الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب النكاح
هو لغة: الضم، وشرعاً: عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو بترجمته، وهو حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الأصح؛ كما جاء به القرآن والأخبار، وإنما حمل على الوطء في قوله تعالى:{حتى تنكح زوجا غيره} لخبر: "حتى تذوقي عسيلته".
والأصل فيه قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ، وقوله:{وانكحوا الأيمى منكم} ، وأخبار؛ كخبر:"تناكحوا تكثروا"، وخبر:"من أحب فطرتي .. فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح"، رواهما الشافعي رضي الله تعالي عنه بلاغاً، وخبر:"الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة" رواه مسلم، وحسن الترمذي:"ثلاث حق على الله أن يغنيهم: الناكح يريد أن يستعف"، وصححه ابن حبان والحاكم. والنكاح لازم ولو من جهة الزوج.
(سن لمحتاج مطيق للأهب
…
نكاح بكر ذات دين ونسب)
[حكم النكاح]
أي: سن لمحتاج إلى النكاح بأن تتوق نفسه إلى الوطء ولو خصياً مطيق للأهب؛ بأن يجد مؤنه من المهر، وكسوة فصل التمكين، ونفقة يوم النكاح، سواء أكان مشتغلاً بالعبادة أم لا؛ تحصيناً للدين، ولخبر "الصحيحين":"يا معشر الشباب؛ من استطاع منكم الباءة .. فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع .. فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" بالمد؛ أي: دافع لشهوته، و (الباءة) بالمد: مؤن النكاح.
أما إذا فقد المحتاج إليه أهبته .. فيسن له تركه، ويكسر شهوته بالصوم؛ إرشاداً لخبر:"يا معشر الشباب".
قال في "الروضة" كـ "أصلها": فإن لم تنكسر به .. لم يكسرها بالكافور ونحوه، بل ينكح، قال ابن الرفعة نقلاً عن الأصحاب: لأنه نوع من الاختصاء.
وأما غير المحتاج إليه: فإن فقد أهبه .. كره له؛ لما فيه من التزام ما لا يقدر عليه من غير حاجة، وسواء أكان به علة أم لا، وكذا إن وجدها وبه علة كهرم أو مرض دائم أو تعنين، وإن لم يكن به علة .. لم يكره له، لكن تخليته للعبادة أفضل منه إن كان متعبداً، وإلا .. فالنكاح أفضل له من تركه؛ لئلا تفضي به البطالة إلى الفواحش.
ونص في "الأم" وغيرها: على أن المرأة التائقة يندب لها النكاح، وفي معناها المحتاجة إلى النفقة، والخائفة من اقتحام الفجرة.
[الصفات المستحبة في المنكوحة]
وسن لمريد النكاح نكاح بكر إلا لعذر؛ لخبر "الصحيحين" عن جابر: "هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك"، وروى ابن ماجه خبر:"عليكم بالأبكار؛ فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير"، بخلاف ما إذا كان به عذر؛ كضعف آلته عن الافتضاض؛ أو احتياجه لمن يقوم على عياله؛ كما اتفق لجابر؛ فإنه لما قال له رسول لله صلى الله عليه وسلم ما تقدم .. اعتذر له بأن أباه قتل يوم أحد وترك تسع بناات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن، فقال صلى الله عليه وسلم:"أصبت".
ذات دين؛ لخبر "الصحيحين": "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" أي: افتقرتا إن خالفت ما أمرتك به، بخلاف الفاسقة ذات نسب؛ لخبر:"تخيروا لنطفكم" رواه الحاكم وصححه، بل يكره نكاح بنت
الزنا وبنت الفاسق، قال الأذرعي: ويشبه أن يلحق بهما اللقيطة ومن لا يعرف أبوها.
ويسن أيضاً: كونها ولوداً ودوداً؛ لخبر: "تزوجوا الولود والودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" رواه أبو داوود والحاكم وصحح إسناده.
قرابة غير قريبة أو أجنبية؛ لضعف الشهوة في القريبة فيجيء الولد نحيفاً، قال الزنجاني: ولأن من مقاصد النكاح اشتباك القبائل؛ لأجل التعاضد واجتماع الكلمة، وهو مفقود في نكاح القريبة، والبعيدة أولى من الأجنبية.
بالغة إلا لحاجة أو مصلحة، ذات جمال، خفيفة المهر؛ ذات خلق حسن، وألا يكون لها ولد من غيره إلا لمصلحة، وألا تكونشقراء، ولا مطلقة يرغب فيها مطلقها، وأن يعقد في شوال وأول النهار، وأن يدخل في شوال، وألا يزيد على واحدة بلا حاجة.
[الجمع بين الزوجات]
(وجاز للحر بأن يجمع بين
…
أربعة، والعبد بين زوجتين)
أي: وجاز للحر أن يجمع بين أربع من الزوجات، وجاز للعبد أن يجمع بين زوجتين، أما الحر .. فلقوله تعالى:{فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث وربع} ، وقوله عليه الصلاة والسلام لغيلان، وقد أسلم وتحته عشر نسوة:"أمسك أربعاً وفارق سائرهن" صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وإذا امتنعت الزيادة في الدوام .. ففي الابتداء إولى.
قيل: وكان في شريعة موسى الجواز من غير حصر؛ تغليباً لمصلحة الرجال، وفي شريعة عيسى لا يتزوج غير واحدة؛ تغليباً لمصلحة النساء، وراعت شريعتنا مصلحة النوعين.
وأما العبد .. فلأنه على النصف من الحر، وقد أجمع الصحابة على أنه لا ينكح أكثر من اثنتين، رواه البيهقي عن الحكم بن عتبة، والمبعض كالعبد.
فإن نكح الحر خمساً معاً .. بطلن، أو مرتباً .. فالخامسة، وتحل الأخت والخامسة في عدة بائن لا رجعي؛ لأنها في حكم الزوجة.
والباء في قول الناظم: (بأن يجمع) زائدة، وقوله:(أربعة) بالتاء بمعنى أربعة أشخاص.
(وإنما ينكح حر ذات رق
…
مسلمة خوف الزنا، ولم يطق)
(صداق حرة، وحرم مسا
…
من رجل لامرأة لا عرسا)
(أو أمة، ونظراً حتى إلى
…
فرج ولكن كرهه قد نقلاً)
(والمحرم انظر، وإماء زوجت
…
لا بين سرة وركبة بدت)
(ومن يرد منها النكاح نظرا
…
وجها وكفاً باطناً وظاهرا)
(وجاز للشاهدأو من عاملا
…
نظر وجه، أو يداوي عللا)
(أو يشتريها: قدر حاجة نظر
…
وإن تجد إنثى فلا ير الذكر)
فيها ثمان مسائل:
[شروط نكاح الرقيقة]
الأولى: إنما ينكح الحر المسلم الرقيقة؛ أي: غير أمة فرعه ومكاتبه بشرط أن تكون مسلمة، فلا يحل له نكاح الأمة الكافرة ولو كتابية ومملوكة لمسلم؛ لقوله تعالى:{فمن ما ملكت أيمنكم من فتيتكم المؤمنت} ، بل لا ينكحها الرقيق المسلم؛ لأن المانع من نكاحها كفرها فساوى الحر.
ويجوز للحر الكتابي نكاح الأمة الكتابية؛ لاستوائهما في الدين.
بشرط أن يخاف زناً ويفقد الحرة، وأن يخاف زناً وإن لم يغلب على ظنه وقوعه بل توقعه ولو على ندور بأن تغلب شهوته ويضعف تقواه، بخلاف من ضعفت شهوته، أو قوي تقواه، أو قدر على التسري بشراء أمة، قال تعالى:{ذلك لمن خشى العنت منكم} أي: الزنا، وأصله المشقة، سمي به الزنا؛ لأنه سببها بالحد في الدنيا، والعقوبة في الآخرة.
وعلم من هذا الشرط أن من تحته أمة لا ينكح أخرى.
وألا يطيق صداق حرة؛ أي: تصلح للاستمتاع ولو كتابية، أو رضيت بأقل من مهر المثل، قال تعالى:{ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنت} الآية، و (الطول): السعة، والمراد بـ (المحصنات): الحرائر، وذكر المؤمنات في الآية جري على الغالب من أن المؤمن
إنما يرغب في المؤمنة، وأن من عجز عن مهر المؤمنة .. عجز عن مهر الكتابية؛ لأنها لا ترضى بالمؤمن إلا بمهر كثير، وروى البيهقي عن الحسن مرسلاً:(أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة)، قال: وهو وإن كان مرسلاً .. فهو في معنى القرآن حيث وافقه في النهي، ومعه قول جماعة من الصحابة. انتهى.
أما لو كان تحته حرة لا تصلح للاستمتاع، أو قدر عليها؛ كأن تكون صغيرة أو مجنونة، أو مجذومة أو برصاء، أو قرناء أو رتقاء، أو هرمة أو مضناة لا تحتمل الجماع .. فإنه يحل له نكاح الأمة.
ولو قدر على غائبة .. حلت له أمة إن لحقت مشقة ظاهرة في قصدها، أو خاف زناً مدته، وإلا .. فلا تحل له الأمة، وضبط الإمام المشقة المعتبرة؛ بأن ينسب محتملها في طلب الزوجة إلى الإسراف ومجاوزة الحد.
ولو وجد حرة ترضى بلا مهر، أو بمهر مؤجل وهو يتوقع القدرة عليه عند المحل، أو وجد من يقرضه، أو يبيعه نسيئة، أو يستأجر بأجرة معجلة، أو له مسكن وخادم .. حلت له الأمة، ولو وهب له مال أو جارية .. لم يلزمه القبول.
ومن شروط نكاح الأمة: أن تحتمل الوطء، فإن كانت صغيرة لا توطأ .. لم يصح النكاح، ومن بعضها رقيق كالرقيقة.
[العورات وأحكام النظر]
الثانية: يحرم على الرجل؛ أي: الفحل مس شيء من المرأة الأجنبية من شعر وغيره وإن أبين ذلك الشيء؛ لأنه إذا حرم النظر إليه كما سيأتي .. فاللمس أولى؛ لأنه أبلغ في اللذة، وقد يحرم المس دون النظر؛ كبطن محرمه، وكذا يحرم عليه النظر إلى ما ذكر؛ لقوله تعالى:{قل للمؤمنين يغضوا من أبصرهم} وهو خبر بمعنى الأمر.
وشمل كلامه: الخصي والمجبوب والهم والمخنث والعنين، والمراهق كالبالغ، فيلزم الولي منعه من مس الأجنبية ونظرها، ويلزمها الاحتجاب منه؛ لظهوره على العورات، بخلاف طفل لم يظهر عليها، قال تعالى:{أو الطفل الذين لم يظهروا على عورت النساء}
ونظر الممسوح وهو ذاهب الذكر والأنثيين ونظر العبد إلى سيدته الأمينين .. كنظر المحرم الآتي.
وشمل كلامه: الأمة، وهو الأصح عند النووي؛ [فهي] كالحرة.
ويحل النظر إلى صغيرة إلا الفرج؛ لأنها ليست في مظنة الشهوة، أما الفرج .. فيحرم نظره، قال الرافعي: كصاحب "العدة": اتفاقاً، زاد في "الروضة" مستدركاً على دعوى الاتفاق قوله: قطع القاضي حسين بحله.
وقضية كلام الناظم: أنه يحرم نظر الرجل الفحل إلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها عند أمن الفتنة، وهو ما صححه في "المحرر" و "المنهاج"، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر مظنة الفتنة ومحرك للشهوة، فاللائق بمحاسن الشرع سد الباب، والإعراض عن تفاصيل الأحوال؛ كالخلوة بالأجنبية، لكن في "الروضة" كـ"أصلها": أكثر الصحاب على أنه لا يحرم؛ لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} وهو مفسر بالوجه والكفين، لكن يكره، وقال في "المهمات": إنه الصواب؛ لكون الأكثرين عليه.
وقال البلقيني: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما في "المنهاج".
ونظر المرأة إلى الرجل الفحل الأجنبي كنظره إليها وهو ما صححه النووي؛ قياساً على نظره إليها، ولقوله تعالى:{وقل للمؤمنت يغضضن من أبصرهن} ، ولما رواه الترمذي وصححه: أن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن نزل الحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"احتجبا منه"، فقلنا: يا رسول الله؛ أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ ! فقال: "أفعمياوان أنتما؟ ! ألستما تيصرانه؟ ! ".
وأما خبر "الصحيحين" عن عائشة: أنها نظرت إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد .. فأجاب عنه النووي في "شرح مسلم" بأنه ليس فيه أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم، ولا يلزم منه تعمد النظر إلى البدن، وإن وقع بلا قصد .. صرفته في الحال.
وأفهم كلام الناظم: أنه يحل نظر الرجل إلى الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة، وهو كذلك فيما عدا ما بين السرة والركبة، وأنه يحل نظر الكافرة إلى المسلمة، وهو كذلك في مملوكها ومحرمها، وأما في غيرهما .. فالأصح: تحريمه؛ لقوله تعالى: {أو نسآئهن} ، والكافرة ليست من نساء المؤمنات، فلا تدخل الحمام مع المسلمة.
وما الذي تراه منها؟ قال الإمام وغيره: هي معها كالأجنبي، وصححه البلقيني، والشبه عند الشيخين: أنها ترى منها ما يبدو عند المهنة، وهو الوجه، والرأس، واليد إلى المرفق، والرجل إلى الركبة.
قال الأذرعي: وهذا غريب لم أره نصاً، بل صرح القاضي والمتولي والبغوي وغيرهم بأنها معها كالأجنبي. انتهى.
وأفتى النووي بأنه يحرم على المرأة كشف وجهها لها، وهو ظاهر على القول بأنها كالأجنبي.
[نظر الرجل لزوجته وأمته واستمتاعه بهما]
الثالثة: لا يحرم مس الرجل عرسه بكسر العين؛ أي: زوجته، ولا أمته اللتين يجوز تمتعه بهما، ولا عكسه، وقد مر حكم مباشرة الحائض والنفساء فيما بين السرة والركبة، ولا يحرم نظر الرجل إليهما ولا عكسه وإن عرض مانع قريب الزوال؛ كحيض ورهن، حتى إلى الفرج ولو باطناً؛ لأنه محل تمتعه، لكن كرهه قد نقل عن الأئمة؛ لخبر: "النظر إلى الفرج
يورث الطمس" أي: العمى، رواه ابن حبان وغيره في الضعفاء، وخالف ابن الصلاح فقال: إنه جيد الإسناد.
وشمل كلامهم: الدبر، وقول الإمام: والتلذذ بالدبر بلا إيلاج جائز .. كالصريح فيه، وكذا قول "الروضة" و "أصلها" هنا: للزوج النظر إلي جميع بدن زوجته، إلا الفرج ففيه وجهان، أصحهما: الجواز، وفي باب ما يملكه الزوج من التمتع: له جميع التمتع، إلا النظر إلى الفرج ففيه خلاف سبق في حكم النظر، وإلا الإتيان في الدبر فإنه حرام، والذي سبق له في حكم جواز النظر جوازه إلى الفرج من غير استثناء الدبر، فهذا منهما كالصريح في جواز نظره إليه، وقال الدارمي بحرمته.
[نظر الرجل إلى محرمه وعكسه]
الرابعة: يجوز النظر للرجل إلى محرمه وعكسه، ونظر الزوج إلى زوجته التي امتنع تمتعه بها؛ كمعتدة عن شبهة، والسيد إلى إمته التي امتنع تمتعه بها؛ كمرتدة ومجوسية ووثنية ومزوجة ومكاتبة ومشتركة، وعكسه إلى جميع البدن، إلا ما بين السرة والركبة، أما المحرم .. فلقوله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابائهن} الآية، والزينة مفسرة بما عدا ما بين السرة والركبة، وسواء فيه المحرم بالنسب والرضاع والمصاهرة، والنظر بشهوة حرام لكل منظور إليه سوى زوجته وأمته.
[نظر الرجل للمرأة التي يريد نكاحها]
الخامسة: من يرد نكاحاً من امرأة .. نظر ندباً منها وجهها وكفيها باطناً وظاهراً قبل خطبتها وإن لم تأذن له فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة وقد خطب امرأة: "انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" أي: تدوم المودة والألفة بينكما، رواه الترمذي وحسنه، ولقوله صلى الله عليه وسلم في خبر جابر:"إذا خطب أحدكم المرأة: فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها .. فليفعل"، قال جابر (فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها
ما دعاني إلى نكاحها فتزوجها) رواه أبو داوود والحاكم وصححه.
وخرج بـ (الوجه والكفين): غيرهما فلا ينظره؛ لأنه عورة منها، وفي نظرهما كفاية؛ إذ يستدل بالوجه على الجمال، وبالكفين على خصب البدن، ومن هنا علم أن محل نظره إليهما إذا كانت ساترة لما عداهما، وبه جزم جماعة منهم الروياني وابن داوود، ونقلاه عن النص.
وله تكرير نظره؛ ليتبين هيئتها فلا يندم بعد نكاحها عليه، وإنما كان النظر قبل الخطبة؛ لئلا يعرض عنها بعدها فيؤذيها، والمراد بـ (خطب) في الخبرين السابقين: عزم على خطبتها؛ بدليل ما رواه أبو داوود وابن حبان في "صحيحه": "إذا ألقي في قلب امراء خطبة امرأة .. فلا بأس أن ينظر إليها".
قال الإمام والروياني: وله النظر وإن خاف الفتنة لغرض التزوج.
وإذا لم تعجبه .. فليسكت ولا يقل: لا أريدها؛ لأنه إيذاء، وهي أيضاً تنظر إلى وجهه وكفيه ندباً إذا عزمت على نكاحه؛ لأنها يعجبها منه ما يعجبه منها.
وخرج بالنظر من الجانبين: المس؛ إذ لا حاجة إليه.
ومن لم ينظر .. بعث من يباح له نظر المبعوث إليه؛ كمحرم ينظر ويصف له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث أم سليم إلى امرأة وقال: "انظري عرقوبها وشمي عوارضها" رواه الحاكم وصححه، وفي رواية الطبراني:"وشمي معاطفها"، ويؤخذ منه أن للمبعوث أن يصف للباعث زائداً على ما ينظر هو، فيستفيد بالبعث ما لا يستفيده بنظره.
[نظر الشاهد]
السادسة: يجوز للشاهد النظر إلى وجه المرأة الأجنبية؛ لأجل الشهادة تحملاً وأداء؛ للحاجة، ويجوز لمن عاملها ببيع أو غيره نظر وجهها كذلك.
قال الشيخان: ولو خاف من النظر للشهادة الفتنة .. فيشبه المنع؛ لأن في غيره غنية، فإن تعين عليه .. نظر واحترز.
قال الزركشي- وبه صرح الماوردي-: والصحيح: جواز النظر إلى فرج الزانيين؛ لتحمل الشهادة بالزنا، وإلى فرجها وثديها للشهادة بالولادة والرضاع، ومثله نظر العانة لمعرفة البلوغ.
[النظر للمداواة]
السابعة: يجوز النظر للمداواة والعلاج والفصد، ومثله المس بشرط حضور محرم أو نحوه، وفقد المعالج من كل صنف، ولهذا قال الناظم:(وإن تجد أنثى) أي: تداوي المرأة .. فلا يراها الرجل لذلك، وألا يكون ذمياً مع وجود مسلم، وكشف قدر الحاجة فقط، وأصل الحاجة يبيح النظر إلى الوجه واليدين، ويجوز إلى بقية الأعضاء إذا تأكدت بحيث يبيح التيمم، وإلى السوأتين إذا زاد الأمر وصار بحيث لا يعد التكشف هتكاً للمروءة.
[النظر للرقيق إذا أراد شراءه]
الثامنة: يجوز لمن أراد شراء رقيق أن ينظرمنه قدر الحاجة؛ وهو ما عهدا ما بين سرته وركبته؛ لأن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها.
وقول الناظم: (لا عرسا) أي: لا مس عرس، والألف في قوله:(نقلا) و (نظرا) و (عاملا) للإطلاق، وقوله:(والمحرم)، (وإماء) يجوز في كل منهما نصبه ورفعه، وقوله:(بدت) أي: ظهرت، وقوله:(قدر حاجة) قيد في مسألة المداواة والشراء.
(ولا يصح العقد إلا بولي
…
وشاهدين الشرط: إسلام جلي)
(لا في ولي زوجة ذمية
…
واشترط التكليف والحريه)
(ذكورة عدالة في الإعلان
…
لا سيد لأمة وسلطان)
[شروط صيغة عقد النكاح]
أي: ولا يصح عقد النكاح إلا بولي وشاهدين؛ أي: وزوجين خاليين من موانع النكاح، وإيجاب وقبول، فالإيجاب؛ كقول الولي:(زوجتك)، أو (أنكحتك ابنتي)، أو
(تزوجها)، أو (انكحها)، والقبول؛ كقول الزوج:(قبلت نكاحها)، أو (تزويجها)، أو (هذا النكاح)، أو (التزويج)، أو (نكحت)، أو (تزوجت بنتك)، ويجوز تقدم لفظ الزوج؛ كقوله:(زوجني)، أو (أنكحني).
ويصح بغير العربية وإن أحسن العاقدان العربية اعتباراً بالمعنى، ومحله: إذا فهم كل من العاقدين كلام الآخر، فإن لم يفهمه وأخبره ثقة بمعناه .. ففي الصحة وجهان، رجح منهما البلقيني: المنع.
وقد علم: أنه لا يصح النكاح بغير لفظ التزويج أو الإنكاح؛ كلفظ البيع والتمليك، والإحلال والإباحة؛ إذ لم يرد الشرع إلا بهما، وأن الزوج لو اقتصر على (قبلت) .. لم يصح بخلاف البيع، ولو قال:(قبلتها) أو (قبلت النكاح) أو (التزويج) .. ففي الصحة وجهان، ونص في "الأم" على البطلان في الأولى، والصحة في الثانية، وجرى عليه الشيخ أبو حامد وغيره.
ويعتبر تعيين كل من الزوجين، والعلم بذكورة الزوج وأنوثة الزوجة، فالخنثى المشكل لا يصح أن يكون زوجاً وإن بان بعد العقد ذكراً، ولا زوجة وإن بان بعده أنثى، ولا يصح تعليقه كالبيع بل أولى؛ لاختصاصه بوجه الاحتياط.
نعم؛ قال البغوي: لو بشرت ببنت فقال: (إن صدق المخبر فقد زوجتكها) .. صح، ولا يكون ذلك تعليقاً، بل هو تحقيق؛ كقوله:(أن كنت زوجتي .. فأنت طالق)، وتكون إن بمعنى إذ؛ كقوله:{وخافون إن كنتم مؤمنين} ، قال: وكذا لو أخبر بموت إحدى نسائه فقال: (إن صدق المخبر .. فقد تزوجت بنتك)، قال في "الروضة" كـ"أصلها": وما قاله يجب فرضه فيما إذا تيقن صدق المخبر، وإلا .. فلفظ (إن) للتعليق.
ولا يصح توقيته؛ كأن ينكح إلى سنة، أو قدوم زيد؛ للنهي عن نكاح المتعة في خبر "الصحيحين"، وهو المؤقت، ولا نكاح الشغار؛ للنهي عنه في خبر "الصحيحين"، نحو:(زوجتكها على أن تزوجني بنتك، وبضع كل واحدة وألف صداق الأخرى).
[شروط الولي والشاهدين]
والشرط في كل من الولي والشاهدين: الإسلام الجلي؛ أي: الظاهر؛ لخبر ابن حبان في "صحيحه": "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك .. فهو باطل، فإن تشاجروا .. فالسلطان ولي من لا ولي له".
والمعنى في اعتبار الشاهدين وإن كانت الزوجة ذمية: الاحتياط للأبضاع وصيانة الأنكحة عن الجحود.
وخرج بـ (الظاهر): مستور الإسلام، وهو من لا يعرف إسلامه فلا ينعقد به، ولا يشترط الإسلام في ولي الزوجة الكافره؛ فالكافر يلي نكاح موليته الكافرة وإن اختلفت ملتهما؛ لقوله تعالى:{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} .
ويشترط في الولي والشاهدين أيضاً: التكليف والحرية؛ فلا ولاية لصبي ولا مجنون وإن تقطع جنونه، ولا رقيق ومبعض؛ لنقصهم.
وذكورة؛ فلا ولاية لامرأة ولا خنثى.
نعم؛ لو عقد بخنثيين فبانا ذكرين .. فالأصح في "الروضة": الصحة، وفرضها في الشاهدين، ومثلهما الولي، فلا تزوج امرأة نفسها بإذن من وليها ولا دون إذنه، ولا غيرها بوكالة عن الولي، ولا ولاية، ولا تقبل نكاحاً لأحد بولاية، ولا وكالة؛ فطما لها عن هذا الباب؛ إذ لا يليق بمحاسن العادات دخولها فيه؛ لما قصد منها من الحياء وعدم ذكره أصلاً؛ قال تعالى:{الرجال قومون على النساء} ، وتقدم خبر:"لا نكاح إلا بولي"، وروى ابن ماجه خبر:"لا تزوج المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها"، وأخرجه الدارقطني بإسناد على شرط الشيخين.
وعدالة في الإعلان؛ أي: الظاهر، فينعقد بالمستور من كل من الولي والشاهدين، وهو المعروف بها ظاهراً لا باطناً؛ بأن عرفت بالمخالطة دون التزكية عند الحاكم؛ لأن الظاهر من
المسلمين العدالة، ولأن النكاح يجري بين أوساط الناس والعوام، ولو اعتبر فيه العدالة الباطنة .. لاحتاجوا إلى معرفتها؛ ليحضروا من هو متصف بها فيطول الأمر عليهم ويشق.
[ما يعتبر في الشاهدين]
ويعتبر في الشاهدين أيضاً: سمع، وبصر، وضبط، ونطق، وفقد الحرف الدنية، ومعرفة لغة العاقدين، فإن كانا يضبطان اللفظ .. فوجهان، رجح منهما القاضي: الانعقاد؛ لأنهما ينقلانه إلى الحاكم، والأصح: انعقاده بابني الزوجين وعدويهما.
ولا تشترط العدالة الظاهرة في سيد الأمة؛ بناء على الأصح: أنه يزوجها بالملك لا بالولاية، فيزوج الفاسق أمته وكذا المكاتب، ولا في السلطان بناء على الأصح، وهو أنه لا ينعزل بالفسق، فيزوج السلطان الفاسق بناته وبنات غيره بالولاية العامة.
ولو بان فسق الشاهد عند العقد .. تبين بطلانه؛ لفوات العدالة، وإنما يتبين ببينة، أو اتفاق الزوجين عليه؛ بأن نسياه عند العقد وتذكراه بعده، أو لم يعرفا عين الشاهد ثم عرفاه مع معرفتهما بفسقه، أو عرفا عينه وفسقه عند العقد، ولا أثر لقول الشاهدين:(كنا فاسقين عند العقد) لأن الحق ليس لهما فلا يقبل قولهما على الزوجين.
ولو اعترف به الزوج وأنكرت .. فرق بينهما؛ لاعترافه بما يتبين به بطلان نكاحه، وعليه نصف المسمى إن لم يدخل بها، وإلا .. فكله، ولا يقبل قوله عليها في المهر، وهي فرقة فسخ لا تنقص عدد الطلاق لو نكحهاً.
ولو اعترفت الزوجة بالفسق وأنكره الزوج .. فالأصح: عدم قبول قولها عليه؛ لأن العصمة بيده وهي تريد رفعها، والأصل بقاؤها، فإن طلقت قبل دخول .. فلا مهر لها؛ لإنكارها، أو بعده .. فلها أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل.
ويستحب الإشهاد على رضا المرأة بالنكاح، حيث يعتبر رضاها بأن تكون غير مجبرة؛ احتياطاً ليؤمن إنكارها.
ويقدم في ولاية النكاح القرابة؛ لاختصاص الأقارب بزيادة الشفقة ثم الولاء؛ لالتحاقه بالنسب؛ لخبر: "الولاء لحمة كلحمة النسب"، ثم السلطنة؛ لخبر:"السلطان ولي من لا ولي له".
فإن تعذر الولي والسلطان، فحكمت عدلاً يزوجها وإن لم يكن مجتهداً .. جاز على المختار في "الروضة" الموافق لظاهر نص نقل عن الشافعي رضي الله عنه.
[ترتيب الأولياء في النكاح]
ثم بين الناظم ترتيب الأولياء فقال:
(ولي حرة: أب فالجد ثم
…
أخ، فكالعصبات رتب إرثهم)
(معتق فعاصب كالنسب
…
فحاكم كفسق عضل الأقرب)
أي: ولي حرة أبوها فيقدم على غيره؛ لأنه أشفق من سائر العصبات، ولأنهم يدلون به، ثم الجد أبوه وإن علا إلى حيث ينتهي؛ لأن لكل منهم ولادة وعصوبة فقدموا على من ليس لهم إلا عصوبة، ويقدم الأقرب فالأقرب، ثم أخ لأبوين كالإرث؛ لزيادة القرب والشفقة، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأبوين، ثم لأب وإن سفل، ثم عم لأبوين ثم لأب، ثم ابن عم لأبوين، ثم لأب وإن سفل، ثم سائر العصبة من القرابة كالإرث.
وقد علم: أن الجد مقدم هنا على الأخ وإن شاركه في الإرث، وأنه لا يزوج ابن ببنوة وإن كان أولى العصبات في الإرث؛ لأنه لا مشاركة بينه وبين أمه في النسب، فلا يعتني بدفع العار عنه، ولهذا لم تثبت الولاية للأخ من الأم.
فإن كان فيه سبب؛ لكونه ابن ابن عم، أو معتقاً أو قاضياً، أو له قرابة أخرى تولدت من أنكحة المجوس، أو وطء الشبهة .. فإنه يزوج به ولا تضره البنوة؛ لأنها غير مقتضية لا مانعة.
فإن لم يوجد نسب .. فالمعتق يزوج، ثم عصبته بحق الولاء كالنسب؛ أي: كترتيبهم في الإرث، وقد تقدم بيانه في بابه، ويزوج عتيقة المرأة من يزوج المعتقة ما دامت حية؛ لأنه لما انتفت ولاية المرأة للنكاح .. استتعب الولاية عليها الولاية على عتيقها، فيزوجها أبو المعتقة، ثم جدها على ترتيب الأولياء، ولا يزوجها ابن المعتقة، ويعتبر في تزويجها رضاها، ولا يعتبر إذن المعتقة؛ لأنها لا ولاية لها.
وظاهر أنه لو كانت العتيقة مسلمة ومعتقتها كافرة .. لا يزوجها وليها الكافر، وأنها لو كانت كافرة والمعتقة مسلمة .. زوجها وليها الكافر.
فإذا ماتت .. زوج من له الولاء؛ فيقدم ابنها على أبيها، فإن لم يوجد عصبة من جهة الولاء .. فالحاكم يزوج المرأة التي في محل محكمه وإن كان مالها في غيره بالولاية العامة، بخلاف الغائبة عن محل حكمه وإن كان مالها فيه.
[تزويج الحاكم عند فسق القريب أو عضله]
قوله: (كفسق عضل القرب) أي: فإن الحاكم يزوجها أيضاً عند فسق الأقرب منه في الولاية من نسيب، أو ذي ولاء، أو عضل الأقرب من العصبة؛ أي: منعه من تزويج موليته، فإن الحاكم يزوجها لا الأبعد؛ كما في غيبته لمسافة القصر، أو إرادته نكاحها، أو إحرامه؛ لأن التزويج حق عليه، فإذا امتنع منه .. وفاه الحاكم، ويأثم بالعضل؛ لقوله تعالى:{فلا تعضلوهن أن ينكحن أزوجهن} الآية، وهل تزويجه حينئذ بالولاية أو النيابة؟ وجهان حكاهما الإمام فيه، وفي صورة فيها ولي خاص، وصحح في (باب القضاء) فيما إذا زوج للغيبة أنه بنيابة اقتضتها الولاية.
وإنما يزوج بالعضل إذا لم يتكرر، فإن تكرر مرات أقلها فيما قال بعضهم: ثلاث .. فسق الولي، فتنتقل الولاية للأبعد، ذكره في "الروضة" و "أصلها"، ومحله: إذا لم تغلب طاعاته معاصيه؛ كما يؤخذ من كلامهم في (كتاب الشهادات)
وإنما يحصل العضل إذا دعت بالغة عاقلة إلى كفء وامتنع الولي من تزويجه وإن كان امتناعه لنقص المهر، أو لكونه من غير نقد البلد؛ لأن المهر يتمحض حقاً لها، بخلاف ما إذا دعت إلى غير كفؤ .. فلا يكون امتناعه عضلاً؛ لأن له حقاً في الكفاءة.
ويؤخذ من التعليل أنها لو دعته إلى عنين، أو مجبوب- بالباء- فامتنع .. كان عاضلاً وهو كذلك؛ إذ لا حق له في التمتع.
ولو دعت إلى رجل وادعت كفاءته، وأنكرها الولي .. رفع إلى القاضي، فإن ثبتت كفاءته .. لزمه تزويجها منه، فإن امتنع .. زوجها القاضي منه.
ولابد من ثبوت العضل عند الحاكم ليزوج، بأن يمتنع الولي من التزويج بين يديه، أو يسكت بعد أمره به، والمرأة والخاطب حاضران، أو تقم البينة عليه لتوار أو تعزز أو غيبته؛
كما في سائر الحقوق، بخلاف ما إذا حضر: فإنه إن زوج .. فقد حصل الغرض، وإلا .. فعاضل، فلا معنى للبينة عند حضوره.
ولو عينت كفؤاً، وأراد المجبر كفؤاً غيره .. فله ذلك؛ لأنها مجبرة؛ فليس لها اختيار الزواج، ولأنه أكمل نظراً منها، بخلاف غير المجبر، فإنه لو عين كفؤاً وعينت هي آخر .. زوجها من معينها؛ لأن إذنها شرط في أصل تزويجها فاعتبر معينها، فإن امتنع .. فهو عاضل.
وقول الناظم: (كفسق) غير منون؛ لإضافته لمثل ما أضيف له (عضل) وحذف منه العاطف، لكن فسق الأقرب ينقل الولاية للأبعد؛ فلا يصح ما ذكره المصنف فيه؛ لأن الحاكم لا يزوج حينئذ، والظاهر: أن عبارة المصنف كانت: (كعند عضل الأقرب) فتصحفت لفظة (عند) بـ (فسق)، وهذا هو اللائق بمقامه.
[حكم خطبة المعتدة والبائن]
(حرم صريح خطبة المعتدة
…
كذا الجواب لا لرب العدة)
(وجاز تعريض لمن قد بانت
…
ونكحت عند انقضاء العدة)
أي: حرم أنت صريح خطبة المعتدة بكسر الخاء، رجعية كانت أو بائناً، بطلاق أو فسخ أو موت، أو كانت معتدة عن شبهة، كذا الجواب؛ أي: التصريح بجواب خطبتها حرام؛ للإجماع فيهما، لا لرب العدة؛ أي: صاحبها الذي يحل له نكاحها، فلا يحرم عليه التصريح بخطبة تلك المعتدة، ولا يحرم عليها التصريح بجوابه؛ لأنه يحل له نكاحها في عدته.
وجاز تعريض بالخطبة للبائن، وتعريض بجوابها؛ لقوله تعالى:{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} أي: أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه صريحاً ولا تعريضاً، ولا نقطاع سلطنة الزوج عنها، بخلاف التصريح؛ لأنه إذا صرح .. تحققت رغبته فيها، فلربما تكذب في انقطاع العدة، وبخلاف الرجعية فيحرم التعريض لها؛ لأنها في معنى المنكوحة، ونكحت أي: جوازاً عند انقضاء عدتها من شاءت، وكسر الناظم التاء من (بانت) للوزن.
وأفهم كلامه: جواز خطبة الخلية عن النكاح والعدة تعريضاً وتصريحاً، وتحريم خطبة المنكوحة كذلك بالإجماع.
والتصريح: ما يقطع بالرغبة في النكاح؛ كـ (أريد أن أنكحك)، أو (إذا انقضت عدتك .. نكحتك)، والتعريض: ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيرها؛ كـ (رب راغب فيك)، أو (من يجد مثلك)، أو (أنت جميلة).
وفي "البحر" عن "الأم": لو قال: (عندي جماع يرضي من جومعت .. فهو تعريض محرم)، وهذا يدل على أن بعض التعريض حرام.
وقال بعضهم: التعريض بالجماع تصريح بالخطبة، ويمكن رد كلام "الأم" إليه.
وتحرم خطبة على خطبة من صرح بإجابته إذا لم يأذن فيها ولم يعرض، ولا أعرض عنه المجيب؛ لخبر "الصحيحين"، واللفظ لمسلم:"لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له"، وفي رواية:"حتى يذر".
ويشترط للتحريم أيضاً العلم بالخطبة، وبالإجابة والنهي، وكون الأولى جائوة، وسواء أكان الأول مسلماً أم كافراً محترماً، وذكر الأخ في الخبر جري على الغالب، ولأنه أسرع امتثالاً.
والمعتبر: رد الولي وإجابته إن كانت مجبرة، وإلا .. فردها وإجابتها، وفي الأمة غير المكاتبة: السيد أو وليه، وفي المجنونة: السلطان، وفي المكاتبة: إجابتها وإجابة السيد معاً.
(والأب والجد لبكر أجبرا
…
وثيب زواجها تعذرا)
(بل إذنها بعد البلوغ قد وجب
…
وحرموا من الرضاع والنسب)
(لا ولدا يدخل في العمومة
…
أو ولد الخؤولة المعلومة)
فيها أربع مسائل:
[إجبار البكر على النكاح وشروطه]
الأولى: يجبر كل من الأب والجد موليته البكر؛ أي: التي لم توطأ في قبلها، وليس بينها وبينه عداوة ظاهرة على النكاح، بمهر المثل؛ من نقد البلد، من كفء لها موسر بمهرها، صغيرة أو كبيرة، باقية البكارة أو فاقدتها بلا وطء؛ كأن زالت بإصبع أو سقطة، أو خلقت بلا
بكارة، أما في باقيتها .. فلخبر مسلم وغيره:"الأيم أحق بنفسها من وليها"، زاد الدارقطني:"والبكر يزوجها أبوها"، وأما في فاقدتها .. فلأنها لم تمارس الرجال بالوطء في محل البكارة، وهي على غباوتها وحيائها فهي كالأبكار، فلا يؤثر زوال حياء الأبكار بمخالطة الرجال مع بقاء البكارة؛ كما نص عليه في "الأم"، وخرج بالقبل الدبر فلا يعتبر عدم وطئه.
ويستحب استئذان الكبيرة؛ تطييباً لخاطرها.
أما الموطوءة في قبلها حلالاً أو حراماً أو شبهة ولو في حال جنونها أو إكراهها أو نومها .. فلا تجبر وإن عادت بكارتها؛ لخبر مسلم السابق.
نعم؛ إن كانت مجنونة ولو صغيرة .. فله تزويجها، وقضية كلام الجمهور: أن الغوراء إذا غابت في قبلها الحشفة ولم تزل بكارتها .. بكر.
[تعذر تزويج الثيب الصغيرة]
الثانية: الثيب الصغيرة العاقلة يتعذر تزويجها؛ لأن الثيب لا تزوج إلا بإذنها نطقاً، والصغيرة لا إذن لها.
[تزويج الثيب البالغة]
الثالثة: الثيب البالغة لا يزوجها وليها الأب أو غيره إلا بصريح الإذن.
ومن على حاشية النسب؛ كأخ وعم .. لا يزوج صغيرة، أو مجنونة بحال، بكراً كانت أو ثيباً؛ لأنه إنما يزوج بالإذن ولا إذن لها.
وأما البكر البالغة: إذا استؤذنت في التزويج .. فيكفي سكوتها وإن لم تعلم أن ذلك إذنها؛ لخبر مسلم: "والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها"، وسواء أضحكت أم بكت، إلا إذا بكت مع صياح وصراخ، وضرب خد .. فإن ذلك يشعر بعدم الرضا، ويكفي سكوتها في تزويجها بغير كفء، لا بغير نقد البلد، ولا بأقل من مهر مثلها.
[بيان المحرمات على التأبيد من النسب والرضاع]
الرابعة: في بيان المحرمات في النكاح على التأبيد من النسب والرضاع، وفي ضبطهن عبارتان:
أحدهما: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: تحرم عليه أصوله وفصوله، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده؛ أي: بعد أول الأصول، فالأصول: الأمهات، والفصول: البنات، وفصول أول الأصول: الأخوات وبنات الأخ والأخت، وأول فصل من كل أصل بعد الأصل الأول؛ كالعمات والخالات.
الثانية: قال تلميذه الأستاذ أبو منصور البغدادي: تحرم نساء القرابة إلا من دخلت في اسم ولد العمومة، أو ولد الخؤولة.
قال الشيخ: وهذه العبارة أرجح؛ لإيجازها، ولأن الأولى لا تنص على الإناث؛ لأن لفظ (الأصول) و (الفصول) يتناول الذكور والإناث، ولأن اللائق بالضابط أن يكون أقصر من المضبوط، والأولى بخلافه، ولهذا اقتصر الناظم ككثير على الثانية.
والأصل في المحرمات المذكورة: قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهتكم وبناتكم} الآية، وخبر "الصحيحين":"يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة"، وفي رواية:"من النسب"، وفى أخرى:"حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب".
وأمك من النسب: كل أنثى ولدتك، أو ولدت من ولدك بواسطة أو بغيرها، وبنتك منه: كل أنثى ولدتها، أو ولدت من ولدها بواسطة أو بغيرها، وقس عليهما الباقيات.
وأمك من الرضاع كل امرأة أرضعتك أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من ولدك بواسطة أو بغيرها، أو ولدت المرضعة أو الفحل، وبنتك منه: كل امرأة ارتضعت بلبنك، أو بلبن من ولدته، أو أرضعتها امرأة ولدتها، وكذا بناتها من النسب والرضاع، وقس عليهما الباقيات.
أماولد العمومة الشامل لولد الأعمام والعمات، وولد الخؤولة الشامل لولد الأخوال والخالات وإن بعدوا .. فتحل مناكحتهم.
وتحل له المخلوقة من زناه وإن تيقن أنها منه؛ إذ لا حرمة لماء الزنا، فهي أجنبية عنه شرعاً بدليل انتفاء سائر أحكام النسب عنها.
نعم؛ يكره ذلك خروجاً من الخلاف، وإذا تحرم على الأب .. فغيره من جهته أولى، وخرج بـ (الأب) " الأم، فيحرم عليها وعلى سائر محارمها نكاح ابنها من الزنا؛ لثبوت النسب والإرث بينهما.
ولو تزوج امرأة مجهولة النسب فاستلحقها أبوه .. ثبت نسبها ولا ينفسخ النكاح؛ أي: إن لم يصدقه الزوج، حكاه المزني، ثم قال: وفيه وحشة، قال القاضي في "فتاويه": وليس لنا من يطأ أخته في الإسلام إلا هذا.
ولا تحرم مرضعة الأخ وولد الولد، ولا أم مرضعة الولد وبنتها.
والألف في قول الناظم: (تعذرا) للإطلاق.
[المحرمات بالمصاهرة]
ولما ذكر السببين الأولين للتحريم المؤبد وهما النسب والرضاع .. ذكر الثالث وهو المصاهرة فقال:
(ومن صهارة بعقد حرما
…
زوجات فرعه وأصل قد نما)
(وأمهات زوجة إذ تعلم
…
وبالدخول فرعها محرم)
أي: ومن صهارة يحرم بمجرد العقد الصحيح من غير توقف على الوطء زوجات فرعه؛ من ابن وحافد وإن سفل من نسب أو رضاع؛ قال تعالى: {وحلئل أبنائكم الذين من أصلبكم} لإخراج زوجة من تبناه لا زوجة ابن الرضاع؛ لتحريمها بالخبر السابق، وقدم على مفهوم الآية؛ لتقدم المنطوق على المفهوم حيث لا مانع.
وزوجات أصل له من أب وجد وإن علا من نسب أو رضاع؛ قال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكحء اباؤكم من النساء} .
وأمهات زوجة له؛ إذ تعلم؛ أي: إذا علمت من أم وجدة وإن علت من نسب أو رضاع؛
قال تعالى: {وأمهت نسائكم} ، أما الفاسد .. فلا يتعلق به حرمة كما لا يتعلق به حل المنكوحة.
وبالدخول بالزوجة فرعها من بنت وحافدة وإن سلفت .. يحرم نكاحها؛ قال تعالى: {وربئبكم التى في حجوركم من نسائكم التى دخلتم بهن} . وذكر الحجور جري على الغالب، وكوطئه فيما ذكر استدخال مائه المحترم، فإن لم يكن وطء ولا استدخال .. لم تحرم فروعها؛ بخلاف أمهاتها كما مر، والفرق: أن الرجل يبتلى عادة بمكالمة أمهاتها عقب العقد ليرتبن أموره، فحرمن بالعقد؛ لتسهيل ذلك بخلاف فروعها.
وعلم مما ذكر: أنه لا تحرم بنت زوج الأم، ولا أمه، ولا بنت زوج البنت، ولا أمه، ولا أم زوجة الأب، ولا بنتها، ولا زوجة الربيب، ولا زوجة الراب؛ لخروجهن عن المذكورات.
[بقية أسباب التحريم المؤبد]
وبقي من أسباب التحريم المؤبد أمران:
أحدهما: الوطء بملك اليمين، فمن وطء امرأة بملك .. حرمت عليه أمهاتها وبناتها، وحرمت على آبائه وأبنائه؛ لأن الوطء في ملك اليمين نازل منزلة عقد النكاح.
ثانيهما: الوطء يشبة، فمن وطء امرأة بشبهة في حقه؛ كأن ظنها زوجته، أو أمته بنكاح أو شراء فاسدين، أو غير ذلك .. تحرم عليه أمهاتها وبناتها، وتحرم على آبائه وأبنائه، كما يثبت هذا الوطء النسب، ويوجب العدة، وسواء ظنته كما ظن أم لا، لا في حقها فقط، ولا مباشرة بشهوة كمفاخذة ولمس.
ولو اختلطت محرمه بنسوة قرية كبيرة .. جاز له أن ينكح منهن، وإلا .. امتنع عليه باب النكاح، فإنه وإن سافر إلى بلد آخر لم يأمن مسافرتها إلى ذلك البلد أيضاً، لا بمحصورات؛ كالعشرة والعشرين.
ولو طرأ مؤبد تحريم على نكاح .. قطعه؛ كوطء زوجة أبيه أو ابنه بشبهة، أو وطاء الزوج أم زوجته أو بنتها بشبهة.
وقول الناظم: (حرما) فعل أمر، وألفه بدل من نون التوكيد، فـ (زوجات) وما عطف عليه منصوب، أو ماض مبني للمعلوم فـ (زوجات) وما عطف عليه منصوب، أو للمجهول فـ (زوجات) وما عطف عليه مرفوع، وألفه: للإطلاق فيهما، وقوله:(نما) أي: انتسب.
[أسباب التحريم لا على التأبيد]
ثم التحريم لا على التأبيد له خمسة أسباب:
أحدها: الجمع، وقد ذكره بقوله:
(يحرم جمع امرأة وأختها
…
أو عمة المرأة أو خالتها)
أي: يحرم جمع المرأة وأختها، أو عمتها أو خالتها من نسب أو رضاع في نكاح أو وطء بملك؛ قال تعالى:{وأن تجمعوا بين الأختين} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى" رواه أبو داوود وغيره، وقال الترمذي: حسن صحيح، ونحو صدره في "الصحيحين"، ولما فيه من قطيعة الرحم، وإن رضيت بذلك؛ فإن الطبع يتغير، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:"إنكم إذا فعلتم ذلك .. قطعتم أرحامهن" كما في ابن حبان وغيره، وروي بغير هذا اللفظ أيضاً.
وضابط من يحرم جمعهما: كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع، لو قدرت إحداهما ذكراً .. لحرم تناكحهما.
الثاني: استيفاء عدد الطلاق، فإذا طلق الحر ثلاثاً وغيره طلقتين .. لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً، وتغيب بقبلها حشفته، أو قدرها من مقطوعها، وسيأتي في (باب الرجعة).
الثالث: الملك، فلا يصح نكاح الرجل مملوكته، ولا المرأة مملوكها؛ لتناقض أحكام النكاح والملك، فلو ملك أحد الزوجين الآخر أو بعضه .. انفسخ نكاحه.
الرابع: الرق، فلا يصح نكاح الرجل أمة فرعه، ولا أمة مكاتبه، ولا الأمة الموصى له بمنافعها، ولا الموقوفة عليه ولا غيرها، إلا بشروط كما مر.
الخامس: الكفر، فيحرم نكاح من لا كتاب لها؛ كوثنية، ومن لها شبهة كتاب وهي المجوسية، وتحل كتابية؛ وهي يهودية أو نصرانية، لا متمسكة بالزبور وغيره؛ قال تعالى:{ولا تنكحوا المشركت حتى يؤمن} ، وقال:{والمحصنت من الذين اوتوا الكئب من قبلكم} أي: حل لكم.
فإن كانت إسرائيلية .. اشترط ألا يعلم دخول أول آبائها في دين موسى أو عيسى عليهما الصلاة والسلام بعد نسخه، أو غيرها .. اشترط العلم بدخول أول آبائها في ذلك قبل نسخه وتحريفه، أو بينهما وتجنبوا المحرف.
وتحرم متولدة من وثني وكتابية وعكسه، وإن وافقت السامرة اليهود والصائبون النصارى في أصل دينهم .. حل نكاحهن، وإلا .. فلا، ولو انتقل كافر من ملة إلى ملة .. لم يقر ولا يقبل منه إلا الإسلام، ولا تحل مرتدة لأحد لا من المسلمين، ولا من الكفار.
ولو ارتد الزوجان أو أحدهما قبل الدخول .. تنجزت الفرقة، أو بعده .. وقفت، فإن جمعهما الإسلام في العدة .. دام نكاحهما، وإلا .. فالفرقة من الردة، ويحرم الوطء في مدة التوقف ولا حد فيه، وتجب العدة منه.
ولو أسلم الكافر وتحته كتابية يحل نكاحها .. دام نكاحه، او غيرها وتخلفت قبل دخول، أو لم تسلم في العدة .. تنجزت الفرقة، ولو أسلمت وأصر .. فكعكسه، أو أسلما معاً .. دام النكاح، وحيث أدمنا .. لا تضر مقارنة العقد لمفسد زال عند الإسلام، ونكاح الكفار محكوم بصحته.
ومن قررت .. فلها المسمى الصحيح، ولا شيء لها في الفاسد إن قبضته قبل الإسلام، وإلا .. فمهر مثل، وإن قبضت بعضه .. فلها قسط ما بقي من مهر مثل.
ومن اندفعت بإسلام بعد دخول .. فلها مهرها، أو قبله بإسلامه .. فنصفه، أو بإسلامها .. فلا شيء لها.
[خيار فسخ النكاح]
ثم ذكر خيار النكاح فقال:
(وبالجنون والجذام والبرص
…
كل من الزوجين إن يختر خلص)
(كرتقها أو قرن بخيرته
…
كما لها بجبه وعنته)
أي: بالجنون ولو متقطعاً؛ وهو زوال الشعور من القلب مع بقاء الحركة والقوة في
الأعضاء، والجذام وإن قل؛ وهو علة يحمر منها العضو ثم يسود ثم يتقطع ويتناثر، والبرص وإن قل؛ وهو بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته .. ثبت الخيار بكل منها لكل من الزوجين في فسخ النكاح ليتخلص به وإن قام به ما قام بالآخر؛ لأن الإنسان يعاف من غيره ما لا يعاف من نفسه، وتناول إطلاقهم الثلاثة المستحكم وغيره، وبه صرح الماوردي والمحاملي في الجذام والبرص، لكن شرط الجويني استحكامهما وتبعه ابن الرفعة، قالا: والاستحكام في الجذام يكون بالتقطع، وتردد الإمام فيه، وجوز الاكتفاء باسوداده، وحكم أهل المعرفة باستحكام العلة.
كرتقها بفتح التاء، أو قرن بفتح الراء وإسكانها، وهما انسداد محل الجماع منها في الأول بلحم وفي الثاني بعظم، وقيل: بلحم ينبت فيه؛ فإن الزوج يثبت له الخيار بكل منهما، كما يثبت لها الخيار بكل من جبه؛ أي: قطع ذكره بحيث لا يبقى منه قدر الحشفة ولو بفعلها، وعنته؛ أي: عجزه عن الوطء؛ لعدم انتشار آلته وإن حصل ذلك بمرض يدوم كما قاله الجويني وغيره، ولو عن امرأة دون أخرى، أو عن المأتي دون غيره إن كان قبل وطء منه في قبلها في ذلك النكاح؛ بخلاف عنته بعد ذلك؛ لأنها عرفت قدرته ووصلت إلى حقها منه، والعجز بعده لعارض قد يزول، بخلاف الجب بعد الوطء يثبت الخيار؛ لأنه يورث اليأس من الوطء، ويحصل الوطء بتغييب الحشفة، أو قدرها من مقطوعها إن كانت الزوجة ثيباً، فإن كانت بكراً .. قال البغوي: لا يزول حكم العنة إلا بالافتضاض بآلته، ويأتي فيه ما مر عن ابن الرفعة في التحليل، والمراد عنة المكلف كما يعلم مما يأتي، فلا تسمع دعواها على غير المكلف؛ لأن المدة التي تضرب والفسخ يعتمدان إقراره، أو يمينها بعد نكوله، وقوله ساقط، ولأنه غالباً لا يجامع، وربما يجامع بعد الكمال.
وشمل كلامه: ما لو حدث غير العنة ولو بعد الوطء.
والأصل في ثبوت الخيار بالعيوب السبعة: ما رواه الإمام أحمد وغيره أنه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة فرأى بكشحها بياضاً، وفي رواية:(وضحاً) أي: برصاً فقال: "الحقي بأهلك"، وقال لأهلها:"دلستم علي"، والخبر وإن كان ضعيفاً مجبور بما صح عن عمر
رضي الله عنه في تخيير الزوج إذا وجد بزوجت جنونا أو جذاما أو برصا، وقيس بذلك بقية العيوب، والمعنى: أن كلا منها يخل بالتمتع المقصود من النكاح، بل بعضها يفوته بالكلية.
وخرج بها: غيرها من بهق وإغماء، وبخر وصنان، واستحاضة وعمى، وزمانة وبله، وخصا وخنوثة واضحة، وإفضاء وعذيطة؛ وهي التغوط عند الجماع، وعيوب تجتمع فتنفر تنفير البرص، وتكسر شهوة التائق؛ كقروح سيالة؛ فلا يثبت الخيار، بخلاف نظيره في البيع؛ لفوات المالية.
ويستثنى من ثبوت الخيار بغير العنة: ما إذا علمه عند العقد .. فلا خيار له به وإن زاد؛ لأن رضاه به رضاً بما يتولد منه، أو علم به بعد زواله، أو بعد موت من قام به.
وخرج بـ (الزوجين): الولي؛ فإنه لا خيار له بحادث، ولا بمقارن جب وعنة، ويتخير بمقارنة غيرهما، والخيار على الفور؛ كخيار العيب فى البيع.
والفسخ بعيبه أو عيبها قبل وطء يسقط المهر، وبعده يوجب مهر مثل إن فسخ بمقارن، أو بحادث بين العقد والوطء، وإلا .. فالمسمى؛ كانفساخه بردة بعد وطء، ولا يرجع بعد الفسخ بالمهر الذي غرمه على من غره؛ لاستيفائه منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد.
ويشترط في الفسح بالعيوب: رفع إلى الحاكم؛ ليفسخ بحضرته بعد ثبوته.
وتثبت العنة بإقراره عند الحاكم، أو ببينة على إقراره، ولا يتصور ثبوتها بالبينة؛ إذ لا إطلاع للشهود عليها، وكذا بيمينها بعد نكوله، وإذا ثبتت .. ضرب القاضي له سنة بطلبها؛ كما فعله عمر رضي الله تعالى عنه، فلو سكتت لجهل أو دهشة .. فلا بأس بتنبيهها، ويكفي في الضرب قولها:(إني طالبة حقي على موجب الشرع) وإن جهلت الحكم على التفصيل، ولا فرق في ضرب السنة بين الحر والعبد.
فإذا تمت السنة .. رفعته إليه، فإن قال:(وطئت) ولم تصدقه .. حلف، فإن نكل .. حلفت، فإن حلفت أو أقر وقال لها القاضي: ثبتت العنة أو حق الفسخ .. استقلت به.
ولو اعتزلته أو مرضت أو حبست في المدة .. لم تحسب وتستأنف سنة أخرى، بخلاف ما لو وقع مثل ذلك للزوج في السنة .. فإنها تحسب، ولو رضيت به بعدها أو أجلته .. بطل حقها.