المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب القضاء أي: الحكم، وهو في الأصل يقال لإتمام الشيء وإمضائه - فتح الرحمن بشرح زبد ابن رسلان

[شهاب الدين الرملي]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطهارة

- ‌بابُ النّجاسة

- ‌باب الآنية

- ‌بابُ السِّواك

- ‌باب الوضوء

- ‌بابُ المسح على الخُفَّين

- ‌بابُ الاستنجاء

- ‌باب الغسل

- ‌بابُ التّيَمُّم

- ‌بابُ الحَيض

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب سجود السهو

- ‌باب صلاة الجماعة

- ‌باب صلاة المسافر

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌باب صلاة الجمعة

- ‌باب صلاة العيدين

- ‌باب صلاة الخسوف للقمر والكسوف للشمس

- ‌باب صلاة الاستسقاء

- ‌كتاب الجنائز

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب زكاة الفطر

- ‌باب قسم الصدقات

- ‌باب الصيام

- ‌باب الاعتكاف

- ‌باب الحج

- ‌باب محرمات الإحرام

- ‌كتاب البيوع

- ‌كتاب السلم

- ‌باب الرهن

- ‌باب الحجر

- ‌باب الصلح وما ذكر معه

- ‌باب الحوالة

- ‌باب الضمان

- ‌باب الشركة

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الإقرار

- ‌باب العارية

- ‌باب الغضب

- ‌باب الشفعة

- ‌باب القراض

- ‌[باب يملك العامل ربع حصته]

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الإجازة

- ‌بابُ الجُعَالة

- ‌بابُ إحياء المَوات

- ‌بابُ الوَقف

- ‌بابُ الهِبَة

- ‌بابُ اللُّقَطة

- ‌باب اللقيط

- ‌باب الوديعة

- ‌كتاب الفرائض

- ‌باب الوصية

- ‌باب الوصايا

- ‌كتاب النكاح

- ‌باب الصداق

- ‌باب الوليمة

- ‌باب القَسْمِ والنُشُوز

- ‌باب الخلع

- ‌بابُ الطَّلاق

- ‌باب الرجعة

- ‌باب الإيلاء

- ‌باب الظِهار

- ‌باب اللعان

- ‌بابُ العِدَّة

- ‌باب الاستبراء

- ‌بابُ الرّضاع

- ‌باب النفقات

- ‌باب الحضانة

- ‌كتاب الجنايات

- ‌باب دعوى القتل

- ‌باب البغاة

- ‌باب الردة

- ‌باب حد الزنا

- ‌باب حد القذف

- ‌باب السرقة

- ‌باب قاطع الطريق

- ‌باب حد الخمر

- ‌باب الصائل

- ‌كتاب الجهاد

- ‌باب الغنيمة

- ‌باب الجزية

- ‌باب الصيد والذبائح

- ‌باب الأضحية

- ‌بابُ العقيقة

- ‌بابُ الأَطِعمة

- ‌باب المسابقة على الخيل والسهام ونحوهما

- ‌باب الإيمان

- ‌باب النذر

- ‌كتاب القضاء

- ‌كتاب القسمة

- ‌باب الشهادة

- ‌باب الدعوى

- ‌بابُ العِتق

- ‌بابُ التدبير

- ‌بابُ الكِتابة

- ‌باب الإيلاد

الفصل: ‌ ‌كتاب القضاء أي: الحكم، وهو في الأصل يقال لإتمام الشيء وإمضائه

‌كتاب القضاء

أي: الحكم، وهو في الأصل يقال لإتمام الشيء وإمضائه وإحكامه، سمي بذلك؛ لأن القاضي يتمم الأمر ويحكمه ويمضيه.

والأصل فيه قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {وأم احكم بينهم بما انزل الله} [المائدة: 49]، وقوله:{فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42]، وقوله تعالى:{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس} [الزمر: 2]، وأخبار: كخبر "الصحيحين": "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ .. فله أجر، وإن أصاب .. فله أجران"، وفي رواية صحح الحاكم إسنادها:"فله عشرة أجور"، وروى البيهقي خبر:"إذا جلس الحاكم للحكم .. بعث الله تعالى له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل .. أقاما وإن جار .. عرجا وتركاه".

وما جاء في التحذير من القضاء؛ كقوله: "من جاء قاضياً .. ذبح بغير سكين". محمول على عظم الخطر فيه، أو على من يكره له القضاء، أو يحرم على ما سيأتي.

[حكم تولي القضاء]

وهو فرض كفاية في حق الصالحين له في الناحية، فيولي فيها أحدهم ليقوم به، فإن تعين له فيها واحد؛ بأن لم يصلح غيره .. لزمه طلبه، وقبوله إذا وليه، وإن لم يتعين له واحد؛ بأن كان معه غيره: فإن كان غيره أصلح وكان يتولاه .. فللمفضول القبول، ويكره طلبه، ويستحب للفاضل الطلب والقبول، وإن كان الأصلح لا يتولاه .. فهو كالمعدوم، وإن كان مثله .. فله القبول، ويندب له الطلب إن كان خاملاً يرجو به نشر العلم، أو كان محتاجاً إلى الرزق، ويحصل به من بيت المال، وإلا .. فالأولى له تركه، ويكره له الطلب، والاعتبار في التعين وعدمه بالناحية.

ص: 970

(وإنما يليه مسلم ذكر

مكلف حز سميع ذو بصر)

(ذو يقظه عدل وناطق، وأن

يعرف أحكام القرآن والسنن)

(ولغة والخلف مع إجماع

وطرق الاجتهاد بالأنواع)

[شروط القاضي]

ذكر في هذه الأبيات أنه يشترط في القاضي عشرة أشياء: كونه مسلماً، ذكراً، مكلفاً، حراً، سميعاً، متيقظاً، ناطقاً، مجتهداً.

فلا يتولاه كافر ولو على كفار، وما جرت به عادة الولاة من نصب حاكم لهم .. فهو تقليد رياسة وزعامة، لا تقليد حكم، وإنما يلزمهم حكمه بالالتزام لا بإلزامه.

ولا امرأة؛ إذ لا يليق بها مجالسة الرجال، ورفه صوتها بينهم، ولا خنثى كالمرأة.

ولا غير مكلف؛ لأنه لا يعتبر قوله على نفسه، فعلى غيره أولى.

ولا رقيق أو مبعض؛ لنقصه وعدم فراغه.

ولا أصم ولا أعمى، ولا مغفل ولا فاسق، ولا أخرس وإن فهمت إشارته.

ولا جاهل أو مقلد، أو مختل الرأي بكر أو مرض، لعجزهم عن تنفيذ الأحكام وإلزام الحقوق. والاجتهاد لغة: استفراغ الوسع في تحقيق ما يستلزم المشقة، واصطلاحاً: استفراغ الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي.

وشرطه: أن يعرف أحكام القرآن، والسنن، ولغة العرب مفرداتها ومركباتها؛ لورود الشريعة بها، ولأن بها يعرف عموم اللفظ وخصوصه، وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعاً واختلافاً؛ لئلا يخالفهم في اجتهاده، وطرق الاجتهاد من حال الرواة قوة وضعفاً، والقياس مع الأنواع المذكورات.

فمن أنواع القرآن والسنة: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والنص والظاهر، والناسخ والمنسوخ.

ومن أنواع الستة: المتواتر والآحاد، والمسند والمرسل.

ص: 971

ومن أنواع القياس: الأولى والمساوي والأدون، فيعمل بها؛ كقياس الضرب للوالدين على التأفيف لهما، وقياس إحراق مال اليتيم على أكله في التحريم فيهما، وقياس التفاح على البر في (باب الربا) بجامع الطعم المشتمل عليه مع القوت والكبل البر، ويقدم الخاص على العام المعارض له، والمقيد على المطلق، والناسخ والمتصل والقوي.

قال القاضي: ولا يشترط أن يكون في كل نوع من هذه مبرزاً؛ حتى يكون في النحو كسيبويه، وفي اللغة كالخليل، بل يكون في الدرجة الوسطى من جميع ما تقدم.

قال الشيخان: قال الأصحاب: وأن يعرف أصول الاعتقاد، قال الغزالي: وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم، ولا التبحر في هذه العلوم، بل يكفى معرفة جمل منها، ولا يشترط حفظها عن ظهر القلب، بل يكفي أن يعرف مظائها من أبوابها، فيراجعها وقت الحاجة إليها، ثم اجتماع هذه الأمور إنما يشترط في المجتهد المطلق؛ الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، ويجوز تجزي الاجتهاد؛ بأن يكون الشخص مجتهداً في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه.

فإن تعذر جمع هذه الشروط؛ كما في زمننا، فولى سلطان ذو شوكة فاسقاً أو نحوه .. صحت ولايته، ونفذ قضاؤه للضرورة؛ لئلا تتعطل مصالح الناس، ولهذا ينفذ قضاء أهل البغي.

ويستحب للإمام إذا ولى قاضياً: أن يأذن له في الاستخلاف إعانة له، فإن نهاه عنه .. لم يستخلف، ويقتصر على ما يمكنه إن كانت توليته أكثر منه، فإن أطلق توليته فيما لا يقدر إلا على بعضه .. استخلف فيما يعجز عنه؛ لحاجته إليه، لا فيما يقدر عليه في الأصح، والقادر على ما وليه لا يستخلف فيه أيضاً في الأصح.

ولو أذن له الإمام في الاستخلاف .. قطع ابن كج بأنه يستخلف في المقدور عليه كغيره.

وما ذكر في الاستخلاف العام، أما الخاص؛ كتحليف وسماع بينة .. فقطع القفال بجوازه، قال غيره: هو على الخلاف؛ وهو مقتضى إطلاق الأكثرين، كذا في "الروضة" كـ"أصلها".

وشرط المستخلف كالقاضي، إلا أن يستخلف في أمر خاص كسماع بينة، فيكفي علمه بما

ص: 972

يتعلق به، ويحكم باجتهاده إن كان مجتهداً، أو اجتهاد مقلده إن كان مقلداً حيث ينفذ قضاء المقلد، ولا يجوز أن يشترط عليه خلافه، فلو شرطه .. لم يصح الاستخلاف، وكذا لو شرطه الإمام في تولية القاضي .. لم تصح توليته.

ولو حكم خصمان رجلاً في غير حدود الله تعالى .. جاز مطلقاً بشرط أهليته للقضاء، ولا ينفذ حكمه إلا على راض به، فيشترط رضا العاقلة في ضرب الدية عليهم، وإن رجع أحدهما قبل الحكم .. امتنع الحكم، ولا يشترط الرضا بعده.

ولو نصب الإمام قاضيين ببلد، وخص كلا منهما بمكان منه أو زمن، أو نوع؛ كالأموال أو الدماء أو الفروج .. جاز، وكذا إن لم يخص في الأصح؛ كالوكيلين والوصيين، إلا أن يشترط اجتماعهما على الحكم، فلا يجوز؛ لما يقع منهما من الخلاف في محل الاجتهاد.

وقول الناظم: (الفران) بنقل حركة الهمزة إلى الراء، وقوله:(الاجتهاد) بنقل حركة الهمزة إلى اللام.

[ما يستحب في القاضي]

(ويستحب كاتباً، ويدخل

بكرة الاثنين، ووسطاً ينزل)

أي: يستحب كون القاضي كاتباً؛ لأنه قد يكتب إلى غيره، ويكتب غيره إليه، فلا يحتاج إلى كاتب، ولا قارئ ولا يشترط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب.

ويستحب أيضاً: أن يكون وافر العقل، حليماً متثبتاً، ذا فطنة وتيقظ، كامل الحواس والأعضاء، عالماً بلغة الذين يقضي بينهم، بريئاً من الشحناء، بعيداً من الطمع، صدوق اللهجة، ذا رأي وسكينة ووقار، ولا يكون جباراً تهابه الخصوم، فلا يتمكنون من استيفاء الحجة، ولا ضعيفاً يستخفون به، والأولى أن يكون قرشياً، ورعاية العلم والتقوى أهم من رعاية النسب، وصحح ابن الصلاح وتبعه النووي في مقدمة "المجموع": اشتراط معرفة الحساب؛ لتصحيح المسائل الفقهية بالنسبة إلى المفتي؛ وهو جار في القاضي، قال في "المطلب": وهو الصواب.

ويندب للإمام أن يكتب لمن يوليه القضاء ببلد كتاباً به؛ بما يحتاج إليه فيه، ويشهد بالكتاب

ص: 973

شاهدين يخرجان معه إلى البلد، يخبران بالحال من التولية وغيرها، ويكفي إخبارهما بها من غير كتاب، وتكفي الاستفاضة بها لا مجرد كتاب بها، ويبحث القاضي عن علماء البلد وعدوله قبل دخوله، فإن لم يتيسر .. فحين يدخل، ويدخل بلد حكمه بكرة يوم الإثنين.

قال في "الروضة": قال الأصحاب: فإن تعسر يوم الإثنين .. فالخميس، وإلا .. فالسبت، وينزل وسط البلد بفتح السين؛ ليتساوى أهله في القرب منه، وينظر أولاً في أهل الحبس؛ لأنه عذاب.

قال الماوردي: وقبل النظر فيهم يتسلم من المعزول المحاضر والسجلات، وأموال اليتامى، والضوال والأوقاف، ويؤخذ منه ما جزم به البلقيني: أنه يقدم على النظر فيهم أيضاً كل ما كان أهم منه؛ كالنظر في المحاجير الذين تحت نظره، وما أشرف على الهلاك من الحيوان في التركات وغيرها، وما أشرف من الأوقاف وأملاك محاجيره على السقوط؛ بحيث يتعين الفور في تداركه.

وقبل جلوسه للنظر في المحبوسين يأمر منادياً ينادي يوماً، أو أكثر بحسب الحاجة: ألا إن القاضي ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا، فمن له محبوس .. فليحضر، ويبعث إلى الحبس أميناً أو أمينين؛ ليكتب اسم كل محبوس وما حبس به، ومن حبس له في ورقة.

فإذا جلس اليوم الموعود وحضر الناس .. صبت الأوراق بين يديه، وأخذ واحدة واحدة، ونظر في الاسم المثبت فيها، وسأل عن خصمه، فمن قال:(أنا خصمه) .. بعث معه ثقة إلى الحبس ليأخذ بيد محبوسه ويحضره.

فإذا حضر عنده .. سأل المحبوس عن سبب حبسه، فإن اعترف بالحق .. عمل معه مقتضى الاعتراف، وإن قال:(حبست ظلماً) .. فعلى خصمه حجة بأنه حبسه بحق، فإن لم يقمها .. صدق المحبوس بيمينه، ويطلقه إن ثبت ما ادعاه بحلفه أو بينة، أو اعتراف خصمه، أو يعلم القاضي.

(وإن كان خصمه غائباً

خلاه في الحبس وبحث عنه)

وإن ادعى الجهل بسبب حبسه، أو قال:(لا خصم لي) .. نودي عليه لطلب الخصم ثلاثة أيام؛ كما في "البحر" وغيره، ولا يحبس مدة النداء، ولا يخلى بالكلية، بل يراقب، فإن

ص: 974

حضر خصمه في هذه والتي قبلها وأقام حجة على الحق، أو على أن القاضي حكم عليه بذلك .. فذاك، وإلا .. أطلقه، ويحلف النافي على ما يدعيه؛ لأن الحبس بلا خصم خلاف الظاهر.

ويطلق من حبس للتعزيز إن رأى إطلاقه، وإن رأى مصلحة في إدامة حبسه .. أدامه.

ثم ينظر في الأوصياء على الأطفال ونحوهم؛ لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المرافعة، فمن ادعى وصاية .. سئل عن حالها، وعن حاله وتصرفه، فمن وجده مستقيم الحال قوياً .. أقره، أو فاسقاً. أخذ المال منه، أو ضعيفاً .. عضده بمعين.

فإن قال الموصي: (فرقت ما أوصى به) فإن كان لمعينين .. لم يتعرض له، أو بجهة عامة وهو عدل .. أمضاه، أو فاسق .. ضمنه بتعديه، وغير الوصي إذا فرق ما هو لمعينين .. وقع الموقع؛ لأن لهم أن يأخذوه من غير واسطة، أو لجهة عامة .. ضمن.

وقول الناظم: (الاثنين) بنقل حركة الهمزة إلى اللام.

(ومجلس الحكم يكون بارزاً

متسعاً من وهج حر حاجزاً)

(يكره بالمسجد حيث قصدا

حكم، خلاف مالك وأحمدا)

(ونصب بواب وحاجب بلا

عذر، وإلا فأميتا عاقلاً)

(وحكمه مع ما بخل فمره

– كغصب لحظ نفس – يكره)

(ومرض وعطش وجوع

حقن نعاس ملل وشيع)

(حر وبرد فرح وهم

والقاض في ذي نافذ للحكم)

[ما يستحب في مجلس القضاء]

أي: يستحب كون مجلس الحكم بارزاً؛ أي: ظاهراً ليهتدي إليه كل واحد، فسيحاً متسعاً، حتى لا يزدحم فيه الخصوم ويتضرر الشيخ الكبير والعجوز ونحوهما.

وأن يكون حاجزاً؛ أي: مصوناً من وهج الحر أذى البرد والريح، والغبار والدخان؛ كأن يكون في الصيف في مهب الرياح وفي الشتاء في كن، هذا إن اتحد المجلس، فإن تعدد وحصل زحام .. اتخذ مجالس بعدد الأجناس، فلو اجتمع رجال وخناثي ونساء .. اتخذ ثلاثة مجالس؛ قاله ابن القاص.

ص: 975

وينبغي ارتفاع محل جلوسه كدكة، وأن يتوجه للقبلة غير متكئ، وحسن أن يوضع له فراش ووسادة؛ ليعرفه الناس، ويكون أهيب للخصوم، وأرفق به فلا يمل.

ويكره القضاء في المسجد إذا اتخذ بقصد الحكم فيه؛ صوناً له عن ارتفاع الأصوات واللغط الواقعين بمجلس الحكم عادة، وقد يحتاج لإحضار المجانين والصغار، والحيض والكفار، ولخبر ابن ماجه والطبراني في "الكبير":"جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم"، بخلاف اتخاذه مجلساً للفتوى، وتعليم القرآن والعلم فلا يكره.

ولو اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد لصلاة أو غيرها .. فلا بأس بفصلها؛ للاتباع، رواه البخاري، وهذا مخالف لمالك وأحمد حيث قالا: لا يكره القضاء في المسجد، فقد روي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم: أنهم كانوا يقضون في المسجد، وقال مالك رضي الله تعالى عنه: القضاء في المسجد من أمر الناس القديم، وقال الشعبي: رأيت عمر رضي الله عنه مستنداً؛ يعني: إلى القبلة، يقضي بين الناس، ولأن القضاء قرية وإنصاف بين الناس فلم يكره في المسجد.

[ما يكره للقاضي]

ويكره للقاضي حال جلوسه للحكم نصب حاجب يحجب الناس عن الوصول إليه؛ لخبر الترمذي: "من ولي من أمور المسلمين شيئاً واحتجت دون حاجتهم .. احتج الله دون حاجته، وفقره وفاقته"، واتخاذ بواب يمنع الناس ويغلق الباب دونهم، خصوصاً إن كان يغلقه عن الفقراء ويفتحه للأغنياء والرؤساء، وهذا لم يكن عذر، فإن كان لزحام، أو لم يجلس للحكم؛ بأن كان في وقت خلواته .. لم يكره نصبهما.

قال الماوردي: إنما يكره الحاجب إذا كان وصول الخصم موقوفاً على إذنه، وأما من وظيفته ترتيب الخصوم وإعلامه بمنازل الناس؛ وهو المسمى في زماننا بالنقيب .. فلا بأس باتخاذه، وصرح القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ باستحبابه فقالوا: يستحب أن يتخذ حاجباً يقوم على رأسه إذا قعد، ويقدم الخصم ويؤخرهم.

ص: 976

قال ابن أبي الدم: وهذا هو الصحيح في زماننا، وإن لم يكره .. فيشترط كونه عدلاً أميناً عفيفاً عاقلاً؛ صرح به الماوردي والروباني.

واستحب ابن خيران: كونه كهلاً كثير الستر على الناس.

واسحب ابن المنذر كونه خصياً لمكان النساء، قال الصيمري: لا وجه له؛ لأن الشيخ الكبير يؤمن منه الخوف عليهن.

ويكره حكم القاضي مع وجود شيء مما يخل بفكره؛ كغضب لحظ نفسه، ومرض مؤلم، وعطش وجوع، وحقن ونعاس، وملل وشبع، وحر وبرد، وفرح وهم؛ لخبر "الصحيحين":"لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان"، ورواه ابن ماجه بلفظ: "لا يقضي القاضي

"، وفي "صحيح أبي عوانة": "لا يقضي القاضي وهو غضبان مهموم، ولا نصاب محزون، ولا يقضي وهو جائع"، وفي معنى ذلك سائر ما يخل بالفكر.

وخرج بقول الناظم: (لحظ نفس): الغضب لله تعالى، وقد استثناه البغوي والإمام وغيرهما، واستغربه في "البحر".

قال البقلقيني: والمعتمد: الاستثناء؛ لأن الغضب لله تعالى يؤمن معه التعدي، بخلاف الغضب لحظ النفس، وقال الأذرعي: الراجح من حيث المعنى، والموافق لإطلاق الأحاديث وكلام الشافعي رضي الله عنه والجمهور: أنه لا فرق؛ لأن المحذور تشويش الفكر، وهو لا يختلف بذلك.

نعم؛ تنتفي الكراهة إذا دعت الحاجة إلى الحكم في الحال، وقد يتعين الحكم على الفور في صور كثيرة، ولو حكم في هذه الأحوال .. نفذ حكمه؛ لقصة الزبير المشهورة، وفعله صلى الله عليه وسلم محمول على التشريع.

والألف في قول الناظم: (قصدا) و (أحمدا) للإطلاق، وقوله:(والقاض) بحذف الياء.

ص: 977

(تسوية الخصمين في الإكرام

فرض، وجاز الرفع بالإسلام)

(هدية الخصم لمن لم يعتد

قبل القضا: حرم قبول ما هدى)

(ولم يجز تلقين مدع، ولا

تعيين قوم غيرهم لن يقبلا)

(وإنما يقبل قاض ما كتب

قاض إليه حين مدع طلب)

(بشاهدين ذكرين شهدا

بما حواه جين خصم جحدا)

فيها أربع مسائل:

[التسوية بين الخصمين فرض]

الأولى: التسوية بين الخصمين في كل إكرام فرض على القاضي في دخول عليه، بأن يأذن لهما فيه، وقيام لهما، ونظر إليهما، واستماع لكلامهما، وطلاقة وجه لهما، وجواب سلام منهما، ومجلس؛ بأن يجلسهما إن كانا شريفين بين يديه، أو أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وكذا سائر أنواع الإكرام، فلا يخص أحدهما بشيء منها؛ لأن تخصيص أحدهما بكسر قلب الآخر، ويمنعه أن يلحن بحجته، فلم سلم الخصمان معاً. أجيابهما، أو أحدهما .. قال الرافعي: قال الأصحاب ينتظر سلام الآخر فيجيبهما معاً، وقد يتوقف فيه مع طول الفصل، وذكروا أنه لا بأس أن يقول للآخر: سلم، فإذا سلم .. أجابهما، قال: وفيه اشتغال منه بغير الجواب، ومثله يقطع الجواب عن الخطاب، وكأنهم احتملوا ذلك؛ لئلا يبطل معنى التسوية، وما نقله عن الأصحاب أولاً .. قال الزركشي: حكاه الإمام عن القاضي وحده ثم زيفه، وحكى الماوردي في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: يرده عليه في الحال، ثانيها: بعد الحكم، ثالثها: يرد عليهما معاً في الحال، ولم يحك ما نقله الرافعي وجهاً، بل عزاه لبعض الفقهاء؛ يعني: من غير أصحابنا، والمختار ما مال إليه الإمام: من وجوب الرد في الحال، وبه جزم القاضي أبو الطيب، وشريح الروياني وغيرهما، وصححه الجرجاني. انتهى، وسبقه إلى الإسنوي وأطال فيه، ثم قال: فتلخص أن ما نسبه الرافعي إلى

ص: 978

الأصحاب .. غلط أوقعه فيه البغوي للقاضي. انتهى.

وجاز القاضي رفع المسلم على الكافر في المجلس؛ بأن يجلس المسلم أقرب إلى القاضي؛ كما جلس على رضي الله عنه بجنب شريح في خصومه له مع يهودي، وقال: لو كان خصمي مسلماً .. لجلست معه بين يديك، ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تساووهم في المجلس" وراه البيهقي في "سننه"، وفي سائر وجوه الإكرام حتى في التقديم في الدعوى؛ كما بحثه بعضهم.

ويقدم القاضي عند اجتماع الخصوم المسافر الذي تهيأ للسفر وخاف انقطاعه عن رفقته إن تأخر على المقيم؛ لئلا يتضرر، ثم يقدم بعد المرأة على غيرها؛ طلباً لسترها.

نعم؛ إن كثر المسافرون أو النساء .. قدم بالسبق، ثم بالقرعة؛ كما في بعض كل منهما مع الآخر.

قال في "الروضة" كـ"أصلها": وينبغي ألا يفرق بين كونهم مدعين ومدعى عليهم، وتقديهم رخصة غير واجب، وقيل: واجب، واختار في الروضة: أنه مندوب.

ثم بعد المرأة يقدم وجوباً السابق لمجلس الحكم، والعبرة بسبق المدعي دون المدعى عليه، ثم من خرجت له القرعة، فإن عسر الإقراع لكثرتهم .. كتب أسمائهم في رقاع ووضعت بين يجيه؛ ليأخذ واحدة واحدة، فيسمع دعوى من خرج اسمه، ويقدم السابق والقارع في خصومة واحدة، فلا يثنى بأخرى؛ دفعاً للضرر عن الباقين، فينتظر فراغهم، أو يحضر في مجلس آخر.

وأما المقدم بالسفر .. فقال النووي: الأرجح: أنها إن كانت قليلة أو خفيفة بحيث لا تضر بالباقيين إضراراً بيناً .. قد بجميعها، وإلا .. فبواحدة؛ لأنها مأذون فيها، وقد يقنع بواحدة ويؤخر الباقي إلى أن يحضر، واعترضه الإسنوي: بأن ما ذكره من التقديم بواحدة .. ممنوع، بل القياس على ما قاله: أن يسمع في عدد منها لا يضر بالباقين. انتهى.

وقال بعضهم: والظاهر: أن المرأة في ذلك كالمسافر، وأن الخنثى كالمرأة.

ص: 979

[حكم الهدية للقاضي وما يتعلق به]

الثانية: هدية من له خصومة إلى القاضي حرام، فيحرم عليه قبولها ولو عهد ذلك منه قبل القضاء؛ لخبر:"هدايا العمال غلول" وراه البيهقي بإسناد حسن، وروي:"هدايا العمال سمحت"، وروي:"هدايا السلطان سحت"، ولأنها تدعو إلى الميل إليه، فلا يملكها القاضي لو قبلها، فيجب عليه ردها إلى مالكها، فإن تعذر .. وضعها في بيت المال؛ كمن لم يعتد قبل القضاء الهدية إلى القاضي ولا خصومة له؛ فإنه يحرم على القاضي قبول هديته في محل هديته في محل ولايته؛ للخبر السابق، ولأن سببها العمل ظاهراً، بخلافها في غير محل ولايته؛ فإنها لا يحرم قبولها؛ كما في "الروضة" و"أصلها".

وإن كان يهدي إليه قبل ولايته القضاء ولا خصومة له .. جاز قبولها إذا كانت بقدر العادة؛ لأنها ليست حادثة بسبب العمل، والأولى ألا يقبلها؛ لأنه أبعد عن التهمة أو يثبت عليها، أما إذا زادت على العادة .. فكما لو لم يعهد منه؛ قاله في "الروضة" كـ"أصلها"، وقضيته: تحريم الجميع.

وقال الروياني نقلاً عن المذهب: إن كانت الزيادة من جنس الهدية .. جاز قبولها؛ لدخولها في المألوف، وإلا .. فلا، والضيافة والهبة كهدية.

وأما الرشوة: وهي ما يبذل للقاضي ليحكم بغير الحق، أو ليمتنع من الحكم بالحق .. فحرام مطلقاً.

ولا ينفذ حكم القاضي لنفسه ورقيقه وشريكه في المشترك، وأصله وفرعه، ورقيق كل منهما، وشريكه في المشترك، ويحكم له ولهؤلاء الإمام، أو قاض أو نائبه.

وإذا أقر المدعى عليه، أو نكل فحلف المدعي، أو أقام بينة وسأل القاضي أن يشهد على إقراره أو يمينه، أو الحكم بما ثبت والإشهاد به .. لزمه، وكذا إذا حلف المدعى عليه وسأله الإشهاد ليكون حجة له .. فلا يطالب مرة أخرى.

وإذا حكم باجتهاد ثم بان خلاف نص الكتاب أو السنة، أو الإجماع أز قياس جلي .. تبين

ص: 980

بطلانه، بخلاف القياس الخفي، والقضاء فيما باطن الأمر فيه بخلاف ظاهره ينفذ ظاهراً لا باطناً.

فلو حكم بشهادة زور بظاهري العدالة .. لم يحصل بحكمه الحل باطناً، سواء المال والنكاح وغيرهما، وما باطن الأمر فيه كظاهره؛ بأن ترتب على أصل صادق ينفذ القضاء فيه باطناً أيضاً قطعاً إن كان في محل اتفاق المجتهدين، وعلى الأصح عند البغوي وغيره: إن كان في محل اختلافهم وإن كان القضاء لمن لا يعتقده؛ لتتفق الكلمة ويتم الانتفاع.

ولا يقضي بخلاف علمه بالإجماع؛ كأن علم أن المدعي أبرأ المدعي عليه مما ادعاه، وأقام به بينة، أو أن المدعي قتله -وقامت به بينة- حي، فلا يقضي بالبينة فيما ذكر.

ويقضي بعلمه ولو في الطلاق والعتق؛ كما يقضي بالحجة، بل أولى سواء أعلم ذلك في زمن ولايته ومكانها، أم في غيرهما، وسواء أكان في الواقعة بينة أم لا، وذكر الماوردي والروياني: أنه لا ينفذ الحكم بالعلم إلا مع التصريح بأن مستنده علمه بذلك؛ كأن يقول: (قد علمت أن له عليك ما ادعاه، وحكمت عليك بعلمي) كما يقضي بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم، وفي التقويم لما يحتاج لتقويمه وإن لم يكن معه مقوم آخر، إلا في حدود الله تعالى وتعازيره؛ لندب الستر في أسبابها، بخلاف عقوبات الآدمي وحقوقه تعالى المالية.

[حرمة تلقين المدعي]

الثالثة: يحرم على القاضي تلقين مدع كيف يدعي؛ لما فيه من كسر قلب الآخر، وتعيين قوم من الشهود ولا يقبل غيرهم؛ لقوله تعالى:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، ولأن فيه إضراراَ بالناس؛ لأن كثيراً من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها لا يطلع عليها المعينون، لكن له أن يرتب شهوداً يشهدهم الناس، فيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم، ويستغني الحاكم عن الكشف عن حالهم.

[القضاء على الغائب]

الرابعة: إنما يقبل القاضي الذي في بلد الخصم كتاب القاضي على الغائب إذا سمع البينة على الغائب وقبلها، وثبت عنده المال على الغائب، وكتب إلى قاضي البلد الذي فيه المدعي عليه، وذلك حين يطلب المدعي منه ذلك ويكتب، فإذا وصل الكتاب إلى القاضي .. لا يقبله

ص: 981

إلا بشاهدين عدلين ذكرين شهدا على القاضي بما حواه كتابه حين أشهدهما على نفسه، وختم الكتاب، وذكر فيه نقش خاتمه الذي ختم به من نسخة مع الشاهدين غير مختومة للمطالعة.

ويكتب القاضي اسم نفسه، واسم المكتوب إليه في باطن الكتاب، وعلى العنوان.

ثم المكتوب إليه يحضر الخصم، فإن أقر .. استوفى الحق منه، وإن جحد ذلك .. شهد الشاهدان عليه بما يعلمانه.

ويجوز القضاء على الغائب بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو رجل ويمين كالحاضر، ويجب أن يحلف يميناً أخرى؛ لنفي المسقط في الصر الثلاث، والقاضي بعد سماع البينة قد يحكم وينهي إلى حاكم آخر، وقد يقتر على السماع وينهيه، و (الإنهاء): أن يشهد عدلين بذلك.

ويستحب كتاب يذكر فيه ما يتميز به المحكوم عليه، ويختمه كما مر، فإن قال:(لست المسمى فيه) .. صدق بيمينه، وعلى المدعي البينة على أنه اسمه ونسبه، فإن أقامها فقال:(لست المحكوم عليه) .. لزمه إن لم يكن هناك مشارك له في الاسم والصفات عاصر المحكوم عليه، وإن وجد المشارك واعترف .. طولب به، وخلص الأول، وإلا .. فيحتاج إلى مزيد صفة يتميز بها المشهود عليه.

ولو حضر قاضي بلد الغائب إلى بلد الحاكم فشافهه بحكمه .. أمضاه إذا عاد إلى بلده، والأولى تسمية البينة، وكتاب الحكم يُمضي مع قرب المسافة وبعدها، وسماع البينة لا يُمضي إلا فيما فوق مسافة العدو.

والألف في قول الناظم: (يقبلا) و (جحدا) للإطلاق.

ص: 982