الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة الجماعة
(تسن في مكتوبة لا جمعه
…
وفي التراويح وفى الوتر معه)
(كأن يعيد الفرض ينوى نيته
…
مع الجماعة اعتقد نفيلته)
فيها خمس مسائل: -
[حكم صلاة الجماعة]
الأولي: تسن صلاة الجماعة في مكتوبة وهي الصلوات الخمس لا جمعة، لأنها فيها فرض عين كما سيأتي في بابها، وأقل الجماعة فيما عداها: إمام ومأموم، والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [سورة النساء: 102] الآيه، أمر بها في الخوف ففي الأمن أولي، ومواظبته صلى الله عليه وسلم عليها كما هو معلوم بعد الهجرة، والأخبار كخبر (الصحيحين):(صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، وفي رواية (بخمس وعشرين درجة)، قال في (المجموع): ولا منافاة، لأن القليل لا ينفي الكثير، أو أنه أخبر أولا بالقليل، ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل فأخبر بها، أو أن ذلك يختلف باختلاف أحوال المصلين والصلاة، وقال فيه في (باب هيئة الجمعة): إن من صلي في عشرة آلاف .. له سبع وعشرون درجة، ومن صلي مع اثنين .. له كذلك، لكن درجات الأول أكمل.
وخرج بـ (المكتوبة): المنذورة، فلا تسن فيها الجماعة، والمراد بـ (المكتوبة): المؤداه، والمقضية خلف مقضيه من نوعها، كان يفوت الإمام والمأموم ظهر أو عصر، فتسن
فيها الجماعة، لخبر (الصحيحين):(أنه صلى الله عليه وسلم صلي بأصحابه الصبح جماعة حين فاتتهم بالوادي).
أما المؤداة خلف المقضية وعكسه، والمقضية خلف مقضيه أخري .. فلا تسن الجماعة فيها، بل الانفراد فيها أفضل، للخلاف في صحة الاقتداء، ولا يتأكد الندب للنساء تأكده للرجال، لمزيتهم عليهن قال تعالى:{وللرجال عليهن درجة} [سورة البقر: 228]، فيكره تركها للرجال دون النساء، وما قاله أنه سنة في المكتوبة .. هو ما صححه الرافعي، وقال النووي: الأصح المنصوص: أنها فرض كفاية، لخبر:(ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة .. إلا استحوذ عليهم الشيطان) أي: غلب، رواه أبو داوود وغيره، وصححه ابن حبان وغيره، وليست فرض عين، لخبر:(صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ) فإن المفاضلة تقتضي جواز الانفراد.
وأما خبر (الصحيحين): (أثقل الصلاة على المنافقين .. صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما .. لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)
…
فوارد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون فرادي، والسياق يؤيده، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرقهم وإنما هم بتحريقهم.
فإن قلت: لو لم يجز تحريقهم .. لما هم به؟ قلنا: لعله هم بالاجتهاد، ثم نزل وحي بالمنع، أو تغير الاجتهاد، ذكره في (المجموع).
وعل القول بأنه فرض كفاية لو تركها أهل بلد أو قرية .. قاتلهم الإمام، ولا يسقط عنهم الحرج إلا إذا أقاموها، بحيث يظهر شعارها بينهم، ففي القرية الصغيرة تكفي إقامتها بموضع واحد، وفي الكبيرة يجب إقامتها بمواضع ولو بطائفة يسيرة، بحيث يظهر الشعار في المحال وغيرها، فلا تكفي إقامتها في البيوت وإن ظهرت في الأسواق.
ثم إنها إنما تجب لأداء فرض الرجل الحر المقيم الساتر لعورته، فلا تجب في المقضية، ولا على الأنثي بل والخنثي والعبد والمسافر، ولا على العراة، بل الخلاف في ندبها لهم كما صححه الرافعي، وصحح النووي: أنها والانفراد سواء، وقال: لو كانوا عميا أو في ظلمة
…
استجبت لهم بلا خلاف.
وأكد الجماعات بعد الجمعة: صبحها، ثم صبح غيرها، ثم العشاء، ثم العصر، وأما الجماعة في الظهر والمغرب .. فقال الزركشي: يحتمل التسوية بينهما، ويحتمل تفضيل الظهر، لاختصاصها ببدل وهو الجمعة وبالإبراد، ويحتمل تفضيل المغرب، لأن الشرع لم يخفف فيها بالقصر.
[استحباب الجماعة في التراويح والوتر]
الثانية: تسن الجماعة في التراويح، للإتباع فيها كما مر، وفي الوتر معه، أى: مع فعل التراويح جماعة أو فرادي، لنقل الخلف له عن السلف، إلا إذا كان له تهجد، فالسنة تأخير الوتر عنه كما مر، فغن صلاة بدون التراويح .. فمقتضي كلامه كـ (الروضة): أن الجماعة لا تسن فيه، لكن مقتضي كلام الرافعي سنيتها فيه أيضا، وهو كذلك.
[استحباب إعادة الفرض وشروطه]
الثالثة: تسن إعادة الفرض المؤدي ولو في جماعة مرة واحدة مع جماعة في الوقت ولو كان إمامها مفضولا والوقت وقت كراهة، لأنه صلى الله عليه وسلم صلي الصبح فرأي رجلين لم يصليا معه فقال:(ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: صلينا في رحالنا، فقال: إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة .. فصلياها معهم، فإنها لكما نافلة) رواه أبو داوود وغيره، وصححه الترمذي وغيره، وقوله:(صليتما) يصدق بالإنفراد والجماعة، وسواء استوت الجماعتان أم زادت الثانية بفضيلة، ككون الإمام أعلم أو أورع، أو الجمع أكثر، أو المكان
أشرف، أم زادت الأولي بها، لأن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعود إلي قومه فيصلي بهم تلك الصلاة ولم ينكر عليه.
وعلم من كلام المصنف: إنه تسن إعادة الفرد مع المصلي منفردا، لصدق إعادته بجماعة، وبه جزم في (الروضة)، وحكي ابن الرفعة الاتفاق عليه، ودليله خبر أبي سعيد الخدري:(أن رجلا جاء إلى المسجد بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) فصلي معه رجلا) رواه أبو داوود والترمذي وحسنه.
قال في (المجموع): فيه استحباب إعادة الصلاة في جماعة لمن صلاها في جماعة وإن كانت الثانية أقل من الأولي، وأنه تستحب الشفاعة إلى من يصلى مع الحاضر ممن له عذر في عدم الصلاة معه، وأن الجماعة تحصل بإمام ومأموم، وأن المسجد المطروق لا تكره فيه جماعة بعد جماعة انتهى.
وأما خبر أبي داوود والنسائي: (لا تصلوا صلاة مكتوبة في يوم مرتين) .. فعام خص بما مر من الأدلة.
قال الأذرعي: إنما تسن الإعادة لغير من الانفراد له أفضل كالعاري، والظاهر: أنه إنما، تستحب الإعادة إذا كان الإمام ممن لا يكره الاقتداء به، وأن الإعادة إنما تستحب ممن لو اقتصر عليها .. لأجزأته، أما لو كانت لا تغني عن القضاء، كمقيم تيمم لفقد ماء أو لبرد .. فلا. انتهى.
وخرج بـ (الفرض): النفل، لكن القياس في (المهمات): أن ما تسن فيه الجماعة من النفل .. كالفرض في سن الإعادة.
ويستثني من سن الإعادة: صلاة الجنازة، لأنها لا ينتفل بها، وصلاة الجمعة، فإنها لإتقان بعد أخري، فإن فرض الجواز لعذر الاجتماع .. فالقياس في (المهمات): أنها
[نية الصلاة المعادة]
الرابعة: أن المعيد ينوى بالمعادة الفرض، لأنه إنما أعادها لينال ثواب الجماعة في فرض وقته، وإنما ينال ذلك إذا نوى الفرض، وهذا ما صححه الأكثرون والنووي في (المنهاج) تبعا (لأصله)، واستبعده إمام الحرمين وقال: كيف ينوي الفرض مع القطع بأن الثانية ليست بفرض؟ ! بل الوجه: أن ينوي الظهر أو العصر مثلا، ولا يتعرض للفرضية، قال في (الروضة): وهذا هو الراجح.
وأجاب عنه العلامة الرازي بأنه ينوي ما هو فرض علي المكلف لا الفرض عليه، كما في صلاة الصبي، قال: ولعل الفائدة فيه انه لو تذكر خللا في الأولي .. كفت الثانية، بخلاف ما إذ لم ينوى الفرض، كما أن الصبي لو لم ينوى الفرض .. لم يؤد وظيفة الوقت غذا بلغ فيه، وبما ترجاه افتي الغزالي، ويظهر: أنه بناه على أن الفرض ليس الأولي بعينها، وإلا .. فقد نقل النووي في (رؤوس المسائل) عن القاضي أبي الطيب وجوب الإعادة، لأن الثانية تطوع محض، وأقره عليه، نقله الزركشي.
[وقوع المعاد نفلا]
الخامسة: أن المعاد يقع نفلا، للخبر السابق، ولسقوط الخطاب بالأول.
وقيل: أن الفرض أحدهما يحتسب الله تعالى بما شاء منهما، وربما قيل: يحتسب بأكملهما، وقيل: إن صلي منفردا .. فالفرض الثانية، لكمالها، وقيل: إن كل منهما فرض، لأن الثانية مأمور بها والأولي مسقطة للحرج لا مانعة من وقوع الثانية فرضا، بدليل سائر فروض الكفايات كالطائفة الثانية المصلية على الجنازة وغيرها، ثم إنه يكون فرضه الأولي إن أغنت عن القضاء، وإلا .. ففرضه الثانية المغنية عن المذهب.
والجماعة للرجال أفضل منها للنساء، ولهم في المساجد أفضل منها خارجها وإن كان أكثر جماعة، لاشتمالها على الشرف، وإظهار الشعار، وكثرة الجماعة، ولخبر (الصحيحين):(صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة).
[جماعة النساء في البيوت أفضل]
وأما النساء .. فالجماعة لهن في بيوتهن أفضل مناه في المساجد وغيرها، بل يكره حضور الشابة والكبيرة المشتهاة، ويكره للزوج والولي تمكينها منه، لما في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها:(لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي ما أحدث النساء .. لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل)، وأما خبر مسلم:(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) .. فمحمول على عجوز لا تشتهي، فإنه يندب للزوج أن يأذن لها إذا استأذنته وأمن المفسدة، لخبر مسلم:(إذا استأذنتكم نساؤكم بالليل إلى المسجد .. فأذنوا لهن)، وخبر (الصحيحين):(إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى مسجد .. فلا يمنعها).
وإذا أرادت المرأة الحضور .. كره لها الطيب وفاخر الثياب، فإن لم يكن لها زوج ولا سيد ووجدت شروط الحضور .. حرم المنع، وإمامة رجل لهن بغير خلوه محرمة .. أفضل من إمامة امرأة.
(وكثرة الجمع استحب حيث لا
…
بالقرب منه مسجد تعطلا)
(أو فسق الإمام أو ذو بدعة
…
وجمعة يدركها بركعة)
فيهما مسألتان:
[كثرة الجماعة أفضل وما يستثني منه]
الأولي: كثرة الجمع أفضل من قلته، لخبر:(صلاة الرجل مع الرجل .. أزكي من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين .. أزكي من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر .. فهو أحب إلى الله) رواه أبو داوود وغيره، وصححه ابن حبان وغيره، إلا إذا تعطل مسجد قريب منه عن الجماعة بغيبته، لكونه إمام أو يحضر الناس بحضوره، أو كان إمام الكثير فاسقا أو مبتدعا كرافضي، أو مخالفا في بعض الأركان والشروط، فإن الجماعة في الجمع القليل في المسجد
القريب أو الخالي إمامه عما ذكر .. أفضل، لتكثر الجماعة بالمسجد في الأول، وليأمن الخيانة في الثني، وفي معني الفاسق: كل من يكره الاقتداء به، كولد الزنا والتمتام واللاحن لحنا لا يغير المعني، فإن لم تحصل الجماعة إلا بفاسق أو نحوه .. فالصلاة معه أفضل، كذا ذكره الدميري رحمه الله تعالى، وقال السبكى: إن كلامهم يشعر به. انتهى، وهو وجه حكاه المحاملي وغيره.
لكن الذي في (البحر): أن صلاته منفردا أفضل، ونقله في (الروضة) كـ (أصلها) عن أبي إسحاق المروزي، لكن في مسألة الحنفي فقط، ومثلها البقية، بل أولي.
والجمع القليل في أحد المساجد الثلاثة أفضل من الجمع الكثير في غيرها، بل الانفراد فيها أفضل كما قاله المتولي.
وأفتى الغزالي بأن الانفراد أفضل فيما لو كان لو صلى منفردا .. خشع، ولو صلي في جماعة .. لم يخشع، ونقل في (الخادم) عن ابن عبد السلام موافقته، ثم صوب خلافه.
قال في (البحر): ولو تساوت جماعة مسجدي الجوار .. قدم مات يسمع نداءه، ثم الأقرب، ثم يتخير. انتهى، وهذا جري على الغالب، فلو فرض أنه يسمع نداء الأبعد دون الأقرب لحيلولة ما يمنع السماع أو نحوها .. قدم الأقرب.
[بما تدرك الجمعة]
الثانية: تدرك الجمعة بركعة مع الإمام لا بما دونها، لخبر:(من أدرك ركعة من الصلاة .. فقد أدركها) رواه الشيخان، ولخبر:"من أدرك من الجمعة ركعة .. فليصل إليها أخرى" وخبر " من أدرك من صلاة الجمعة ركعة .. فقد أدرك الصلاة" رواهما
الحاكم، وقال في كل منهما: إسناده صحيح على شرط الشيخان.
وعلى هذا: فلو أدرك ركوع الثانية المحسوب للإمام واطمئن قبل أن يرفع الإمام رأسه عن أقل الركوع .. أدرك الجمعة، فيصلي ركعة أخري جهرا، فإن أدرك الإمام بعد ركوعها .. نوى الجمعة تبعا للإمام وأتمها ظهرا أربعة.
وخرج بـ (الجمعة): غيرها، فتدرك الجمعة فيها بجزء منها وإن قل ما لم يسلم، لكن فضيلتها دون فضيلة من يتركها من أولها، إذ لو لم تحصل بذلك .. لمنع من الاقتداء، لأنها حينئذ تكون زيادة بلا فائدة، ومتى فارق الإمام .. فاتته فضيلة الجماعة إلا إذا فارقه بعذر وألف (تعطلا) للإطلاق.
[فضيلة إدراك تكبيرة الإحرام]
(والفضل في تكبيرة الإحرام
…
بالاشتغال عقب الإمام)
أى: والفضل في تكبيرة الإحرام يحصل بالاشتغال بالتحرم عقب تحرم إمامه أى: بشرط حضوره تكبيرة الإمام، غذ الغائب عن تحرمه والشاهد له من غير تعقب إحرامه له .. لا يسميان مدركين له.
والأصل فيه: خبر: (إنما جعل الإمام .. ليؤتم به، فإذا كبر .. فكبروا) رواه الشيخان، وخبر:(من صلي أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولي كتب له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق) رواه الترمذي منقطعا، وقيد في (المجموع) ذلك بأن يكون بغير وسوسه ظاهرة، وإلا .. فلا يدرك الفضل، وهذا نظير قولهم: إن الوسوسة في القراءة غير عذر في التخلف بتمام ركنين فعليين، لطول زمنها.
ولا يسرع الساعي إلى الجماعة وإن خاف فوات فضيلة التحرم، لخبر (الصحيحين):(إذا أقيمت الصلاة .. فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم .. فصلوا، وما فاتكم .. فأتموا).
ولو خاف فوات الجماعة .. فقضية كلام الرافعي في (باب الجمعة) أنه يسرع، وبه صرح الفارقي بحثاً، وتبعه ابن أبي عصرون، لكن المنقول خلافه، فقد صرح به أصحاب "الشامل" و"التنمية" و"البحر"، ونقله في "المجموع" عن الأصحاب، ويستحب للأمام انتظار من أحس به في الركوع غير الثاني من الكسوف أو التشهد الأخير بشروط:
أحدها: أن يكون قد دخل محل الصلاة.
ثانيها: ألاّ يبالغ في الانتظار.
ثالثها: ألا يميز بين الداخلين؛ لملازمة، أو دين، أو صداقة، أو استمالة.
رابعها: أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى؛ للإعانة على إدراك الركوع في الأولى، وفضل الجماعة في الثانية، ولأنه صلى الله عليه وسلم انتظر في صلاة الخوف؛ للحاجة وهي موجودة هنا فيما ذكر.
وحيث فقد شرط منها .. كره الانتظار ولم تبطل الصلاة على المذهب، والمبالغة في الانتظار: أن يشق به على الحاضرين، وضبط الإمام المشقة بما يظهر أثره لو وزع على كل الصلاة.
قال في "المجموع": إذا لم يدخل الإمام في الصلاة وقد جاء وقت الدخول وحضر بعض المأمومين ورجوا زيادة .. ندب له أن يعجل ولا ينتظرهم؛ لأن الصلاة أول الوقت بجماعة قليلة أفضل منها آخره بجماعة كثيرة، وإدراك الصف الأول أولى من إدراك غير الركعة الأخيرة.
[أعذار الجمعة والجماعة]
(وعذر تركها وجمعة: مطر
…
ووحل وشدة البرد وحر)
(ومرض وعطش وجوع
…
قد ظهر أو غلب الهجوع)
(مع أتساع وقتها وعري
…
وأكل ذي الريح الكريه ني)
(إن لم يزل في بيته فليقعد
…
ولا تصح قدوة بمقتدى)
وفيها مسألتان:
الأولى: عذر تركها؛ أي: الجماعة والجمعة أمور:
الأول: المطر بشرط المشقة به؛ بحيث يبل الثياب ليلاً أو نهاراً؛ للإتباع، رواه الشيخان، فإن كان خفيفاً أو وجد كنا يمشي فيه .. لم يعذر، قال في "الروضة": والثلج عذر إن الثياب، وإلا .. فلا.
الثاني: الوَحل بفتح الحاء ليلاً أو نهاراً، لأنه اشق من المطر، وترك المصنف التقييد بالشديد كـ"المجموع" و"التحقيق"، ومقتضاه: أنه لا فرق بينه وبين الخفيف، قال الأذرعي: وهو الصحيح؛ والأحاديث دالة عليه.
الثالث والرابع: البرد والحر الشديدان ليلاً أو نهاراً؛ للمشقة، بخلاف الخفيف منهما.
الخامس: مرض مشقته كمشقة المطر وإن لم يبلغ به حداً يسقط القيام في الفريضة؛ للحرج، قال تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]، فإن كان خفيفاً؛ كوجع ضرس، وصداع يسير، وحمى خفيفة .. فليس بعذر.
السادس والسابع: العطش والجوع الظاهران؛ لخبر: "لا صلاة بحضرة طعام"، قال ابن الرفعة تبعاً لابن يونس: أو لم يحضر الطعام؛ أي: وقرب حضوره، وإذا أكل من به جوع .. فليأكل لقيمات يكسر بها سورة الجوع، إلا أن يكون الطعام مما يؤتي عليه مرة واحدة كالسويق واللبن، وصوب في "شرح مسلم" إكمال حاجته من الأكل.
الثامن: غلبة الهجوع وهو النوم، وفي معناه: غلبة النعاس؛ لخبر "الصحيحين": "إذا نعس أحدكم في صلاته .. فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس .. لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه"، فإذا كان عذراً لمن هو في صلاته .. فبالأولى أن يكون عذراً لمن يريد الدخول فيها.
وإنما يعذر المكلف في تأخير الصلاة مع اتساع وقتها، فإن ضاق عنها .. بدأ بها؛ لأن إخراج بعضها عنه حرام.
التاسع: العري؛ بألاّ يجد ثوباً يليق به؛ كأن وجد الفقيه قباء، أو لم يجد ما يستر به رأسه وإن وجد ساتر العورة، وكذا لو لم يجد ما يلبسه في رجله وليس عادته الحفاء؛ للمشقة، فإن اعتاد سترها فقط؛ كبعض أطراف الحجاز والسراة واليمن .. فليس بعذر.
العاشر: أكل كريه الرائحة؛ كثوم وبصل وفجل بشرط كونه نيئاً، وعدم زواله بالغسل والمعالجة، فليقعد في بيته حينئذ؛ والأصل في ذلك: خبر "الصحيحين": "من أكل بصلاً أو ثوماً أو كراتاً .. فلا يقربن مسجدنا- وفي رواية: المساجد- فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو أدم"، زاد "البخاري": قال جابر: (ما أراه يعني إلا نيئة)، وزاد الطبراني:"أو فجلاً".
قال في "المهمات": ويؤخذ منه: سقوطها بالبخر والصنان المستحكم بطريق الاولى.
وخرج بـ (النيء): المطبوخ؛ لزوال ريحه، و (نيّ) بالمد والهمز، لكن الأنسب هنا قصره وإبدال همزته ياء وإدماغها فيما قبلها.
ومن الأعذار: أن يرجو من عليه عقوبة تقبل العفو؛ كقصاصٍ وحد قذف العفو عنه بتغييبه، والخوف على نفس أو مال، وخوف المعسر من غريمه إن عسر عليه إثبات إعساره، والخوف من الانقطاع عن رفقته، واشتغاله بالتمريض؛ وهو تعهد المريض الذي لا متعهد له، أو اشتغل متعهده بشراء الأدوية ونحوها قريبا كان أو أجنبياً، وحضور نحو قريب محتضر أو يأنس به، والريح الشديدة بالليل دون النهار، ونشد ضالة يرجوها، واسترداد مال مغصوب، وزلزلة، وسمن مفرط، وجذام وبرص.
قال الإسنوي: إنما يتجه جعل هذه الأمور أعذاراً لمن يتأتى له إقامة الجماعة في البيت، وإلا .. لم يسقط عنه طلبها؛ لكراهة الانفراد للرجل وإن قلنا: إنها سنة.
قال في "المجموع": ومعنى كونها أعذاراً: سقوط الإثم على قول الفرض، والكراهة على قول السنة، لا حصول فضلها، ويوافقه جواب الجمهور عن خبر مسلم: سأل أعمى النبيَّ
صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في الصلاة في بيته؛ لكونه لا قائد له فرخص له، فلما ولى .. دعاه، فقال:"هل تسمع النداء؟ " فقال: نعم، قال:"فأجب": بأنه سأل هل له رخصة في الصلاة ببيته منفرداً تلحقه بفضيلة من صلى جماعة فقيل: لا.
وهذا كما قال السبكي ظاهر فيمن لم يكن يلازمها، وإلا .. فيحصل له فضلها؛ ففي "البخاري":"إذا مرض العبد أو سافر .. كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"، وقد نقل في "الكفاية" عن"تلخيص الروياني" وأقره حصولها إذا كان ناوياً الجماعة لولا العذر، ونقله في "البحر" عن القفال، وجزم به الماوردي ومجلي وغيرهما.
وحمل بعضهم كلام "المجموع" على متعاطي السبب؛ كأكل بصل وثوم، وكون خبزه في الفرن، وكلام هؤلاء على غيره كمطر ومرض، وجعل حصولها له كحصولها لمن حضرها لا من كل وجه، بل في أصلها؛ لئلا ينافيه خبر الأعمى.
[عدم صحة القدوة بمقتد]
الثانية: لا تصح قدوة بمقتد حال اقتدائه، ولا بمن شك في كونه مقتدياً؛ كأن رأى رجلين يصليان جماعة وشك أيهما الإمام؛ إذ لا يجتمع وصفا الاستقلال والتبعية، وما في "الصحيحين": (من أن الناس اقتدوا بأبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم .. محمول على أنهم كانوا مقتدين به صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعهم التكبير؛ كما في "الصحيحين" أيضاً، وقد روى البهيقي وغيره: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض وفاته خلف أبي بكر رضي الله عنه.
قال في "المجموع": إن صح هذا .. كان ذلك مرتين؛ أجاب به الشافعي والأصحاب.
ولو ظن كل من مصليين أنه مأموم .. لم تصح؛ لأن كلَاّ مقتد بمن يقصد الاقتداء به، أو
إمام .. صحت، أو شكا .. فلا، أو أحدهما .. صحت للظانِّ أنه إمام دون غيره، وهذا من المواضع التي فرق الفقهاء فيها بين الظن والشك، قال في "الكفاية": والبطلان بمجرد الشك؛ بناء على طريق العراقيين، أما على طريق المراوزة .. ففيه التفصيل في الشك في النية.
[لا تصح القدوة بمن تلزمه الإعادة أو قام إلى زيادة]
(ولا بمن تلزمه إعادة
…
ولا بمن قام إلى زيادة)
أي: لا تصح قدوة تلزمه إعادة لصلاته وإن كانت صحيحة؛ كفاقد الطهورين، والمتيمم لشدة البرد، والمقيم المتيمم لفقد الماء ولو كان المقتدي مثله؛ إذ هي لحق الوقت لا للاعتداد بها.
ولا تصح قدوة بمن قام لإلى زيادة على صلاته؛ كخامسة من عالم بسهوه بأن يتابعه فيها؛ لتلاعبه، فلو قام إمامه إليها .. فارقه أو انتظره، وقيل: لا يجوز له انتظاره، أما إذا اقتدى به وتابعه فيها جاهلاً بها .. فتحسب له تلك الركعة إن بقي عليه شيء؛ لعذره وإن لم تحسب للإمام، فإذا سلم الإمام .. تدارك باقي صلاته حتى في الجمعة، فيضيف إليها أخرى؛ كما لو بان إمامه محدثاً، بل أولى.
[شروط القدوة]
(والشرط: علمه بأفعال الإمام
…
برؤية أو سمع تابع الإمام)
(وليقترب منه بغير المسجد
…
ودون حائل إذا لم يزد)
(على ثلاث مئةٍ من الذراع
…
ولم يحل نهر وطرق وتلاع)
أي: للقدوة شروط:
الأول: علم المأمور بأفعال إمامه؛ ليتمكن من متابعته، والمراد ب (العلم): ما يشمل الظن، ويحصل علمه برؤية له من أمامه أو يمينه أو يساره، أو للصف الذي خلفه، أو لأحد الصفوف المقتدين به، أو لبعض صف، او سمع صوت الإمام، أو صوت المبلغ الثقة خلفه وإن لم يكن مصلياً، أو بهداية ثقة بجنب أعمى أصم، أو بصير أصم في ظلمة أو نحوها.
الثاني: أن يجمعهما موقف؛ إذ من مقاصد الاقتداء اجتماع جمع في مكان؛ كما عهد عليه الجماعات في العصر الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الإتباع، ولاجتماعهما أربعة أحوال؛ لأنهما إما أن يكونا بغير مسجد في فضاء، أو بناء، أو بمسجد، أو يكون أحدهما بمسجد والآخر بغيره.
فإن كانا بغير مسجد .. اشترط في الفضاء ولو محوطاً أو مسقفاً مملوكاً أو مواتا أو وقفا أو مختلفاً منها: ألا يزيد ما بين الإمام ومن خلفه، أو من على أحد جانبيه، ولا ما بين كل صفين أو شخصين ممن يصلى خلفه أو بجانبه على ثلاث مئة ذراع بذراع الآدمي وهو شبران تقريباً، فلا تضر زيادة أذرع يسيرة كثلاثة ونحوها كما في "المجموع"، ولا بلوغ ما بين الإمام والأخير من صف أو شخص فراسخ، وهذا التقدير: مأخوذ من العرف، وقيل: مما بين الصفين في صلاة الخوف؛ إذ سهام العرب لا تجاوز ذلك.
ويشترط مع ذلك فيما إذا كانا في بناءين، أو أحدهما في بناء والآخر في فضاء، ولو كان أحدهما في علو والآخر في سفل، أو كان البناء مدرسة أو رباطاً: ألاّ يحول بينهما حائل يمنع الاستطراف، أو المشاهدة للإمام أو لمن خلفه؛ كشباك أو باب مردود، أو جدار صفة شرقية أو غربية لمدرسة إذا كان الواقف فيها لا يرى الإمام ولا من خلفه؛ إذ الحيلولة بذلك تمنع الاجتماع، بخلاف حيلولة النهر والشارع كما سيأتي.
وكذا إن كان أحدهما خارج المسجد والآخر داخله وبينهما منفذ، أو كان في بيتين من غير المسجد وبينهما منفذ .. اشترط مع ما مر لصحة اقتداء من ليس في بناء الإمام ولم يشاهده، ولا من يصلي معه في بنائه: أن يقف واحد من المأمومين مقابل المنفذ يشاهد الإمام، أو من معه في بنائه: أن يقف واحد من المأمومين مقابل المنفذ يشاهد الإمام، أو من معه في بنائه، فتصح صلاة من في المكان الآخر؛ تبعاً له، ولا يضر الحائل بينهم وبين الإمام، ويصير المشاهد في حقهم كالإمام فلا يحرمون قبله، لكن لو فارقهم أو زال عن موقفه .. لم يضر؛ إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
وقوله: (ولم يحل نهر وطرق وتلاع) أي: لم يحل بين الإمام والمأموم نهر وإن احتاج عابره إلى سباحة، وطرق وإن كثر طروقها، وتلاع؛ لأنها لم تعد للحيلولة، قال في "الصحاح": التلعة: ما ارتفع من الأرض وما انهبط أيضاً وهو من الأضداد، والتلاع: مجاري أعلى الأرض إلى بطون الأودية واحدتها تلعة.
وإن كانا في مسجد .. صح الاقتداء وإن بعدت مسافته واختلفت أبنيته؛ كبئر وسطح ومنارة بشرط أن تكون أبوابها نافذة وإن أغلقت؛ لأنه كله مبني للصلاة، فالمجتمعون فيه .. مجتمعون لإقامة الجماعة مؤدون لشعارها، أما إذا لم تنفذ أبوابها إليه .. فلا يعد الجامع لها مسجداً واحداً، والمساجد المتلاصقة المتنافذة كالمسجد الواحد، ورحبة المسجد منه.
الثالث: ألا يتقدم المأموم على إمامه في الموقف؛ لأنه لم ينقل عن أحد من المقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ولخبر "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، والاعتبار بالعقب للقائم، وبالإلية للقاعد، وبالجنب للمضطجع.
ويستحب أن يقف الذكر عن يمين الإمام وأن يتأخر عنه قليلاً، فإن جاء آخر .. أحرم عن يساره ثم يتقدم الإمام، أو يتأخران حالة القيام وهو أفضل إن أمكن، وأن يصطف الذكران خلفه، وإن أم امرأة .. وقفت خلفه، وكذا النساء، أو رجلاً وامرأة .. وقف الرجل عن يمينه والمرأة خلف الرجل، أو رجلين وامرأة .. وقفا خلفه وهي خلفهما، أو رجلاً وامرأة وخنثى .. اصطفا وتخلف الرجل قليلاً، ووقف الخنثى خلفهما والمرأة خلفه، فإن كثروا .. فالرجال، ثم الصبيان، ثم الخناثى، ثم النساء.
الرابع: توافق الصلاتين في الأفعال الظاهرة، فلا تصح المكتوبة خلف الجنازة أو الكسوف ولا العكس، ويصح نحو الظهر خلف من يصلي الصبح أو المغرب، وله مفارقته عند القنوت والتشهد، ويصح الصبح خلف من يصلي نحو الظهر، ثم الأفضل أن ينتظره ليسلم معه، فلو صلى المغرب خلف من يصلي نحو الظهر .. لزمه أن يفارقه عند قيامه للرابعة ويتشهد ويسلم، وتصح العشاء خلف من يصلي التراويح والأولى أن يتمها منفرداً، فإن اقتدى به ثانياً .. جاز.
الخامس: الموافقة، فإن ترك الإمام فرضاً .. لم يتابعه، أو سنة .. أتى بها إن لم يفحش تخلفه لها؛ كجلسة الاستراحة، وقنوت يدرك معه السجدة الأولى.
السادس: المتابعة في أفعال الصلاة، فينبغي ألا يسبقه بالفعل، ولا يقارنه فيه، ولا يتأخر إلى فراغه منه، فإن قارنه .. لم تبطل وكره وفاته فضل الجماعة إلا تكبيرة الإحرام؛ فإنه إن قارنه فيها أو في بعضها، أو شك في أثنائها، أو بعدها ولم يتذكر عن قرب هل قارنه فيها أو لا، أو ظن التأخر فبان خلافه .. لم تنعقد.
ولو تخلف عن المتابعة بلا عذر؛ كالاشتغال بالسورة أو التسبيحات بركنين فعليين وإن لم يكونا طويلين .. بطلت لا بأقل منهما، والتخلف بركنين: أن يتمهما الإمام والمأموم فيما قبلهما؛ كما لو ركع واعتدل، ثم هوى إلى السجود والمأموم قائم: فإن كان لعذر؛ كإبطاء قراءة لعجز لا لوسوسة، واشتغال باستفتاح .. لزمه إتمام (الفاتحة) ويسعى خلف الإمام على نظم صلاة نفسه ما لم يسبقه بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة وهي الطويلة، فإن سبقه به .. وافقه فيما هو فيه وفعل ما فاته بعد سلام إمامه هذا كله في الموافق.
أما مسبوق ركع الإمام في (فاتحته) .. فالأصح: أنه إن لم يشتغل بافتتاح وتعوذ .. تابعه وأجزأه، فإن تخلف لإتمامها وفاته الركوع .. بطلت ركعته، وإن اشتغل بافتتاح أو تعوذ .. لزمه قراءة بقدره، فإن لم يدرك الإمام في الركوع .. فاتته الركعة ولا يركع، بل يتابعه، وإن سبقه بركن .. لم تبطل، أو بركنين بأن فرغ منهما وإقامة قبلهما .. بطلت صلاته إن كان عامداً عالماً بالتحريم، وإلا .. فركعته، وسيأتي في كلام المصنف الإشارة إلى هذا.
الشرط السابع: نية الاقتداء أو الائتمام أو الجماعة، كما سيأتي في كلام المصنف.
[الصلاة خلف العبد والصبي والفاسق]
(يؤم عبد وصبي يعقل
…
وفاسق لكن سواهم أفضل)
أي: يؤم عبد بحر وإن لم يأذن له سيده، وصبي مميز ببالغ، وفاسق بعدل؛ للاعتداد بصلاتهم، ولخبر البخاري:(أن عائشة كان يؤمها عبدها ذكوان)، و (أن عمرو بن سلمة- بكسر اللام- كان يؤم قومه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست أو سبع سنين)، ولخبر البخاري:(أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج)، قال الشافعي رضي الله عنه: وكفى به فاسقاً، ولخبر الدارقطني:"صلوا خلف كل بر وفاجر"، وفي
"تاريخ البخاري" عن الكريم البكاء قال: أدركت عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يصلون خلف أئمة الجور.
لكن الحر من العبد، والبالغ أولى من الصبي المميز، والعدل أولى من الفاسق وإن اختص الصبي والفاسق بكونه أفقه وأقرأ؛ لكمالهم، وخروجاً من خلاف من منع الاقتداء بالصبي والفاسق، ولخبر الحاكم في "مستدركه":"إن سركم أن تقبل صلاتكم .. فلؤمكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم".
ولو اجتمع عبد فقيه وحر بضده .. فهما سواء على الأصح، بخلاف نظيره في صلاة الجنازة؛ حيث صححوا أولوية صلاة الحر؛ لأن القصد منها الدعاء والشفاعة والحر أولى بهما، والمبغض أولى من كامل الرق.
[الأحق بالإمامة]
والأولى بالإمامة: ألأفقه الأقرأ، ثم ألأفقه، ثم الأقرأ، ثم الأورع، ثم الأقدم هو أو أبوه وإن علا هجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى دار الإسلام، ثم الأسن في الإسلام، ثم الأنسب، فإن استويا .. قدم بحسن الذكر، ثم بنظافة الثوب والبدن وطيب الصنعة، ثم بحسن الصوت، ثم الصورة، فإن استويا وتشاحا .. أقرع بينهما، والمقيم أولى من المسافر إلا إن كان السلطان، ومعروف النسب أولى من غيره، والساكن بحق مقدم على هؤلاء وإن كان عبداً، والمالك أولى من المستعير؛ لأنه مالك المنفعة، والمكاتب والمبغض أولى من السيد فيما سكنه بحق، ولا بد من إذن الشريكين وإذن أحدهما لصاحبه، وإمام المسجد أولى من غيره، ويستحب أن يبعث له إن أبطأ، فإن خيف فولت أول الوقت وأمنت الفتنة .. أم غيره، وإلا .. صلوا فرادي، وتندب الإعادة معه، والوالي في محل ولايته أولى من الكل، فيقدم الأعلى فالأعلى، ومن قدمه المقدم بالمكان .. فهو أولى، أما المقدم بالصفات .. فلاحق له في تقديم غيره.
(لا امرأة بذكر، ولا المخل
…
بالحرف من (فاتحة) بالمكتمل)
فيه مسألتان:
[لا تؤم المرأة ذكراً]
الأولى: لا تؤم امرأة؛ أي: ولا خنثى بذكر ولو صبياً، ولا بخنثى؛ لخبر "البخاري":"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، مع خبر ابن ماجة:"لا تؤمن امرأة رجلاً"، فقوله:"رجلاً" شامل للصبي؛ لأنه في مقابلة المرأة، ولاحتمال أنوثة الخنثى، ولا تتبين الصحة إذا بان الإمام ذكراً أو المأموم امرأة، ويصح اقتداء كل من الرجل والخنثى والمرأة بالرجل، والمرأة بالخنثى وبالمرأة.
[لا يؤم الأمي قارئاً]
الثانية: لا يؤم الأمي وهو من لا يحسن (الفاتحة) أو بعضها ولو حرفاً أو شدة؛ كأرت يدغم في غير موضع الإدغام، وألثغ يبدل حرفاً بحرف بمن يحسنها، أو ما جهله إمامه منها ولو في السرية؛ لأن الإمام بصدد تحمل القراءة، وهذا لا يصلح للتحمل، وكذا من يصلي بسبع آيات غير (الفاتحة) لا يقتدي بمن يصلي بالذكر.
فلو عجز إمامه في أثناء الصلاة عن القراءة؛ لخرس .. فارقه، بخلاف عجزه عن القيام؛ لصحة اقتداء القائم بالقاعد، بخلاف اقتداء القارئ بالأخرس، قاله البغوي في "فتاويه"، قال: ولو يعلم بحدوث الخرس حتى فرغ من الصلاة .. أعاد؛ لأن حدوث الخرس نادر.
وخرج بقوله: (بالمكتمل) غيره، فيصح اقتداء أمي بمثله إن اتفقا عجزاً؛ لاستوائهما نقصاً فكالمرأتين، ولا يشكل بمنع اقتداء فاقد الطهورين ونحوه بمثله؛ لوجوب القضاء هناك، بخلافه هنا.
ولا يصح اقتداء قارئ أول (الفاتحة) دون آخرها بقارئ آخرها دون أولها وإن كثر ولا عكسه، ولا ألثغ بأرت ولا عكسه، ولا الثغ الراء السين ولا عكسه، أما لو كانت اللثغة يسيرة لا تمنع أن يأتي بالحرف على معناه .. فهي غير مؤثرة في صحة الاقتداء، حكي لروياني عن أبي غانم: أن ابن سريج انتهى إلى هذه المسألة فقال: لا تصح إمامة الألثغ، وكانت به لثغة يسيرة وفي مثلها، فاستحييت أن أقول له: هل تصح إمامتك، فقلت: هل تصح إمامتي؟ فقال: نعم، وإمامتي.
[تأخر المأموم أو تقدمه على إمامه بركنين فعليين]
(وإن تأخر عنه أو تقدما
…
بركني الفعلين ثم علما)
(وأربع تمت من الطوال
…
للعذر، والأفعال كالأقوال)
(كشكه والبطء في (أم القران)
…
ورحم وضع جبهة ونسيان)
أي: والشرط للقدوة علمه بأفعال الأمام
…
إلى آخره، وإن تأخر المأموم عن أمامه أو تقدم عليه بركنين فعليين؛ بأن فرغ إمامه منهما وهو فيما قبلهما وعكسه ناسياً أو جاهلاً، ثم تذكر أو علم .. فإن صلاته لا تبطل، ولكن لا يحسب للمأموم الركنان اللذان سبق إمامه بهما.
وخرج بقوله: (ثم علما) ما إذا تأخر عن إمامه بركنين فعليين وإن لم يكونا طويلين بغير عذر، أو تقدم عليه بهما عامداً عالماً بالتحريم، فإن صلاته تبطل؛ لفحش المخالفة كما قدمته.
وتقدم المأموم في الأفعال بلا عذر .. حرام وإن لم يبطل؛ كأن تقدم بركن، وتقدمه بالسلام .. مبطل، إلا أن ينوي الفارقة .. ففيه الخلاف فيمن نواها، وما وقع لابن الرفعة ومن تابعه من أنه لا يبطل .. خلاف المنقول.
وقوله: (وأربع
…
) إلى آخره؛ أي: وإن تأخر المأموم عن إمامه بأربع من الأركان تامة طويلة للعذر .. فإن صلاته لا تبطل؛ لعذره، والأفعال كالأقوال؛ يعني: أن ألقولي ك (الفاتحة) معدود من الأربعة؛ بأن يسبقه الإمام ب (الفاتحة) والركوع والسجدتين .. فتجب عليه متابعة إمامه بعدها فيما هو فيه، ثم يأتي بركعة بعد سلامه.
والعذر كشكِّ المأموم في قراءته الواجبة قبل ركوعه، والبطء منه دون إمامه في قراءة (أم القرآن) أي: أو بدلها فيتخلف لقراءته بعد ركوع إمامه، وزحمِ وضع جبهة للمأموم؛ بأن منعته الزحمة من سجوده على أرض أو ظهر إنسان أو قدمه أو نحوها، وذكر الزحمة هنا إشارة إلى عدم اختصاصها بالجمعة، وإنما ذكروها فيها؛ لكثرة الزحمة فيها غالباً، ولاختصاصها بأمور أخر: كالتردد في حصولها بالركعة الملفقة، والقدوة الحكمية، وفي بناء الظهر عليها عند تعذر إتمامها، ونسيان من المأموم؛ بأن نسي كونه في الصلاة فتخلف، ولو انتظر سكتة إمامه ليقرأ
فيها (الفاتحة) فركع إمامه عقبها .. فهو كالناسي، خلافاً لبعض المتأخرين في قوله بسقوط (الفاتحة) عنه.
وألف (تقدما) و (عدما) للإطلاق، وقوله:(القران) بنقل حركة الهمزة إلى الراء، والأبيات الثلاثة ساقطة من بعض النسخ.
[نية الاقتداء من شروط صحة القدوة]
(ونية المأموم أولاً تجب
…
وللإمام -غير جمعةِ- ندب)
أي: السابع من شروط القدوة: نية المأموم الاقتداء، أو الائتمام، أو الجمة بالإمام ولو في الجمعة؛ لأن التبعية عمل فافتقرت إلى نية؛ إذ ليس للمرء إلا ما نوى، وتجب أولاً؛ أي: إن أراد الاقتداءً؛ بأن يقرنها بتكبيرة الإحرام كسائر ما ينويه من صفات الصلاة. ولو أحرم منفرداً، ثم نوى القدوة غي خلال صلاته .. جاز، فإن لم ينو ذلك .. انعقدت صلاته منفرداً، إلا في الجمعة .. فلا تنعقد أصلاً؛ لاشراط الجماعة فيها، فإن تابعه بلا نية أو وهو شاك فيها .. بطلت صلاته إذا انتظره طويلاً ليفعل مثله؛ لأنه ارتبط بمن ليس بإمام له، فأشبه الارتباط بتغير المصلي، حتى لو عرض له الشك في تشهده الأخير .. لم يجزله أن يقف سلامه على سلامه، فإن وقعت متابعتة اتفاقاً، أو بانتظار يسير عرفاً .. لم تضر.
ولا يؤثر شكه فيما ذكر بعد السلام كما في "التحقيق" وغيره، بخلاف الشك في أصل النية؛ لأنه شك في الانعقاد، بخلافه هنا.
ولا يشرط تعيين الإمام، فلو نوى الاقتداء بالإمام الحاضر .. صحت صلاته؛ لأن مقصود الجماعة لا يختلف بتعيينه وعدمه، بل قال الإمام وغيره: الأولى ألاّ يعينه؛ لأنه ربما أخطأ، فإن عينه وأخطا .. لم تصح صلاته؛ لأنه ربطها بمن لم ينو الاقتداء به؛ كمن عين الميت في صلاته عليه، أو نوى العتق عن كفارة ظهار فأخطأ فيهما.
ولو علق القدوة بشخصه سواء أعبر عنه (بمن في المحراب)، أم (بزيد هذا)، أم (بهذا الحاضر)، أم 0 بهذا)، أم (بالحاضر) وظنه زيداً فبان عمراً .. صحت صلاته؛ الآن الخطأ لم يقع في الشخص لعدم تأتيه فيه، بل في الظن، ولا عبرة بالظن البين خطؤه، بخلاف ما لو
نوى الاقتداء بالحاضر ولم يعلقها بشخصه؛ لأن الحاضر صفة لزيد الذي عينه وأخطأ فيه، والخطأ في الموصوف يستلزم الخطأ في الصفة فبان أنه اقتدى بغير الحاضر.
وفهم من كلام المصنف: أنه يجوز اقتداء المؤدي بالقاضي، والمفترض بالمتنفل وبالعكس، وهولك؛ إذ لا يتغير نظم الصلاة باختلاف النية.
ولا تجب في غير الجمعة نية الإمام الإمامة أو الجماعة؛ لأن أفعاله غير مربوطة بغيره، بخلاف أفعال المأموم؛ فإنه إذا لم يربطها بصلاة إمامه .. كان موقفاً صلاته على صلاة من ليس إماماً له، لكن لو تركها .. لم يحز فضيلة الجماعة، وإن اقتدى به جمع ولم يعلم بهم .. نالوها بسببه؛ إذ ليس للمرء من علمه إلا ما نوى فتستحب له؛ ليحوز الفضيلة، وتصح نيته لها مع تحرمه وإن لم يكن إماماً في الحال؛ لأنه سيصير إماماً، وبصحتها حينئذ صرح الجويني، وقال الأذرعي: إنه الوجه.
وإذا نواها في أثناء الصلاة .. حاز الفضيلة من حين النية، ولا تنعطف نيته على ما قبلها، وأما في الجمعة .. فتشترط نيته فيها، فلو تركها .. بطلت جمعته؛ لعدم استقلاله فيها، سواء أكان من الأربعين، أم زائداً عليهم.
نعم؛ إن لم يكن من أهل الوجوب ونوى غير الجمعة .. صحت صلاته، فإن نواها في غيرها وعين المؤتم به فأخطأ .. لم يضر؛ لأن خطأه في النية لا يزيد على تركها، وإن نوى فيها كذلك فأخطأها .. ضر؛ لأن ما يجب التعرض له .. يضر الخطأ فيه.
ولو أدرك الإمام راكعاً .. كبر للإحرام ثم للهوي، فإن اقتصر على تكبيرة: فإن نوى بها الإحرام فقط وأتمها قبل هوية .. انعقدت صلاته، وإلا .. فلا.
وتكره مفارقة الإمام بغير عذر، ويعذر بما يعذر به في الجماعة، وبترك الإمام سنة مقصودة، وكذا لو طول وبالمأموم ضعف أو له شغل.
وتدرك الركعة بإدراك الركوع المحسوب للإمام بشرط أن يطمئن قبل ارتفاع الإمام عن أقل الركوع، ولو شك في إدراك حد الأجزاء .. لم يدركها؛ كمن أدركه بعد الركوع، وعليه أن يتابعه في الفعل الذي أدركه فيه، ويكبر لما تابع إمامه فيه.
وتستحب موافقته في التشهد والتسبيحات، وما أدركه المسبوق مع الإمام .. فهو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلامه .. فهو آخرها فيعيد فيه القنوت وسجود السهو.