الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الوضوء
[تعريف الوضوء لغة وشرعاً]
هو بضم الواو: الفعل، وبفتحها: الماء الذي يتوضأ به، وقيل: بالفتح فيهما، وقيل: بالضم فيهما، والمبوب له: الوضوء بمعنى الفعل؛ وهو من الوضاءة وهي الحُسن، وفي الشرع: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحاً بنية.
قال الإمام: وهو تعبد لا يعقل معناه؛ لأن فيه مسحاً ولا تنظيف فيه.
وكان فرضه مع فرض الصلاة؛ كما رواه ابن ماجه، واختلفوا في خصوصيته بهذه الأمة، والأصح: عدم الاختصاص، وإنما المختص بها الغرة والتحجيل.
(موجبه: الخارج من سبيل
…
غير منيٍّ موجب التغسيل)
فيه مسألتان:
[بيان موجبات الوضوء]
الأولى: أن موجب الوضوء - أي بكسر الجيم؛ أي: أسبابه؛ لأنه مفرد مضاف فيعم - أربعة:
أحدها: الخارج من سبيل معتاد قبلاً كان أو دبراً، ريحاً كان الخارج ولو من قُبُل أو عيناً، نادراً كان أو معتاداً، نجساً كان أو طاهراً، ولو دودة أخرجت رأسها ثم رجعت.
أما الغائط والبول والريح والمذي .. فبالنصوص، وأما ما عداها .. فبالقياس عليها.
قال النووي في "تحقيقه": وفي موجبه أوجه: أحدها: الحدث وجوباً موسعاً، والثاني: القيام إلى الصلاة ونحوها، وأصحها: هما، وتجري في موجب الغسل، وقيل: بانقطاع حيض ونفاس، فلو استشهدت حائضاً .. لم تغسل إن لم نوجبه بالخروج، وغلا .. فوجهان كالجنب. انتهى.
ولا يخفى أنه يعتبر فيما صححه الانقطاع؛ ليوافق ما صححه الرافعي حيث قال في (باب الغسل): وفيما يجب به الغسل من الحيض والنفاس أوجه: أحدها: بخروج الدم؛ كما يجب الوضوء بخروج البول، والغسل بخروج المني، وثانيها: بالانقطاع؛ لتعليقه في الحديث بإدبار الدم، وأظهرها: بخروجه عند الانقطاع؛ كما يقال: يوجب الوطء العدة عند الطلاق، والنكاح الإرث عند الموت، وكذا القول في البول والمني: خروجهما موجب عند الانقطاع، بل عند القيام إلى الصلاة. انتهى.
ولا يخفى أنه يعتبر القيام إليها أيضاً في موجب الغسل من الحيض والنفاس.
وشمل كلام المصنف: إيجاب الوضوء بخروج الخارج من دبر المشكل، أو من قبليه جميعاً، ومن ثقبة انفتحت في معدة أو فوقها أو تحتها وقد خلق مسدود المخرج الأصلي، أو انفتحت تحت المعدة وقد انسد الأصلي فصار لا يخرج منه شيء وإن لم يلتحم، وهو كذلك.
قال الماوردي: إن المسدود خلقة كعضو زائد من الخنثى .. لا وضوء بمسه، ولا غسل بإيلاجه، والإيلاج فيه، وغذا نقضنا بالخارج من الثقبة مع انسداد الأصلي .. فليس لها حكم الأصلي في إجزاء الحجر، وإيجاب الوضوء بمسها، والغسل بالإيلاج فيها، وإيجاب سترها، وتحريم النظر إليها فوق العورة، لكن رجح في "المجموع" عدم انتقاض الوضوء إذا نام ممكناً لها من مقره.
وخرج بما ذكر: خروج الخارج من غيره؛ كأحد قبلي المشكل، وثقبة انفتحت تحت المعدة مع انفتاح الأصلي، أو انفتحت فيها أو فوقها ولو مع انسداد الأصلي، فلا يوجب الوضوء؛ لأن الأصل أن لا نقض حتى يثبت شرعاً، ولم يثبت إلا فيما مر.
[استثناء خروج المني من موجبات الوضوء]
الثانية: أنه استثنى من إيجاب الوضوء بخروج الخارج: المني الموجب للغسل، وهو منيُّ الشخص نفسه الخارج منه أول مرة؛ كأن أمنى بمجرد نظر أو احتلام ممكناً مقعده، فإنه لا يوجب الوضوء؛ لأنه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوصه، فلا يوجب أدونهما
بعمومه؛ كزنا المحصن لما أوجب أعظم الحدين وهو الرجم بكونه زنا محصن .. لم يوجب أدونهما بكونه زنا.
وفرق بينه وبين إيجاب الحيض والنفاس والوضوء مع إيجابهما الغسل بأمور، منها: أنهما لا فائدة لبقاء الوضوء معهما، وأنهما يمنعان صحة الوضوء فلا يجامعانه، بخلاف خروج المني يصح معه الوضوء في صورة سلسل المني فيجامعه.
وخرج بقوله: (موجب التغسيل): ما لا يوجبه؛ كأن جومعت في دبرها، أو في قبلها ولم تقض شهوتها واغتسلت ثم خرج منها، أو استدخل شخص منيه، أو مني غيره، ثم خرج منه .. فإنه يوجب الوضوء؛ كما شمله المستثنى منه أيضاً.
(كذا زوال العقل - لا بنوم كل
…
ممكنٍ - ولمس مرأةٍ رجل)
(لا محرمٍ، وحائلٌ للنقض كف
…
ومس فرج بشرٍ ببطن كف)
[ذكر بقية موجبات الوضوء]
ذكر في هذين البيتين الثلاثة الباقية من موجبات الوضوء:
فثانيها: زوال العقل؛ أي: التمييز؛ فإن فسر بآلة التمييز كما حكي عن الشافعي، أو بأنه صفة يميز بها بين الحسن والقبيح .. فالمراد زوال تصرفه وهو التمييز؛ إما بارتفاعه بالجنون، أو انغماره بالإغماء، أو السكر ونحوه، أو استتاره بالنوم ونحوه.
أما النوم .. فلحديث: "العينان وكاء السَّه فمن نام .. فليتوضأ" رواه أبو داود وغيره، وحسنه المنذري وغيره، وأخرجه ابن السكن في "صحاحه".
وغير النوم مما ذكر أبلغ منه في الذهوب الذي هو مظنة لخروج شيء من دبره؛ كما أشعر به الخبر؛ إذ (السَّه) الدبر، ووكاؤه: حفاظه عن أن يخرج منه شيء لا يشعر به، والعينان: كناية عن اليقظة، ولا يضر في النقض بزوال العقل الذي هو مظنة لخروج الخارج كون الأصل عدم خروج شيء؛ لأنه لما جعل مظنة لخروجه من غير شعور به .. أقيم مقام اليقين؛ كما أقيمت الشهادة المفيدة للظن مقام اليقين في شغل الذمة.
وقوله: (لا بنوم كل ممكن) أي: لا يجب الوضوء بنوم كل شخص ممكن مقعده من مقره
ولو مستنداً إلى ما لو زال لسقط، أو محتبياً بأن يجلس على ألييه رافعاً ركبتيه محتوياً عليهما بيديه أو غيرهما؛ لخبر مسلم عن أنس قال:(كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون)، ولفظ أبي داود: (ينتظرون العشاء فينامون حتى تخفق رؤوسهم
…
) الحديث، وحمل على نوم الممكن مقعده؛ جمعاً بينه وبين خبر:"العينان وكاء السه"، ولأمنه حينئذ خروج الخارج، ولا عبرة باحتمال خروج ريح من القبل؛ لندرته، ولو زالت إحدى ألييه قبل انتباهه .. انتقض وضوؤه ولو كان مستثفراً، أو مع انتباهه أو بعده أو شك .. فلا.
ولا يلحق الإغماء ونحوه مع تمكين المقعدة، بالنوم؛ لأن عدم الشعور معها أبلغ كما مر، ولا تمكين لمن نام على قفاه ملصقاً مقعده بمقره، ولا لمن نام قاعداً وهو هزيل؛ بحيث يكون بين بعض مقعده ومقره تجاف.
وخرج بـ (زوال العقل): النعاس، وحديث النفس، وأوائل نشوة السكر، فلا نقض بها.
ويقال للنعاس: سِنة، والفرق بينه وبين النوم: أن النوم فيه غلبة على العقل وسقوط الحواس، والنعاس ليس فيه ذلك، وإنما فيه فتور الحواس، ومن علامته: سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه، ومن علامات النوم: الرؤيا.
ولو شك في أنه ممكن أو لا، أو في أنه نام أو نعس .. فلا نقض.
وثالثها: لمس ذكرٍ أنثى أجنبيين كبيرين ببشرتهما أو ما في معناها عمداً أو سهواً، بشهوة أو غيرها، سواء في ذلك اللامس والملموس، والأصلي والزائد، والعامل والأشل، من أعضاء الوضوء أو غيرها، والخصي والعنين، والمجبوب والممسوح، والشيخ الهرم والعجوز؛ لقوله تعالى:{أو لامستم النساء} ، أي: لمستم كما قرئ به، والمعنى في إيجابه الوضوء: أنه مظنة للالتذاذ المثير للشهوة.
وقوله: (لا محرم) أي: لا لمس محرم ولو بشهوة؛ فإنه لا يوجب الوضوء؛ لانتفاء المظنة بينهما، و (المحرم): من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فتشمل محرم النسب والرضاع والمصاهرة.
وقوله: (وحائلٌ للنقض كف) أي: وحائل بين بشرتي الذكر والأنثى ولو رقيقاً .. منع نقض الوضوء.
وخرج بما ذكر: اللمس الواقع بين ذكرين، أو أنثيين، أو خنثيين، أو خنثى وأنثى أو ذكر، ولمس العضو المقطوع، والشعر والسن والظفر، ومن لم تبلغ حد الشهوة عرفاً؛ فلا يوجب شيءٌ منها الوضوء.
وشمل كلام المصنف: لمس الميت؛ فإنه ينقض وضوء الحي.
ورابعها: مس فرج آدمي ببطن كف قبلاً كان أو دبراً، من نفسه أو غيره، عمداً أو سهواً، متصلاً أو ذكراً مقطوعاً؛ لخبر:"من مس ذكره .. فليتوضأ"، وفي رواية:"من مس فرجه"، وفي رواية:"ذكراً" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وخبر ابن حبان في "صحيحه":"إذا أفضى أحدهم بيده إلى فرجه، وليس بينهما ستر ولا حجاب .. فليتوضأ"، ومس فرج غيره أفحش من مسه فرجه؛ لهتكه حرمة غيره.
والمراد بمس قبل المرأة: مس ملتقى الشفرين على المنفذ، وبمس الدبر: مس ملتقى المنفذ، وببطن الكف: ما استتر عند وضع إحدى الكفين على الأخرى مع تحامل يسير.
وخرج بـ (الفرج): مس أحد قبلي المشكل، فلا نقض به، إلا أ، يمس الواضح منه مثل آلته، وبـ (الآدمي): البهيمة، فلا ينقض مس فرجها؛ كما لا يجب ستره، ولا يحرم النظر إليه، ولا يتعلق به ختان ولا استنجاء، ولأن لمس إناث البهائم ليس بحدث فكذلك مس فرجها، فعلى هذا: لو أدخل يده في فرجها .. فإنه لا ينقض أيضاً في أصح الوجهين، وبـ (بطن الكف): رؤوس الأصابع وما بينها وحرف الكف، فلا نقض بمس شيء منها؛ لأنها خارجة عن سمت الكف، ولأنه لا يعتمد على المس بها وحدها من أراد معرفة لين الملموس أو خشونته، ولا ينتقض الممسوس.
ولو كان له كفان أو ذكران عاملان .. انتقض الوضوء بمس كل منهما، لا بمس الزائد مع العامل، وينقض مس الإصبع الزائدة إذا كانت على سنن الأصابع.
وقول المصنف: (وحائل): ليس معطوفاً على (محرم) بل هو مبتدأ خبره (كف)، وفي قوله:(كف)، و (كف) جناس تام مستوفىً؛ لاتفاقهما في أنواع الحروف وأعدادها
وهيئاتها وترتيبها، وهما من نوعين، وقوله:(رجل) منصوب، ووقف عليه بحذف الألف على لغة ربيعة، أو مجرد بإضافة (لمس) إليه، وفصل بينهما بمفعوله وهو (امرأة) على لغة؛ كما في قراءة ابن عامر قوله تعالى:{وكذلك زُين لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركائهم} ، بنفص (أولادهم) وجر (شركائهم) بإضافة (قتل) إليه مفصولاً بينهما بمفعوله.
(اختير: من أكل لحوم الجزر
…
ومع يقين حدثٍ أو طُهر)
(إذا طرا شكٌ بضدِّه عمل
…
يقينه، وسابقٌ إذا جهل)
(خذ ضدَّ ما قبل يقينٍ، حيث لم
…
يعلم بشيءٍ فالوضوء ملتزم)
في هذه الأبيات أربع مسائل:
[الوضوء من أكل لحم الجزور]
الأولى: المختار عند النووي وجماعة: وجوب الوضوء من أكل لحم الجزر؛ أي: الإبل نيئاً أو مطبوخاً، قال النووي: وهو وإن شذ مذهباً .. فهو قوي دليلاً؛ لصحة حديثين فيه، واختياره محققون واعتقدوا رجحانه. انتهى.
وقد أشار المصنف إلى حكاية ذلك بلفظ: (اختير) مبنياً للمفعول، وليس في كلامه ما يدل على اختياره، ولكن القول الجديد المشهور وهو المذهب: أنه لا يوجب الوضوء؛ لخبر جابر قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)، وأجيب عن دليل القديم بحمله على الندب، أو على الوضوء اللغوي، قال النووي: وهو جواب غير شاف.
[إذا تيقن حدثاً أو طهراً فطرأ عليه الشك بضده]
الثانية: إذا تيقن حدثاً أو طهراً، ثم طرأ عليه شك بضده .. عمل بيقينه؛ استصحاباً له، والأصل فيه خبر مسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أو لا .. فلا
يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً"، قال النووي وغيره: الشك هنا وفي معظم أبواب الفقه هو: التردد، سواء المستوى والراجح. انتهى.
و(الباء) في قول المصنف: (بضده) متعلقة بقوله: (طرا)، أو بقوله:(شك) فتكون ظرفية، وقوله:(يقينه) منصوب بنزع الخافض، ويصح رفعه على أنه فاعل (عمل) أي: عمل يقينه عمله.
[إذا وجد منه الحدث والطهر وجهل السابق منهما وعلم ما قبلهما]
الثالثة: إذا جهل السابق من الحدث والطهر؛ كأن وجدوا منه بعد الفجر مثلاُ، وجهل السابق منهما .. أخذ بضد ما تيقنه قبلهما من حدث أو طهر، فإن تذكر أنه كان قبلهما محدثاً .. فهو الآن متطهر، سواء اعتاد تجديد الوضوء أم لا؛ لأنه تيقن الطهارة وشك في تأخر الحدث عنها، والأصل عدم تأخره، وإن تذكر أنه كان قبلهما متطهراً .. فهو الآن محدث؛ أي: إن اعتاد تجديد الوضوء؛ لأنه تيقن الحدث وشك في تأخر الطهارة عنه، والأصل عدم تأخرها، فإن لم يعتد تجديده .. لم يأخذ بالضد، ثم بالمثل فيكون الآن متطهراً؛ لأن الظاهر تأخر طهره عن حدثه.
[إذا وجد منه الحدث والطهر وجهل السابق منهما ولم يعلم ما قبلهما]
الرابعة: إن لم يعلم ما قبلهما .. فالوضوء لازم له؛ لتعارض الاحتمالين من غير مرجح، ولا سبيل إلى الصلاة مع التردد المحض في الطهر، وهذا خاص بمن يعتاد التجديد؛ فإن غيره يأخذ بالطهر مطلقاً كما مر، فلا أثر لتذكره وإن خالف فيه بعض المتأخرين.
(فروضه: النية، واغسل وجهكا
…
وغسلك اليدين مع مرفقكا)
(ومسح بعض الرأس، ثم اغسل وعم
…
رجليك مع كعبيك، والترتيب، ثم)
(له شروطٌ خمسةٌ: طهور ما
…
وكونه مميزاً ومسلما)
(وعدم المانع من وصول
…
ماءٍ إلى بشرة المغسول)
(ويدخل الوقت لدائم الحدث
…
وعد منها الرافعي رفع الخبث)
فيها مسألتان:
[فروض الوضوء]
الأولى: فروض الوضوء ستة:
الأول: النية؛ لما مر، ويجب قرنها بأول غسل الوجه؛ كأن ينوي رفع الحدث، أو استباحة الصلاة، أو غيرها مما لا يباح إلا بالوضوء، أو أداء فرض الوضوء، أو فرض الوضوء، أو أداء الوضوء، أو الوضوء.
ودائم الحدث لا تجزئه نية رفع الحدث، ولو نوى غيره رفع غير حدثه .. أجزأه إن غلط، لا إن تعمد في الأصح.
الثاني: غسل الوجه؛ قال الله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} ، والمراد: انغساله، وكذا في بقية الأعضاء، والمراد: ظاهر الوجه؛ إذ لا يجب غسل داخل العين والفم والأنف، وحده طولاً: ما بين منابت الرأي غالباً وأسفل طرف المقبل من اللحيين، وعرضاً: ما بين أذنيه.
وشعور الوجه إن لم تخرج عن حده وكانت نادرة الكثافة؛ كعذار وهو ما حاذى الأذن، وهدب وشارب وخدّ وعنفقة ولحية امرأة وخنثى .. وجب غسلها ظاهراً وباطناً وإن كثفت، وإن لم تكن نادرة الكثافة وهي لحية الرجل وعارضاه، أو خرجت عن حده كشعر اللحية والعارض والعذار والسِّبال .. وجب غسل ظاهرها وباطنها إن خفت، وإلا .. وجب غسل ظاهرها فقط، فلو خفَّ اللحية مثلاً وكثف بعضها .. فلكل منهما حكمه إن تميز، وإلا .. كالخفيف.
والخفيف: ما ترى بشرته في مجلس التخاطب، وقيل: ما يصل الماء إلى منبته بلا مبالغة.
ويجب غسل جزء من الرأس، وسائر الجوانب المجاورة للوجه؛ احتياطاً.
الثالث: غسل اليدين مع المرفقين بكسر الميم وفتح الفاء وعكسه؛ قال الله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} ، ودل على دخولهما في الغسل الآية والإجماع وفعله صلى الله عليه وسلم المبين للوضوء المأمور به؛ كما رواه مسلم وغيره.
فإن لم يكن له مرفق .. اعتبر قدره، فإن قطعت من المرفق .. وجب غسل رأس العضد، أو
من فوقه .. ندب غسل باقي عضده، ويجب غسل شعر اليدين وإن كثف، وظفرهما وإن طال، ويد زائدة إن نبتت في محل الفرض، وإن نبتت في غيره .. وجب غسل ما حاذى منها محله إن تميزت، فإن لم تتميز؛ لفحش قصر، أو نقص إصبع، أو ضعف بطش أو نحوه .. وجب غسلهما، وتجري هذه الأحكام في الرجلين.
والألف في قوله: (وجهكا) و (مرفقكا) للإطلاق.
الرابع: مسح بعض الرأس؛ قال الله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} ، ولا فرق بين مسح بشرة الرأس والشعر الذي عليها؛ بحيث ينطلق عليه اسم المسح، ولو بعض شعرة واحدة بيد أو غيرها، ولو من صاحب رأسين بشرط كون الشعر الممسوح لو مد .. لم يخرج عن حد الرأس، وفي "مسلم":(أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته)، فدل على الاكتفاء بمسح البعض؛ ولأن المفهوم عند الإطلاق، ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية؛ وهي الشعر الذي بين النزعتين وهما بياضان يكتنفانها، والكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب، ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر؛ لأنها دونه، والباء كما في "المجموع" عن جماعة من أهل العربية: إذا دخلت على متعد كما في الآية .. تكون للتبعيض، أو على غير متعدّ كما في قوله تعالى:{وليطّوَّفوا بالبيت} .. تكون للإلصاق، وإنما وجب التعميم في التيمم مع أن آتيه كهذه الآية؛ لثبوته بالسنة، ولأنه بدل فاعتبر مبدله، ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه.
وأما عدم وجوبه في الخف .. فللإجماع؛ ولأن التعميم يفسده، مع أ، مسحه مبني على التخفيف؛ لجوازه مع القدرة على الغسل، بخلاف التيمم.
ولو قطر على رأسه، أو وضع يده المبتلة عليه، أو تعرض للمطر ولم يمسح .. أجزأه، وكذا لو غسله.
الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين من كل رجل؛ وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم؛ قال الله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} ، قرئ بالنصب وبالجر عطفاً على (الوجوه) لفظاً في الأول، ومعنىً في الثاني؛ لجره على الجوار، وجعله بعضهم عطفاً على الرؤوس؛ حملاً له على لابس الخف، ودل على دخولهما في الغسل ما دل على دخول المرفقين فيه.
السادس: الترتيب في أفعاله؛ لفعله صلى الله عليه وسلم المبين للوضوء المأمور به، رواه مسلم وغيره، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حجته:"ابدؤوا بما بدأ الله به" رواه النسائي بإسناد صحيح، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأنه تعالى ذكر مسموحاً بين مغسولات، وتفريق المتجانس لا ترتكبه العرب إلا لفائدة وهي هنا: وجوب الترتيب لا ندبه؛ بقرينة الأمر في الخبر، ولأن الآية بيان للوضوء الواجب، / ولهذا لم يذكر فيها شيء من سنته.
فلو عكس ولو ساهياً أو وضأه أربعة دفعة .. حصل الوجه فقط إن نوى عنده، ولو توضأ اربع مرات منكساً .. أجرأه.
ولو اغتسل ذو الحدث الأصغر بنية رفع الحدث أو نحوها، أو بنية الجنابة أو نحوها غالطاً ورتب أو انغمس .. أجزأه وإن لم يمكث.
ولو أحدث وأجنب .. أجزأه الغسل عنها، ولو اغتسل ذو الحدث الأكبر إلى رجليه، أو إلا يديه مثلاً ثم أحدث .. وجب غسلهما للجنابة، والأعضاء الثلاثة مرتبة للحدث، وله تقديم الرجلين أو اليدين في الأصح.
[شروط الوضوء]
الثانية: ذكر فيها شروط الوضوء بقوله: (ثم له شروط خمسة):
أولها: الماء الطهور وهو المطلق، بأن يعلمه المتوضئ أو يظنه؛ لأن ما عداه لا يرفع الحدث، وقوله:(طهور ماء) من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ كجرد قطيفة، أو من إضافة الأعم إلى الأخص؛ فإن التراب طهور أيضاً.
ثانيها وثالثها: كون المتوضئ مميزاً مسلماً؛ لأن غيرهما لا يصح وضوؤه؛ لعدم صحة نيته؛ إذ شرطها إسلام الناوي وتمييزه كما مر، وإنما صح غسل الكتابية والمجنونة من الحيض والنفاس كما سيأتي؛ لضرورة حق الزوج والسيد، ولهذا تجب إعادته عند الإسلام والإفاقة.
والرابع: عدم المانع الحسي من وصول الماء الطهور إلى بشرة العضو المغسول ونحوها؛ كدهن جامد وشمع؛ إذ جري الماء على العضو المغسول شرط لصحة تطهيره، ويقال بالمانع الحسي: المانع الشرعي من حيض أو نفاس.
والخامس: دخول الوقت في وضوء دائم الحدث؛ كالمستحاضة، وسلسل البول، أو المذي؛ لأن طهارته طهارة ضرورة، ولا ضرورة قبل الوقت.
ومن شروطه:
عدم الصارف، ويعبر عنه بدوام النية، فلو قطعها في أثناء الوضوء .. احتاج إلى نية جديدة.
والعلم بفريضته وبكيفيته، فلو اعتقد العامي أن كل أفعاله فرض .. فالأصح: الصحة، أو سنة .. فلا، أو البعض ولم يميز .. صح وضوؤه على الأصح، بشرط ألا يقصد بالفرض النقل، ويجري هذا التفصيل في الصلاة.
وقوله: (وعد منها الرافعي رفع الخبث) أي: وعد الرافعي من شروط الوضوء: رفع الخبث الذي يزول بالغسلة الواحدة من أعضاء وضوئه إن كان، فلا تكفي لهما غسلة واحدة؛ لأن الماء يصير مستعملاً في الخبث، فلا يستعمل في الحدث، والمعتمد: ما صححه النووي من أنها تكفي لهما كما في الحيض والجنابة؛ لأن مقتضى الطهرين واحد، والماء ما دام متردداً على العضو .. لا يحكم باستعماله.
وصورها في "المجموع" في (باب نية الوضوء) بالخبث الحكمي، وأطلق في مواضع أخر، والأول جرى فيه على الغالب، فتكفي الغسلة لهما إذا زال الخبث بها وإن كان عينياً، ويجري الخلاف بتصحيحه في الحدث الأكبر مع الخبث، أما إذا لم يزل الخبث بالغسلة الواحدة .. فالحدث أيضاً باق.
وقول الناظم: (الرافعي) بسكون الياء وصله بنية الوقف.
[الكلام على بعض سنن الوضوء]
(والسُّنن: السواك، ثم بسملا
…
واغسل يديك قبل أن تدخلا)
(إنا، ومضمض، وانتشق، وعمم
…
الرأي، وأبدأه من المقدم)
لما فرغ من شروط الوضوء .. ذكر من سننه أموراً:
منها: السواك أوله؛ لما مر في بابه.
ومنها: البسملة بعد السواك؛ أي: عند غسل الكفين كما سيأتي؛ لخبر: "كل أمر ذي بال"، ولخبر النسائي بإسناد جيد كما في "المجموع" عن أنس قال:(طلب بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وضوءاً فلم يجدوا، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل مع أ؛ د منكم ماء؟ " فأتى بماء فوضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال: "توضؤوا باسم الله"، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه حتى توضؤوا، وكانوا نحو سبعين رجلاً)، وقوله:(باسم الله) أي: قائلين ذلك، وأقلها:(باسم الله)، وأكملها:(بسم الله الرحمن الرحيم)، زاد الغزالي بعدها في "بداية الهداية":(رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون).
وحكى المحب الطبري عن بعضهم التعوذ قبلها، ويسن أن يقول بعدها:(الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً)، فإن ترك البسملة أوله .. استحب أن يقول في أثنائه:(باسم الله أوله وآخره).
ومنها: غسل كفيه ثلاثاً قبل المضمضة وإن تيقن طهرهما، أو لم يرد غمسهما؛ للاتباع، رواه الشيخان، ثم إن شك في طهرهما .. سن غسلهما قبل أن يدخلهما إناء فيه ماء قليل أو مائع، بل يكره غمسهما فيه قبل غسلهما ثلاثاً، وهذا محمل كلام المصنف، وإن تيقن طهرهما .. لم يكره غمسهما فيه قبل غسلهما، بل ولا يسن غسلهما قبله.
ومنها: المضمضة ثم الاستنشاق؛ للاتباع رواه الشيخان، ويحصلان بوصول الماء إلى الفم والأنف وإن ابتلعه أو لم يُدره، وتقديم المضمضة على الاستنشاق مستحق، فلو قدم الاستنشاق عليها .. حسب وفاتت، وقيل: مستحب.
وتسن المبالغة فيهما للمفطر، والمبالغة في المضمضة: أن يبلغ الماء أقصى الحنك
واللثات، ويسن إمرار إصبعه اليسرى عليها، ومج الماء، وفي الاستنشاق: أن يصعد الماء بالنفس إلى الخيشوم، ويسن الاستنثار؛ بأن يخرج بعد الاستنشاق ما في أنفه من ماء وأذى، ويسن كونه بيده اليسرى.
أما الصائم ولو نفلاً .. فتكره له المبالغة.
والأفضل: جمعهما، وأن يكون بثلاث غرف يتمضمض من كل ثم يستنشق، فيحصل أصل السنة بفصلهما بست غرفات، أو بغرفتين يتمضمض من واحدة ثلاثاً ثم يستنشق من الأخرى ثلاثاً، وبجمعهما بغرفة يتمضمض منها ثلاثاً ثم يستنشق منها ثلاثاً، أو يتمضمض منها ثم يستنشق مرة، ثم كذلك ثانية وثالثة.
ومنها: تعميم الرأس بالمسح؛ للاتباع، رواه الشيخان، وخروجاً من خلاف من أوجبه، والحكم عليه بالسنية لا ينافي وقوعه فرضاً على القول به.
والسنة: أن يبدأ بمسحه من مقدمه؛ بأن يضع يديه على المقدم، ويلصق مسبحته بالأخرى وإبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المبدأ؛ للاتباع، رواه الشيخان، وهذا لمن له شعر ينقلب بالذهاب والرد؛ ليصل البلل إلى جميعه، وذلك مرة واحدة، فإن لم يكن له شعر ينقلب .. لم يسن الرد؛ لعدم فائدته، فإن رد .. لم يحتسب ثانية؛ لأن الماء صار مستعملاً لعدم الحاجة إليه، فإن لم يرد نزع ما على رأسه .. كما المسح عليه.
وقول المصنف: (بسملا) يفتح الميم بصيغة الماضي وفاعله المتوضئ والفه للإطلاق، أو بكسرها بصيغة الأمر وهو الأنسب بما بعده، ففاعله المخاطب، وألفه بدل من نون التوكيد الخفيفة، وقوله:(تدخّلا) بتشديد الخاء، ثم إن بني للمفعول .. فألفه ضمير تثنية عائد على (اليدين)، أو للفاعل .. فألفه للإطلاق، وقوله:(إنا) بالقصر للوزن.
[مسح الأذنين]
(ومسح أذنٍ باطناً وظاهرا
…
وللصماخين بماءٍ آخرا)
أي: من سننه: مسح الأذنين بعد مسح الرأس باطنهما وظاهرهما بماء غير بلل الرأس،
ومسح صماخيهما؛ أي خرقيهما بماء جديد غير الماءين؛ للاتباع، رواه في مسح الأذنين وصماخيهما أبو داود بإسناد حسن، أو صحيح، وفي كونه بغير ماء الرأس البيهقي بإسناد جيد، ولأن الصماخ من الأذن؛ كالفم والأنف من الوجه.
والأحب في كيفية مسح ذلك كما قال الرافعي: أن يدخل مسبحتيه في صماخيه، ويديرهما على المعاطف، ويمر إبهاميه على ظهورهما، ثم يلصق كفية مبلولتين بالأذنين استظهاراً، ونقلها في "المجموع" عن الإمام والغزالي وجماعات، ثم نقل عن آخرين: أنه يمسح بالإبهامين ظاهر الأذنين، وبالمسبحتين باطنهما، ويمر رأس الأصابع في المعاطف، ويدخل الخنصر في صماخيه، وكلامه في "نكت التنبيه" يقتضي اختيار هذه الكيفية، والمراد من الأولى: أن يمسح برأسه مسبحتيه صماخيه، وبباطن أنمليتهما باطن الأذنين ومعاطفهما، فاندفع ما قيل: إنها لا تناسب سنية مسح الصماخين بماء جديد.
وافهم كلام المصنف: أن مسح العنق ليس بسنة وهو كذلك، خلافاً للرافعي، بل هو بدعة، وألف (آخرا) للإطلاق.
[تخليل أصابع اليدين والرجلين واللحية الكثة]
(وخللن أصابع اليدين
…
واللحية الكثة والرجلين)
أي: من سنن الوضوء: تخليل أصابع اليدين بالتشبيك بينهما، وتخليل أصابع الرجلين؛ للأمر بكل منهما في خبر الترمذي وغيره، والأحب: أن يتخللهما بخنصر اليسرى من أسفل الأصابع، يبدأ بخنصر الرجل اليمنى ويختم بخنصر اليسرى، وقيل: يخلل بخنصر اليمنى، وقيل: هما سواء.
فلو التفت أصابعه فلم يصل الماء إليها إلا بالتخليل .. وجب لا لذاته، ولو التحمت .. حرم فتقها.
وتخليل لحية الرجل الكثة بالمثلثة؛ أي: الكثيفة؛ للاتباع، رواه الترمذي وصححه، وذلك بأن يخللها والأصابع من أسفلها، ومثل اللحية كل شعر كثيف لا يجب إيصال الماء إلى منبته.
(واستكمل الثلاث باليقين
…
وأبدأ بيمناك سوى الأذنين)
فيه مسألتان:
[استحباب التثليث في الوضوء]
الأولى: أنه أمر المتوضئ باستكمال الثلاث باليقين؛ من غسلٍ ومسح وتخليل وغيرها؛ فالأولى واجبة، والاثنتان مسنونتان؛ لخبر "مسلم" عن عثمان:(أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً)، وخبر "أبي داود" بإسناد حسن كما في "المجموع":(أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه ثلاثاً)، وخبر "البيهقي" بإسناد جيد كما في "المجموع" عن عثمان: أنه توضأ فخلل بين أصابع قدميه ثلاثاً، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، وروى البخاري:(أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة)، (وتوضأ مرتين مرتين).
وتناول كلام المصنف: القول؛ كالتسمية والتشهد فليسن تثليثه، وبه صرح الروياني في التشهد آخره، ورواه أحمد وابن ماجه.
فلو شك في العدد .. أخذ بالأقل عملاً باليقين؛ كما لو شك في عدد الركعات، والزيادة على الثلاث إنما تكون بدعة إذا علم يزيادتها، ولو توضأ مرة، ثم مرة، ثم مرة .. لم تحصل فضيلة التثليث، بخلاف نظيره في المضمضة والاستنشاق؛ لأن الوجه واليد متباعدان فينبغي الفراغ من أحدهما، ثم الانتقال إلى الآخر، والفم والأنف كعضو فجاز تطهيرهما معاً كاليدين
كذا نقله في "المجموع" عن الشيخ أبي محمد الجويني وأقره، وبه أفتى البارزي، وخالف الروياني والفوراني وغيرهما فقالوا بحصولها.
ويستثنى مما ذكره: ما لو ضاق الوقت، أو كفاه الماء لوضوئه وبه عطش مثلاً، ولا تتأتى إزالته إلا إن توضأ مرة مرة .. فإنه يقتصر عليها.
[استحباب البدء باليمين]
الثانية: أنه أمر المتوضئ بأن يبدأ بيمناه ندباً؛ لخبر: "إذا توضأتم .. فابدؤا بميامنكم" رواه أينا خزيمة وحبان في "صحيحيهما"، ولخبر "الصحيحين" عن عائشة قالت:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله - أي: تسريح شعره - وطهوره وفي شأنه كله) أي: مما هو من باب التكريم؛ كاكتحال، ونتف إبط، وحلق رأس، واليسرى بضم ذلك؛ كامتخاط، ودخول خلاء، ونزع ملبوس؛ لما رواه أبو داود وقال في "المجموع": إنه صحيح: (كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى).
ثم أشار بقوله: (سوى الاذنين) إلى أن العضوين إذا كانا بحيث يسهل إمراء الماء عليهما معاً .. فالسنة غسلهما معاً، وذلك في الكفين والخدين والأذنين.
[استصحاب النية ذُكراً في الوضوء]
(واستصحب النية من بدءٍ إلى
…
آخره، ودلك عضوٍ، والولا)
أمر المتوضئ باستصحاب النية ذُكراً من ابتداء سنن الوضوء؛ ليحصل ثوابها إلى آخره كالصلاة، ولئلا يخلو جزء منه عنها حقيقة، فينوي مع التسمية عند غسل الكفين كما صرح به ابن الفركاح فإن يقرنها بها عند أول غسلهما، كما يقرنها بتكبيرة الإحرام، فاندفع ما قيلك إن قرنها بها مستحيل؛ لأن يسن التلفاز بالنية، ولا يعقل التلفظ معه بالتسمية، وممن صرح بأنه
ينوي عند غسل الكفين: الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ، فالمراد بتقديم التسمية على غسل الكفين: تقديمها على الفراغ منه.
[الدلك والموالاة]
ومن سنن الوضوء: دلك كل عضو مغسول من أعضاء الوضوء؛ يأن يمر يده عليه بعد إفاضة الماء احتياطاً وتحصيلاً للنظافة، وخروجاً من خلاف من أوجبه.
والوِلاء بين الأعضاء في وضوء الرفاهية؛ بأن يغسل العضو الثاني قبل أن يجف الأول، مع اعتدال الهواء والزمان والمزاج؛ للاتباع، وخروجاً من خلاف من أوجبه، وإذا غسل ثلاثاً .. فالعبرة بالأخيرة، ويقدر الممسوح مغسولاً، وغذا ترك الولاء وقد عزبت النية، .. لم يجب تجديدها في البناء كما صححه في "التحقيق" وغيره، والتفريق الطويل مكروه.
[الوضوء بمدٍّ والغسل بصاع]
(وللوضو مُدٌّ، وللتغسيل
…
صاعٌ وطول الغُرِّ للتحجيل)
من السنن: التوضؤ بمُد من الماء، والغسل بصاع منه؛ لخبر مسلم:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد) أي: تقريباً، وزنة المد: رطل وثلث بالبغدادي، والصاع: أربعة أمداد، ولو توضأ أو اغتسل بأقل من ذلك .. أجزأه، قال الشافعي: قد يرفق بالقليل .. فكفي، وقد يخرق بالكثير .. فلا يكفي، وهذا فيمن حجمه كحجم النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فيعتبر بالنسبة زيادة ونقصاً.
وقوله: (وللوضوء) بسكون الواو وصله بنية الوقف.
[تطويل الغرة والتحجيل]
وتطويل الغرة: بغسل زائد على الواجب من الوجه من جميع جوانبه، وتطويل التحجيل: بغسل زائد على الواجب من اليدين والرجلين من جميع الجوانب؛ لخبر "الصحيحين": "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته ..
فليفعل"، وخبر "مسلم": "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم .. فليطل غرته وتحجيله"، وغاية التحجيل: المنكب والركبة.
وقوله: (الغر) بحذف التاء للترخيم، ويجوز في الراء الفتح والكسر.
(ثم الوضوء سُنةٌ للجُنُب
…
لنومه أو إن يطأ أن يشرب)
(كذاك تجديد الوضوء إن صلى
…
فريضةً أو سُنةً أو نفلا)
[مما يستحب فيه الوضوء]
يسن الوضوء في نحو أربعين موضعاً، ذكر المصنف منها: أنه يسن للجنب الوضوء؛ أي: مع غسله الفرج قبله لنومه ووطئه وشربه؛ أي: وأكله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام .. توضأ وضوءه للصلاة)، وقيس بالأكل الشرب، وقال:"إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود .. فليتوضأ بينهما وضوءاً" رواهما مسلم، وزاد البيهقي الثاني:"فإنه أنشط للعود"، والحكمة في ذلك: تخفيف الحدث غالباً، والتنظف ودفع الأذى، وقيل: لعله ينشط للغسل، ويزيد الجماع؛ فإن ذلك أنشط له كما مر في الحديث، فلو فعل شيئاً من هذه الأمور بلا وضوء .. كره كما نقله في "شرح مسلم" عن الأصحاب، ومثل الجنب فيما ذكر الحائض والنفساء إذا انقطع دمها.
[استحباب تجديد الوضوء]
ومنها: أنه يسن تجديد الوضوء إذا صلى به فريضة أو سنة أو نفلاً مطلقاً؛ أي: بخلاف الغسل والتيمم؛ لأن موجب الوضوء أغلب وقوعاً، واحتمال عدم الشعور به أقرب فيكون الاحتياط فيه أهم، ولخبر أبي داود وغيره:"من توضأ على طهر .. كتب له عشر حسنات"، قال
بعضهم: والظاهر: أن طواف الفرض والسنة في معنى الصلاة، فيستحب له التجديد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمى الطواف بالبيت صلاة، ولم أجد من ذكره. انتهى.
وكسر الباء من (يشرب) للوزن.
(وركعتان للوضوء، والدعا
…
من بعده في أي وقتٍ وقعا)
فيه ثلاث مسائل:
[استحباب ركعتي الوضوء]
الأولى: أنه يسن للوضوء ركعتان؛ بأن يصليهما عقبة ينوي بهما سنة الوضوء؛ لخبر مسلم عن عثمان قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم قال:"من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه .. غفر له ما تقدم من ذنبه"، ويقرأ بعد (الفاتحة) في الأولى:{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} ، وفي الثانية:{ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} .
ويحصلان بفرض أو نفل آخر ركعتين أو أكثر؛ كما في ركعتي التحية والإحرام والطواف والاستخارة.
[استحباب الدعاء عقب الوضوء]
الثانية: أنه يسن الدعاء بعد الوضوء؛ بأن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم؛ اجعلني من التوابين، واجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ان لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) لخبر "مسلم": "من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء"، وزاد الترمذي عليه:"اللهم؛ اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين"، وروى الحاكم الباقي بسند
صحيح بلفظ: "من توضأ فقال: سبحانك اللهم
…
" إلى آخر ما تقدم " .. كتب في رَقٍّ ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة" أي: لا يتطرق إليه إبطال.
ويسن أن يقول ذلك متوجهاً إلى القبلة، وأن يقول معه:(وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد)، ذكره في "المجموع".
[ركعتا الوضوء سنة ولو في وقت الكراهة]
الثالثة: أنه لا فرق في استحباب ركعتي الوضوء بين أن تقع في غير وقت كراهة الصلاة، وبين أ، تقع فيه؛ لأن لركعتي الوضوء سبباً وهو الوضوء، وهذا معنى قوله:(في أي وقت وقعا) فألف (وقعا) ضمير تثنية عائد على ركعتي الوضوء.
[آداب الوضوء]
(آدابه: استقبال قبلةٍ، كما
…
يجلس حيث لم ينله رش ما)
(ويبتدي اليدين بالكفين
…
وبأصابع من الرجلين)
جعل المصنف هذه المندوبات من الآداب تبعاً لجماعة؛ نظراً إلى أن السنة ما يتأكد أمره، والأدب دونه، ولكن المعروف أن المطلوب طلباً غير جازم كما يعبر عنه بالسنة ونحوها يعبر عنه بالأدب.
فمن آدابه: استقبال المتوضئ القبلة في وضوئه؛ لأنها أشرف الجهات، وقد قيل: إن استقبالها ينوِّر البصر.
وجلوسه في مكان مرتفع؛ بحيث لا يناله رشاش ماء الوضوء؛ تحرزاً عنه، وكذا يضع المغتسل ثيابه في موضع؛ بحيث لا ينالها رشاش ماء الغسل.
ووضعه إناء الماء عن يمينه إن كان يغترف منه، وعن يساره إن كان يصب منه على يده؛ لأن ذلك أمكن فيهما.
وعدم استعانته بأحد، ووقوف المعين له بالصب على اليسار إن استعان؛ لأنه أعون وأمكن وأحسن أدباً.
والبداءة في غسل الوجه بأعلاه؛ لأنه أشرف لكونه محل السجود، وفي غسل اليدين بالكفين، وفي غسل الرجلين بأصابعهما إن صب على نفسه، وكذا إن صب عليه غيره كما نقله في "المجموع" عن الأكثرين واختاره، وجرى عليه في "التحقيق"، قال في "المهمات": والفتوى عليه، لكن في "الروضة" كـ "أصلها" تبعاً للصيمري والماوردي: أنه يبدأ حينئذ بالمرفق والكعب.
[مكروهات الوضوء]
(مكروهه: في الماء حيث اسرفا
…
ولو من البحر الكبير اغترفا)
(أو قدم اليسرى على اليمنى
…
أو جاوز الثلاث باليقين)
أي: مكروهات الوضوء أشياء:
منها: الإسراف في مائه ولو اغترف المتوضئ من البحر الكبير الملح أو العذب؛ لخبر الترمذي عن أبي بن كعب: "إن للوضوء شيطاناً يقال له: الولهان"، وخبر ابن ماجه عنه ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال: طما هذا السرف؟ ! " فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم، وإن كنت على نهر"، وقيل: إن الإسراف حرام.
ومنها: تقديم اليسرى على اليمنى؛ للنهي في "صحيح ابن حبان".
ومنها الزيادة على الثلاث؛ أي: أو النقص عنها؛ لخبر أبي داود وغيره وهو صحيح كما في "المجموع": أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص .. فقد أسار وظلم" أي: فمن زاد على الثلاث أو نقص منها .. فقد
أساء وظلم في كل من الزيادة والنقص، وقيل: أساء في النقص، وظلم في الزيادة، وقيل عكسه.
وقول المصنف: (باليقين) أي: بأن يعلم بزيادتها على الثلاث، أما لو شك .. فإنه يأخذ بالأقل؛ لأنه اليقين، واعترض بأن ذلك ربما يزيد رابعة وهي بدعة، وترك سنة أسهل من اقتحام بدعة، وأجيب بأنها إنما تكون بدعة إذا علم أنها رابعة، وحينئذ تكون مكروهة كما جرى عليه المصنف.
ومنها: المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم.
ومنها: الاستعانة بمن يطهر أعضاءه بلا عذر.
وأما غسل الرأس .. فلا يكره على الأصح.
والألف في قول الناظم: (أسرفا) و (اغترفا) للإطلاق.
* * *
ولما كان المتوضئ مخيراً بين غسل الرجلين وبين مسح الخفين .. ذكره المصنف عقب (باب الوضوء) فقال: