المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الأول 361 - عن عبد الرحمن بن سَمُرة رضي الله - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٧

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب النذر

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب القضاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الصيد

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌باب الأضاحي

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌كتاب الأشربة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب اللباس

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الجهاد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌كتاب العتق

- ‌ باب

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب بيع المدبّر

- ‌الحديث الثالث

الفصل: ‌ ‌الحديث الأول 361 - عن عبد الرحمن بن سَمُرة رضي الله

‌الحديث الأول

361 -

عن عبد الرحمن بن سَمُرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسألِ الإمارة، فإنك إنْ أُعطيتها عن مسألةٍ وُكلت إليها، وإنْ أُعطيتها عن غير مسألةٍ أُعنتَ عليها، وإذا حلفت على يمينٍ، فرأيتَ غيرها خيراً منها، فكفّر عن يَمينك، وائتِ الذي هو خيرٌ. (1)

قوله: (عن عبد الرحمن بنِ سمرةَ رضي الله عنه) في رواية إبراهيم بن صدقة عن يونس بن عبيد عن الحسن " وكان غزا معه كابُلَ شتوة أو شتوتين "(2) أخرجه أبو عوانة في " صحيحه ".

وكذا للطبراني من طريق أبي حمزة إسحاق بن الربيع عن الحسن ، لكن بلفظ: غزونا مع عبد الرحمن بن سمرة. وأخرجه أيضاً من طريق علي بن زيد عن الحسن حدثني عبد الرحمن بن سمرة. ومن طريق المبارك بن فضالة عن الحسن حدثنا عبد الرحمن.

وقد خرج طرقَه الحافظ عبد القادر الرهاوي في " الأربعين البلدانية " له عن سبعة وعشرين نفساً من الرواة عن الحسن.

ثم قال: رواه عن الحسن العدد الكثير من أهل مكة والمدينة

(1) أخرجه البخاري (6342 ، 6343 ، 6727 ، 6728) ومسلم (1652) من طرق عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.

(2)

وقع في المطبوع (كإبل شنوءة أو شنوءتين).وهو تصحيف واضح. والشتوة مفرد شتاء.

ص: 3

والبصرة والكوفة والشام. ولعلهم يزيدون على الخمسين، ثم خرَّج طرقَه الحافظُ يوسف بن خليل عن أكثر من ستين نفساً عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة.

وسرد الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله بن منده في " تذكرته " أسماء مَن رواه عن الحسن فبلغوا مائة وثمانين نفساً وزيادة. ثم قال: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن سمرة. عبد الله بن عمرو وأبو موسى وأبو الدرداء وأبو هريرة وأنس وعدي بن حاتم وعائشة وأم سلمة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وعمران بن حصين. انتهى.

ولَمَّا أخرج الترمذي حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: وفي الباب. فذكر الثمانية المذكورين أولاً ، وأهمل خمسة.

واستدركهم شيخنا في شرح الترمذي إلَّا ابن مسعود وابن عمر ، وزاد: معاوية بن الحكم وعوف بن مالك الجشمي - والد أبي الأحوص - وأُذينة - والد عبد الرحمن - فكملوا ستةَ عشر نفساً.

قلت: أحاديث المذكورين كلها فيما يتعلق باليمين، وليس في حديث أحد منهم " لا تسأل الإمارة ".

ولم يذكر ابن منده ، أنَّ أحداً رواه عن عبد الرحمن بن سمرة غير الحسن ، لكن ذكر عبد القادر ، أنَّ محمد بن سيرين رواه عن عبد الرحمن. ثم أسند من طريق أبي عامر الخراز عن الحسن وابن سيرين ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة. الحديث.

ص: 4

وقال: غريبٌ ما كتبته إلا من هذا الوجه، والمحفوظ رواية الحسن عن عبد الرحمن. انتهى.

وهذا - مع ما في سنده من ضعف - ليس فيه التصريح برواية ابن سيرين عن عبد الرحمن، وأخرجه يوسف بن خليل الحافظ من رواية عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الرحمن بن سمرة. أورده من " المعجم الأوسط " للطبراني، وهو في ترجمة محمد بن علي المروزي بسنده إلى عكرمة قال: كان اسم عبد الرحمن بن سمرة عبد كلوب فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن فمرَّ به، وهو يتوضأ فقال: تعال يا عبد الرحمن لا تطلب الإمارة. الحديث.

وهذا لم يصرِّح فيه عكرمة بأنه حمله عن عبد الرحمن ، لكنه محتمل.

قال الطبراني: لم يروه عن عكرمة إلا عبد الرحمن بن كيسان، ولا عنه إلا ابنه إسحاق تفرد به أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب.

قلت: عبد الله بن كيسان ضعفه أبو حاتم الرازي، وابنه إسحاق لينه أبو أحمد الحاكم.

قوله: (يا عبد الرحمن بن سمرة) يعني ابن حبيب بن عبد شمس بن عبد منافٍ، وقيل: بين حبيب وعبد شمس ربيعة.

وكنية عبد الرّحمن أبو سعيد، وهو من مسلمة الفتح.

وقيل: كان اسمه قبل الإسلام عبد كلالٍ بضمّ أوّله والتّخفيف (1).

وقد شهد فتوح العراق ، وكان فتح سجستان على يديه، أرسله

(1) تقدَّم قبل قليل الدليل عليه عند الطبراني.

ص: 5

عبد الله بن عامر أمير البصرة لعثمان على السّريّة ففتحها وفتح غيرها.

وقال ابن سعد: مات سنة خمسين ، وقيل بعدها بسنةٍ، وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث.

قوله: (لا تسأل) هذا الذي في أكثر طرق الحديث. ووقع في رواية يونس بن عبيد (1) عن الحسن لفظ " لا تتمنّينّ " بصيغة النّهي عن التّمنّي مؤكّداً بالنّون الثّقيلة، والنّهي عن التّمنّي أبلغ من النّهي عن الطّلب.

قوله: (الإمارة) بكسر الهمزة. أي: الولاية

قوله: (عن مسألة) أي: سؤالٍ.

قوله: (وُكلت إليها) بضمّ الواو وكسر الكاف مخفّفاً ومشدّداً وسكون اللام، ومعنى المخفّف. أي: صرف إليها ، ومن وُكل إلى نفسه هلك، ومنه في الدّعاء " ولا تكلني إلى نفسي "(2). ووكل أمره

(1) رواية يونس عن الحسن. أخرجها البخاري (7147) ومسلم (1652). لكن بلفظ (لا تسأل.) كذا عند البخاري ، أمّا مُسلم فلم يسق لفظ يونس ، وإنّما أحاله على رواية جرير بن حازم رواية العمدة. ولم أر هذه اللفظة عند من خرَّج الحديث من طريق يونس.

وقد أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في " مسند أبي حنيفة "(1/ 115) من طريق زياد الجصَّاص عن الحسن. بلفظ (لا تتمنين ..

(2)

أخرجه النسائي (6/ 147) والحاكم (1/ 730). صحَّحه على شرط الشيخين ، والبيهقي في " شعب الإيمان "(1/ 476، رقم 761)، والضياء في " المختارة "(6/ 300، رقم 2320) من طريق زيد بن الحباب أخبرني عثمان بن موهب الهاشمي سمعت أنس بن مالك يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: ما يمنعكِ أن تسمعي ما أوصيكِ به ، أو تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كلّه ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.

قال الضياء: إسناده حسن. وذكره ابن حجر في موضع آخر من الفتح. وسكت عنه

وجاء هذا الدعاء من طريق آخر عن أنس ، وله شاهد من حديث أبي بكرة رضي الله عنه مطولاً عند البخاري في " الأدب المفرد "(701).

ص: 6

إلى فلان صرفه إليه. ووكّله بالتّشديد: استحفظه.

ومعنى الحديث. أنّ من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه. ويستفاد منه أنّ طلب ما يتعلق بالحكم مكروه ، فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك ، وأنّ من حرص على ذلك لا يعان.

ويعارضه في الظّاهر ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه: من طلب قضاء المسلمين حتّى يناله ، ثمّ غلب عدلُه جورَه فله الجنّة، ومن غلب جوره عدله فله النّار.

والجمع بينهما: أنّه لا يلزم من كونه لا يُعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولي ، أو يحمل الطّلب هنا على القصد ، وهناك على التّولية.

وقد روى البخاري من حديث أبي موسى: " إنّا لا نولِّي من حرص ". ولذلك عبّر في مقابله بالإعانة، فإنّ من لَم يكن له من الله عون على عمله لا يكون فيه كفاية لذلك العمل فلا ينبغي أن يجاب سؤاله.

ومن المعلوم أنّ ولايةً لا تخلو من المشقّة، فمن لَم يكن له من الله إعانة تورّط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لَم

ص: 7

يتعرّض للطّلب أصلاً، بل إذا كان كافياً وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصّادق بالإعانة، ولا يخفى ما في ذلك من الفضل.

قال المُهلَّب (1): جاء تفسير الإعانة عليها في حديث بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس رفعه: من طلب القضاء واستعان عليه بالشّفعاء وُكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدّده. أخرجه ابن المنذر.

قلت: وكذا أخرجه التّرمذيّ من طريق أبي عوانة عن عبد الأعلى الثّعلبيّ، وأخرجه هو وأبو داود وابن ماجه من طريق أبي عوانة ، ومن طريق إسرائيل عن عبد الأعلى. فأسقط خيثمةَ من السّند.

قال التّرمذيّ: ورواية أبي عوانة أصحّ.

وقال في رواية أبي عوانة: حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وأخرجه الحاكم من طريق إسرائيل. وصحَّحه.

وتُعقّب: بأنّ ابن معين ليّن خيثمةَ ، وضعّف عبدَ الأعلى، وكذا قال الجمهور في عبد الأعلى: ليس بقويٍّ.

قال المُهلَّب: وفي معنى الإكراه عليه أن يُدعى إليه فلا يرى نفسه أهلاً لذلك هيبةً له وخوفاً من الوقوع في المحذور ، فإنّه يعان عليه إذا دخل فيه، ويسدّد؛ والأصل فيه أنّ من تواضع لله رفعه الله.

وقال ابن التّين (2): هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف

(1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12).

(2)

هو عبدالواحد بن التين ، سبق ترجمته (1/ 151)

ص: 8

{اجعلني على خزائن الأرض} وقال سليمان {وهبْ لي مُلكاً} .

قال: ويحتمل: أن يكون في غير الأنبياء.

قوله: (وإذا حلفت على يمينٍ) سيأتي توجيهه إن شاء الله في الكلام على حديث أبي موسى قريباً في قوله " لا أحلف على يمين ".

وقد اختلف فيما تضمّنه حديث عبد الرّحمن بن سمرة ، هل لأحد الْحُكمين تعلّقٌ بالآخر أو لا؟.

فقيل: له به تعلّقٌ، وذلك أنّ أحد الشّقّين أن يعطى الإمارة من غير مسألة ، فقد لا يكون له فيها أربٌ فيمتنع فيلزم فيحلف ، فأمر أن ينظر ثمّ يفعل الذي هو أولى ، فإن كان في الجانب الذي حلف على تركه فيحنث ويكفّر، ويأتي مثله في الشّقّ الآخر.

قوله: (فرأيتَ غيرَها) أي: غير المحلوف عليه، وظاهر الكلام عود الضّمير على اليمين، ولا يصحّ عوده على اليمين بمعناها الحقيقيّ ، بل بمعناها المجازيّ، والمراد بالرّؤية هنا الاعتقاديّة لا البصريّة.

قال عياض (1): معناه إذا ظهر له أنّ الفعل أو التّرك خيرٌ له في دنياه أو آخرته ، أو أوفق لمراده وشهوته ما لَم يكن إثماً.

قلت: وقد وقع عند مسلم في حديث عديّ بن حاتم " فرأى غيرها أتقى لله ، فليأت التّقوى ". وهو يشعر بقصر ذلك على ما فيه طاعةٌ.

وينقسم المأمور به أربعة أقسامٍ ، إن كان المحلوف عليه فعلاً فكان

(1) هو القاضي عياض بن موسى اليحصبي ، سبق ترجمته (1/ 103)

ص: 9

التّرك أولى، أو كان المحلوف عليه تركاً فكان الفعل أولى، أو كان كلّ منهما فعلاً وتركاً ، لكن يدخل القسمان الأخيران في القسمين الأوّلين؛ لأنّ من لازم فعل أحد الشّيئين أو تركه ترك الآخر أو فعله.

قوله: (فكفّر عن يَمينك، وائت الذي هو خيرٌ) هكذا للكثير منهم ، وللبخاري " فأت الذي هو خيرٌ وكفّر عن يمينك " هكذا وقع للأكثر. وسأذكر من رواه بلفظ " ثمّ ائت الذي هو خير ".

ووقع في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند أبي داود " فرأى غيرها خيراً منها فليدعها ، وليأت الذي هو خير ، فإنّ كفّارتها تركها ".

فأشار أبو داود إلى ضعفه ، وقال: الأحاديث كلّها فليكفّر عن يمينه إلَّا شيئاً لا يعبأ به. انتهى

كأنّه يشير إلى حديث يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: من حلف فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير فهو كفّارته. ويحيى ضعيفٌ جدّاً. (1)

وقد وقع في حديث عديّ بن حاتم عند مسلم ما يُوهم ذلك، وأنّه أخرجه بلفظ " من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خيرٌ. وليترك يمينه ". هكذا أخرجه من وجهين. ولَم يذكر

(1) أخرجه البيهقي في " الكبرى "(10/ 34) من طريق يحيى بن سعيد عن يحيى به.

قال أبو داود في " السنن ": قلت لأحمد (ابن حنبل)، روى يحيى بن سعيد، عن يحيى بن عبيد الله، فقال: تركه بعد ذلك، وكان أهلاً لذلك ، قال أحمد: أحاديثه مناكير، وأبوه لا يُعرف. انتهى

ص: 10

الكفّارة، ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ " فرأى خيراً منها فليكفّرها ، وليأت الذي هو خير ".

ومداره في الطّرق كلّها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عديّ، والذي زاد ذلك حافظٌ فهو المعتمد.

قال الشّافعيّ: في الأمر بالكفّارة مع تعمّد الحنث دلالة على مشروعيّة الكفّارة في اليمين الغموس؛ لأنّها يمين حانثة.

واستدل به على أنّ الحالف يجب عليه فعل أيّ الأمرين كان أولى من المضيّ في حلفه أو الحنث والكفّارة.

وانفصل عنه مَن قال: إنّ الأمر فيه للنّدب بما في الصحيحين في قصّة الأعرابيّ الذي قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال: أفلح إنْ صدق. فلم يأمره بالحنث والكفّارة ، مع أنّ حلفه على ترك الزّيادة مرجوح بالنّسبة إلى فعلها.

قال ابن المنذر: رأى ربيعة والأوزاعيّ ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرّأي أنّ الكفّارة تجزئ قبل الحنث. إلَّا أنّ الشّافعيّ استثنى الصّيام ، فقال: لا يجزئ إلَّا بعد الحنث.

وقال أصحاب الرّأي: لا تجزئ الكفّارة قبل الحنث.

قلت: ونقل الباجيّ عن مالك وغيره روايتين، واستثنى بعضهم عن مالك الصّدقة والعتق، ووافق الحنفيّة أشهب من المالكيّة وداود الظّاهريّ ، وخالفه ابن حزم.

واحتجّ لهم الطّحاويّ: بقوله تعالى {ذلك كفّارة أيمانكم إذا

ص: 11

حلفتم} فإذاً المراد إذا حلفتم فحنثتم.

وردّه مخالفوه فقالوا: بل التّقدير فأردتم الحنث، وأولى من ذلك أن يقال: التّقدير أعمّ من ذلك، فليس أحد التّقديرين بأولى من الآخر.

واحتجّوا أيضاً: بأنّ ظاهر الآية أنّ الكفّارة وجبت بنفس اليمين.

وردّه من أجاز: بأنّها لو كانت بنفس اليمين لَم تسقط عمّن لَم يحنث اتّفاقاً.

واحتجّوا أيضاً: بأنّ الكفّارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوّعٌ، فلا يقوم التّطوّع مقام الفرض.

وانفصل عنه من أجاز: بأنّه يشترط إرادة الحنث، وإلَاّ فلا يجزئ كما في تقديم الزّكاة.

وقال عياض: اتّفقوا على أنّ الكفّارة لا تجب إلَّا بالحنث، وأنّه يجوز تأخيرها بعد الحنث، واستحبّ مالكٌ والشّافعيّ والأوزاعيّ والثّوريّ تأخيرها بعد الحنث.

قال عياض: ومنع بعض المالكيّة تقديم كفّارة حنث المعصية؛ لأنّ فيه إعانة على المعصية، وردّه الجمهور.

قال ابن المنذر: واحتجّ للجمهور بأنّ اختلاف ألفاظ حديثي أبي موسى وعبد الرّحمن لا يدلّ على تعيين أحد الأمرين، وإنّما أمرَ الحالفَ بأمرين فإذا أتى بهما جميعاً فقد فعل ما أمر به، وإذا لَم يدلّ الخبر على المنع فلم يبق إلَّا طريق النّظر، فاحتجّ للجمهور بأنّ عقد اليمين لَمَّا كان يحلّه الاستثناء، وهو كلام فلأن تحله الكفّارة، وهو

ص: 12

فعلٌ ماليٌّ أو بدنيٌّ أولى، ويرجّح قولهم أيضاً بالكثرة.

وذكر أبو الحسن بن القصّار وتبعه عياض وجماعة: أنّ عدّة مَن قال بجواز تقديم الكفّارة ، أربعة عشر صحابيّاً وتبعهم فقهاء الأمصار إلَّا أبا حنيفة، مع أنّه قال فيمن أخرج ظبيةً من الحرم إلى الحلّ فولدت أولاداً ثمّ ماتت في يده هي وأولادها: أنّ عليه جزاءها وجزاء أولادها، لكن إن كان حين إخراجها أدّى جزاءها لَم يكن عليه في أولادها شيءٌ ، مع أنّ الجزاء الذي أخرجه عنها كان قبل أن تلد أولادها فيحتاج إلى الفرق، بل الجواز في كفّارة اليمين أولى.

وقال ابن حزم: أجاز الحنفيّة تعجيل الزّكاة قبل الحول وتقديم زكاة الزّرع، وأجازوا تقديم كفّارة القتل قبل موت المجنيّ عليه.

واحتجّ للشّافعيّ: بأنّ الصّيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصّلاة والصّيام، بخلاف العتق والكسوة والإطعام فإنّها من حقوق الأموال فيجوز تقديمها كالزّكاة.

ولفظ الشّافعيّ في " الأمّ ": إن كفّر بالإطعام قبل الحنث رجوت أن يجزئ عنه، وأمّا الصّوم فلا ، لأنّ حقوق المال يجوز تقديمها بخلاف العبادات فإنّها لا تقدّم على وقتها كالصّلاة والصّوم، وكذا لو حجّ الصّغير والعبد لا يجزئ عنهما إذا بلغ أو عتق.

وقال في موضع آخر: من حلف فأراد أن يحنث فأحبُّ إليّ أن لا يكفّر حتّى يحنث فإن كفّر قبل الحنث أجزأ، وساق نحوه مبسوطاً.

وادّعى الطّحاويّ: أنّ إلحاق الكفّارة بالكفّارة أولى من إلحاق

ص: 13

الإطعام بالزّكاة.

وأجيب: بالمنع. وأيضاً: فالفرق الذي أشار إليه الشّافعيّ بين حقّ المال وحقّ البدن ظاهر جدّاً، وإنّما خصّ منه الشّافعيّ الصّيام بالدّليل المذكور.

ويؤخذ من نصّ الشّافعيّ أنّ الأولى تقديم الحنث على الكفّارة، وفي مذهبه وجهٌ اختلف فيه التّرجيح أنّ كفّارة المعصية يستحبّ تقديمها.

قال القاضي عياض: الخلاف في جواز تقديم الكفّارة مبنيّ على أنّ الكفّارة رخصة لحل اليمين أو لتكفير مأثمها بالحنث، فعند الجمهور أنّها رخصة شرعها الله لحل ما عقد من اليمين ، فلذلك تجزئ قبل وبعد.

قال المازريّ: للكفّارة ثلاث حالات.

أحدها: قبل الحلف. فلا تجزئ اتّفاقاً.

ثانيها: بعد الحلف والحنث. فتجزئ اتّفاقاً.

ثالثها: بعد الحلف وقبل الحنث. ففيها الخلاف.

وقد اختلف لفظ الحديث ، فقدّم الكفّارة مرّةً وأخّرها أخرى ، لكن بحرف الواو الذي لا يوجب رتبةً، ومن منع رأى أنّها لَم تجز فصارت كالتّطوّع ، والتّطوّع لا يجزئ عن الواجب.

وقال الباجيّ وابن التّين وجماعة: الرّوايتان دالتان على الجواز ، لأنّ الواو لا ترتّب.

ص: 14

قال ابن التّين: فلو كان تقديم الكفّارة لا يجزئ لأَبَانه. ولقال: فليأت ثمّ ليكفّر؛ لأنّ تأخير البيان عن الحاجة لا يجوز، فلمّا تركهم على مقتضى اللسان دلَّ على الجواز.

قال: وأمّا الفاء في قوله " فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك " فهي كالفاء الذي في قوله " فكفّر عن يمينك وأت الذي هو خير ". ولو لَم تأت الثّانية لَما دلّت الفاء على التّرتيب ، لأنّها أبانت ما يفعله بعد الحلف وهما شيئان كفّارةٌ وحنثٌ، ولا ترتيب فيهما، وهو كمَن قال: إذا دخلت الدّار فكلْ واشرب.

قلت: قد ورد في بعض الطّرق بلفظ " ثمّ " التي تقتضي التّرتيب عند أبي داود والنّسائيّ في حديث الباب، ولفظ أبي داود من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة به " كفّر عن يمينك ، ثمّ ائت الذي هو خيرٌ ". وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه ، لكن أحال بلفظ المتن على ما قبله.

وأخرجه أبو عوانة في " صحيحه " من طريق سعيد كأبي داود، وأخرجه النّسائيّ من رواية جرير بن حازم عن الحسن مثله.

لكن أخرجه البخاريّ ومسلم من رواية جرير. بالواو، وهو في حديث عائشة عند الحاكم أيضاً بلفظ " ثمّ ".

وفي حديث أمّ سلمة عند الطّبرانيّ نحوه. ولفظه " فليكفّر عن يمينه ، ثمّ ليفعل الذي هو خيرٌ ".

ص: 15