الله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوصية بالتقوى، وقراءة آية، والدعاء للمؤمنين، وما عداها من شروطهما:
أولها: القيام فيهما للقادر عليه؛ للاتباع، روى مسلم عن جابر بن سمرة:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين يجلس بينهما، وكان يخطب قائماً)، ولأنهما ذكر يختص بالصلاة وليس من شرطه القعود، فيشترط فيه القيام؛ كالقراءة والتكبير.
فإن عجز عنه .. خطب قاعداً، فإن عجز .. فمضطجعاً، والأولى: أن يستنيب كالصلاة، ويجوز الاقتداء به سواء أقال: لا أستطيع القيام أم سكت؛ لأن الظاهر أنه إنما ترك القيام لعجزه، فإن بان أنه كان قادراً .. فهو كما لو بان محدثاً.
والحكمة في جعل القيام والقعود شرطين لهما وركنين للصلاة: أن الخطبة ليست إلا الذكر والوعظ، ولا شك أن القيام والقعود ليسا بجزأين لها، بخلاف الصلاة؛ فإنها جملة أعمال، وهي كما تكون أذكاراً تكون غير أذكار.
ثانيها: حمد الله تعالى فيهما؛ للاتباع، روى مسلم عن جابر قال: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه
…
) الحديث.
وأشار المصنف بقوله: (والله أحمد) إلى إجزاء نحو: (أحمد الله)، أو (نحمد الله)، أو (حمداً لله)، أو (لله الحمد)، أو (حمدت الله)، أو (أنا حامد لله)، وقد صرح به الجيلي وغيره؛ وإن صرح القاضي أبو الطيب وغيره بتعين (الحمد لله) وقد خرج بلفظ (الحمد) نحو: لفظ التكبير والثناء، وبلفظ (الله) نحو: لفظ (الرحمن الرحيم).
ثالثهما: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما؛ كـ (أصلي)، أو (نصلي على الرسول)، أو (محمد)، أو (الماحي)، أو (العاقب)، أو (الحاشر)، أو (البشير)، أو (النذير) لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى .. افتقرت إلى ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم؛ كالأذان والصلاة.
وخرج بلفظ (الصلاة) نحو: لفظ الرحمة، وبالصلاة عليه: الإتيان فيها بلفظ الضمير وإن تقدم اسمه عليه، والصلاة على غيره.
رابعها: الوصية بالتقوى فيهما؛ للاتباع، روى مسلم عن جابر:(أنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب على الوصية بالتقوى)، ولأن معظم مقصود الخطبة الوصية، ولا يتعين لفظها،
بل يكفي ما بمعناهما من الوعظ؛ نحو: أطيعوا الله وامتثلوا أوامره، واجتنبوا مناهيه؛ لأن غرضها الوعظ وهو حاصل بغير لفظها، فلا يكفي التحذير من الاغترار بالدنيا وزخرفتها، فقد يتواصى به منكرو الشرائع، بل لا بد من الحث على طاعة الله تعالى واجتناب معاصيه.
وقوله: (في كلتيهما) أي: يجب القيام، وحمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوصية بالتقوى في كل واحدة من الخطبتين.
خامسها: الستر للعورة في الخطبتين كالصلاة؛ كما جرى عليه السلف والخلف في الجمعة.
سادسها: الولاء بين الخطبتين، وكلماتهما، وبينهما وبين الصلاة؛ كما جرى عليه السلف والخلف، ولأن له أثراً ظاهراً في استمالة القلوب، والصلاة والخطبة شبهتا بصلاتي الجمع.
سابعها: الطهران في الخطبتين؛ أي: طهر الحدث الأصغر والأكبر، وطهر الخبث في البدن والثوب والمكان؛ كما جرى عليه السلف والخلف، فلو تطهر وعاد .. وجب استئناف الخطبة وإن لم يطل الفصل كالصلاة.
ثامنها: طمأنينة الخطيب حال كونه قاعداً بين الخطبتين؛ كما في الجلوس بين السجدتين؛ كما جرى عليه السلف والخلف.
تاسعها: قراءة آية؛ للاتباع، رواه الشيخان، وسواء في الآية الوعد والوعيد والحكم والقصة في إحدى الخطبتين، لا بعينها؛ لأن المنقول القراءة في الخطبة دون تعيين، ويعتبر فيها كونها مفهمة؛ فلا يكفي {ثم نظر} وإن عد آية، ولو قرأ شطر آية طويلة .. جاز.
قال في "الروضة" كـ"أصلها": ولا تجزئ آية موعظة بقصد إيقاعها عن الوعظ والقراءة، ولا آيات شاملة للأركان؛ لأنها لا تسمى خطبة، ولو أتى ببعضها في ضمن آية .. جاز.
عاشرها: ما يقع عليه اسم دعاء للمؤمنين في الثانية؛ كما جرى عليه السلف والخلف، ولأن الدعاء يليق بالخواتم، والمراد بـ (المؤمنين): الجنس الشامل للمؤمنات، وبهما عبر في "الوسيط"، وفي التنزيل:{وكانت من القانتين} [التحريم: 12].
قال الإمام: وأرى أن يكون الدعاء متعلقاً بأمور الآخرة غير مقتصر على أوطار الدنيا، وحسن تخصيصه بالسامعين؛ كأن يقول:(رحمكم)، أما الدعاء للسلطان بخصوصه .. ففي "المهذب": لا يستحب؛ لما روي عن عطاء: أنه محدث، وفي "شرحه": اتفق أصحابنا على أنه لا يجب ولا يستحب، والمختار: أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه ونحوها، ويستحب بالاتفاق الدعاء لأئمة المسلمين، وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك، ولجيوش الإسلام، وفي "الروضة" بعض ذلك.
[من شروط الخطبتين]
ومن شروطها: كونها عربية على الأصح، فإن لم يكن في المصلين من يحسن العربية خطب أحدهم بلسانه، ويجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة، فإن مضت مدة إمكان التعلم ولم يتعلمها أحد منهم .. عصوا كلهم بذلك ولا جمعة لهم، بل يصلون الظهر، هذا ما في "المجموع"، وهو مبني على أن فرض الكفاية على البعض، وقد اختاره بعضهم.
وما في "الروضة" كـ"أصلها": من أنه يجب أن يتعلهما كل واحد منهم، وأنهم إن لم يتعلموا عصوا .. مبني على قول الجمهور- وهو الأصح-: أن فرض الكفاية على الجميع ويسقط بفعل البعض، وسقطت لفظة (كل) من بعض نسخ "الشرح"، ويدل عليها ضمير الجمع في (لم يتعلموا)، ومعناه: انتفى التعلم عن كل واحد منهم.
وأجاب القاضي حسين عن سؤال: ما فائدة الخطبة بالعربية إذا لم يعرفها القوم؟ بأن فائدتها العلم بالوعظ من حيث الجملة، ويوافقه ما في "الروضة" كـ"أصلها": فيما لو سمعوا الخطبة ولم يفهموا معناها .. أنها تصح.
ومنها: إسماع العدد الذي تنعقد به الجمعة أركان الخطبتين؛ لأن مقصودها الوعظ وهو لا يحصل إلا بالإبلاغ، فلا يكفي الإسرار كالأذان، فلو كانوا كلهم أو بعضهم صماً .. لم
تصح؛ كبعدهم عنه، وكشهود النكاح، وعلم من ذلك أنه يجب عليهم السماع، فيشترط الإسماع والسماع؛ وبه صرح الشيخان وغيرهما.
وقول الناظم: (الدعا) بالقصر للوزن.
[سنن الجمعة]
(سننها: الغسل وتنظيف الجسد
…
ولبس أبيضٍ، وطيب إن وجد)
(وبكر المشي لها من فجر
…
وازداد من قراءةٍ وذكر)
(وسنة الخطبة بالإنصات
…
والخف في تحية الصلاة)
ذكر في هذه الأبيات من سنن الجمعة تسعة أشياء:
الأول: الغسل لمن يريد حضورها وإن لم تجب عليه، بل يكره تركه؛ لأخبار "الصحيحين":"إذا جاء أحدكم الجمعة .. فليغتسل" أي: إذا أراد مجيئها، و"غسل" الجمعة واجب على كل محتلم"، و"حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً"، زاد النسائي: "هو يوم الجمعة"، وخبر ابن حبان وأبي عوانة: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء .. فليغتسل".
وصرفها عن الوجوب أخبار، منها: خبر: "من توضأ يوم الجمعة .. فبها ونعمت، ومن اغتسل .. فالغسل أفضل" رواه الترمذي وحسنه، وخبر مسلم:"من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت .. غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام".
ووقته: من الفجر؛ لخبر "الصحيحين": "من اغتسل يوم الجمعة
…
" وسيأتي بتمامه، وتقريبه من ذهابه أفضل؛ لأنه أفضى إلى الغرض من انتفاء الرائحة الكريهة حال الاجتماع.
فإن عجز عن الغسل حساً أو شرعاً .. تيمم بنية الغسل، وحاز الفضيلة؛ كسائر الأغسال المسنونة.
الثاني: تنظيف الجسد؛ بإزالة الشعر والظفر والروائح الكريهة كالصنان؛ لأنه يتأذى به، فيزال بالماء ونحوه.
الثالث: لبس الثياب البيض؛ لخبر: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم" رواه الترمذي وغيره، وصححوه.
قال في "الروضة و"أصلها": فإن لبس مصبوغاً .. فما صبغ غزله ثم نسج كالبرد لا عكسه، ويستحب أن يزيد الإمام في حسن الهيئة والتعمم، ويرتدي؛ للاتباع، ولأنه منظور إليه.
الرابع: التطيب إن وجد الطيب؛ لخبر: "من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته .. كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها" رواه ابن حبان والحاكم، وصححه على شرط مسلم، وأحب طيب الرجال: ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء: ما ظهر لونه وخفي ريحه.
قال الشافعي: من نظف ثوبه .. قل همه، ومن طاب ريحه .. زاد عقله.
ولا بأس للعجوز بحضورها بإذن زوجها أو سيدها بلا طيب وتزين.
الخامس: التبكير إليها؛ لخبري "الصحيحين": "على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول"، و"من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة" أي: كغسلها "ثم
راح" أي: في الساعة الأولى .. "فكأنما قرب بدنة" أي: واحداً من الإبل "ومن راح في الساعة الثانية .. فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة .. فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة .. فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة .. فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام .. حضرت الملائكة يستمعون الذكر".
وروى النسائي: في الخامسة: "كالذي يهدي عصفوراً"، وفي السادسة:"بيضة".
والساعات: من طلوع الفجر؛ كما جرى عليه المصنف، لا الشمس ولا الزوال على الأصح؛ لأنه أول اليوم شرعاً، وبه يتعلق جواز غسل الجمعة.
قال في "الروضة" كـ"أصلها": وليس المراد الساعات الفلكية، وإلا .. لاختلف الأمر باليوم الشاتي والصائف، وفي خبر أبي داوود والنسائي بإسناد صحيح:"يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة" وهو شامل لجميع أيامه، بل المراد: ترتيب الدرجات وفضل السابق على من يليه؛ لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة.
وقال في شرحي "المهذب" و"مسلم": بل المراد الفلكية، لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الآخر، وبدنة المتوسط متوسطة، وعلى هذا القياس؛ كما في درجات الجمع الكثير والقليل.
ثم محل ندب التبكير في المأموم، أما الإمام .. فيندب له التأخير إلى وقت الخطبة؛ اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه؛ قال الماوردي، ونقله في "المجموع" عن المتولي وأقره.
السادس: المشي إليها، بل وإلى غيرها من العبادات كعيادة المريض، فلا يركب إلا لعذر؛ للحث على ذلك مع غيره في خبر رواه أصحاب السنن الأربعة، وحسنة الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين.
السابع: إكثار القراءة والذكر؛ أي: أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقة، وحضوره قبل الخطبة، وفي التنزيل:{في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور: 36]، وفي "الصحيحين":"إن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه"، وفي "مسلم":"إذا كان أحدكم يعمد إلى الصلاة .. فهو في صلاة"، ويسن أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها، وأن يقرأ (سورة الكهف) فيهما.
الثامن: الإنصات للخطبة؛ لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرءان فاستعموا له وأنصتوا} [الأعراف: 204] فسره كثيرون بالخطبة، وسميت قرآناً؛ لاشتمالها عليه، والإنصات: السكوت، والاستماع: شغل السمع بالسماع.
وصرف الأمر عن الوجوب خبر البيهقي بإسناد جيد عن أنس: أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال: متى الساعة؟ فأومأ الناس إليه بالسكوت، فلم يقبل، وأعاد الكلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة:"ماذا أعددت لها؟ " قال: حب الله ورسوله، قال:"إنك مع من أحببت"، وجه الاستدلال: أنه لم ينكر عليه الكلام، ولم يبين له وجوب السكوت، وأما خبر مسلم:"إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب .. فقد لغوت" .. فمعناه: تركت الأدب، وندب الإنصات لا ينافي ما مر من وجوب السماع، ويستوي في ندب الإنصات سامع الخطبة وغيره؛ كما صححه في "الروضة" كـ"أصلها"، ونقلاه عن النص وعن قطع كثيرين، ثم نقلا عنهم: أن غير السامع بالخيار بين الإنصات والاشتغال بالتلاوة والذكر، وكلام "المجموع" يقتضي أن الثاني أولى.
التاسع: تخفيف ركعتي التحية لداخل المسجد حال الخطبة؛ ليتفرغ لسماعها، ولخبر مسلم:"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب .. فليركع ركعتين وليتجوز فيهما"،
قال في "الأم": وأرى للإمام أن يأمره بهما، فإن لم يفعل .. كرهت له، فإن لم يكن صلى الراتبة .. صلاها وحصلت التحية، أما غير التحية من الصلوات .. فيحرم ابتداؤها إذا جلس الخطيب على المنبر وإن لم يسمع الخطبة.
وقوله: (أبيضٍ) بصرفه؛ للوزن.