الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الوديعة
تقال على الإيداع، وعلى العين المودعة؛ من ودع الشيء يدع إذا سكن؛ لأنها ساكنة عند المودع، وقيل: من قولهم: فلان في دعة؛ أي: راحة؛ لأنها في راحة المودع ومراعاته.
والأصل فيها: قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمنت إلي أهلها} ، وقوله تعالى:{فليؤد الذي اؤتمن امنته} ، وخبر:"أد الأمانة إلي من ائتمنك، ولا تخن من خانك" رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، والحاكم وقال: على شرط مسلم، ولأن بالناس حاجة، بل ضرورة إليها.
وأركانها أربعة: مودع، ومودع، ووديعة، وصيغة.
(سن قبولها إذا ما أمنا
…
خيانة إن لم يكن تعينا)
(عليه حفظها بحرز المثل
…
وهو أمين مودع في الأصل)
(يقبل باليمين قول الرد
…
لمودع لا الرد بعد الجحد)
(وإنما يضمن بالتعدي
…
والمطل في تخليه من بعد)
(طلبها من غير عذر بين
…
وارتفعت بالموت والتجنن)
[حكم قبول الوديعة]
أي: سن قبول الوديعة إذا أمن على نفسه من الخيانة فيها وقدر على حفظها؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى المأمور به، وهذا إن لم يتعين عليه قبولها، فإن تعين؛ بأن لم يكن هناك غيره .. وجب عليه قبولها؛ كأداء الشهادة، ولكن لا يجبر حينئذ على إتلاف منفعته ومنفعة حرزه بغير عوض.
ويحرم عليه أخذها عند عجزه عن حفظها؛ لأنه يعرضها للتلف، ويكره عند القدرة لمن لم يثق بنفسه، قال ابن الرفعة: إلا أن يعلم بحالة المالك، فلا يحرم ولا يكره، والإيداع صحيح، والوديعة أمانة وإن قلنا بالتحريم، وأثر التحريم مقصور على الإثم، لكن لو كان
المودع وكيلاً، أو ولى حيث يجوز له الإيداع .. فهي مضمونة بمجرد الأخذ قطعاً، ولم يتعرضوا له، قاله الزركشي.
[وجوب حفظ الوديعة]
ويجب على المودع ولو عند إطلاق المودع حفظ الوديعة في حرز مثلها ودفع متلفاتها، فلو أخر إحرازها مع التمكن، أو وضعها في غير حرز مثلها، أو وقع الحريق في الدار فتركها حتى احترقت، أو ترك علف الدابة أو سقيها حتى ماتت به، أو ترك نشر ثياب الصوف والأكسية، وكل ما يفسده الدود، أو لبسها إذا لم تندفع الآفة إلا به حتى تلفت .. ضمنها.
[الوديع أمين]
والمودع أمين؛ إذ أصل الوديعة الأمانة، فلو تلفت بلا تفريط .. لم يضمنها؛ لأن الله تعالى سماها أمانة، والضمان ينافيها، ولأن المودع يحفظها للمالك فيده كيده، ولو ضمن .. لرغب الناس عن قبول الودائع، وسواء أكانت بجعل أم لا كالوكالة.
وقضية إطلاقهم: أنه لا فرق في عدم الضمان بين الصحيحة والفاسدة، وهو مقتضى القاعدة.
وفي "الكافي": لو أودعه بهيمة وأذن له في ركوبها، أو ثوباً وأذن له في لبسه .. فهو إيداع فاسد، فإنه شرط فيه ما ينافي مقتضاه، فإذا تلفت قبل الركوب والاستعمال .. لم يضمن، أو بعده .. ضمن؛ لأنه عارية فاسدة.
ولكون الوديع أمنياً يقبل بيمينه في الرد على المودع؛ لأنه ائتمنه، ولو ادعى التلف .. قبل إجماعاً، فكذا الرد.
وشملت العبارة: الرد على من له الإيداع من مالك وولي وقيم حاكم، حتى لو ادعى الجابي تسليم ما جباه للذي استأجره على الجباية .. فالقول قوله بيمينه؛ كما أفتى به ابن الصلاح.
وخرج بما ذكره الناظم: ما لو ادعى رد الوديعة على غير من ائتمنه؛ كأن ادعى المودع ردها على وارث المودع، أو ادعى وارث المودع الرد على المالك، أو أودع عند سفره أمنياً فادعى الأمين الرد على المالك .. فإن كلا منهم يطالب بالبينة.
وكل أمين من مرتهن ووكيل، وشريك وعامل قراض، وولي محجور، وملتقط لم يتملك، وملتقط لقيط، ومستأجر وأجير وغيرهم .. يصدق باليمين في التلف على حكم الأمانة إن لم يذكر له سبباً، أو ذكر سبباً خفياً أو ظاهراً عرف دون عمومه، وإن لم يعرف .. فلا بد من إثباته بالبينة، ثم يصدق بيمينه في التلف به، وإن عرف وقوعه وعمومه، ولم يحتمل سلامتها .. صدق بلا يمين.
[جحود الوديعة]
وجحود الوديعة بعد طلب مالكها -كأن قال: (لم تودعني شيئاً) - مضمن؛ لخيانته.
ولو جحدها ثم قال: (كنت غلطت) أو (نسيت) .. لم يبرأ إلا أن يصدقه المالك.
ولو أقام المالك عليه بينة بها، فادعى ردها عليها .. لم يقبل قوله فيه، وهذا معنى قول الناظم:(لا الرد بعد الجحد)، أما لو أقام بينته بردها على مالكها .. فإنها تسمع؛ لأنه ربما نسى ثم تذكر؛ كما لو قال المدعى لشيء:(لا بينة لي به)، ثم جاء ببينة .. فإنها تسمع، وسواء أجحد أصل الإيداع أم لزوم تسليم شيء إليه.
[ضمان الوديعة]
وإنما يضمن المودع الوديعة بالتعدي فيها؛ كأن خالف مالكها فيما أمره به في حفظها، وتلفت بسبب المخالفة؛ كأن قال له:(لا ترقد على الصندوق)، فرقد وانكسر بثقله وتلف ما فيه، أو خلطها بمال نفسه، أو مال المالك ولم يتميز، أو انتفع بها كأن ركبها، أو لبسها بغير عذر، أو سافر بها مع وجود مالكها أو وكيله، ثم الحاكم، ثم الأمين.
ويضمنها أيضاً بالمطل في تخليه بينها وبين مالكها من بعد طلبها من غير عذر ظاهر؛ لتقصيره بترك التخلية الواجبة عليه حينئذ.
فإن ما طل في تخليتها لعذر ظاهر؛ كصلاة أو طهارة أو أكل، أو لقضاء حاجة أو حمام، أو ملازمة غريم يخاف هربه، أو نحوها مما لا يطول زمنه، أو لغير عذر ولكن لم يطلبها مالكها .. لم يضمنها؛ لعدم تقصيره، وإطلاق المطل عليه حيث لا طلب مجاز سلم منه تعبير غيره بالتأخير، وعبر بالتخلية؛ لأنه لا يجب على المودع مباشرة الرد وتحمل مؤنته، بل التخلية بينها وبين مالكها بشرط أهليته للقبض، فلو حجر عليه بسفه، أو كان نائماً فوضعها في يده ..
ولو أودعه جماعة مالاً وقالوا: إنه مشترك، ثم طلبه بعضهم .. لم يكن له تسليمه، ولا قسمته؛ لاتفاقهم على الإيداع فكذا في الاستراداد، بل يرفع الأمر إلي الحاكم ليقسمه، ويدفع إليه نصيبه.
[الوديعة عقد جائز من الطرفين]
والوديعة جائزة من الجانبين، فترتفع بموت المودع أو المودع، وبجنونه؛ أي: أو إغمائه؛ لأنها وكالة في الحفظ، وهذا حكم الوكالة، وترتفع أيضاً بطريان حجر السفه؛ كما قال في "الحاوي" و "الشامل" و "البيان"، وبعزل المالك وبالجحود المضمن، وبكل فعل مضمن، وبالإقرار بها لآخر، وبنقل المالك الملك فيها ببيع أو نحوه.
وفائدة الارتفاع: أنها تصير أمانة شرعية؛ كثوب طيرته الريح إلي داره، فعليه الرد عند التمكن وإن لم تطلب، فإن لم يفعل .. ضمن، والمراد به: وجوب إعلام مالك المال بحصوله في يده إن لم يعلمه.
وللمودع استرداد الوديعة، وللمودع ردها كل وقت، أما المودع .. فلأنه مالكها، أو ولي مالكها، وأما المودع .. فلتبرعه بحفظها.
قال ابن النقيب: وينبغي تقييد جواز الرد للمودع بحالة لا يلزمه فيها القبول ابتداء، أما إذا كانت بحيث يجب قبولها .. فيظهر تحريم الرد، وإن كانت بحيث يندب القبول .. فالرد خلاف الأولى إذا لم يرض به المالك. انتهى، قال الزركشي: إن ابن الرفعة أشار إليه.
والألف في قول الناظم: (أمنا) و (تعينا) للإطلاق.