الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القَسْمِ والنُشُوز
بفتح القاف، لكل من الزوجين على الآخر حق، قال الشيخان: فحقه عليها: كالطاعة وملازمة المسكن، وحقها عليه: كالمهر والنفقة والمعاشرة بالمعروف التي منها القسم، قال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ} [البقرة: 228].
(وبينَ زَوْجَاتٍ فَقَسْمٌ حُتِمَا
…
ولَوْ مَرِيضَةً وَرَتْقَا اِنَّمَا)
(لِغَيرِ مَقسُومٍ لَهَا يُغْتَفَرُ
…
دُخُولُهُ في الَّليلِ حيثُ ضَرَرُ)
(وفي النَّهَارِ عندَ حاجَةٍ دَعَتْ
…
كأَنْ يَعُودَهَا إذا ما مَرِضَتْ)
(وإنَّمَا بِقُرْعَةٍ يُسَافِرُ
…
وَيَبْتَدِي بِبَعْضِهِنَّ الحاضِرُ)
(والبِكْرُ تَخْتَصُّ بِسَبْعٍ أَوَّلا
…
وَثَيِّبٌ ثَلاثَةً عَلَى الْوِلا)
(ومَنْ أَمَارَاتِ النُّشُوزِ لَحَظَا
…
مِن زوجَةٍ قَوْلاً وفِعْلاً وَعَظَا)
(وَلْيَهْجُرَنْ حيثُ النُّشُوزُ حَقَّقَهْ
…
ويَسْقُطُ القَسْمُ لَهَا والنَّفَقَهْ)
(فإِنْ أَصَرَّتْ جازَ ضَرْبٌ إِن نَجَعْ
…
في غير وَجْهٍ مَعْ ضَمَانِ ما وَقَعْ)
فيها سبع مسائل:
[وجوب القسم بين الزوجات]
الأولى: القسم بين الزوجات أو الزوجتين واجبٌ على الزوج إذا أراد المبيت عند واحدة ولو امتنع الوطء طبعاً أو شرعاً؛ كأن كانت الزوجة مريضة أو رتقاء أو حائضاً، أو محرمة كالنفقة، قال تعالى:{وَعَاشِرُوهُنّ بالمعروف} ، وقال صلى الله عليه وسلم:«إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما .. جاء يوم القيامة وشقه مائل أو ساقط» ، وكان يقسم بين نسائه ويقول: «اللهم؛ هذا قسُمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " رواهما أبو داوود وغيره، وصحح الحاكم الأول وإسناد الثاني.
فيحرم التفضيل وإن ترجحت واحدة بشرفي وغيره، لكن لحرة مثلا أمة، وإنما وجب القسم مع امتناع الجماع؛ لأن المقصود الأنس والتحرز عن التخصيص الموحش لا الجماع؛ لأنه يتعلق بالنشاط ولا يملكه، ولهذا لا تجب التسوية فيه ولا في غيره من التمتعات، لكن يستحب، ولا قسم لمعتدة وناشزة.
وخرج بـ (الزوجات): الإماء وإن كن مستولدات، قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] أشعر ذلك بأنه لا يجب العدل الذي هو فائدة القسم في ملك اليمين، لكن يستحب؛ كي لا يحقد بعض الإماء على بعض.
والمراد من القسم للزوجات - والأصل فيه الليل كما سيأتي -: أن يبيت عندهن، ولا يلزمه ذلك ابتداء؛ لأنه حقّه فله تركه، وإنما يلزمه إذا بات عند بعض نسوته، سواءً أبات عند البعض بقرعة أم لا، وسيأتي وجوبها لذلك، ولو أعرض عنهن أو عن الواحدة ابتداءً، أو بعد القسم .. لم يأثم.
ويستحب ألا يعطلهن؛ بأن يبيت عندهن ويحصنهن وكذا الواحدة.
وأدنى درجاتها: ألا يخليها كل أربع ليالي عن ليلة اعتباراً بمن له أربع زوجات، فإن لم ينفرد بمسكن .. دار عليهن في بيوتهن، وإلا
…
فالأفضل ذلك: صوناً لهن عن الخروج من المساكن، وله دعاؤهن إلى مسكنه، وعليهن الإجابة.
ويحرم ذهابه إلى بعضٍ ودعاءُ بعضٍ - إلا لغرضٍ؛ كقرب مسكن من ذهب إليها - وإقامتُه بمسكن واحدة ودعاؤهن إليه؛ لما في إتيانهن إليه من المشقة عليهن، وتفضيلها عليهن، وجمع ضرتين في مسكن إلا برضاهما؛ لأن جمعهما فيه مع تباغضهما يورث كثرة المخاصمة ويشوش العشرة، فإن رضيتا به .. جاز، لكن يكره وطء إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأنه بعيد عن المروعة، ولا تلزمها الإجابة إليه.
ولو اشتملت دار على حجر مفردة المرافق .. جاز إسكان الضرات فيها من غير رضاهن، وكذا إسكان واحدة في السفل وأخرى في العلو والمرافق متميزة؛ لأن كلاً مما ذكر مسكن.
وله ترتيب القسم على ليلة ويوم قبلها أو بعدها، والأصل الليل، والنهار تبع؛ لأن الليل وقت السكون، والنهار وقت التردد في الحوائج، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 - 11] ، فإن عمل ليلاً وسكن نهاراً كحارس .. فالأصل في حقه النهار والليل تابعٌ.
وأمّا المسافر ومعه زوجاته .. فعماد القسم في حقه وقت النزول ليلاً كان أو نهاراً، قليلاً كان أو كثيراً.
[دخول الزوج على غير المقسوم لها]
الثانية: إنما يجوز دخول زوجٍ عماد قسمه الليل فيه على غير المقسوم لها لضرورة؛ كمرضها المخوف ولو ظناً، قال الغزالي: أو احتمالاً"، وكحريق وشدة طلق، وحينئذ إن طال مكثه .. قضى مثل ما مكث من نوبة المدخول عليها، وإلَاّ
…
فلا يقضي، وكذا إن تعدى بالدخول .. يقضي إن طال مكثه، وإلا
…
فلا، لكنه يعصي، وقدر القاضي حسين الطول بثلث الليل، والصحيح: لا تقدير.
[دخوله فى النهار على غير صاحبة النوبة]
الثالثة: يجوز دخوله في النهار على غير صاحبة النوبة؛ لحاجة كعيادتها إذا مرضت، وتسليم نفقة ووضع متاع أو أخذه، وينبغي ألا يطول مكثه، فإن طول .. قال في «المهذب»: يجب القضاء، ولم يذكره الشيخان، ولا يقضي زمن الحاجة، وله استمتاع بغير وطء، ويقضي إن دخل بلا سبب، ولا تجب عليه تسوية في إقامته نهاراً؛ لتبعيته لليل.
وأقل نوب القسم: ليلة وهو أفضل؛ لقرب العهد به من كلهن، فلا يجوز ببعض ليلة، ولا بليلة وبعض أخرى؛ لما في التبعيض من تشويش العيش، ويجوز ليلتين وثلاثاً، ولا يجوز الزيادة عليها وإن تفرقن في البلاد إلاّ برضاهن؛ لأن فيها إيحاشاً وهجراً لهن.
[سفر الزوج ببعض زوجاته]
الرابعة: لا يجوز للزوج أن يسافر ببعض زوجاته لغير نقلة ولو سفراً قصيراً إلا بقرعة، فإن سافر بها .. لم يقض مدة سفره ذهاباً ولا إياباً، ففي «الصحيحين»:(أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً .. أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه) ، ولم ينقل عنه قضاء بعد عوده، فصار سقوط القضاء من رخص السفر؛ لمشقته، وقيد الغزالي ذلك بما إذا كان السفر مرخصاً، قال الشيخان: وهذا يقتضي وجوب القضاء في سفر المعصية. انتهى.
لكنه يقضي مدة الإقامة إن لم يعتزلها فيها، وأمّا من سافر لنقلة .. فيحرم عليه أن يستصحب بعضهن بقرعة ودونها وأن يخلفهن؛ حذراً من الإضرار، بل ينقلهن أو يطلقهن، فإن سافر ببعضهن ولو بقرعة .. قضى للمتخلفات حتى مدة السفر، ومن سافرت وحدها بغير إذنه .. ناشزة، وبإذنه لغرضه؛ كأن أرسلها في حاجته .. يقضي لها ما فاتها، ولغرضها، ، لا يقضي.
[القرعة بين الزوجات عند بدء المبيت]
الخامسة: لا يجوز للزوج أن يبتدئ بالمبيت عند بعض زوجاته إلا بقرعةٍ؛ تحرزاً عن الترجيح فيه، فيبدأ بمن خرجت قرعتها، وبعد تمام نوبتها يقرع بين الباقيات، ثم بين الأخريين، فإذا تمت النوب .. راعى الترتيب ولا يحتاج إلى إعادة القرعة، ولو بدأ بواحدة بلا قرعة .. فقد ظلم، ويقرع بين الثلاث، فإذا تمت النوب .. أقرع بين الجميع وكأنه ابتدأ القسم.
[اختصاص البكر عند الزفاف بسبع ليال]
السادسة: تختص الزوجة الجديدة البكر عند الزفاف بسبع ولاءً بلا قضاءٍ، والثيب بثلاثة ولاءً بلا قضاء؛ لخبر ابن حبان في (صحيحه):«سبع للبكر وثلاث للثيب «، وفي " الصحيحين» عن أنسٍ: (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب .. أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب على البكر .. أقام عندها ثلاثاً ثم قسم)، والمعنى فيه: زوال الحشمة بينهما، وزيد للبكر؛ لأن حياءها أكثر.
والمراد ب (البكر): من يكفي سكوتها في الإذن في النكاح.
ولا فرق في الجديدة بين الحرة والأمة، والمسلمة والكافرة، حتى لو وفاها حقها وأبانها ثم جدد نكاحها .. وجب لها ذلك؛ لعود الجهة، وكذا لو أعتق مستولدته، أو مستفرشته ثم نكحها، ولو أقام عند البكر ثلاثاً وافتضها، ثم أبانها ونكحها .. فلها حق الثيب.
وخرج بـ (الجديدة): الرجعية؛ لبقائها على النكاح الأول، وإنما اعتبر ولاء المدتين المذكورتين؛ لأن الحشمة لا تزول بالمفرق، فلو فرق .. لم يحسب، فيوفيها حقها ولاء ثم يقضي ما فرق.
والتخصيص المذكور واجب للمعنى المتقدم، وإنما يجب إذا كان في نكاحه أخرى يبيت عندها، وإلاً .. فلا وجوب؛ لأن له تركهن كما مر، وصرح به القاضي والبغوي، ونقله الشيخان عن البغوي وأقراه.
ويسن تخيير الثيب بين ثلاث بلا قضاء وسبع بقضاء؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة حيث قال لها: «إن شئت .. سَبَعْتُ عندك وسبعت عندهن، وإن شئت .. ثلثت عندك وَدُرْتُ، أي: بالقسم الأول، وإلا .. لقال: وثلثت عندهن، رواه مالك، وكذا مسلم بمعناه.
ولو زاد البكر على السبع ولو بطلبها .. قضى الزائد للأخريات، وكذا لو زاد الثيب على الثلاث بغير اختيارها .. يقضي الزائد؛ كما يقضي السبع إذا اختارتها؛ لأنها طمعت في الحق المشروع لغيرها فبطل حقها.
ومن وهبت حقها من القسم لغيرها .. لم يلزم الزوج الرضا؛ لأن الاستمتاع بها حقه فلا يلزمه تركه، وله أن يبيت عندها في ليلتها، فإن رضي ووهبت لمعينة .. بات عندها في ليلتها؛ كل ليلة في وقتها متصلتين كانتا أو منفصلتين، أو لهن .. سوّى، فيجعل الواهبة كالمعدومة، ويقسم بين الباقيات، أو له .. فله التخصيص.
[إذا لحظ الزوج أمارات النشوز من زوجته]
السابعة: من لحظ أمارات النشوز من زوجته؛ أي: ظهرت له، قولاً؛ كأن تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين، أو فعلاً؛ كأن يجد منها إعراضاً وعبوساً بعد لطفي وطلاقة وجه .. وعظها ندباً؛ لآية:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] ، ولا يهجر مضجعها، ولا يضربها؛ فلعلها تبدي عذراً، أو تتوب عما جرى منها من غير عذر.
والوعظ: كأن يخوفها بالله تعالى، ويذكرها ما أوجب الله تعالى له عليها من الحق والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة والمعصية، وما يسقط بذلك من حقها من النفقة والكسوة والقسم، وما يباح له من ضربها وهجرها.
قوله: (وليهجرن) أي: مضجعها حيث النشوز حققه، وفي نسخة بدل (وليهجرن):(وهجرها)، والمعنى: أن فيه أثراً ظاهراً في تأديب النساء، وقضية كلامه: تحريم ضربها في
هذه الحالة، وصححه في «المحرر» لأن الجناية لم تتأكد، وقد يكون ما اتفق لها لعارضٍ قريب الزوال، وصحح النووي والرافعي في «الشرح الصغير» جوازه؛ لظاهر الآية.
أما هجرها في الكلام .. فيجوز في ثلاثة أيام، ويحرم فيما زاد عليها؛ للخبر الصحيح:«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» وهذا في الهجر لغير عذر شرعي، فإن كان لعذر، كبدعة المهجور أو فسقه، أو صلاح دين أحدهما به .. جاز، وعليه يحمل هجره صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وكذا ما جاء من هجر السلف بعضهم بعضاً.
فإن أصرت على نشوزها وتكرر منها .. ضربها جوازاً؛ للآية، فمن جوز الضرب في حالة عدم تكرر النشوز .. قال: التقدير: واللاتي تخافون نشوهن .. فعظوهن، فإن نشزن
…
فاهجروهن في المضاجع واضربوهن، ومن منعه فيها .. قال: التقدير: واللاتي تخافون نشوزهن .. فعظوهن، فإن نشزن .. فاهجروهن في المضاجع، فإن أصررن .. فاضربوهن.
وإنما يجوز له ضربها إن نجع؛ أي: أفاد في ظنه حال كونه في غير وجه ونحوه بحيث لا يخاف منه تلف ولا ضرر ظاهر.
قوله: (مع ضمان ما وقع) منه؛ أي: لتبين أنه إتلاف لا إصلاح، والأولى له ترك الضرب، أمّا إذا لم ينجع الضرب .. فحرام كما في التعزير.
وإن منعها حقاً كقسم أو نفقة .. ألزمه القاضي توفيته، فإن أساء خلقه وآذاها بضرب أو غيره بلا سبب .. نهاه عن ذلك، فإن عاد إليه .. عزره بما يراه، وإن قال كلّ: إن صاحبه متعدّ عليه .. تعرف القاضي الحال بثقة في جوارهما يخبرهما، ومنع الظالم منهما من عوده إلى ظلمه؛ اعتماداً على خبر الثقة.
فإن اشتد الشقاق .. بعث القاضي حكماً من أهله وحكماً من أهلها؛ لينظر في أمرهما بعد اختلاء حكمه به وحكمها بها، ومعرفة ما عندهما في ذلك ويصلحا بينهما، أو يفرقا إن عسر الإصلاح، وصحح في «الروضة» وجوب بعث الحكمين؛ لظاهر الأمر في الآية، وكونهما من أهلهما ليس واجباً، بل هو مستحب، وهما وكيلان لهما فيشترط رضاهما ببعث الحكمين،
فيوكل حكمه بطلاق وقبول عوض خلع، وتوكل حكمها ببذل عوض وقبول طلاق به، ويفرق الحكمان بينهما إن رأياه صواباً.
وإذا رأى حكم الزوج الطلاق .. استقل به ولا يزيد على طلقة، وإن رأى الخلع ووافقه حكمها .. تخالعا، ويعتبر فيهما تكليف، وإسلام، وحرية، وعدالة، واهتداء إلى ما بُعثا له لا اجتهاد وذكورة.
قال الرافعي: وإنما اعتبر فيهما الإسلام والحرية والعدالة على القول بوكالتهما؛ لتعلقها بنظر الحاكم كما في أمينه.
والألف في قول الناظم: (ختما) ، و (الحَظا) و (وَعَظا) للإطلاق، وقوله:(ورَتْقا) بالقصر؛ للوزن.