الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الحج
أي: والعمرة. وهو بفتح الحاء وكسرها، لغة: القصد، شرعاً: قصد الكعبة للنسك الآتي بيانه. والعمرة لغة: الزيارة، وقيل: القصد إلى مكان عامر، وشرعاً: قصد الكعبة للنسك الآتي بيانه.
(الحج فرض، وكذاك العمرة
…
لم يجبا في العمر غير مره)
[وجوب الحج والعمرة على المستطيع]
أي: الحج فرض على المستطيع؛ للإجماع، ولقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، ولقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} ؛ أي: ائتوا بهما تامين، ولخبر:«بني الإسلام على خمس» ، وخبر مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس؛ قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» ، فقال رجل: يا رسول الله؛ كل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال صلى الله عليه وسلم:«لو قلت ذلك .. لو جبت، ولما استطعتم» . والحج مطلقاً إما فرض عين؛ وهو ما هنا، أو فرض كفاية؛ وقد ذكروه في (السير)، أو تطوع، واستشكل تصويره، وأجيب بأنه يتصور في العبيد والصبيان؛ لأن الفرضين لا يتوجهان إليهم، وبأن في حج من ليس عليه فرض عين جهتين: جهة تطوع؛ من حيث إنه ليس عليه فرض عين، وجهة فرض كفاية؛ من حيث إحياء الكعبة. قال الزركشي: وفيه التزام السؤال؛ إذ لم يخلص لنا حج تطوع على حدته، وفي الأول التزامه بالنسبة للأحرار المكلفين. وكذلك العمرة فرض على المستطيع؛ لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} ، ولما روى ابن
ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله؛ هل على النساء جهاد؟ قال: «جهاد لا قتال فيه؛ الحج والعمرة» . ولما روي البيهقي بإسناد موجود في «صحيح مسلم» في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان» ، وروى الدارقطني هذا اللفظ بحروفه ثم قال: هذا إسناد صحيح ثابت. ولما روى الترمذي وصححه: أن أبا رزين لقيط بن عامر الطفيلي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال:«حج عن أبيك واعتمر» . ولا يغني عنها الحج وإن اشتمل عليها، ويفارق الغسل حيث يغني عن الوضوء؛ بأن الغسل أصل فأغنى عن بدله، والحج والعمرة أصلان. وأما خبر الترمذي عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمر .. فهو أفضل» .. فأجيب عنه بضعفه، قال في «المجموع»: اتفق الحفاظ على ضعفه، ولا يغتر بقول الترمذي فيه: حسن صحيح. ووجوبهما على التراخي؛ لأن الحج فرض سنة خمس؛ كما جزم به الرافعي هنا، أو سنة ست؛ كما صححه في (السير)، وتبعه عليه في «الروضة» ، ونقله في «المجموع» عن الأصحاب، وأخره صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر بلا مانع، وقيس به العمرة، وتضيقهما بنذر أو بخوف عضب، أو بقضاء لزمه عارض، ثم جواز التأخير في هذين وفي كل واجب موسع مشروط بالعزم على الفعل في المستقبل.
والحج والعمرة لم يجبا في العمر غير مرة واحدة؛ لخبر أبي هريرة السابق، ولخبر الدارقطني عن سراقة قال: قلت: يا رسول الله؛ عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: «لا، بل للأبد» ، ووجوبهما أكثر من مرة بنذر أو قضاء عارض. وشرط صحة كل منهما: الإسلام فقط، فللولي أن يحرم عن الصبي والمجنون، ويصح إحرام المميز بإذن الولي، وإنما تصح مباشرته من المسلم المميز، وإنما يقع عن فرض الإسلام بالمباشرة إذا باشره المكلف الحر، فيجزئ من الفقير دون الصبي والعبد إذا كملا بعده.
(وإنما يلزم حراً مسلماً
…
كلف ذا استطاعة لكل ما)
(يحتاج من مأكول أو مشروب
…
إلى رجوعه ومن مركوب)
(لاق به بشرط أمن الطرق
…
ويمكن المسير في وقت بقي)
أي: إنما يلزم كل من الحج والعمرة حراً مسلماً مكلفاً، أما الكافر .. فلا يجب عليه وجوب مطالبة به في الدنيا، لكن يجب عليه وجوب عقاب عليه في الآخرة؛ كما تقرر في الأصول، فإن أسلم وهو معسر بعد استطاعته في الكفر .. فلا أثر لها إلا في المرتد، فإن كلا منهما يستقر في ذمته باستطاعه في الردة، ذكره في «المجموع» .
[بيان استطاعة المباشرة وشروطها]
ويعتبر في لزومهما الاستطاعة؛ لقوله تعالى: {اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، وهي نوعان: استطاعة مباشرة، واستطاعة تحصيلهما بغيره، وقد ذكر الناظم الأولى بقوله:(ذا استطاعة لكل ما يحتاج من مأكول أو مشروب) أي: وملبوس، وأوعيتها حتى السفرة التي يأكل عليها في ذهابه ورجوعه إلى بلده وإن لم يكن له بها أهل وعشيرة؛ لما في الغربة من الوحشة وانتزاع النفوس إلى الأوطان، فلو لم يجد ما ذكر، لكن كان يكسب في سفرة ما يفي بمؤنته وسفره طويل؛ أي: مرحلتان فأكثر .. لم يكلف الحج؛ لأنه قد ينقطع عن الكسب لعارض، وبتقدير ألا ينقطع عنه فالجمع بين تعب السفر والكسب تعظم فيه المشقة، وإن قصر سفره وهو يكسب
في يوم كفاية أيام .. كلف الحج بأن يخرج له؛ لقلة المشقة فيه، بخلاف ما إذا كان لا يكسب في يوم إلا كفاية يومه .. فلا يلزمه؛ لأنه قد ينقطع عن كسبه في أيام الحج فيضرر. ويعتبر كونه ذا استطاعة لمركوب بشرائه بثمن مثله، أو استئجاره بأجرة مثله، لائق به؛ بأن يصلح لمثله ويثبت عليه، هذا إن كان بينه وبين مكة مرحلتان أو دونهما وضعف عن المشي، وسواء أقدر الأول على المشي أم لا، لكن يستحب للقادر عليه الحج، وصحح الرافعي أن المشي أفضل، والنووي أن الركوب أفضل، لكن يستحب أن يركب على القتب والرحل دون المحمل والهودج؛ اقتداء به صلى الله عليه وسلم. أما اعتبار الزاد والراحلة .. فلتفسير السبيل في الآية بهما في خبر الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأما الأوعية ونحوها .. فللضرورة إليها، فإن لحقه بالركوب مشقة شديدة .. اشترط وجود محمل، واشترط شريك يجلس في الشق الآخر، فإن لم يجد الشريك .. لم يلزمه الحج وإن وجد مؤنة المحمل بتمامه. قال في «الشامل»: ولو لحقه مشقة عظيمة في ركوب المحمل .. اعتبر في حقه الكنيسة، وأطلق المحاملي وغيره أن المرأة يعتبر في حقها المحمل؛ لأنه أستر لها. وأما من بينه وبين مكة دون مرحلتين وهو قوي على المشي .. فيلزمه الحج، ولا يعتبر في حقه وجود المركوب. ويشترط فيما مر: كونه فاضلاً عن دينه، ومؤنة من عليه مؤنتهم مدة ذهابه وإيابه، وصرح الدارمي بمنعه من الحج حتى يترك لممونه مؤنته مدة الذهاب والإياب، وسواء في الدين الحال؛ لأنه ناجز والحج على التراخي، والمؤجل؛ لأنه إذا صرف ما معه إلى الحج .. فقد يحل الأجل، ولا يجد ما يقتضي به الدين، وقد تخترمه المنية فتبقى ذمته مرهونة، ولو كان ماله ديناً في ذمة إنسان: فإن أمكن تحصيله في الحال .. فكالحاصل، وإلا .. فكالمعدوم. والأصح: اشتراط كونه فاضلاً عن مسكنه، ورقيق يحتاج إليه لخدمته لزمانته أو منصبه، والخلاف فيما إذا كانت الدار مستغرقة بحاجته، وكانت سكنى مثله، والرقيق رقيق مثله، فأما إذا أمكن بيع بعض الدار أو الرقيق، ووفى ثمنه بمؤنة الحج، أو كانا نفيسين لا يليقان بمثله ولو
أبدلهما لو في التفاوت بمؤنة الحج .. فإنه يلزمه ذلك جزماً، ولا يلزم أن يأتي في النفيسين المألوفين الخلاف فيهما في الكفارة؛ لأن لها بدلاً، قاله في «الروضة» معترضاً به قول الرافعي: لا بد من عوده هنا. والأصح: أنه يلزمه صرف مال تجارته فيما ذكر، وفارق المسكن والرقيق؛ بأنه محتاج إليهما في الحال، وهذا يتخذ ذخيرة للمستقبل، ولو كان له مستغلات يحصل له منها نفقته .. لزمه بيعها وصرفها فيما ذكر في الأصح. ولا يلزم الفقيه بيع كتبه للحج في الأصح، إلا أن يكون له بكل كتاب نسختان، فيلزمه بيع إحداهما؛ لعدم حاجته إليها؛ ذكره في «المجموع» . ولو ملك ما يمكنه به الحج واحتاج إلى النكاح لخوفه العنت .. فصرف المال إلى النكاح أهم؛ لأن الحاجة إليه ناجزة والحج على التراخي، وصرح الإمام بعدم وجوبه عليه، وصرح كثير من العراقيين وغيرهم بوجوبه، وصححه في «الروضة» ، وعلله صاحب «الشامل» وغيره بأن النكاح من الملاذ فلا يمنع وجوب الحج. وخيل الجندي وسلاحه ككتب الفقيه. ويشترط أمن الطريق ظناً بحسب ما يليق به، فلو خاف في طريقه على نفسه أو ماله سبعاً أو عدواً أو رصدياً -وهو من يأخذ مالاً على المراصد- ولا طريق له سواه .. لم يجب عليه الحج وإن كان الرصدي يرضى بشيء يسير، ويكره بذل المال لهم؛ لأنه يحرضهم على التعرض للناس. نعم؛ إن كان الباذل هو الإمام أو نائبه .. وجب الحج؛ كما نقله المحب الطبري عن الإمام، وسواء أكان الذين يخافهم مسلمين أم كفاراً، لكن إن كانوا كفاراً وأطاقوا مقاومتهم .. استحب لهم أن يخرجوا للحج ويقاتلوهم؛ لينالوا ثواب الحج والجهاد، وإن كانوا مسلمين .. لم يستحب الخروج والقتال. ولو كان له طريق آخر آمن .. لزمه سلوكه وإن كان أبعد من الأول؛ إذا وجد ما يقطعه به.
قال السبكي والبلقيني وغيرهما: والمراد: الخوف العام، حتى لو كان الخوف في حقه وحده .. قضى من تركته كالزمن. والأظهر: وجوب ركوب البحر لمن لا طريق له سواه إن غلبت السلامة في ركوبه؛ كسلوك طريق البر عند غلبة السلامة، فإن غلب الهلاك أو استوي الأمران .. لم يجب، بل يحرم: لما فيه من الخطر، وليس النهر العظيم كجيحون في معنى البحر؛ لأن المقام فيه لا يطول وخطره لا يعظم. والأصح: أنه تلزمه أجرة البذرقة؛ أي: الخفارة؛ لأنها من أهب الحج؛ فيشترط في وجوبه القدرة عليها. ويشترط وجود الماء والزاد في المواضع المعتاد حمله منها بثمن المثل، وهو القدر اللائق به في ذلك الزمان والمكان، فإن كان لا يوجد بها زاد؛ لخلوها من أهلها وانقطاع الماء، أو كان يوجد بها بأكثر من ثمن المثل .. لم يجب الحج ويشترط وجود علف الدابة في كل مرحلة؛ لأن المؤنة تعظم بحمله لكثرته، وفي «المجموع»: ينبغي اعتبار العادة فيه كالماء. ويشترط في حق المرأة أن يخرج معها زوج أو محرم، أو نسوة ثقات، أو عبدها الأمين، لتأمن على نفسها، والأصح: أنه لا يشترط وجود محرم أو زوج لإحداهن؛ لأن الأطماع تنقطع بجماعتهن. والأصح: أنه تلزمها أجرة المحرم إذا لم يخرج إلا بها؛ لأنه من أهبة سفرها، ففي خبر «الصحيحين»:«لا تسافر امرأة إلا مع محرم» ، فيشترط في وجوب الحج عليها: قدرتها على أجرته، وأجرة الزوج كأجرة المحرم، قال في «المهمات»: والمتجه: الاكتفاء باجتماع امرأتين معها، ثم اعتبار العدد إنما هو بالنظر إلى الوجوب، وإلا .. فلها أن تخرج مع الواحدة لفرض الحج على الصحيح في شرحي «المهذب» و «مسلم». قال في «المجموع»: والخنثى المشكل يشترط في حقه من المحرم ما يشترط في المرأة، فإن كان معه نسوة من محارمه كأخواته وعماته .. جاز، وإن كن أجنبيات .. فلا؛ لأنه يحرم عليه الخلوة بهن، ذكره صاحب «البيان» وغيره. انتهى.
وقال قبل هذا بيسير: المشهور: جواز خلوة رجل بنسوة لا محرم له فيهن، معترضاً به قول الإمام وغيره بحرمة ذلك، فاستغنى بهذا الاعتراض عن مثله في الخنثى الملحق بالرجل احتياطاً. ويشترط في حق الأعمى مع ما مر وجود قائد له، وهو كالمحرم في حق المرأة، والمحجوز عليه بسفه كغيره، لكن لا يدفع المال إليه؛ لتبذيره، بل يخرج معه الولي، أو ينصب شخصاً له لينفق عليه في الطريق بالمعروف، وأجرته كأجرة المحرم. ويدخل في شرط أمن الطريق -كما قال الرافعي- ما ذكره البغوي وغيره: أنه يشترط أن يجد رفقة يخرج معهم على العادة، قال المتولي: فإن كانت الطريق بحيث لا يخاف الواحد فيها .. فلا حاجة إلى الرفقة. ويشترط إمكان السير؛ وهو أن يبقى بعد الاستطاعة زمن يمكن السير فيه إلى الحج السير المعهود، فلو احتاج إلى أن يقطع كل يوم، أو في بعض الأيام أكثر من مرحلة .. لم يلزمه. فإمكان السير شرط لوجوب الحج؛ كما نقله الرافعي عن الأئمة، وقال ابن الصلاح: إنما هو شرط استقراره في ذمته؛ ليجب قضاؤه من تركته لو مات قبل الحج، وليس شرطاً لأصل الوجوب، فيجب على المستطيع في الحال؛ كالصلاة تجب بأول الوقت قبل مضى زمن يسعها، وتستقر في الذمة بمضي زمن التمكن من فعلها، وصوب في «الروضة» الأول، وأجاب عن الصلاة بأنها إنما تجب في أول الوقت؛ لإمكان تتميمها. وقول الناظم:(أو مشروب) بدرج الهمزة للوزن.
[استطاعة تحصيل الحج بالغير]
النوع الثاني: استطاعة تحصيله بغيره؛ فالعاجز عن الحج بالموت أو عن الركوب، إلا بمشقة شديدة؛ لكبر أو زمانه .. يحج عنه، ويجب على المغصوب أن يستأجر من يحج عنه ولو أجيراً ماشياً بأجرة المثل بشرط كونها فاضلة عن الدين والمسكن والخادم، وكذا الكسوة والنفقة، لكن ليوم الاستئجار فقط، ولو وجد دون الأجرة ورضي بها .. لزمه، ويشترط
لاستنابة المعضوب أن يكون بينه وبين مكة مرحلتان؛ كما نقله في «المجموع» وأقره. ولو بذل ولده أو أجنبي مالا للأجرة .. لم يجب قبوله في الأصح؛ لما فيه من المنة الثقيلة. ولو بذل ولده الطاعة في الحج .. وجب قبوله بالإذن له، وكذا الأجنبي في الأصح، والمنة في ذلك ليست كالمنة في المال، ألا ترى أن الإنسان يستنكف عن الاستعانة بمال الغير، ولا يستنكف عن الاستعانة ببدنه في الأشغال. ويشترط لوجوب قبول الطاعة: كون المطيع موثوقاً به مؤدياً لفرضه ولو نذراً، غير معضوب، وكذا كونه راكباً، وغير معول على الكسب أو السؤال إن كان أصلا أو فرعاً في الأصح. والأصح: وجوب التماس الحج من ولد توسم طاعته.
[أركان الحج]
(أركانه: الإحرام بالنية، قف
…
بعد زوال التسع إذ تعرف)
(وطاف بالكعبة سبعاً، وسعى
…
من الصفا لمروة مسبعا)
(ثم أزل شعراً ثلاثا نزره
…
وما سوى الوقوف ركن العمرة)
أي أركان الحج الخمسة:
[الركن الأول: الإحرام بالحج]
الأول: الإحرام بالحج: وهو نية الدخول فيه؛ لخبر: «إنما الأعمال بالنيات» ، ويستحب أن يتلفظ بما نواه، وأن يلبي فيقول بقلبه ولسانه: (نويت الحج وأحرمت به الله تعالى، لبيك اللهم
…
) إلى آخره، وسمي بذلك؛ لاقتضائه دخول الحرم، أو تحريم الأنواع الآتية. وينعقد معيناً؛ بأن ينوي حجاً أو عمرة أو كليهما، ومطلقاً بألا يزيد في النية على نفس الإحرام، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة .. فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج ..
فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة .. فليفعل»، وروى الشافعي:(أنه صلى الله عليه وسلم خرج هو وأصحابه مهلين ينتظرون القضاء؛ أي: نزول الوحي، فأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة، ومن معه هدي أن يجعله حجاً). والتعيين أفضل؛ ليعرف ما يدخل فيه، فإن أحرم مطلقاً في أشهر الحج .. صرفه بالنية إلى ما شاء من النسكين، أو إليهما، ثم اشتغل بالأعمال، ولا يجزئه العمل قبل النية. وإن أطلق في غير أشهره .. فالأصح: انعقاده عمرة، فلا يصرفه إلى الحج في أشهره، ولعمرو أن يحرم كإحرام زيد، روى الشيخان عن أبي موسى: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «بم أهللت؟ » فقلت: لبيت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل» ، فإن كان زيد محرماً .. انعقد إحرامه كإحرامه؛ إن كان حجاً .. فحج، وإن كان عمرة .. فعمرة، وإن كان قراناً .. فقران، وإن كان مطلقاً .. فمطلق، ويتخير كما يتخير زيد، ولا يلزمه الصرف إلى ما يصرف إليه زيد، إلا إذا أراد إحراماً كإحرامه بعد تعيينه، ولا التمتع إن كان زيد أحرم بعمرة بنية التمتع. وإن كان زيد أحرم فاسداً .. فهل ينعقد إحرام عمرو مطلقاً أو لا؟ وجهان، أصحهما: الأول، أو أحرم زيد مطلقاً، ثم عينه قبل إحرام عمرو .. فالأصح: انعقاد إحرامه مطلقاً. ويجريان فيما لو أحرم زيد بعمرة ثم أدخل عليها الحج .. فعلى الأصح: عمرو معتمر، والوجهان فيما لو أطلق عمرو، أما لو خطر له التشبيه بأوله أو في الحال .. فالعبرة به قطعاً، ولو أخبره زيد بما أحرم به ووقع في نفسه خلافه .. فوجهان، أصحهما: يعمل بخبره. ولو قال: (أحرمت بعمرة)، فعمل بقوله فبان حجاً .. تبين إحرام عمرو بحج، فإن فات الوقت .. تحلل وأرق دماً من ماله على الأصح، وإن لم يكن زيد محرماً .. انعقد إحرامه مطلقاً وإن علم عدم إحرام زيد، فإن تعذر معرفة إحرامه بموته أو جنونه أو غيبته .. نوى القران وعمل أعمال التسكين؛ ليتحقق الخروج عما شرع فيه. ثم لكل من الحج والعمرة ميقاتان: زماني، ومكاني. فالزماني للحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، فإن أحرم به في غير
أشهره .. انعقد عمرة على الصحيح، أو أحرم بحجتين أو عمرتين .. انعقدت واحدة ولا تلزمه الأخرى. وللعمرة: جميع السنة، إلا لمحرم بالحج في الأظهر، وعاكف بمنى للمبيت والرمي، ويسن الإكثار منها، ولا تكره في وقت، ويكره تأخيرها عن سنة الحج. والميقات المكاني للحج في حق من بمكة: نفس مكة، ومن باب داره أفضل في الأظهر، ويأتي المسجد محرماً، ولو جاوز البنيان وأحرم في الحرم .. أساء، وعليه دم على الأصح إن لم يعد، أو في الحل .. فمسيء قطعاً وعليه دم، إلا أن يعود قبل الوقوف إلى مكة. وأما غيره: فميقات المتوجه من المدينة: ذو الحلفية، ومن الشام ومصر والمغرب: الجحفة، ومن تهامة اليمن: يلملم، ومن نجد اليمن ونجد الحجاز: قرن، ومن المشرق: ذات عرق ومن العقيق أفضل والعبرة بمواضعها، ومن مسكنه بين مكة والميقات: فميقاته مسكنه، والأفضل: أن يحرم من أول الميقات، ويجوز من آخره. ومن سلك البحر أو طريقاً لا ميقات به: فإن حاذى ميقاتاً .. أحرم من محاذاته، فإن اشتبه .. تحرى، ولا يخفى الاحتياط، أو ميقاتين .. أحرم من محاذاتهما إن تساوت مسافتهما إلى مكة، وإن تفاوتا وتساويا في المسافة إلى طريقه .. أحرم من محاذاة أبعدهما في الأصح، وإن تفاوتا في المسافة إلى مكة وإلى طريقه .. فالعبرة بالقرب إليه في الأصح، وإن لم يحاذ ميقاتاً .. أحرم على مرحلتين من مكة: إذ ليس شيء من المواقيت أقل مسافة من هذا القدر. ومن مر بميقات غير مريد نسكاً ثم أراده .. فميقاته موضعه، أو مريده .. لم تجز مجاوزته بغير إحرام. وهل الأفضل أن يحرم من دويرة أهله؛ لأنه أكثر عملاً، أو من الميقات؟ رجح الرافعي الأول، والنووي الثاني، وقال: إنه الموافق للأحاديث الصحيحة. وميقات العمرة لمن هو خارج الحرم: ميقات الحج، ومن بالحرم يلزمه الخروج إلى أدنى الحل ولو بخطوة من أي جهة شاء، فإن لم يخرج وأتى بأفعال العمرة .. أجزأته في الأظهر، وعليه دوم، ولو خرج إلى الحل بعد إحرامه، ثم أتى بأفعالها .. اعتد بها قطعا ولا دم عليه على المذهب. وأفضل بقاع الحل: الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية.
[الركن الثاني: الوقوف بعرفة]
الثاني: الوقوف بعرفة: وواجبه: أن يحضر بجزء من أرضها وإن كان ماراً في طلب آبق ونحوه. وأول وقته: بعد زوال الشمس يوم عرفة؛ وهو اليوم التاسع حين يعرف بها، ويمتد وقته إلى فجر يوم النحر؛ لخبري مسلم:«عرفة كلها موقف» ، (وأنه صلى الله عليه وسلم وقف بعد الزوال)، وخبر أبي داوود بإسناد صحيح:«الحج عرفة، من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر .. فقد أدرك الحج» ، وفي رواية:«من جاء عرفة ليلة جمع قبل طلوع الفجر .. فقد أدرك الحج» ، و (ليلة جمع): هي ليلة المزدلفة. ويشترط أهليته للعبادة، فلو حضرها ولم يعلم أنها عرفة، أو نائماً، أو قبل الزوال ونام حتى خرج الوقت .. أجزأه، ولا يصح وقوف المغمى عليه والمجنون والسكران، قال المتولي: لكن حج المجنون يقع نفلاً؛ كحج الصبي غير المميز، وحكاه عنه الشيخان وأقراه، واستشكل بقوله الشافعي في «الأم» و «الإملاء» في المغمى عليه: فاته الحج، وأجيب بأن الجنون لا ينافي الوقوع نفلاً؛ فإنه إذا جاز للولي أن يحرم عن المجنون ابتداء .. ففي الدوام أولى أن يتم حجة فيقع نفلاً، بخلاف المغمى عليه؛ إذ ليس للولي أن يحرم عنه ابتداء، فليس له أن يتم حجه. ولو اقتصر على الوقوف ليلاً .. صح على المذاهب، أو نهاراً وأفاض قبل الغروب .. صح قطعاً. نعم؛ إن لم يعد .. أراق دماً استحباباً، وفي قول: وجوباً، وإن عاد فكان بها عند الغروب .. فلا دم. ولو غلطوا فوقفوا اليوم العاشر .. أجزأهم، إلا أن يقلوا على خلاف العادة، أو تأتي شرذمة يوم النحر على ظن أنه عرفة فيقضون في الأصح، وليس من الغلط المراد لهم ما إذا وقع ذلك
بسبب الحساب؛ كما ذكره الرافعي، أو وقفوا في الحادي عشر، أو في غير عرفة .. لم يجزئهم، أو في الثامن .. فكذلك، ثم إن علموا قبل فوات الوقت .. وجب الوقوف فيه، أو بعده .. وجب القضاء في الأصح. ولو قامت بينة برؤية الهلال ليلة العاشر وهم بمكة، ولم يتمكنوا من الوقوف ليلاً .. وقفوا من الغد، ومن ردت شهادته في هلال ذي الحجة .. لزمه أن يقف في التاسع عنده.
[الركن الثالث: الطواف بالبيت]
الثالث: الطواف بالبيت، لقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} سبعاً من المرات ولو متفرقة وفي الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، ماشياً كان أو راكباً، بعذر أو غيره، فلو اقتصر على ست .. لم يجزه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً وقال:«خذوا عني مناسككم» . ويدخل وقته بانتصاف ليلة النحر بعد الوقوف. ثم للطواف بأنواعه واجبات وسنن:
[واجبات الطواف]
أما الواجب: فيشترط ستر العورة، وطهارة الحدث والنجس حتى ما يطأه من المطاف، بخلاف السعي والوقوف وباقي الأعمال، قال صلى الله عليه وسلم:«الطواف بمنزلة الصلاة، إلا أن الله قد أحل فيه المنطق، فمن نطق .. فلا ينطق إلا بخير» رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، فول طاف عارياً أو محدثاً، أو على بدنه أو ثوبه نجاسة غير معفو عنها .. لم يصح طوافه، وكذا لو كان يطأ في مطافه النجاسة. قال في «المجموع»: وغلبتها فيه مما عمت به البلوى، وقد اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين العفو عنها، وينبغي أن يقال: يعفى عما يشق الاحتراز عنه من ذلك، ولو أحدث فيه .. توضأ وبنى، وفي قول: يستأنف كما في الصلاة، وفرق الأول بأن الطواف يحتمل فيه ما لا يحتمل في الصلاة؛ كالفعل الكثير والكلام.
وأن يجعل البيت عن يساره، ويمر تلقاء وجهه مبتدئاً في ذلك بالحجر الأسود، محاذياً له في مروره عليه ابتداء بجميع بدنه؛ بألا يقدم جزءاً من بدنه على جزء من الحجر، وفي «المهذب» و «شرحه» يستحب استقباله، ويجوز جعله عن يساره، وذكر الإمام والغزالي أن المراد بجميع البدن: جميع الشق الأيسر، فلو بدأ بغير الحجر .. لم يحسب، فإذا انتهى إليه .. ابتدأ منه، ولو حاذاه ببعض بدنه وبعضه مجاوز إلى جانب الباب .. فالحديد: أنه لا يعتد بهذه الطوفة، ولو حاذى بجميع بدنه بعض الحجر دون بعض .. أجزأه، ذكره العراقيون، كذا في «الروضة» كـ «أصلها» في المسألتين، وفي «المجموع» في الثانية: إن أمكن ذلك، ثم قال: وذكر صاحب «العدة» وغيره في المسألتين قولين. انتهى. وظاهر أن المراد بمحاذاة الحجر في المسألتين: استقباله، وأن عدم الصحة في الأولى؛ لعدم المرور بجميع البدن، فلا بد في استقباله المعتد به مما تقدم، وهو ألا يقدم جزءاً من بدنه على جزء من الحجر، المذكور في «الروضة» و «أصلها» وإن عبر فيه بـ (ينبغي). ولو استقبل البيت أو استدبره، أو جعله عن يمينه ومشى نحو الركن اليماني، أو نحو الباب، أو عن يساره ومشى القهقرى نحو الركن اليماني .. لم يصح طوافه، ولو مشى على الشاذروان؛ وهو الجدار البارز عن علوة بين ركن الباب والركن الشامي، أو كان يضع رجلاً عليه أحياناً ويقفز بالأخرى، أو دخل من إحدى فتحتي الحجر وخرج من الأخرى .. لم تصح طوفته، أو مس جزءاً من البيت في موازاته .. فكذا على الصحيح. والحجر كله من البيت في وجه، والصحيح: قدر ستة أذرع فقط. وأن يطوف سبعاً داخل المسجد ولو في أخرياته، ولا بأس بالحائل فيه كالسقاية والسواري، ولو وسع المسجد .. اتسع المطاف. والأصح: أنه لا يجب نية الطواف؛ لشمول نية الحج أو العمرة له. وأنه يشترط ألا يصرفه لغيره. وأنه لو نام فيه على هيئة لا تنقض الوضوء .. صح.
ولو حمل الحلال محرماً أو محرمين، وطاف .. حسب للمحمول بشرطه، وكذا لو حمل محرم قد طاف عن نفسه، أو لم يدخل وقت طوافه، وإلا .. فالأصح: أنه إن قصده للمحمول .. فله، أو قصده أولهما أو لا قصد .. فللحامل فقط. ولو طاف المحرم بالحج معتقداً أنه في عمرة .. أجزأه عن الحج؛ كما لو طاف عن غيره وعليه طواف.
[سنن الطواف]
وأما السنن: فإنه يطوف ماشياً إلا لعذر؛ كمرض أو نحوه، أو يحتاج لظهوره ليستفتى، فإن ركب بلا عذر .. لم يكره. وأن يستلم الحجر الأسود بيده أول طوافه ويقبله، ويضع جبهته عليه، فإن عجز .. استلمه، فإن عجز .. أشار بيده لا بفمه، ولا يقبل الركنين الشاميين ولا يستلمهما، ولا يقبل اليماني، بل يستلمه ثم يقبل يده؛ وكذا إذا اقتصر على استلام الحجر الأسود؛ لزحمة، أو استلم بخشبة؛ للعجز، ويراعي ذلك في كل طوفة، وفي الأوتار آكد؛ لأنها أفضل. ولا يسن للنساء استلام ولا تقبيل، إلا عند خلو المطاف. وأن يقول أول طوافه:(باسم الله، والله أكبر، اللهم؛ إيمانا بك، وتصديقاً بكتبك، ووفاء بعهدك، وإتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم). وبين الركنين اليمانيين: (اللهم، آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، ويدعو بما شاء، ومأثور الدعاء أفضل من القراءة على الصحيح، وهي أفضل من غير المأثور. وأن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى؛ بأن يسرع مشيه مع تقارب خطاه، والمشهور: استيعاب الثلاث بالرمل، ويمشي في الأربعة الأخيرة على هينته، ويختص الرمل بطواف يعقبه سعي، وفي قول: بطواف القدوم. وعلى القولين: لا يرمل في طواف الوداع، ويرمل المعتمر والحاج الآفاقي الذي لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف، وكذا قبله إن سعى عقب طواف القدوم، وإلا .. فلا في الأظهر. وإذا رمل فيه وسعى بعده .. لم يقضه في طواف الإفاضة في الأصح، أو طاف ورمل ولم يسع .. رمل في طواف الإفاضة عند الأكثر، ويرمل مكي أنشأ حجة من مكة في الأظهر، ولو ترك الرمل في الثلاثة الأولى .. لم يقضه في الأربعة الأخيرة.
وليقل فيه: (اللهم؛ اجعله حجاً مروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً). وأن يقرب من البيت، فلو تعذر الرمل مع القرب؛ لزحمة: فإن رجا فرجة .. وقف ليرمل، وإلا .. فالرمل مع البعد أفضل، إلا أن يخاف صدم النساء .. فالقرب بلا رمل أولى، ولو خافه مع القرب أيضاً، وتعذر في جميع المطاف .. فتركه أولى. ويسن أن يتحرك في مشيه، ويرى أنه لو أمكنه .. لرمل. ولو طاف محمولاً أو ركباً .. فالأظهر: أنه يرمل به الحامل ويحرك الدابة. وأن يضطبع في كل طواف يرمل فيه، وكذا في السعي على المذهب لا في ركعتي الطواف في الأصح؛ وهو جعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على الأيسر. ولا ترمل المرأة ولا تضطبع، وكذا الخنثى. وأن يصلي بعد الطواف ركعتين، وقول: تجب، وأن يقرأ في الأولى:(قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية:(الإخلاص) خلف المقام، وإلا .. ففي الحجر، وإلا .. ففي المسجد، وإلا .. ففي الحرم، وإلا .. ففي أي موضع شاء من غيره، ويجهر ليلاً ويسر نهاراً. وأن يوالي بين الطوفات؛ فلو فرق كثيراً .. لم يبطل، وفي قول: تجب إلا لعذر؛ كالتفريق بمكتوبة أقيمت. ويكره قطع طواف واجب لجنازة أو راتبة، وسيأتي بعض هذه السنن في كلام الناظم. ويسن أن يستلم الحجر بعد الطواف وصلاته، ثم يخرج من باب الصفا للسعي.
[الركن الرابع: السعي]
الرابع: السعي بين الصفا والمروة سبعاً ولو متفرقة، ذهابه من الصفا إلى المروة مرة، وعوده منها إليه أخرى؛ للإتباع في ذلك، رواه الشيخان، وقال صلى الله عليه وسلم:«أبدأ بما بدأ الله به» رواه مسلم، ورواه النسائي:«ابدؤوا» بلفظ الأمر. فليلصق عقبه بأصل ما يذهب منه، ورؤوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، والراكب يلصق حافر دابته، وأن يسعى بعد طواف ركن أو قدوم؛ بحيث لا يتخلل بينهما الوقوف بعرفة، ومن سعى بعد قدوم .. لم يعده.
ولو شك في عدد السعي أو الطواف .. أخذ بالأقل، ولو اعتقد التمام فأخبره ثقة ببقاء شيء .. لم يلزمه، لكن يسن. ويسن أن يرقى على الصفا والمروة قدر قامة، فإذا رقي .. استقبل البيت وقال:(الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)، ثم يدعو بما أحب ديناً ودنيا، ويعيد الذكر والدعاء ثانياً وثالثاً. وأن يمشي أول السعي وآخره، ويعدو في الوسط، وموضع النوعين معروف هناك، فيمشي حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ستة أذرع، فيعدوا حتى يتوسط بين الميلين الأخضرين؛ أحدهما في ركن المسجد، والآخر متصل بدار العباس، فيمشي حتى ينتهي إلى المروة، وإذا عاد منها إلى الصفا .. مشى في موضع مشيه، وسعى في موضع سعيه أولاً. ولا ترقى المرأة على الصفا والمروة، ولا تعدو في وسط المسعى، ومثلها الخنثى. وأن يقول في سعيه:(رب؛ اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك تعلم ما لا نعلم إنك أنت الأعز الأكرم). وأن يسعى ماشياً، ويجوز راكباً، وأن يوالي بين مرات السعي، وبين الطواف والسعي، فلو تخلل فصل طويل .. لم يضر بشرط ألا يتخلل ركن، فلو طاف للقدوم ثم وقف بعرفة ثم سعى .. لم يصح السعي، وأن يتحرى لسعيه وقت خلوه، وإذا عجز عن العدو؛ لزحمة .. فليتشبه.
[الركن الخامس: الحلق أو التقصير]
الخامس: إزالة ثلاث شعرات من الرأس، وهو أقل ما يجزئ حلقاً أو تقصيراً أو نتفاً أو إحراقاً أو قصاً أو بنورة، ويكتفي بإزالتها في دفعات؛ كما صححه النووي في «مجموعه» و «مناسكه» ، لكن ظاهر كلام «الروضة» و «أصلها» تصحيح عدم الاكتفاء بأخذها بذلك،
فإنهما بنياه على تكميل الدم بذلك، والأصح: عدم التكميل، بل يجب ثلاثة أمداد، وأجيب بأنه لا يلزم من البناء الاتحاد في التصحيح، والحلق أفضل. وتقصر المرأة بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها، ومثلها الخنثى. ويسن أن يبدأ بالشق الأيمن ثم الأيسر، وأن يستقبل القبلة، وأن يدفن شعره. ومن لا شعر برأسه .. لا شيء عليه، ويسن إمرار الموسى على رأسه، وإن أخذ من شاربه أو شعر لحيته شيئاً .. كان أحب. ومن برأسه علة تمنعه من التعرض للشعر .. يصبر إلى الإمكان ولا يفدي؛ إذ الركن لا يجبر بدم؛ لأن الماهية لا تحصل إلا بجميع أركانها. ومن نذر الحلق في وقته .. لزمه، ووقت حلق المعتمر إذا فرغ من السعي. وينبغي -كما قاله الشيخان- عد ترتيب الأركان ركناً؛ لأنه معتبر في معظمها، فيقدم الإحرام والوقوف على الطواف والحلق، ويؤخر السعي عن الطواف. وما سوى الوقوف أركان العمرة؛ لشمول الأدلة السابقة لها.
(والدم جابر لواجبات
…
أولها: الإحرام من ميقات)
(والجمع بين الليل والنهار
…
بعرفة، والرمي للجمار)
(ثم المبيت بمنى، والجمع
…
وآخر الست طواف الودع)
تقدم في الكلام على (المقدمة) أن الفرض والواجب مترادفان خلافاً للحنفية، لكن قال أصحابنا هنا: إن الركن ما لا يجبر بدم، والواجب ما يجبر بدم.
[واجبات الحج]
وقد ذكر الناظم في هذه الأبيات: أن الدم جابر لترك واجبات ستة: أولهما: الإحرام من الميقات؛ لأن من بلغه مريداً للنسك .. لم تجز مجاوزته بغير إحرام، فإن فعل ولو ناسياً أو جاهلاً .. لزمه العود ليحرم منه إلا العذر؛ كخوف الطريق، أو انقطاع عن
رفقة، أو ضيق الوقت، فإن لم يعد .. لزمه دم وهو شاة أضحية، فإن عجز .. فالأصح: أنه كالمتمتع يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. وإن عاد ثم أحرم منه .. فالمذهب: أنه لا دم عليه، وكذا إن أحرم ثم عاد قبل تلبسه بنسك.
ثانيها: الجمع بين الليل والنهار بعرفة؛ لأنه ترك نسكاً، والأصل في ترك النسك إيجاب الدم، إلا ما خرج بدليل؛ وقد صرح عن ابن عباس:«من نسي من نسكه شيئاً أو تركه .. فليهرق دماً» رواه ابن حزم مرفوعاً، وما تقرر من وجوب الدم بترك الجمع بين الليل والنهار بعرفة .. قول مرجوح صححه جماعة منهم ابن الصلاح، والأظهر: أن الجمع بينهما سنة، وأن الدم لتركه مندوب.
ثالثها: الرمي للجمار؛ أي: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ورمي الجمار الثلاث إذا عاد إلى منى وبات بها ليالي التشريق الثلاث؛ وهي الحادي عشر وتالياه، كل جمرة بسبع حصيات؛ فمجموع الرمي سبعون حصاة برمي جمرة العقبة؛ ودليل ذلك كله: الإتباع. ويدخل وقت رمي جمرة العقبة بانتصاف ليلة النحر لمن وقف قبل ذلك، والأفضل أن يرمي بعد طلوع الشمس، ويبقى وقت الاختيار إلى آخر يوم النحر، ويدخل رمي التشريق بزوال الشمس، ويخرج وقت الاختيار بغروبها. وإذا ترك رمي يوم أو يومين عمداً أو سهواً .. تداركه في باقي الأيام على الأظهر، ولا دم، فيتدارك الأول في الثاني، أو الثالث والثاني، أو الأولين في الثالث، ويكون ذلك أداء فيكون الوقت المضروب وقت اختيار؛ كوقت الاختيار للصلاة. وجملة الأيام في حكم اليوم الواحد، فإن لم يتدارك .. وجب الدم كما مر، فإن ترك رمي يوم النحر، أو يوم من أيام التشريق .. فدم، وكذا في اليومين والثلاثة، وكذا لو ترك الكل عند الجمهور، والمذهب: تكميل الدم في ثلاث حصيات أيضاً؛ كما يكمل في حلق ثلاث شعرات، وفي الحصاة الواحدة مد طعام، وفي الحصاتين مدان. ويشترط: رمي السبع واحدة واحدة، وترتيب الجمرات؛ بأن يرمي أولا إلى الجمرة التي
تلي مسجد الخيف، ثم إلى الوسطى، ثم إلى جمرة العقبة، ويكون المرمي حجراً فيجزئ بأنواعه؛ كالكذان والبرام والمرمر، وكذا ما يتخذ منه الفصوص؛ كالياقوت والعقيق في الأصح، ولا يجزئ اللؤلؤ وما ليس بحجر من طبقات الأرض؛ كالإثمد والزرنيخ والجص، وما ينطبع؛ كالذهب والفضة، وأن يسمى رمياً؛ فلا يكفي الوضع في المرمى، وقصد المرمى؛ فلو رمى في الهواء فوقع في المرمى .. لم يكف. والسنة: أن يرمي بقدر حصى الخذف، ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، فلو تدحرج وخرج منه .. لم يضر، ولا كون الرامي خارجاً عن الجمرة، فلو وقف بطرفها ورمى إلى الطرف الآخر .. جاز، وسيأتي هذا مع زيادة بسط. ومن عجز عن الرمي لعلة لا يرجى زوالها قبل خروج وقت الرمي .. استناب ولا يمنع زوالها بعده، ولا يصح رمي النائب عن المستنيب إلا بعد رميه عن نفسه، فلو خالف .. وقع عن نفسه، ولو زال عذر المستنيب بعد رمي النائب والوقت باق .. فليس عليه إعادة الرمي.
رابعها: المبيت بمنى في لياليها؛ ويحصل بمعظم الليل، وإنما يلزم مبيت الليلة الثالثة لمن غربت الشمس عليه وهو مقيم بمنى، وحينئذ يلزمه رمي اليوم الثالث، فمن ترك المبيت في الليالي الثلاث .. لزمه دم، أو في ليلة .. فمد، أو ليلتين .. فمدان. نعم؛ يجوز تركه للمعذور ولا دم عليه؛ كرعاء الإبل وأهل سقاية العباس ولو من غير بني هاشم، فللصنفين أن يدعوا رمي يوم ويقضوه في تاليه قبل رميه، لا رمي يومين متواليين، فلو نفروا يوم النحر بعد رميه .. عادوا في ثاني التشريق، ولهم النفر مع الناس على الصحيح. ولأهل السقاية فقط إذا كانوا بمنى عند الغروب .. أن ينفروا بعده، ويتركوا المبيت، ورمي الغد، وفي شمول الرخصة لأهل سقاية أحدثت للحاج وجهان، أصحهما في «المجموع» و «زوائد الروضة»: نعم. ومن المعذورين: من له مال يخاف عليه ضياعه لو بات، أو مريض يحتاج إلى تعهده، أو يطلب آبقا، أو أمراً يخاف فوته، فلا شيء عليهم على الصحيح، ولهم النفر بعد الغروب.
وشرط جوازه لغير المعذور قبل غروب شمس اليوم الثاني: أن يكون بات الليلتين قبله، أو تركه لعذر. والتأخير إلى اليوم الثالث أفضل، وللإمام آكد؛ كما نقله في «المجموع» وأقره، ولو نفر فغربت قبل انفصاله من منى، أو عاد لشغل قبل الغروب أو بعده .. لم يلزمه المبيت على الصحيح، فلو تبرع به .. لم يلزمه الرمي في الغد، ولو غربت وهو في شغل الرحيل .. فالأصح في «الروضة»: جواز النفر.
خامسها: المبيت بالجمع؛ وهي المزدلفة؛ للإتباع المعلوم من الأحاديث الصحيحة، ومن دفع منها قبل نصف الليل وعاد قبل الفجر .. فلا دم عليه، وإن لم يعد أو ترك المبيت أصلاً .. لزمه دم. وشرط مبيتها: أن يكون بها في ساعة من النصف الثاني. نعم؛ يستثنى المعذور بما مر في المبيت بمنى، ومن جاء عرفة ليلاً فاشتغل بالوقوف عنه، ومن أفاض من عرفة إلى مكة وطاف ففاته المبيت.
سادسها: طواف الوداع لمن أراد الخروج من مكة، أو الانصراف من منى سواء أكان حاجاً أم لا، آفاقيا يقصد الرجوع إلى وطنه، أو مكياً يسافر لحاجة ثم يعود، وسواء أكان سفره طويلاً أم قصيراً؛ لثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وفي «الصحيحين» عن ابن عباس:(أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)؛ أي: ومثلها النفساء، فمن تركه .. لزمه دم. فمن لم يرد الخروج من مكة .. لا يشرع له طواف الوداع، ومن خرج بلا وداع، وعاد قبل مسافة القصر وطاف .. سقط الدم، أو بعدها .. فلا في الأصح، ويجب العود في الحالة الأولى لا الثانية، وللحائض والنفساء النفر بلا وداع، فلو طهرت قبل مفارقة خطة مكة .. لزمها العود والطواف، أو بعد مسافة القصر .. فلا، وكذا قبلها على المذهب، فعلى هذا المسقط للعود: مفارقة مكة لا الحرم في الأصح. وينبغي وقوعه بعد فراغ الأشغال، ولا يمكث بعده، فإن مكث لغير عذر، أو لشغل غير
أسباب الخروج .. أعاده، أو لأسبابه؛ كشراء الزاد وشد الرحل .. فلا عند الجمهور، ولو أقيمت الصلاة فصلاها .. لم يعد، والأصح: أنه ليس من المناسك. وقول الناظم (بعرفه) بسكون الهاء: إجراء للوصل مجرى الوقف.
(وسن: بدء الحج ثم يعتمر
…
وليتجرد محرم، وبتزر)
(يرتدي البياض، ثم التلبيه
…
وأن يطوف قادم، والأدعية)
(يرمل في ثلاثة مهرولا
…
والمشي باقي سبعة تمهلاً)
(والاضطباع في طواف يرمل
…
فيه، وفي سعي به يهرول)
(وركعتا الطواف من ورا المقام
…
فالحجر فالمسجد إن يكن زحام)
(وبات في منى بليل عرفة
…
وجمعة بها، وبالمزدلفة)
(بت وارتحل فجراً، وقف بالمشعر
…
تدعو، وأسرع وادي المحسر)
(وفي منى للجمرة الأولى رميت
…
بسبع رميات الحصى حين انتهيت)
(مكبراً للكل، واقطع تلبيه
…
ثم اذبح الهدى بها كالأضحية)
(واحلق بها أو قصرن مع دفن
…
شعر، وبعده طواف الركن)
(وبعد يوم العيد للزوال
…
ترمي الجمار الكل بالتوالي)
(باثنين من حلق ورمي النحر
…
أو الطواف حل قلم الظفر)
(والحلق واللبس وصيد، ويباح
…
بثالث وطء وعقد ونكاح)
(وأشرب لما تحب ماء زمزم
…
وطف وداعاً، وأدع بالملتزم)
[كيفيات الحج والأفضل منها]
أي: وسن الابتداء ثم الإتيان بالعمرة، وهذا هو المسمى بالإفراد، فهو أفضل من التمتع والقران؛ أي: إن اعتمر في سنته؛ لأن الذين رووه عن حجه صلى الله عليه وسلم أكثر، ولأن جابراً منهم، وهو أقدم صحبة، وأشد عناية بضبط المناسك وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم من لدن خروجه من المدينة إلى أن تحلل؛ ولأنهم أجمعوا على عدم كراهته، واختلفوا في كراهة التمتع، ولأن التمتع والقران وجب فيهما الدم بخلافه، والجبر دليل النقصان، ولأن المفرد لم يربح ما ربحه المتمتع من استباحة المحظورات، ولا ما ربحه القارن من اندراج أفعال
العمرة تحت الحج، أما إذا لم يعتمر في سنته .. فكلاهما أفضل منه؛ لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه. و (التمتع): أن يحرم بالعمرة ويفرغ منها، ثم ينشئ حجاً من مكة. و (القران): أن يحرم بهما معاً من الميقات ويعمل عمل الحج فيحصلان، أو يحرم بعمرة ثم يحج قبل الطواف، ولا يصح عكسه في الجديد. وقد انعقد الإجماع على جواز هذه الكيفيات الثلاث. والتمتع أفضل من القران؛ لأنه يعمل بعملين كاملين بخلاف القران.
[سنن الإحرام]
قوله: (وليتجرد محرم) أي: ويجب أن يتجرد الذكر لإحرامه عن مخيط الثياب والخفاف والنعال؛ لينتفي عنه لبسها في الإحرام الذي هو محرم عليه كما سيأتي. وما اقتضاه كلام الناظم من وجوب تجرده لإحرامه .. هو ما جزم به الرافعي في «العزيز» ، والنووي في «المجموع» ، وهو مقتضى ضبطه قول «المنهاج»:(ويتجرد) بالضم، لكن جرى في «مناسكه» على أنه مندوب، واستحسنه السبكي وغيره تبعاً للمحب الطبري، واستشهدوا له بأنه لم يحصل قبل الإحرام سبب وجوب النزع؛ ولهذا قالوا في الصيد: إنه لا يجب إرساله قبل الإحرام بلا خلاف. ويسن أن يلبس إزاراً ورداء أبيضين جديدين، إلا .. فمغسولين؛ أي: ونعلين، ويصلي ركعتين للإحرام، وتجزئ عنهما الفريضة والنافلة؛ لخبر «الصحيحين»:(أنه صلى الله عليه وسلم أحرم في إزار ورداء)، (وأنه صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم)، وخبر أبي داوود وغيره:«البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها خير ثيابكم» ، وقال ابن المنذر: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليحرم أحدكم في إزار
ورداء ونعلين» انتهى، ورواه أبو عوانة في «صحيحه» . ويسن أن يطيب بدنه للإحرام؛ للإتباع، ويجوز أن يطيب ثوبه في الأصح، ولا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا بطيب له جزم؛ لخبر «الصحيحين» عن عائشة قال:(كأني أنظر إلى وبيص -أي: بريق الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم) لكن لو نزع ثوبه المطيب ثم لبسه .. لزمته الفدية في الأصح، كما لو أخذ الطيب من بدنه ثم رده إليه. ويسن للمرأة أن تخضب للإحرام يديها إلى الكوع، وأن تسمح وجهها بشيء من الحناء ثم الأفضل أن يحرم إذا استوت راحلته قائمة إلى طريقه، أو توجه لطريقه ماشياً. ويسن التلبية وإكثارها، وأن يرفع الرجل صوته بها؛ بحيث لا يضر نفسه ما دام محرماً في جميع أحواله، خصوصاً عند تغاير الأحوال؛ كركوب ونزول، وصعود وهبوط، واختلاط رفقة، وفراغ الصلاة، وإقبال الليل والنهار، ووقت السحر، فالاستحباب في ذلك متأكد؛ لخبر مسلم عن جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم:(أنه لزم تلبيته)، وخبر الترمذي:«أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال» ، وقال: حسن صحيح. والمرأة لا ترفع صوتها، بل تقتصر على إسماع نفسها، فإن رفعته .. كره، والخنثى كالمرأة، ذكره في «المجموع» . ولا تستحب في الطواف والسعي، وتستحب في سائر المساجد، ويرفع الصوت فيها، ولفظها:(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، وإذا رأى ما يعجبه .. قال:(لبيك إن العيش عيش الآخرة)، وإذا فرغ من تلبيته .. صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وسأل الله تعالى الجنة ورضوانه، واستعاذ به من النار.
[استحباب طواف القدوم لدخل مكة]
ويسن لحاج دخل مكة قبل الوقوف أن يبدأ بطواف القدوم ومثله الحلال؛ لخبر «الصحيحين» عن عائشة: (أنه صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ، ثم طاف بالبيت)، وأورده الرافعي: (حج، فأول شيء بدأبه
…
) إلى آخره. ولو دخل والناس في مكتوبة .. صلاها معهم أولاً، ولو أقيمت الجماعة وهو في أثناء الطواف .. قدم الصلاة، وكذا لو خاف فوت فريضة أو سنة مؤكدة. ولو قدمت المرأة نهاراً وهي جميلة أو شريفة لا تبرز للرجال .. أخرت الطواف إلى الليل. وفي «الكفاية» عن الماوردي: أن من له عذر .. يبدأ بإزالته، وهو تحية البقعة؛ أي: المسجد الحرام؛ كما ذكره في «المجموع» قال: وفي فواته بالتأخير وجهان حكاهما إمام الحرمين، ويؤخر عنه اكتراء منزله وتغيير ثيابه. أما الداخل مكة بعد الوقوف والمعتمر .. فلا يطلب منهما طواف القدوم؛ لدخول وقت الطواف الذي عليهما، فلا يصح قبل أدائه أن يتطوعا بطواف؛ قياساً على أصل الحج والعمرة. ويسن لمن قصد حرم مكة لا لنسك؛ كأن دخل لتجارة أو رسالة أو زيادة أن يحرم بحج أو عمرة؛ كتحية المسجد لداخله.
[سنن الطواف]
وتسن الأدعية المأثورة لدخول المسجد، والطواف بالبيت وغير ذلك، فيقول أول طوافه:(باسم الله والله أكبر، اللهم؛ إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، وإتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، كذا ذكره الشافعي، وقال الرافعي: روي ذلك عن عبد الله بن السائب عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو غريب، وقوله: (إيماناً) مفعول له؛ أي: لـ (أطرف) مقدراً. ويقول إذا وصل إلى الجهة التي تقابل باب الكعبة: (اللهم؛ البيت بيتك، والحرم
حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار)، ويشير بلفظه:(هذا) إلى مقام إبراهيم عليه السلام. ويقول عند الانتهاء إلى الركن العراقي: (اللهم؛ إني أعوذ بك من الشك والشرك، والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد). وعند الانتهاء إلى تحت الميزاب: (اللهم؛ أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقني بكأس محمد صلى الله عليه وسلم شراباً هنيئاً لا أظمأ بعده أبداً يا ذا الجلال والإكرام). وبين الركن اليماني والشامي: (اللهم؛ اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً مقبولاً، وتجارة لن تبور، يا عزيز يا غفور). قال في «المهمات» : والمناسب للمعتمر أن يقول: (عمرة مبرورة)، ويحتمل استحباب التعبير بالحج؛ مراعاة للحديث ويقصد المعنى اللغوي وهو القصد. ويقول بين الركنين اليمانيين:«ربنا؛ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» رواه أبو داوود عن عبد الله بن السائب، ويدعو بما شاء في جميع طواف. ومأثور الدعاء أفضل من القراءة؛ للتأسي به صلى الله عليه وسلم، والقراءة فيه أفضل من غير مأثورة؛ لخبر الترمذي:«فضل كلام الله تعالى على سائر الكلام؛ كفضل الله على خلقه» . ويسن للذكر أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى؛ أي: مسرعاً في مشيه مع تقارب خطاه، ويسمى الخبب، ويمشي الأربعة البواقي متمهلاً في مشيه؛ لخبر مسلم عن ابن عمر:(رمل النبي صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثاً ومشى أربعاً). ويسن له الاضطباع في كل طواف فيه، وفي السعي؛ بأن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، ويكشف الأيمن؛ كدأب أهل الشطارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى، وقيس بالطواف السعي بجامع قطع مسافة مأمور بتكررها سبعاً.
ويسن ركعتا الطواف بعده من وراء المقام؛ أي: مقام إبراهيم؛ للإتباع، رواه الشيخان، مع خبر:«خذوا عني مناسككم» ، ومنع وجوبهما خبر: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا تطوع» ، ويتأديان بالفريضة والنافلة، ويقرأ بعد (الفاتحة) في الأولى:(قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية:(الإخلاص)، فإن لم يصلهما وراء المقام .. ففي الحجر، قال في «المجموع»: تحت الميزاب، ثم إن لم يصلهما في الحجر .. ففي المسجد الحرام (إن لم يكن زحام)؛ أي: ثم في الحرم، ثم في غيره متى شاء، ولا تفوت إلا بموته.
[استحباب المبيت بمنى ليلة عرفة]
ويسن أن يبيت بمنى ليلة يوم عرفة؛ لأنه يستحب أن يخرج من مكة في ثامن ذي الحجة إلى منى، وأن يصلي بها الظهر والعصر جمعاً، وأن يبيت بها ويصلي المغرب والعشاء جمعاً، وقد يشمل الجمعين المذكورين قول الناظم:(وجمعه بها). فإذا طلعت الشمس على ثبير .. سار إلى نمرة بقرب عرفات حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس .. اغتسل للوقوف، وقصد مسجد إبراهيم، ويصلي به الظهر والعصر، ويسمع خطبة الإمام، ثم يبادر للوقوف، والأصل في ذلك: ما روى مسلم عن جابر في حديثه الطويل: قال: (فلما كان يوم التروية .. توجهوا إلى منى وأهلوا بالحج، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة).
[المسير إلى عرفة وسنن الوقوف]
ويستحب أن يسيروا ملبين ذاكرين الله تعالى، ويستحب أن يسيروا على طريق ضب، ويعودوا على طريق المأزمين؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل عرفة إلا في وقت الوقوف بعد الزوال، وأما ما يفعله الناس في هذا الزمان؛ من دخولهم أرض عرفات في اليوم الثامن .. فمخالف للسنة، فيفوتهم بسببه سنن كثيرة؛ منها: الصلوات بمنى، والمبيت
بها، والتوجه منها إلى نمرة، والنزول بها، والخطبة، والصلاة قبل دخول عرفات مع الإمام الظهر ثم العصر جامعاً بينهما؛ فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر. فإذا فرغ من الصلاة .. سار إلى الموقف بعرفة، وعرفات كلها موقف، ففي أي موضع منها وقف .. أجزأه، لكن أفضلها موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات الكبار المفروشة في أسفل جبل الرحمة؛ الذي بوسط عرفة. وليس من عرفة مسجد إبراهيم الذي يصلي فيه الإمام، وبين هذا المسجد وجبل الرحمة قدر ميل. ويسن للإمام إذا غربت الشمس وتحقق غروبها أن يفيض من عرفات، ويفيض الناس معه إلى المزدلفة، ويؤخروا صلاة المغرب بنية الجمع إلى العشاء؛ ليصليهما جمعاً بمزدلفة ليلة العيد، والجمع هنا وفي ما مر سببه السفر عند الشافعي لا النسك.
[المسير إلى مزدلفة والمبيت بها]
وإذا سار إلى المزدلفة .. سار ملبياً مكثراً منها، ويسير على هينة بوقارٍ، فإذا وجد فرجةً .. أسرع، فإذا وصل المزدلفة .. استحب له أن يصلي قبل حط رحله. قوله:(وبالمزدلفة بت) أي: للإتباع المعلوم من الأخبار الصحيحة؛ وقد تقدم بيان القدر الواجب من مبيتها. قوله: (وارتحل فجراً) يعني: يسن لغير النساء والضعفة الارتحال منها في الفجر بعد صلاة الصبح بغلس إلى منى؛ للإتباع، رواه الشيخان، ويتأكد التغليس هنا على باقي الأيام؛ ليتسع الوقت لما بين أيديهم من أعمال يوم النحر، أما النساء والضعفة .. فيسن تقديمهم إليها بعد نصف الليل ليرموا قبل الزحمة، وفي «الصحيحين» عن عائشة:(أن سودة أفاضت في النصف الأخير من مزدلفة بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرها بالدم ولا النفر الذين كانوا معها)، وفيهما عن ابن عباس قال:(أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهلها).
ويسن لهم أن يأخذوا ما يرمون به يوم النحر من مزدلفة، قال الجمهور: ليلاً، وقال البغوي: بعد صلاة الصبح، قال في «المهمات»: وهو الصواب نقلاً ودليلاً، فقد رأيته منصوصاً عليه في «الأم» و «الإملاء» ، وروى البيهقي والنسائي بإسناد صحيح على شرط مسلم -كما في «المجموع» - عن الفضل بن العباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له غداة يوم النحر: «التقط لي الحصى» ، قال: فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف، ويأخذ بقية ما يرمى به من وادي محسر أو غيره. قوله:(وقف) أي: ندباً بالمشعر الحرام. قال ابن الصلاح والنووي: وهو جبل صغير بآخر المزدلفة يقال له: قزح، وهو منها؛ لأنها ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر، قالا: وقد استبدل الناس الوقوف به على بناء محدث هناك يظنونه المشعر الحرام، وليس كما يظنون، لكن يحصل بالوقوف عنده أصل السنة؛ أي: وكذا بغيره من مزدلفة على الأصح. وقال المحب الطبري: هو بأوسط المزدلفة وقد بني عليه بناء، ثم حكى كلام ابن الصلاح، ثم قال: الظاهر أن البناء إنما هو على الجبل، والمشاهدة تشهد له، قال: ولم أر ما ذكره -يعني: ابن الصلاح- لغيره. ويحصل أصل السنة بالمرور وإن لم يقف؛ كما في عرفة، نقله في «الكفاية» عن القاضي حسين وأقره. قال في «المجموع»:(والمشعر) بفتح الميم، ويجوز كسرها، ومعنى الحرام؛ أي: الذي يحرم فيه الصيد وغيره، فإنه من الحرم، قال: ويجوز أن يكون معناه ذا الحرمة. قوله: (تدعو) أي: وتذكر الله فيه مستقبل البيت إلى الإسفار؛ للإتباع في ذلك، رواه مسلم، ويقول: (اللهم؛ كما وفقتنا فيه ورأيتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق:{فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَات} إلى قوله:
{غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، ويكثر من قوله:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، ويدعو بما أحب، ويصعد الجبل إن أمكن، وإلا .. فيقف تحته، ثم يسير بعد الإسفار بسكينة، ومن وجد فرجة .. أسرع كالدفع من عرفة. قوله:(وأسرع وادي المحسر) أي: يسرع في مشيه إن كان ماشياً، ومشي دابته إن كان راكباً حتى يقطع عرض وادي محسر؛ وهو قدر رمية بحجر؛ للإتباع، رواه مسلم؛ ولنزول العذاب فيه على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، ولأن النصارى كانت تقف فيه فأمرنا بمخالفتهم. و (وادي محسر) بكسر السين: موضع فاصل بين مزدلفة ومنى؛ سمي به؛ لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه؛ أي: أعيي، قال في «المجموع»: قال الأزرقي: وادي محسر خمس مئة ذراع وخمس وأربعون ذراعاً. انتهى، والإضافة للبيان؛ كما في (جبل أحد)، و (شجر أراك).
[رمي جمرة العقبة وذكر بعض سنن وشروط الرمي]
قوله: (وفي منى للجمرة الأولى) أي: جمرة العقبة التي تلي مكة، (رميت بسبع رميات الحصى) أي: الحجر ولو نحو ياقوت وزمرد وزبرجد وبلور وعقيق ورخام وبرام وحجر وحديد وذهب وفضة (حين انتهيت) أي: وصلت إلى منى بعد طلوع الشمس؛ للإتباع، رواه مسلم، ولخبره:«عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة» . وخرج بـ (الحجر): ما لا يسمى حجراً؛ كإثمد ولؤلؤ، وزرنيخ ومدر، وجص ونورة، وآجر وخزف وملح، وجواهر من ذهب أو فضة، أو نحاس أو رصاص؛ فلا يكفي الرمي به، وكذا ما ليس من طبقات الأرض، ويكفي حجر النورة قبل الطبخ. ويسن أن يرمي بقدر حصى الخذف؛ وهو قدر الباقلاء، ويكره أن يرمي بأصغر من ذلك أو أكبر، والمتنجس وبالمأخوذ من الحل، أو من المسجد إن لم يكن جزءاً منه، وإلا .. حرم، وبالمرمي به؛ لما قيل: إن المقبول يرفع، والمردود يترك، فإن رمى بشيء منها .. جاز.
والمعتبر تعدد الرمي؛ كما أفهمه تعبيره بـ (سبع رميات)، فلو رمى عدداً معاً .. فرمية واحدة سواء أوقع معاً أو مرتباً. ولو رمى السبع دفعة، ثم أخذها ورماها دفعة وهكذا سبع مرات .. أجزأ، وكذا لو رمى واحدة، ثم أخذها ورماها وهكذا سبعاً في الأصح؛ كما لو دفع مداً إلى فقير عن كفارته، ثم اشتراه منه ودفعه إلى آخر، قال في «المجموع»: ولو رمى حصاة ثم أتبعها أخرى .. حسبتا له وإن وقعتا معاً، أو وقعت الثانية قبل الأولى على الأصح عند جماعات، ولو رمى اثنتين معاً إحداهما باليمنى والأخرى باليسرى .. حسبت واحدة بالاتفاق. وأفهم تعبيره بـ (الرمي): أنه لا يكفي وضع الحجر في المرمى، وهو كذلك، ويشترط قصد المرمى، فلو رمى في الهواء فوقع فيه .. لم يكف، وكذا تحقق وقوع الحجر فيه على المذهب، فلو شك فيه .. لم يكف، ولا يشترط بقاؤه فيه، فلو تدحرج وخرج منه .. لم يضر، ولا كون الرامي خارجاً عن الجمرة، فلو وقف في طرف منها ورمى إلى طرف آخر .. أجزأه. ويجب كون الرامي باليد، فلا يجزئ بقوس أو رجل، ولو أنصدم الحجر بمحمل أو بعير أو ثوب إنسان، فحرك المحمل أو الثوب صاحبه، أو تحرك البعير فدفعه فوقع في المرمى .. لم يعتد به، وكذا لو وقع على المحمل أو البعير فتدحرج إلى المرمى على الأشبه؛ لاحتمال تأثره به، بخلاف ما لو أنصدم الحجر بذلك، أو بأرض خارج الحرم، ثم رجع فوقع في المرمى، وكذا لو وقع في غير المرمى ثم تدحرج إليه أو رده الريح إليه في الأصح؛ لحصوله فيه لا بفعل غيره. قال في «المجموع»: ويسن أن يغسل حصى الجمار وألا يكسرها. قوله: (مكبراً للكل) أي: لكل حصاة؛ لخبر مسلم عن جابر: (أنه صلى الله عليه وسلم أتى الجمرة -يعني: يوم النحر -فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، قدر حصى الخذف). قوله: (واقطع تلبيه) أي: عند ابتداء الرمي؛ لأخذه في أسباب التحلل، هذا إن سلك الأفضل من تقديم الرمي، فلو قدم الطواف أو الحلق عليه .. قطع التلبية من حينئذ.
قوله: (ثم اذبح الهدي بها) أي: بعد الرمي اذبح الهدي بها؛ أي: بمنى إن كان معك هدي (كالأضحية) أي: في صفاتها وفي ذبحها فيها.
[الحلق والتقصير وما يستحب فيه]
قوله: (واحلق بها أو قصرن) أي: ثم احلق أيها الذكر بمنى أو قصرن؛ للإتباع في الحلق، رواه مسلم، والحلق أفضل، قال الله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:«اللهم؛ ارحم المحلقين» ، فقالوا: يا رسول الله؛ والمقصرين؟ فقال: «اللهم؛ ارحم المحلقين» ، قال في الرابعة:«والمقصرين» رواه الشيخان. وتقتصر المرأة بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها، ولا تؤمر بالحلق؛ لخبر أبي داوود بإسناد حسن كما قاله في «المجموع»:«ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير» ، وفي «المجموع» عن جماعة: يكره للمرأة الحلق؛ أي: لخبر الترمذي: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق المرأة رأسها). والخنثى كالأنثى فيما ذكرناه. قوله: (مع دفن شعر) أي: يسن دفن شعره. قوله: (وبعده) أي: بعد الحلق أو التقصير طواف الركن المسمى أيضا بطواف الإفاضة والزيارة، والفرض والصدر بفتح الدال؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، وللإتباع رواه مسلم. ويسعى بعده إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، والأفضل: أن يطوف قبل الزوال، وإذا فرغ من طوافه .. استحب أن يشرب من سقاية العباس؛ للإتباع، رواه مسلم. قوله:(وبعد يوم العيد للزوال ترمي الجمار الكل بالتوالي) أي: يدخل رمي كل يوم من أيام التشريق الثلاثة بزوال شمسه؛ للإتباع، رواه مسلم.
وتسن الموالاة في رمي الجمار، وأما ترتيب الجمرات .. فشرط.
[التحلل الأول والثاني]
قوله: (باثنين من حلق) أي: أو تقصير، ورمي يوم النحر أو الطواف؛ أي: المتبوع بالسعي إن لم يفعل قبل .. حصل التحلل من تحلل الحج، وحل قلم الظفر والحلق إن لم يفعل، واللبس أي: وستر رأس الرجل ووجه المرأة، والصيد، والطيب، بل يسن التطيب؛ لحله بين التحللين؛ لخبر «الصحيحين» عن عائشة قالت:(كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، وخبر النسائي وابن ماجه:«إذا رميتم الجمرة .. فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» ، وخبر البيهقي وغيره:«إذا رميتم وحلقتم -وفي رواية: وذبحتم -فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء» ، وضعفوه. ويباح بفعل الثالث باقي المحرمات وهي: الوطء، والمباشرة فيما دون الفرج، وعقد النكاح؛ لحصول التحلل الثاني. وقول الناظم (ونكاح): عطف تفسير، ولو فات الرمي .. توقف التحلل على بدله ولو صوماً؛ كما صححه في «الروضة» و «أصلها». قال في «المهمات»: والمشهور: عدم التوقف؛ وهو الذي نص عليه الشافعي، ونقل في «الكفاية» فيه عن بعضهم الإجماع، قال: فإن قيل: ما الفرق على الأول بين هذا وبين المحصر إذا عدم الهدي؛ فإن الأصح: عدم توقف التحلل على بدله وهو الصوم؟ قلنا: الفرق: أن التحلل إنما أبيح للمحصر تخفيفاً عليه حتى لا يتضرر بالمقام على الإحرام، فلو أمرناه بالصبر إلى أن يأتي بالبدل .. لتضرر. والحكمة في أن للحج تحللين: أنه يطول زمانه وتكثر أفعاله، فأبيح بعض محرماته في وقت، وبعضها في آخر؛ كالحيض لما طال زمنه .. جعل له تحللان: انقطاع الدم والغسل، بخلاف العمرة ليس لها إلا تحلل واحد؛ لقصر زمنها؛ كالجنابة.
[استحباب شرب ماء زمزم]
ويسن شرب ماء زمزم؛ للإتباع، رواه الشيخان، وخبر مسلم:«إنها مباركة، إنها طعام طعم» ، زاد أبو داوود الطيالسي في «مسنده»:«وشفاء سقم» . ويستحب أن يشربه لما أحب من مطلوبات الدنيا والآخرة؛ لخبر الحاكم في «المستدرك» : «ماء زمزم لما شرب له» . فإذا شربه للمغفرة .. استقبل القبلة، ثم سمى الله تعالى وقال:(اللهم، إنه بلغني عن رسولك صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ماء زمزم لما شرب له»، وإني أشربه لتغفر لي، اللهم؛ اغفر لي)، وكذا إذا شربه للشفاء من مرض ونحوه، قال الحاكم: كان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم .. قال: (اللهم، إني أسالك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء)، وللبيهقي:(أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له، وأنا أشربه لعطش يوم القيامة» ثم شرب). قوله: (وطف وداعا) أي: وجوباً كما مر إيضاحه. قوله: (وادع بالملتزم) أي: بعد فراغك من طواف الوداع، وهو بين الركن والباب؛ سمي بذلك؛ لأن الداعين يلزمونه عند الدعاء، وهو من الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء. وتسن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغ الحج، ففي خبر:«من حج ولم يزرني .. فقد جفاني» رواه ابن عدي في «الكامل» وغيره، وروى الدارقطني وغيره:«من زار قبري .. وجبت له شفاعتي» ، ومفهومه: أنها تجوز لغير زائره. وفي «المجموع» : زيارة قبره صلى الله عليه وسلم من أهم القربات، فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة .. استحب لهم استحباباً متأكداً أن يتوجهوا إلى المدينة؛ لزيارة صلى الله عليه وسلم، وليكثر المتوجه إليها في طريقه من الصلاة والتسليم عليه، ويزيد منهما إذا أبصر
أشجارها مثلاً، ويستحب أن يغتسل قبل دخوله، ويلبس أنظف ثيابه، فإذا دخل المسجد .. قصد الروضة؛ وهي ما بين القبر والمنبر، فيصلي تحية المسجد بجنب المنير، ثم يأتي القبر فيستقبل رأسه ويستدبر القبلة، ويبعد منه نحو أربعة أذرع ونصف، ناظراً إلى أسفل ما يستقبله في مقام الهيبة والإجلال، فارغ القلب من علائق الدنيا، ويسلم ولا يرفع صوته، وأقل السلام عليه:(السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وروى أبو داوود بإسناد صحيح:«ما من أحد يسلم علي .. إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام» ، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه؛ فإن رأسه عند منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتأخر قدر ذراع فيسلم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوسل به في حق نفسه، ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ثم يستقبل القبلة ويدعو لنفسه ولمن شاء من المسلمين. انتهى.
(ولازم لمتمتع دم
…
أو قارن إن كان عنه الحرم)
(مسافة القصر، وعند العجز صام
…
من قبل نحره ثلاث أيام)
(وسبعة في داره، وليحتلل
…
لفوت وقفة بعمرة عمل)
(وليقض مع دم، ومحصر أحل
…
بنية والحلق مع دم حصل)
فيها ثلاث مسائل.
[لزوم الدم على المتمتع والقارن وشروطه]
الأولى: يلزم كلا من المتمتع والقارن دم؛ أما الأول .. فلقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} أي: بسببها {إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، إذ التمتع: التلذاذ بما كان حرم عليه بعد تحلله من العمرة، وأما الثاني .. فلخبر «الصحيحين» عن عائشة:(أنه صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر يوم النحر قال: وكن قارنات)، ووجوب الدم فيه أولى من وجوبه في التمتع؛ لأنه أقل عملاً. وإنما يلزم كلا منهما الدم فيه، إن كان عنه؛ أي: عن مسكنه الحرم مسافة القصر، قال
تعالى في المتمتع: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، وقيس عليه القارن، فعلم أنه لا دم على حاضريه، وهم من مسكنه دون مسافة القصر من الحرم، والقريب من الشيء يقال: إنه حاضره، قال تعالى:{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي: قريبة منه، ومن إطلاق المسجد الحرام على جميع الحرم؛ كما هنا قوله تعالى:{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} . قال الماوردي: وإنما اعتبر الحرم دون مكة؛ لأن كل موضع ذكر الله المسجد الحرام أراد به الحرم، إلا قوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فالمراد به الكعبة، فالحمل على الأغلب أولى. ومن جاوز الميقات فير مريد نسكاً، ثم بدا له فأحرم بالعمرة قرب دخول مكة، أو عقب دخولها .. لزمه دم التمتع على الأصح في الأولى، والمختار في «الروضة» في الثانية؛ لأنه ليس من الحاضرين، والثاني: يعده منهم. ويشترط أيضا لوجوب الدم على المتمتع أمران آخران:
أحدهما: أن تقع عمرته في أشهر الحج من سنته؛ فلو وقعت قبل أشهره أو فيها والحج في سنة قابلة .. فلا دم، ولو أحرم بها قبل أشهره، وأتى بجميع أفعالها في أشهره .. فالأظهر: لا دم؛ لتقدم أحد أركانها.
ثانيهما: ألا يعود لإحرام الحج إلى الميقات الذي أحرم بالعمرة منه؛ فلو عاد إليه أو إلى مثل مسافته وأحرم بالحج .. فلا دم، وكذا لو عاد إلى ميقات أقرب إلى مكة من ميقات عمرته وأحرم منه .. لا دم عليه في الأصح؛ لانتفاء تمتعه وترفهه، ولو أحرم به من مكة ثم عاد إلى الميقات .. سقط عنه الدم في الأصح. ثم الشرط الثاني: مناط وجوب الدم، والخارج بالأول والثالث كالمستثنى منه. ولا تعتبر هذه الشروط في التسمية بالتمتع، وقيل: تعتبر فيها أيضا، حتى لو فات شرط منها .. يكون مفرداً، ولو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة ثم عاد إلى الميقات .. سقط عند الدم؛ كما يسقط عن التمتع إذا عاد بعد الإحرام بالحج إلى المقيات، وقيل: لا يسقط، والفرق: أن اسم القران لا يزول بالعود إلى الميقات، بخلاف التمتع.
ووقت وجوب الدم: إحرامه بالحج؛ لأنه حينئذ يصير متمتعاً بالعمرة إلى الحج، ولا تتأقت إراقته بوقت؛ وهو شاة بصفة الأضحية، ويقوم مقامها سبع بدنة أو سبع بقرة. والأفضل: ذبحه يوم النحر، ويجوز قبل الإحرام بالحج بعد التحلل من العمرة في الأظهر، ولا يجزئه قبل التحلل منها في الأصح، فإن عجز عنه في موضعه وهو الحرم؛ بأن لم يجده فيه، أو لم يجد ما يشتريه به، أو وجده بأكثر من ثمن مثله .. صام بدله عشرة أيام؛ ثلاثة أيام في الحج قبل يوم النحر، ويستحب قبل يوم عرفة؛ لأنه يستحب للحاج فطره؛ كما تقدم في صوم التطوع، ولا يجوز تقديمها على الإحرام بالحج؛ لأنها عبادة بدنية فلا تقدم على وقتها، ولا يجوز صوم شيء منها في يوم النحر، ولا في أيام التشريق في الجديد، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله في الأظهر، قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم للمتمتعين:«من كان معه هدي .. فليهد، ومن لم يجد .. فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» رواه الشيخان، ولو توطن مكة بعد فراغه من الحج .. صام بها، وإن لم يتوطنها .. لم يجز صومه بها، ولا يجوز صومها بالطريق إذا توجه إلى وطنه؛ لأنه تقديم للعبادة البدنية علة وقتها، ويندب تتابع الثلاثة، وكذا السبعة. ولو فاتته الثلاثة في الحج ورجع إلى أهله .. فالأظهر: أنه يلزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة، كما في الأداء، والأظهر: انه يفرق بأربعة أيام، ومدة إمكان سيره إلى أهله على العادة الغالبة؛ لتتم محاكاة القضاء للأداء.
[تحلل من فاته الوقوف]
الثانية: يجب أن يتحلل من فاته الوقوف -وبفواته يفوت الحج- بعمل عمرة من طواف وسعي، إن لم يكن سعى وحلق؛ لأن في بقائه محرماً حرجاً شديداً يعسر احتماله، فيحرم عليه استدامة إحرامه إلى قابل؛ لزوال وقته كالابتداء، فلو استدامة حتى حج به من قابل .. لم يجزه؛ كما نقله ابن المنذر عن الشافعي. أما من سعى عقب طواف القدوم .. فلا يحتاج في تحلله إلى سعي، وما تحلل به ليس بعمرة حقيقة، ولهذا لا تجزئه عن عمرة الإسلام، لأن إحرامه انعقد لنسك فلا ينصرف إلى الآخر كعكسه.
قال في «المجموع» : وبما فعله من عمل العمرة يحصل التحلل الثاني، وأما الأول فيحصل بواحد من الحلق والطواف المتبوع بالسعي؛ لسقوط حكم الرمي بالفوات؛ فصار كمن رمى. ولا يحتاج إلى نية العمرة؛ كما أفهمه كلام الناظم. ويجب عليه القضاء للحج الذي فاته بفوات الوقوف تطوعا كان أو فرضاً؛ لخبر عمر الآتي، ولأنه لا يخلو عن تقصير كالمفسد، وبهذا فارق المحصر، وعبر في «الروضة» كـ «أصلها» و «المحرر»: بأن الفرض يبقى في ذمته، ثم القضاء على الفوز في الأصح. قوله:(مع دم) أي: مع وجوب دم في القضاء، والأصل في ذلك كله: ما رواه مالك رضي الله تعالى عنه في «الموطأ» بإسناد صحيح؛ كما قاله «المجموع» : (أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أخطأنا العد وكنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة؛ فقال له عمر: اذهب إلى مكة فطف بالبيت أنت ومن معك، واسعوا بين الصفا والمروة، وانحروا هدياً إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا ثم ارجعوا، فإذا كان عام قابل .. فحجوا وأهدوا، فمن لم يجد .. فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)، واشتهر ذلك في الصحابة ولم ينكر. أما العمرة المفردة .. فلا يتصور فواتها بغير الموت.
[حكم المحصر عن الحج والعمرة]
الثالثة: المحصر عن إتمام حج أو عمرة أو قران؛ أي: منعه عن ذلك عدو من المسلمين أو الكفار من جميع الطرق .. يجوز له التحلل، والأفضل له تأخيره إن اتسع الوقت، وإلا .. فتعجيله. نعم؛ لو علم انكشافه في مدة الحج بحيث يمكن إدراكه، أو في العمرة إلى ثلاثة أيام .. لم يجز له التحلل، وكذا لو منع عن غير الأركان كالرمي والمبيت؛ لإمكان الجبر بالدم والتحلل بالطواف والحلق، وتجزئة عن حجة الإسلام.
ومن صد عن عرفة دون مكة .. فليدخلها ويتحلل بعمل عمرة، أو عكسه .. وقف ثم تحلل ولا قضاء فيهما في الأظهر، والأصل في جواز التحلل: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي: وأردتم التحلل {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، وخبر «الصحيحين»:(أنه صلى الله عليه وسلم تحلل بالحديبية لما صده المشركون، وكان محرماً بالعمرة). ومقتضى كلام الناظم: أنه لا فرق بين حصر الكل والبعض، وهو كذلك على الأصح؛ لأن مشقة كل واحد التي جاز له التحلل بها لا تختلف بين أن يتحمل غيره مثلها أو لا. ولو منعوا ولم يتمكنوا من المضي إلا ببذل مال .. فلهم أن يتحللوا، ولا يبذل المال وإن قل؛ إذ لا يتحمل الظلم في أداء الحج والعمرة، ولو منعوا من الرجوع أيضاً .. جاز لهم التحلل في الأصح. ويحصل تحلل المحصر بالحلق، وذبح شاة حيث أحصر من حل أو حرم، ويفرق لحمها على مساكين ذلك الموضع، ولا يلزمه إذا أحصر في الحل أن يبعث بها إلى الحرم، وبنية التحلل عند كل منهما؛ لاحتماله لغير التحلل، فإن فقد الدم .. فالأظهر: أن له بدلاً، وأنه طعام بقيمة الشاة، فإن عجز عنه .. صام عن كل مد يوماً، وله إذا انتقل إلى الصوم التحلل في الحال في الأظهر بالحلق والنية عنده. ولا تحلل بعذر كالمرض؛ لأنه لا يفيد زواله، بخلاف التحلل بالإحصار، فإن شرطه .. تحلل به على المشهور، ولا يجب الهدي إلا إن شرطه. ولا قضاء على المحصر المتطوع إذا تحلل؛ لعدم وروده، فإن كان فرضاً مستقراً؛ كحجة الإسلام بعد السنة الأولى من سني الإمكان، وكالقضاء والنذر .. بقي في ذمته، أو غير مستقر؛ كحجة الإسلام في السنة الأولى من سني الإمكان .. اعتبرت الاستطاعة بعد. ومتى أحرم الرقيق بلا إذن .. فلسيده تحليله بأن يأمره بالتحلل، فيجوز له حينئذ، فيحلق وينوي التحلل. وللزوج تحليل زوجته من حج تطوع لم يأذن فيه، وكذا من حج الفرض في الأظهر؛ لأن تقريرها عليه يعطل حقه من الاستمتاع بها.
* * *