الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الغسل
هو: بفتح الغين مصدر غسل الشيء، وبمعنى: الاغتسال؛ كقولك: غسل الجمعة سنة، وبضمها مشترك بينهما وبين الماء الذي يغتسل به، ففيه على الأولين لغتان: الفتح: وهو أفصح وأشهر لغة، والضم: هو ما يستعمله الفقهاء أو أكثرهم، وأما بالكسر .. فاسم لما يغسل به من سدر ونحوه، وهو بالمعنيين الأولين لغة: سيلان الماء على الشيء، وشرعاً: سيلانه على جميع البدن بنية.
[موجبات الغسل]
(مُوجبه المني حين يخرج .... والموت، والكمرة حيث تولج)
(فرجاً - ولو ميتاً- بلا إعادة .... والحيض، والنفاس، والولادة).
أي: موجبات الغسل بكسر الجيم ستة:
أحدها: خروج المني؛ أي: مني الشخص نفسه؛ الخارج أول مرة من رجل أو امرأة ولو بعد أن بال ثم اغتسل من الجنابة؛ لخبر مسلم: "إنما الماء من الماء"، ولخبر "الصحيحين" عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال:"نعم إذا رأت الماء"، سواء أخرج من المخرج المعتاد، أم من تحت صلب الرجل، أم من بين ترائب المرأة مع انسداد الأصلي فيهما، فإن لم يستحكم؛ بأن خرج لمرض .. لم يجب الغسل، بلا خلاف كما في "المجموع" عن الأصحاب، وقيل: لا فرق بين خروجه من طريقه المعتاد وغيره، وجزم به في "المنهاج" كـ "أصله" وصححه في "الروضة" و "أصلها" و "الشرح الصغير".
والمراد بخروج المني في حق الرجل والبكر: بروزه عن الفرج إلى الظاهر، وفي حق الثيب: وصوله إلى ما يجب غسله في الاستنجاء، أو لو خرج منه مني غيره بعد غسله .. فلا غسل عليه.
ثانيها: الموت؛ أي: موت المسلم غير الشهيد كما سيأتي في (الجنائز)، والسقط إذا بلغ أربعة أشهر ولم تظهر عليه أمارة الحياة
…
يجب غسله على المذهب.
ثالثها: إيلاج الكَمْرة بفتح الكاف وسكون الميم؛ أي: الحشفة، أو قدرها من فاقدها في فرج ولو دبراً وبلا قصد وإن كان الذكر أشل أو غير منتشر أو مباناً أو ملفوفاً عليه خرقة ولو غليظة، وسواء أكان كل من الذكر والفرج من آدمي أم من غيره، صغير أم كبير؛ لقوله تعالى:{وإن كنتم جنباً فاطهروا} ، ولخبر "الصحيحين" "إذا التقى الختانان
…
فقد وجب الغسل"، وفي رواية لمسلم "وإن لم ينزل"، وذكر الختان جري على الغالب؛ بدليل إيجاب الغسل بإيلاج ذكر لا حشفة له؛ لأنه جماع في فرج فكان في معنى المنصوص عليه.
وليس المراد بالتقاء الختانين انضمامهما؛ لعدم إيجابه الغسل بالإجماع، بل تحاذيهما، يقال: التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم ينضما، وذلك إنما يحصل بتغييب الحشفة في الفرج؛ إذ الختان محل القطع في الختان، وختان المرأة فوق مخرج البول، ومخرج البول فوق مدخل الذكر.
وقوله: (ولو ميْتاً) أي: بسكون الياء: ولو كان صاحب الكمرة أو الفرج ميتاً؛ بأن استدخل الحي حشفته، أو ولج في فرجه .. فإنه يوجب الغسل على الحي بلا إعادة لغسل الميت؛ لانقطاعه تكليفه، وإنما وجب غسله بالموت؛ تنظيفاً وإكراماً له.
وأفهم كلامه: أنه يوجب الغسل على الفاعل والمفعول فيما عدا الميت؛ أي: والبهيمة، وهو كذلك.
رابعها: الحيض؛ لآية: {فاعتزلوا النساء في المحيض} أي: الحيض، ولخبر "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش: "إذا أقبلت الحيضة
…
فدعي الصلاة، وإذا أدبرت .. فاغسلي عنك الدم وصلي"، وفي رواية للبخاري "فاغتسلي وصلي".
خامسها: النفاس؛ لأنه دم حيض مجتمع.
ويعتبر في إيجاب الغسل بخروج ما ذكر: انقطاعه، والقيام إلى الصلاة أو نحوها كما مر.
سادسها: الولادة ولو كان الولد جافاً؛ لأنه مني منعقد؛ ولأنه لا يخلو عن بلل وإن خفي، وتفطر بها المرأة على الأصح في "التحقيق" وغيره، ويلحق بالولادة إلقاء العلقة أو المضغة.
وأفاد كلامه: أن ما عدا هذه الأمور من جنون، وإغماء، واستدخال مني، وتغييب بعض الحشفة، وخروج بعض الولد كيده وغيرها .. لا يوجب الغسل وهو كذلك.
واعترض على الحصر في المذكورات بتنجس جميع البدن أو بعضه مع الاشتباه، وأجيب عنه بأن ذلك ليس موجباً للغسل، بل لإزالة النجاسة، حتى لو فرض كشط جلده .. حصل الفرض، وبأن الكلام في الغسل عن الأحداث، فإن أريد الغسل عنها وعن النجاسة .. وجب عد ذلك كما صنع الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما.
وقول الناظم: (تُولَج) ببنائه للمفعول.
[خواص المني التي يعرف بواحدة منها]
(ويعرف المنيُّ باللَّذَّةِ حين
…
خروجه، وريحِ طلعٍ أو عجينْ)
فيه مسألة:
وهي: أن خواص المني ثلاث، كل واحدة منها كافية في معرفته:
إحداها: وجود اللذة - بالمعجمة- حين خروجه وإن لم يتدفق؛ لقلته، مع فتور الذكر عقب ذلك.
ثانيها: ريح الطلع والعجين ما دام رطباً، فإذا جف .. فريحه كريح بياض البيض.
ثالثها: تدفقه بأن يخرج على دفعات؛ قال تعالى: {من ماء دافق} ، ولا عبرة في مني الرجل بكونه أبيض ثخيناً، ولا في مني المرأة بكونه أصفر رقيقاً وإن كانت من صفاته؛ لأنها ليست من خواصه؛ لوجود الثخنِ في الودي وهو: ماء أبيض كدر ثخين لا ريح له يخرج عقب البول إذا استمسكت الطبيعة، وعند حمل شيء ثقيل، والرقِة في المذي وهو: ماء رقيق لزج يخرج عند الشهوة بلا شهوة، وقد لا يحس بخروجه.
ولا يضر فقدها، فقد يحمرُّ منيُّ الرجل بكثرة الجماع، وربما خرج دماً عبيطاً، أو يرق ويصفر لمرض، ويبيض مني المرأة؛ لفضل قوتها.
ومقتضى كلامه: اشتراك الخواص بين الرجل والمرأة، قال الشيخان: وهو ما ذكره الأكثرون، وعضده الإسنوي، ونقله الماوردي عن النص، لكن قال الإمام والغزالي: لا يعرف مني المرأة إلا باللذة، وأنكر ابن الصلاح التدفق في منيها، واقتصر على اللذة والريح، وبه جزم النووي في "شرح مسلم"، واقتضاه كلامه في "المجموع"، ورجحه جماعة؛ كالسبكي والأذرعي وابن النقيب.
[شك في كون الخارج منياً أو مذياً]
(ومن يشك: هل منيٌّ ظهرا
…
أو هو مذيٌ؟ بين ذينِ خيِّرا)
فيه مسألة:
وهي: أن من شك في كون الخارج منه منياً أو مذياً؛ لاشتباههما عليه .. خيِّر بينهما، فيجعله منياً ويغتسل، أو مذْياً ويتوضأ مرتباً، ويغسل ما أصابه؛ لأنه إذا أتى بمقتضى أحدهما .. بريء منه يقيناً، والأصل براءته من الآخر ولا معارض له، بخلاف من نسي صلاة
من صلاتين .. حيث يلزمه فعلهما؛ لاشتغال ذمته بهما جميعاً، والأصل بقاء كلٍّ منهما، وإنما أوجبوا الاحتياط بتزكية الأكثر ذهباً وفضة في الإناء المختلط؛ لأن اليقين هناك ممكن بسبكه، بخلافه هنا.
وألف (ظَهَرا) و (خُيِّرا) ببنائه للمفعول للإطلاق.
[فروض الغسل]
(والفرض تعميم لجسمٍ ظهرا .... شعراً وظفراً منبتاً وبثرا)
(ونيةٌ بالابتداء اقترنت .... كالحيضِ أو جنابةٍ تبينت)
فيهما مسألة:
وهي: أن الفرض في الغسل من الجنابة أو الحيض أو النفاس أو الولادة أو غيرها شيئان:
أحدهما: تعميم ظاهر البدن شعراً وإن كثف، وظفراً، ومنبتاً بين الشعر، وبشراً، ومنه: تعميم صماخ، وشق، وما ظهر من أنف مجدوع، ومن ثيِّبٍ قعدت لقضاء حاجتها، وموضع شعرة لم يغسلها ثم نتفها، وما تحت قُلْفة غير المختون؛ لأنها مستحقة الإزالة، ولهذا لو أزالها إنسان .. لم يضمنها.
والأصل في ذلك: فعله صلى الله عليه وسلم المبيِّنُ للتطهير المأمور به في قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} ، وإنما وجب غسل مَنْبِت الكثيف هنا دون الوضوء؛ لقلة المشقة هنا وكثرتها في الوضوء؛ لتكرره كل يوم.
ويؤخذ من كلامه: أنه لا يجب غسل باطن العين والفم والأنف، ولا شعرٍ نبت فيها، وهو كذلك، ولا يجب نقض الضفائر إلا ألا يصل الماء إلى باطنها إلا به، قال في "الروضة" كـ "أصلها": ويسامح بباطن العقد التي على الشعرات على الأصح.
ثانيهما: نية اقترنت بأول مغسول من البدن، فلو نوى بعد غسل جزء .. وجبت إعادة غسله؛ كأن تنوي الحائض رفع حكم الحيض، أو الجنب رفع حكم الجنابة، أو النفساء رفع حكم النفاس، أو ينوي كلٌّ رفع الحدث عن جميع البدن، أو رفع الحدث مطلقاً، أو استباحة
الصلاة أو غيرها مما يتوقف على الغسل، أو فرض الغسل، أو الغسل المفروض، أو الواجب، أو أداء الغسل.
ولو نوى جنابة الجماع وجنابتُه باحتلام أو عكسه، أو الجنابة وحدثُه الحيض أو عكسه .. صح مع الغلط دون العمد كنظيره في الوضوء، ذكره في "المجموع"، والمعتمد: ارتفاع النفاس بنية الحيض وعكسه مع العمد؛ لأن النفاس دم حيض مجتمع، ولأن النفاس من أسماء الحيض، وقد صرح به صاحب "البيان" في الأولى في (باب صفة الغسل).
ولو نوى ذو الحدث الأكبر رفع الأصغر: فإن تعمد .. لم يصح؛ لتلاعبه، وإن غلط .. لم يرتفع من غير أعضاء الوضوء؛ لأنه لم ينوه، ويرتفع عنها إلا الرأس؛ لأن غسلها واجب في الحدثين وقد غسلها بنيته، وإنما لم يرتفع عن الرأس؛ لأن غسله وقع بدلاً عن مسحه الذي هو فرضه في الأصل، وهو إنما نوى المسح وهو لا يغني عن الغسل، وإنما ارتفع عن باطن لحية الرجل الكثيفة؛ لإتيانه بالغسل الذي هو الأصل في غسل الوجه.
وألف (ظهرا) للإطلاق، وقوله:(أو جنابة تبينت) أي: فيما قدمه من حصولها بخروج المني، أو تغييب الحشفة.
[شروط الغسل]
(والشَّرطُ: رفعُ نَجِسٍ قد عُلِمَا .... وكلُّ شرطٍ في الوضوءِ قُدِّما)
فيه مسألة:
وهي: أن الشرط في الغسل: رفعُ نجسٍ؛ أي: إزالته إذا كان لا يزول بالغسلة الواحدة، قد علم وجوده عن بدنه إن كان، أما إذا كان النجس يزول بالغسلة الواحدة .. فلا تكفي لهما غسلة واحدة كما صححه الرافعي، وصححه النووي: أنها تكفي لهما، وقد تقدم إيضاحه في (الوضوء).
وقوله: (وكلُّ شرط) عطف على قوله: (رفعُ نجس) أي: الشرط في الغسل أيضاً: كل شرط تقدم ذكره في الوضوء؛ كإسلام المغتسل، إلا في كتابية اغتسلت من حيض أو نفاس لتحل لحليلها المسلم؛ للضرورة، ولهذا تجب إعادته إذا أسلمت، وتمييزه، إلا في اغتسال مجنونة من حيض أو نفاس لتحل لحليلها؛ للضرورة، ولهذا يجب إعادته إذا أفاقت، وعدم المانع الحسيِّ والمانع الشرعي.
والف (علما) و (قدما) للإطلاق.
[سنن الغسل]
ولما فرغ من معتبرات الغسل .. شرع في سننه فقال:
(وسنَّ "باسم الله"، وارفع قذرا .... ثُمَّ الوُضُو، والرِّجلَ لن تُؤَخِّرا)
أي: من سنن الغسل: التسمية؛ بأن يقولها أوله، غير قاصد بها قرآناً؛ لما مر في (الوضوء).
ومنها: إزالة القذر بالمعجمة؛ أي: الطاهر؛ كمني وبصاق قبل الغسل استظهاراً، أما النجس .. فقد تقدم حكمه.
ومنها: الوضوء؛ للاتباع، رواه الشيخان، وإنما لم يجب؛ لأن الله تعالى أمر بالتطهير من غير ذكر الوضوء، وللأخبار الصحيحة الدالة على عدم وجوبه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة:"يكفيك أن تقيضي عليك الماء"، وقوله لأبي ذر:"فإذا وجدت الماء .. فأمسه جلدك".
وقوله: (والرِّجل لن تؤخِّرا) يعني: أن الأفضل تقديم الوضوء كاملاً؛ فقد قال في "المجموع" نقلاً عن الأصحاب: وسواء قدم الوضوء كله أو بعضه، أم أخره، أم فعله في أثناء
الغسل .. فهو محصل للسنة، لكن الأفضل تقديمه.
وقوله: (الوضو) بسكون آخره، وألف (تؤخرا) للإطلاق، أو بدل من نون التوكيد الخفيفة؛ بناء على جواز دخولها على المضارع حينئذ، ويجرى هذا في نظائره السابقة واللاحقة.
[إذا نوى المغتسل فرضاً أو أحدهما دون الآخر]
(وإن نوى فرضاً ونفلاً حصلا .... أو فبكلٍّ مثله تحصلا)
أي: أن المغتسل إن نوى بغسله فرضاً كالجنابة والحيض، ونقلاً كالجمعة والعيد .. حصلا عملاً بنيته ولا يضر التشريك، بخلاف نحو الظهر مع سنته؛ لأن مبنى الطهارات على التداخل بخلاف الصلاة، أما إذا نوى الفرض .. لم يحصل النفل، أو نوى النفل .. لم يحصل الفرض؛ كما أفهمه كلامه وهو الراجح، عملاً بما نواه.
وإنما لم يندرج النفل في الفرض؛ لأنه مقصود فأشبه سنة الظهر مع فرضه، وفارق ما لو نوى بصلاته الفرض دون التحية؛ حيث تحصل التحية وإن لم تنو: بأن القصد هناك إشغال البقعة بالصلاة وقد حصل، وليس القصد هنا النظافة فقط؛ بدليل أنه يتيمم عند عجزه عن الماء، وأنه يحصل بكلٍّ من الفرض والنفل مثله؛ أي: في الفرضية أو النفلية، فيما إذا نوى فرضاً أو نفلاً، فيحصل بنية الجنابة مثلاً كل غسل مفروض، وبنية الجمعة مثلاً كل غسل مسنون.
وألف (تحصلا) للإطلاق.
[ما ينويه المغتسل بوضوء الغسل]
(وسنة الغسلِ نوى لأكبرا .... جُرِّدَ عنْ ضِدٍّ، وإلا الأصغرا)
أي: نوى لحدث أكبر جرد عن ضده وهو الحدث الأصغر؛ كأن أنزل بنظر أو فكر، أو احتلم قاعداً متمكناً بوضوئه سنة الغسل، وإلا؛ أي: بأن اجتمع عليه الحدثان .. نوى رفع الحدث الأصغر؛ خروجاً من الخلاف.
فقوله: (سنة الغسل) مفعول مقدم لـ (نوى)، وقوله:(لأكبرا) متعلق بـ (نوى)، وقوله:(جرد عن ضد) جملة وقعت صفة لـ (أكبر)، ونائب فاعل (جُرِّد) ضمير عائد عليه، ولا يصح جعل قوله: (لأكبر
…
) إلى آخره جملة حالية من (الغسل)، وألف (لأكبرا) و (الأصغرا) للإطلاق.
[تتمة سنن الغسل]
(وشعراً ومعطفاً تعهد
…
وأدلك، وثلث، وبيمناك ابتد)
أمر المصنف المغتسل في هذا البيت بأشياء من سنن الغسل:
أحدها: أن يتعهد شعر رأسه ولحيته؛ بأن يخلله بالماء قبل إفاضته عليه؛ ليكون أبعد عن الإسراف في الماء.
ثانيها: أن يتعهد معاطف بدنه؛ أي: أمكنة الالتواء بالغسل؛ خوفاً من عدم وصول الماء إليها، فيأخذ كفاً من الماء، ويضع الأذن برفق عليه؛ ليصل إلى معاطفها.
ثالثها: أن يدلك من بدنه ما تصل إليه يده؛ خروجاً من خلاف من أوجبه.
رابعها: أن يثلث غسل جميع البدن كالوضوء، فيغسل رأسه ثلاثاً، ثم شقه الأيمن ثلاثاً، ثم شقه الأيسر ثلاثاً، فإن اغتسل في ماء جار .. حصل التثليث بجريان الماء عليه ثلاث جريات، أو في راكد .. حصل بانغماسه فيه ثلاثاً؛ بأن يرفع رأسه وينقل قدميه، أو يتحرك فيه ثلاثاً.
خامسها: أن يبتدئ باليمين؛ للخبر المتفق عليه، فيبتدئ بشق رأسه الأيمن قبل الأيسر، ثم بشق بدنه الأيمن قبل الأيسر.
(وتتبع الحيض بمسكٍ، والولا .... مسنونه: حضور جمعةٍ، كلا)
(عبدين، والإفاقة، الإسلام .... والخسف، الاستسقاء، والإجرام)
(دخول مكة، وقوف عرفه .... والرمي، والمبيت بالمزدلفة)
(وغسل من غسل ميتاً كما .... لداخل الحمام أو من حُجما)
ذكر في هذه الأبيات ثلاث مسائل:
[استحباب تتبع المرأة أثر الحيض والنفاس بمسك]
الأولى: أنه يسن للمرأة ولو بكراً وخلية: أن تتبع أثر الحيض؛ أي: أو النفاس بعد غسلها بمسك؛ بأن تجعله على قطنة أو نحوها وتدخلها في قبلها إلى المحل الذي يجب غسله؛ تطيباً للمحل، وللأمر بما يؤدي ذلك في "الصحيحين" من حديث عائشة وتفسيرها قوله صلى الله عليه وسلم لسائلته عن الغسل من الحيض:"خذي فرصة من مسك فتطهري بها" بقولها: (يعني: تتبعي بها أثر الدم)، والمسك أولى من غيره، فإن لم تفعل .. فطيباً، فإن لم تفعل .. فطيناً، فإن لم تفعل .. فالماء كاف.
وهذه سنة مؤكدة يكره تركها بلا عذر، وتستثنى المحرمة فلا تستعمل شيئاً من الطيب؛ لقصر زمن الإحرام غالباً، والمُحِدَّة فلا تطيب المحل إلا بقليل قُسِط أو أظفار؛ لقطع الرائحة الكريهة.
[استحباب الموالاة والترتيب في الغسل]
الثانية: أنه يسن الولاء بين أفعاله كما في الوضوء؛ خروجاً من خلاف من أوجبه.
ومن سننه: الترتيب؛ بأن يرفع الأذى، ثم يتوضأ، ثم يتعهد، ثم يغسل أعضاء الوضوء، ثم الرأس، ثم البدن مبتدئاً بأعلاه وبالأيمن، ويجوز له الغسل مكشوف العورة خالياً أو بحضرة من يجوز نظره إليها، والستر أفضل، أما غسله مكشوف العورة بحضرة من يحرم نظره إليها
…
فحرام؛ كما يحرم كشفها في الخلوة بلا حاجة.
[الأغسال المسنونة]
الثالثة: ذكر من الأغسال المسنونة خمسة عشر غسلاً:
أحدها: غسل الجمعة لمن أراد حضورها وإن لم تلزمه كامرأة ومسافر؛ لما سيأتي في (باب صلاة الجمعة) من الأمر به في "الصحيحين" وغيرهما، وصرفه عن الوجوب
خبر: "من توضأ يوم الجمعة .. فبها ونعمت، ومن اغتسل .. فالغسل أفضل" رواه أبو داود وغيره، وحسنه الترمذي، وصححه أبو حاتم الرازي.
ويدخل وقته بالفجر، وتقريبه من ذهابه أفضل، أما من لم يرد حضورها .. فلا يسن له الغسل، ويؤخذ من بداءته به أنه آكد الأغسال المسنونة، وهو كذلك على الأصح.
ثانيها وثالثها: غسلا عيد الفطر والأضحى لكل أحدٍ وإن لم يحضر صلاتهما؛ لاجتماع الناس لهما كالجمعة، ويدخل وقت غسلهما بنصف الليل على الأصح؛ لأن أهل القرى الذين يسمعون النداء يبكرون لصلاتهما من قراهم، فلو لم يجز الغسل قبل الفجر .. لشق عليهم، والفرق بينهما وبين الجمعة: تأخير صلاتها وتقديم صلاتهما.
رابعها: الغسل من الإفاقة من الجنون أو الإغماء؛ للاتباع في الإغماء، رواه الشيخان، وقيس بن الجنون، وقال الشافعي رحمه الله:(قلَّ ما جن إنسان .. إلا وأنزل).
خامسا: غسل الكافر إذا أسلم؛ لأمره صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم بالغسل لما أسلم، وكذلك ثمامة بن أثال، رواهما ابنا خزيمة وحبان وغيرهما، وليس أمر وجوب؛ لأن جماعة أسلموا ولم يأمرهم بالغسل، وهذا حيث لم يعرض له في الكفر ما يوجب الغسل من جنابة أو حيض أو نفاس أو ولادة، فإن عرض له ذلك .. وجب عليه الغسل بعد إسلامه، ولا عبرة بغسل مضى في كفره على الأصح، وفارق عدم لزوم إخراج ما أداه من كفارة حال كفره؛ بأن مصرفها متعلق بالآدمي فأشبه الدين.
سادسها: الغسل لصلاة خسوف الشمس أو القمر؛ لاجتماع الناس لهما كالجمعة، ويدخل وقت غسله بأوله.
سابعها: الغسل لصلاة الاستسقاء؛ لما مر، قال في "الروضة": قال أصحابنا: يستحب الغسل لكل اجتماع، وفي كل حال يغير رائحة البدن.
ثامنها: الغسل للإحرام؛ للاتباع، رواه الترمذي وحسنه، وسواء في ذلك الإحرام بحج أو بعمرة أو بهما.
تاسعها: الغسل لدخول مكة؛ للاتباع، رواه الشيخان، وسواء كان محرماً بحج، أو بعمرة أو بهما، ويسن للحلال أيضاً وهو داخل في كلامه.
ويسن الغسل لدخول الحرم أيضاً، ولدخول المدينة، ولو أحرم من مكان قريب من مكة كالتنعيم فاغتسل .. لم يندب له الغسل لدخول مكة كما قاله الماوردي.
عاشرها: الغسل للوقوف بعرفة عشية.
حادي عشرها: الغسل للرمي في أيام التشريق الثلاثة، ولا يسن الغسل لرمي جمرة العقبة؛ لقربها من غسل العيد.
ثاني عشرها: غسيل مبيت مزدلفة غداة النحر؛ لأن هذه مواطن تجتمع لها الناس فسن الغسل لها؛ قطعاً للروائح الكريهة.
وسواء في هذه الأغسال الرجل والمرأة، والطاهر وغيرها.
ثالث عشرها: غسل من غسَّل ميتاً، مسلماً كان أو كافراً؛ لخبر:"من غسل ميتاً .. فليغتسل"، رواه ابن ماجة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، والصارف للأمر عن الوجوب خبر:"ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه" حصصه الحاكم على شرط البخاري.
رابع عشرها: غسل داخل الحمام عند إرادة خروجه، سواء أتنوَّر أم لا.
خامس عشرها: غسل من حُجِم؛ أي: بضم الحاء ومكسر الجيم؛ لما روى البيهقي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (كنا نغتسل من خمس: من الحجامة، والحمام، ونتف الإبط، ومن الجنابة، ويوم الجمعة)، وحكمته كما أشار إليه الشافعي رضي الله عنه: أن ذلك
يغير الجسد ويضعفه، والغسل يشده وينعشه، ويؤخذ منه: أنه يسن الغسل للفصد ونحوه.
ومن الأغسال المسنونة: الغسل للاعتكاف؛ كما في "لطيف ابن خيران" عن النص، ولكل ليلة من شهر رمضان؛ كما قاله الحليمي، وقيده الأذرعي بمن يحضر الجماعة، ولحلق العانة؛ كما في "رونق الشيخ أبي حامد" و"لباب المحاملي"، ولبلوغ الصبي بالسن؛ كما في "الرونق"، والغسل في الوادي عند سيلانه.
و(كِلا) في قول المصنف: (كلا عيدين) اسم مقصور لإضافته إلى ظاهر، وألف (حُجِما) للإطلاق.
(والغسل في الحمَّام جاز للذَّكر
…
مع ستر عورةٍ وغضٍّ للبصر)
(ويكره الدخول فيه للنِّسا
…
إلا لعذر مرضٍ أو نُفسا)
(وقبل أن يدخل يعطي أجرته
…
ولم يجاوز في اغتسالٍ حاجته)
فيها أربع مسائل:
[جواز الغسل في الحمام للذكر]
الأولى: يجوز الغسل في الحمام للذكر؛ أي: يباح له مع ستر عورته عمَّن يحرم نظره إليها؛ إذ كشفها حينئذ حرام فيجب تركه، وعدم مسها ممن يحرم مسه لها، وغض بصره عن عورةٍ يحرم نظره إليها، وعدم مسه إياها؛ لأن كلاً من الكشف والنظر واللمس المذكورات .. حرام فيجب تركه، ويجب عليه أن ينهى من ارتكب شيئاً من ذلك وإن ظن أنه لا ينتهي.
[كراهة دخول الحمام للنساء]
الثانية: يكره دخوله للنساء؛ أي: والخناثى إلا لعذر؛ كمرض أو حيض أو نفاس، أو خوف ضرر، فيباح لهن حينئذ مع ستر عورتهن عمن يحرم نظره إليها، وعدم مسها ممن يحرم مسه لها، وغض بصرهن عن عورة يحرم نظرهن إليها، وعدم مسهن إياها.
والأصل في ذلك خبر أبي داود وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتاً يقال لها: الحمامات، فلا يدخلها الرجال .. إلا بالأزر، وامنعوها النساء إلى مريضة أو نفساء"، وخبر الترمذي وحسنه: "ما من امرأة تخلع ثيابها في
غير بيتها .. إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى"، وخبر النسائي والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله عنها: "الحمام حرام على نساء أمتي"، ولأ، أمرهن مبني على المبالغة في الستر، ولما في خروجهن واجتماعهن من الفتنة والشر.
[آداب دخول الحمام]
الثالثة: لدخوله آداب، منها: أن يعطى أجرته قبل دخوله؛ لأن ما يستوفيه مجهول، وكذا ما ينتظره الحمامي، فإعطاء الأجرة حينئذ دفع للجهالة من أحد العوضين وتطييب لنفسه، وقصدُ التنظف والتطهر، والتسمية لدخوله ثم التعوذ؛ كأن يقول:(بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث)، وتقديم يساره لدخوله، ويمينه لخروجه، وتذكر الجنة والنار بحرارته، ورجوعه إذا رأى عرياناً فيه، وألا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق، وألا يكثر الكلام، وأن يدخل وقت الخلوة، أو يتكلف إخلاء الحمام؛ فإنه وإن لم يكن فيه إلا أهل الدين .. فالنظر إلى الأبدان المكشوفة فيه شوب من قلة الحياء، وهو مذكر للفكر في العورات، ثم لا يخلو الناس في الحركات عن انكشاف العورات فيقع عليها البصر، واستغفاره عند خروجه، وصلاته ركعتين، وقد اقتصر المصنف على أول الآداب.
ويكره دخوله قبيل المغرب وبين العشائين، ودخوله للصائم، وصب الماء البارد على الرأس، وشربه عند الخروج، ولا بأس بدلك غيره إلا عورة أو مظنة شهوة، ولا بقوله لغيره:(عافاك الله)، ولا بالمصافحة.
[وجوب الاقتصار على قدر الحاجة في صبِّ الماء]
الرابعة: أنه يجب عليه: أن يقتصر في صب الماء على قدر حاجته، فلا يجوز له أن يزيد عليه؛ فإنه المأذون فيه لقرينة الحال، والزيادة عليه لو علمها الحمامي .. لكرهها، لا سيما الماء الحار؛ فله مؤنة، وفيه تعب.
وقال ابن عبد السلام: ليس له أن يقيم فيه أكثر مما جرت العادة به؛ لعدم الإذن اللفظي والعرفي.
* * *