الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
374 -
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخلتْ هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ، لا يُعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بَنِيَّ، إلَّا ما أخذتُ من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جُناحٍ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله بالمعروف، ما يكفيك ويكفي بنِيكِ. (1)
قوله: (هند بنت عتبة) وللبخاري من رواية يحيى عن هشام عن أبيه " أنّ هنداً بنت عتبة " كذا في هذه الرّواية هنداً بالصّرف. (2)
ووقع في رواية الزّهريّ عن عروة. بغير صرف " هند بنت عتبة بن ربيعة ". أي ابن عبد شمس بن عبد منافٍ.
وفي رواية الشّافعيّ عن أنس بن عياض عن هشام " أنّ هنداً أمّ معاوية ، وكانت هند لَمَّا قتل أبوها عتبة وعمّها شيبة وأخوها الوليد يوم بدر شقّ عليها، فلمّا كان يوم أحد وقتل حمزة فرحت بذلك ، وعمَدَتْ إلى بطنه فشقّتها ، وأخذت كبده فلاكتْها ثمّ لفظتْها، فلمّا كان يوم الفتح ، ودخل أبو سفيان مكّة مسلماً بعد أن أسرته خيل
(1) أخرجه البخاري (2097 ، 2328، 3613، 5044، 5049، 5055، 6265، 6742، 6758) ومسلم (1714) من طريق الزهري. وكذا هشام عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
وقعت هذه الرواية بالصرف في صحيح البخاري (5049) في كتاب النفقات. كما ذكر الشارح. وكذا وقع عند ابن الجارود (1025) من طريق يحيى بن سعيد.
النّبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، فأجاره العبّاس ، غضبت هند لأجل إسلامه، وأخذت بلحيته ، ثمّ إنّها بعد استقرار النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمكّة ، جاءت فأسلمت وبايعت ".
وكانت من عقلاء النّساء، وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزوميّ ، ثمّ طلقها في قصّة جرت، فتزوّجها أبو سفيان فأنتجت عنده، وهي القائلة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا شرط على النّساء المبايعة ولا يسرقن ولا يزنين " وهل تزني الحرّة؟ "(1).
وماتت هند في خلافة عمر. وقد كانت هند في منزلة أمّهات نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنّ أمّ حبيبة إحدى زوجاته بنت زوجها أبي سفيان.
وفي الصحيحين. أنّها قالت له: يا رسولَ الله. ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلّوا من أهل خبائك، وما على ظهر الأرض اليوم أهل خباء أحبّ إليّ أن يعزّوا من أهل خبائك. فقال: أيضاً والذي نفسي بيده. ثمّ قالت: يا رسولَ الله، إنّ أبا سفيان. إلخ.
وذكر ابن عبد البرّ: أنّها ماتت في المحرّم سنة أربع عشرة ، يوم مات أبو قحافة والد أبي بكر الصّدّيق.
(1) أخرجه أبو يعلى في " مسنده "(4754) من طريق غبطة أم عمرو - عجوز من بني مجاشع - حدثتني عمتي عن جدتي عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه .. فذكر الحديث.
قال الحافظ في " التلخيص "(2/ 53): في إسناده مجهولات. ثم ذكر ابن حجر طرقاً أخرى له ، وفيها نظرٌ.
وأخرج ابن سعد في " الطّبقات " ما يدلّ على أنّها عاشت بعد ذلك، فروى عن الواقديّ عن ابن أبي سبرة عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، أنّ عمر استعمل معاوية على عمل أخيه، فلم يزل والياً لعمر حتّى قُتل ، واستخلف عثمان فأقرّه على عمله وأفرده بولاية الشّام جميعاً، وشخص أبو سفيان إلى معاوية ، ومعه ابناه عتبة وعنبسة، فكتبت هند إلى معاوية قد قدم عليك أبوك وأخواك، فاحمل أباك على فرس وأعطه أربعة آلاف درهم، واحمل عتبة على بغل وأعطه ألفي درهم، واحمل عنبسة على حمار وأعطه ألف درهم، ففعل ذلك. فقال أبو سفيان: أشهد بالله أنّ هذا عن رأي هند.
قلت: كان عتبة منها وعنبسة من غيرها ، أمّه عاتكة بنت أبي أزيهر الأزديّ. وفي " الأمثال للميدانيّ ، أنّها عاشت بعد وفاة أبي سفيان، فإنّه ذكر قصّة فيها ، أنّ رجلاً سأل معاوية أن يزوّجه أمّه؟ فقال: إنّها قعدت عن الولد.
قوله: (إنّ أبا سفيان) هو صخر بن حرب بن أُميَّة بن عبد شمس زوجها، وكان قد رأس في قريش بعد وقعة بدر، وسار بهم في أحد، وساق الأحزاب يوم الخندق، ثمّ أسلم ليلة الفتح
قوله: (رجلٌ شحيحٌ) في رواية للشيخين " رجل مِسّيك ، فهل عليَّ حرجٌ من أن أطعم من الذي له عيالنا ".
واختلف في ضبطه.
فالأكثر. بكسر الميم وتشديد السّين على المبالغة.
وقيل: بوزن شحيح. قال النّوويّ: هذا هو الأصحّ من حيث اللّغة ، وإن كان الأوّل أشهر في الرّواية.
ولَم يظهر لي كون الثّاني أصحّ ، فإنّ الآخر مستعمل كثيراً مثل شرّيب وسكّير ، وإن كان المخفّف أيّهما فيه نوع مبالغة ، لكنّ المشدّد أبلغ.
قال في النّهاية في كتاب الأشخاص: المشهور في كتب اللّغة الفتح والتّخفيف. وفي كتب المحدّثين الكسر والتّشديد. والشّحّ البخل مع حرص، والشّحّ أعمّ من البخل ، لأنّ البخل يختصّ بمنع المال ، والشّحّ بكل شيء.
وقيل: الشّحّ لازم كالطّبع ، والبخل غير لازم.
قال القرطبيّ: لَم ترد هند وصف أبي سفيان بالشّحّ في جميع أحواله، وإنّما وصفت حالها معه ، وأنّه كان يقتّر عليها وعلى أولادها، وهذا لا يستلزم البخل مطلقاً فإنّ كثيراً من الرّؤساء يفعل ذلك مع أهله ، ويؤثر الأجانب استئلافاً لهم.
قلت: وورد في بعض الطّرق لقول هند هذا سبب يأتي ذكره قريباً.
قوله: (إلَّا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليّ في ذلك من جناحٍ) وللبخاري " إلَّا ما أخذت منه ، وهو لا يعلم ".
زاد الشّافعيّ في روايته " سرّاً، فهل عليّ في ذلك من شيء؟ " ، ووقع في رواية الزّهريّ " فهل عليّ حرج أن أطعم من الذي له عيالنا "؟.
قوله: (خذي من ماله بالمعروف، ما يكفيك ويكفي بَنِيْك) وللبخاري من رواية هشام عن أبيه " فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وفي رواية شعيب عن الزّهريّ في الصحيحين " لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف ".
قال القرطبيّ: قوله " خذي " أمر إباحة بدليل قوله " لا حرج " والمراد بالمعروف القدر الذي عُرف بالعادة أنّه الكفاية.
قال: وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظاً لكنّها مقيّدة معنىً، كأنّه قال: إن صحّ ما ذكرتِ.
وقال غيره: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم علم صدقها فيما ذكرت فاستغنى عن التّقييد.
واستدل بهذا الحديث على جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة.
وفيه من الفوائد: جواز ذِكر الإنسان بالتّعظيم كاللقب والكنية.
كذا قيل. وفيه نظرٌ، لأنّ أبا سفيان كان مشهوراً بكنيته دون اسمه ، فلا يدلّ قولها " إنّ أبا سفيان " على إرادة التّعظيم.
وفيه جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخر. وفيه أنّ من نسب إلى نفسه أمراً عليه فيه غضاضة فليقرنه بما يقيم عذره في ذلك.
وفيه جواز سماع كلام الأجنبيّة عند الحكم ، والإفتاء عند من يقول إنّ صوتها عورة ، ويقول جاز هنا للضّرورة.
وفيه أنّ القول قول الزّوجة في قبض النّفقة، لأنّه لو كان القول قول الزّوج إنّه منفق لكلفت هذه البيّنة على إثبات عدم الكفاية.
وأجاب المازريّ عنه: بأنّه من باب تعليق الفتيا لا القضاء.
وفيه وجوب نفقة الزّوجة ، وقد انعقد الإجماع على الوجوب.
لكن اختلفوا في تقديرها.
القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنها مقدّرة بالكفاية، وهو قول للشّافعيّ حكاه الجوينيّ.
القول الثاني: المشهور عن الشّافعيّ أنّه قدّرها بالأمداد ، فعلى الموسر كلّ يوم مدّان ، والمتوسّط مدّ ونصف والمعسر مدّ، وتقريرها بالأمداد رواية عن مالك أيضاً.
ووافق الجمهورَ من الشّافعيّة أصحابُ الحديث كابن خزيمة وابن المنذر ومن غيرهم أبو الفضل بن عبدان، وقال الرّويانيّ في " الحلية ": هو القياس.
وتمسّك بعض الشّافعيّة بأنّها لو قدّرت بالحاجة لسقطت نفقة المريضة والغنيّة في بعض الأيّام، فوجب إلحاقها بما يشبه الدّوام ، وهو الكفّارة لاشتراكهما في الاستقرار في الذّمّة.
ويقوّيه قوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم} فاعتبروا الكفّارة بها ، والأمداد معتبرة في الكفّارة.
ويخدش في هذا الدّليل أنّهم صحّحوا الاعتياض عنه، وبأنّها لو أَكلتْ معه على العادة سقطت بخلاف الكفّارة فيهما.
والرّاجح من حيث الدّليل أنّ الواجب الكفاية، ولا سيّما وقد نقل بعض الأئمّة الإجماع الفعليّ في زمن الصّحابة والتّابعين على ذلك ، ولا يحفظ عن أحدٍ منهم خلافه.
قال النّوويّ في " شرح مسلم ": وهذا الحديث حجّة على أصحابنا.
قلت: وليس صريحاً في الرّدّ عليهم، لكنّ التّقدير بالأمداد محتاج إلى دليل ، فإن ثبت حملت الكفاية في حديث الباب على القدر المقدّر بالأمداد، فكأنّه كان يعطيها وهو موسر ما يعطي المتوسّط ، فأذن لها في أخذ التّكملة.
وفيه اعتبار النّفقة بحال الزّوجة، وهو قول الحنفيّة.
واختار الخصّاف منهم أنّها معتبرة بحال الزّوجين معاً. قال صاحب " الهداية ": وعليه الفتوى، والحجّة فيه ضمّ قوله تعالى {لينفق ذو سعة من سعته} الآية إلى هذا الحديث.
وذهبت الشّافعيّة: إلى اعتبار حال الزّوج تمسّكاً بالآية، وهو قول بعض الحنفيّة.
وفيه وجوب نفقة الأولاد بشرط الحاجة، والأصحّ عند الشّافعيّة اعتبار الصّغر أو الزّمانة.
وفيه وجوب نفقة خادم المرأة على الزّوج.
قال الخطّابيّ: لأنّ أبا سفيان كان رئيس قومه ، ويبعد أن يمنع زوجته وأولاده النّفقة، فكأنّه كان يعطيها قدر كفايتها وولدها دون
من يخدمهم ، فأضافت ذلك إلى نفسها ، لأنّ خادمها داخل في جملتها.
قلت: ويحتمل أن يتمسّك لذلك بقوله في بعض طرقه " أن أطعم من الذي له عيالنا ". (1)
واستُدل به على وجوب نفقة الابن على الأب ، ولو كان الابن كبيراً.
وتعقّب: بأنّها واقعة عين ولا عموم في الأفعال، فيحتمل أن يكون المراد بقولها " بنيّ " بعضهم أي: من كان صغيراً أو كبيراً زمناً لا جميعهم.
واستدل به على أنّ من له عند غيره حقّ وهو عاجز عن استيفائه ، جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقّه بغير إذنه ، وتسمى مسألة الظّفر.
وبها قال الشّافعيّ، فجزم بجواز الأخذ فيما إذا لَم يمكن تحصيل الحقّ بالقاضي ، كأن يكون غريمه منكراً ولا بيّنة له عند وجود الجنس ، فيجوز عنده أخذه إن ظفر به ، وأخذ غيره بقدره إن لَم يجده ويجتهد في التّقويم ولا يحيف.
فإن أمكن تحصيل الحقّ بالقاضي. فالأصحّ عند أكثر الشّافعيّة الجواز أيضاً.
وعن أبي حنيفة: المنع، وعنه: يأخذ جنس حقّه ، ولا يأخذ من غير جنس حقّه إلَّا أحد النّقدين بدل الآخر.
وعن مالك: ثلاث روايات كهذه الآراء.
(1) هذه الرواية في الصحيحين كما تقدَّم في الشرح.
وعن أحمد: المنع مطلقاً.
واتّفقوا على أنّ محلّ الجواز في الأموال لا في العقوبات البدنيّة لكثرة الغوائل في ذلك، ومحلّ الجواز في الأموال أيضاً ما إذا أمن الغائلة كنسبته إلى السّرقة ونحو ذلك.
قال الخطّابيّ: يؤخذ من حديث هند جواز أخذ الجنس وغير الجنس، لأنّ منزل الشّحيح لا يجمع كلّ ما يحتاج إليه من النّفقة والكسوة وسائر المرافق اللازمة ، وقد أطلق لها الإذن في أخذ الكفاية من ماله.
قال: ويدلّ على صحّة ذلك قولها في رواية أخرى " وإنّه لا يدخل على بيتي ما يكفيني وولدي ".
قلت: ولا دلالة فيه لِما ادّعاه من أنّ بيت الشّحيح لا يحتوي على كلّ ما يحتاج إليه ، لأنّها نفت الكفاية مطلقاً ، فتناول جنس ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه.
ودعواه أنّ منزل الشّحيح كذلك مسلَّمة ، لكن من أين له أنّ منزل أبي سفيان كان كذلك؟.
والذي يظهر من سياق القصّة ، أنّ منزله كان فيه كلّ ما يحتاج إليه إلَّا أنّه كان لا يمكّنها إلَّا من القدر الذي أشارت إليه ، فاستأذنت أن تأخذ زيادة على ذلك بغير علمه.
وقد وجّه ابن المنيّر قوله ، أنّ في قصّة هند دلالة على أنّ لصاحب الحقّ أن يأخذ من غير جنس حقّه بحيث يحتاج إلى التّقويم، لأنّه صلى الله عليه وسلم -
أذن لهندٍ أن تفرض لنفسها وعيالها قدر الواجب، وهذا هو التّقويم بعينه ، بل هو أدقّ منه وأعسر.
واستدل به على أنّ للمرأة مدخلاً في القيام على أولادها وكفالتهم والإنفاق عليهم، وفيه اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قبل الشّرع.
وقال القرطبيّ: فيه اعتبار العرف في الشّرعيّات خلافاً لمن أنكر ذلك لفظاً ، وعمل به معنىً كالشّافعيّة.
كذا قال، والشّافعيّة إنّما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النّصّ الشّرعيّ ، أو لَم يرشد النّصّ الشّرعيّ إلى العرف.
واستدل به الخطّابيّ على جواز القضاء على الغائب، وترجم البخاريّ في كتاب الأحكام " القضاء على الغائب " وأورد هذا الحديث من طريق سفيان الثّوريّ عن هشام بلفظ " إنّ أبا سفيان رجل شحيح ، فأحتاج أن آخذ من ماله، قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
وذكر النّوويّ ، أنّ جمعاً من العلماء من أصحاب الشّافعيّ ، ومن غيرهم استدلّوا بهذا الحديث لذلك، حتّى قال الرّافعيّ في " القضاء على الغائب ": احتجّ أصحابنا على الحنفيّة في منعهم القضاء على الغائب بقصّة هند، وكان ذلك قضاء من النّبيّ صلى الله عليه وسلم على زوجها وهو غائب.
قال النّوويّ: ولا يصحّ الاستدلال، لأنّ هذه القصّة كانت بمكّة ،
وكان أبو سفيان حاضراً بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائباً عن البلد أو مستتراً لا يقدر عليه أو متعزّزاً، ولَم يكن هذا الشّرط في أبي سفيان موجوداً فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء، وقد وقع في كلام الرّافعيّ في عدّة مواضع أنّه كان إفتاء. انتهى.
واستدل بعضهم على أنّه كان غائباً بقول هند " لا يعطيني " إذ لو كان حاضراً لقالت لا ينفق عليّ، لأنّ الزّوج هو الذي يباشر الإنفاق.
وهذا ضعيف. لِجواز أن يكون عادته أن يعطيها جملة ، ويأذن لها في الإنفاق مفرّقاً.
نعم. قول النّوويّ ، إنّ أبا سفيان كان حاضراً بمكّة حقٌّ، وقد سبقه إلى الجزم بذلك السّهيليّ، بل أورد أخصّ من ذلك ، وهو أنّ أبا سفيان كان جالساً معها في المجلس، لكن لَم يسق إسناده.
وقد ظفرتُ به في " طبقات ابن سعد " أخرجه بسندٍ رجاله رجال الصّحيح، إلَّا أنّه مرسل عن الشّعبيّ ، أنّ هنداً لَمَّا بايعت ، وجاء قوله ولا يسرقن قالت: قد كنت أصبت من مال أبي سفيان ، فقال أبو سفيان: فما أصبتِ من مالي فهو حلال لكِ.
قلت: ويمكن تعدّد القصّة ، وأنّ هذا وقع لَمَّا بايعت ثمّ جاءت مرّة أخرى فسألت عن الحكم، وتكون فهمت من الأوّل إحلال أبي سفيان لها ما مضى فسألت عمّا يستقبل.
لكن يشكل على ذلك. ما أخرجه ابن منده في " المعرفة " من طريق
عبد الله بن محمّد بن زاذان عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت هند لأبي سفيان: إنّي أريد أن أبايع، قال: فإن فعلت فاذهبي معك برجلٍ من قومك، فذهبت إلى عثمان فذهب معها، فدخلت منتقبة فقال: بايعي أن لا تشركي .. الحديث، وفيه: فلمّا فرغت. قالت: يا رسولَ الله. إنّ أبا سفيان رجل بخيل - الحديث - قال: ما تقول يا أبا سفيان؟ قال: أمّا يابساً فلا، وأمّا رطباً فأحلّه.
وذكر أبو نعيمٍ في " المعرفة " ، أنّ عبد الله تفرّد به بهذا السّياق وهو ضعيف.
وأوّل حديثه يقتضي ، أنّ أبا سفيان لَم يكن معها ، وآخره يدلّ على أنّه كان حاضراً.
لكن يحتمل: أن يكون كلّ منهما توجّه وحده ، أو أرسل إليه لَمَّا اشتكت منه.
ويؤيّد هذا الاحتمال الثّاني. ما أخرجه الحاكم في تفسير الممتحنة من " المستدرك " عن فاطمة بنت عتبة ، أنّ أبا حذيفة بن عتبة ذهب بها وبأختها هند يبايعان فلمّا اشترط. ولا يسرقن ، قالت هند: لا أبايعك على السّرقة، إنّي أسرق من زوجي، فكفّ حتّى أرسل إلى أبي سفيان يتحلّل لها منه ، فقال: أمّا الرّطب فنعم ، وأمّا اليابس فلا.
والذي يظهر لي أنّ البخاريّ لَم يرد أنّ قصّة هند كان قضاء على أبي سفيان وهو غائب، بل استدل بها على صحّة القضاء على الغائب ، ولو لَم يكن ذلك قضاء على غائب بشرطه، بل لمَّا كان أبو سفيان غير
حاضر معها في المجلس وأذن لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه قدر كفايتها كان في ذلك نوع قضاء على الغائب ، فيحتاج من منعه أن يجيب عن هذا.
وقد انبنى على هذا خلاف يتفرّع منه.
وهو أنّ الأب إذا غاب أو امتنع من الإنفاق على ولده الصّغير ، أذن القاضي للأمّ إذا كانت فيها أهليّة ذلك في الأخذ من مال الأب إن أمكن ، أو في الاستقراض عليه والإنفاق على الصّغير.
وهل لها الاستقلال بذلك بغير إذن القاضي؟.
وجهان ينبنيان على الخلاف في قصّة هند، فإن كانت إفتاء جاز لها الأخذ بغير إذن، وإن كانت قضاء فلا يجوز إلَّا بإذن القاضي.
وممّا رجح به أنّه كان قضاء لا فتيا ، التّعبير بصيغة الأمر حيث قال لها " خذي " ولو كان فتيا لقال مثلاً: لا حرج عليكِ إذا أخذت، ولأنّ الأغلب من تصرّفاته صلى الله عليه وسلم إنّما هو الحكم.
وممّا رجح به أنّه كان فتوى ، وقوع الاستفهام في القصّة في قولها " هل عليّ جناح "؟ ، ولأنّه فوّض تقدير الاستحقاق إليها، ولو كان قضاء لَم يفوّضه إلى المدّعي، ولأنّه لَم يستحلفها على ما ادّعته ولا كلفها البيّنة.
والجواب: أنّ في ترك تحليفها أو تكليفها البيّنة حجّة لمن أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه ، فكأنّه صلى الله عليه وسلم علم صدقها في كلّ ما ادّعت به.
وعن الاستفهام أنّه لا استحالة فيه من طالب الحكم.
وعن تفويض قدر الاستحقاق أنّ المراد الموكول إلى العرف كما تقدم.
وفيه القضاء على الغائب في حقوق الآدميّين دون حقوق الله بالاتّفاق، حتّى لو قامت البيّنة على غائب بسرقةٍ مثلاً، حكم بالمال دون القطع.
قال ابن بطّال: أجاز مالك والليث والشّافعيّ وأبو عبيد وجماعة الحكم على الغائب، واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار إلَّا إن طالت غيبته أو انقطع خبره.
وأنكر ابن الماجشون صحّة ذلك عن مالك وقال: العمل بالمدينة على الحكم على الغائب مطلقاً حتّى لو غاب بعد أن توجّه عليه الحكم قضي عليه.
وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة: لا يُقضى على الغائب مطلقاً. وأمّا من هرب أو استتر بعد إقامة البيّنة ، فينادي القاضي عليه ثلاثاً ، فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه.
وقال ابن قدامة: أجازه أيضاً ابن شبرمة والأوزاعيّ وإسحاق وهو أحد الرّوايتين عن أحمد.
ومنعه أيضاً الشّعبيّ والثّوريّ ، وهي الرّواية الأخرى عن أحمد.
قال: واستثنى أبو حنيفة مَن له وكيل مثلاً، فيجوز الحكم عليه بعد الدّعوى على وكيله.
واحتجّ من منع بحديث عليٍّ رضي الله عنه رفعه: لا تقضي لأحد الخصمين
حتّى تسمع من الآخر. وهو حديث حسن، أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وغيرهما.
وبحديث: الأمر بالمساواة بين الخصمين. (1) وبأنّه لو حضر لَم تسمع بيّنة المدّعي حتّى يسأل المدّعى عليه فإذا غاب فلا تسمع، وبأنّه لو جاز الحكم مع غيبته لَم يكن الحضور واجباً عليه.
وأجاب من أجاز: بأنّ ذلك كلّه لا يمنع الحكم على الغائب ، لأنّ حجّته إذا حضر قائمة فتسمع ويعمل بمقتضاها ، ولو أدّى إلى نقض الحكم السّابق، وحديث عليٍّ محمول على الحاضرين.
وقال ابن العربيّ: حديث عليٍّ، إنّما هو مع إمكان السّماع ، فأمّا مع تعذّره بمغيبٍ فلا يمنع الحكم، كما لو تعذّر بإغماءٍ أو جنون أو حجر أو صغر، وقد عمل الحنفيّة بذلك في الشّفعة والحكم على من عنده للغائب مال أن يدفع منه نفقة زوج الغائب ، وقد احتجّ بقصة هند الشّافعيّ وجماعة لجواز القضاء على الغائب.
وتعقّب: بأنّ أبا سفيان كان حاضراً في البلد كما تقدّم.
تنْبيهٌ: أشكل على بعضهم استدلال البخاريّ بهذا الحديث على مسألة الظّفر في " كتاب الأشخاص " حيث ترجم له " قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه " ، واستدلاله به على جواز القضاء على
(1) أخرجه أبو داود في " السنن "(3588) والإمام أحمد (26/ 29) والحاكم (7029) من طريق مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير ، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنَّ الخصمين يقعدان بين يَدي الْحَكَمِ. ومصعب بن ثابت ضعيف.
الغائب.
لأنّ الاستدلال به على مسألة الظّفر لا تكون إلَّا على القول ، بأنّ مسألة هند كانت على طريق الفتوى.
والاستدلال به على مسألة القضاء على الغائب ، لا يكون إلَّا على القول بأنّها كانت حكماً.
والجواب أن يقال: كلّ حكم يصدر من الشّارع ، فإنّه ينزّل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في مثل تلك الواقعة، فيصحّ الاستدلال بهذه القصّة للمسألتين. والله أعلم.
واستدلَّ به البخاري على أنَّ للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر النّاس إذا لَم يخف الظّنون والتّهمة.
وقال أبو حنيفة ومن وافقه: للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق النّاس ، وليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله كالحدود ، لأنّها مبنيّة على المسامحة.
وله في حقوق النّاس تفصيل، قال: إن كان ما علمه قبل ولايته لَم يحكم ، لأنّه بمنزلة ما سمعه من الشّهود وهو غير حاكم، بخلاف ما علمه في ولايته.
وأمّا قوله " إذا لَم يخف الظّنون والتّهمة " فقيّد به قول من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه ، لأنّ الذين منعوا ذلك مطلقاً ، اعتلّوا بأنّه غير معصوم فيجوز أن تلحقه التّهمة إذا قضى بعلمه أن يكون حكم لصديقه على عدوّه ، فحسمت المادّة. فجعل البخاري محلّ الجواز ما
إذا لَم يخف الحاكم الظّنون والتّهمة.
وأشار إلى أنّه يلزم من المنع من أجل حسم المادّة ، أن يسمع مثلاً رجلاً طلَّق امرأته طلاقاً بائناً. ثمّ رفعته إليه فأنكر فإذا حلَّفه فحلف لزم أن يديمه على فرج حرام فيفسق به ، فلم يكن له بدٌّ من أن لا يقبل قوله ويحكم عليه بعلمه، فإن خشي التّهمة فله أن يدفعه ، ويقيم شهادته عليه عند حاكم آخر.
وقال الكرابيسيّ (1): الذي عندي أنّ شرط جواز الحكم بالعلم أن يكون الحاكم مشهوراً بالصّلاح والعفاف والصّدق ، ولَم يعرف بكبير زلة ولَم يؤخذ عليه خربة بحيث تكون أسباب التّقى فيه موجودة وأسباب التّهم فيه مفقودة ، فهذا الذي يجوز له أن يحكم بعلمه مطلقاً.
قلت: وكأنّ البخاريّ أخذ ذلك عنه ، فإنّه من مشايخه. (2)
قال ابن بطّال: احتجّ من أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه ، بحديث الباب فإنّه صلى الله عليه وسلم قضى لها بوجوب النّفقة لها ولولدها لعلمه بأنّها زوجة أبي سفيان ولَم يلتمس على ذلك بيّنة، ومن حيث النّظر أنّ علمه أقوى من الشّهادة لأنّه يتيقّن ما علمه، والشّهادة قد تكون كذباً.
وحجّة من منع قوله حديث أمّ سلمة " إنّما أقضي له بما أسمع " ولَم يقل بما أعلم. وقال للحضرميّ " شاهداك أو يمينه " وفيه " وليس
(1) الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي الفقيه البغدادي ، قال ابن قانع: توفي سنة 245.
(2)
أي: الكرابيسي.
وقال الشارح في " لسان الميزان "(2/ 305) في ترجمة الكرابيسي: ويقال: أنه من جملة مشائخ البخاري صاحب الصحيح.
لك إلَّا ذلك " ولِمَا يخشى من قضاة السّوء أن يحكم أحدهم بما شاء ، ويحيل على علمه.
واحتجّ من منع مطلقاً بالتّهمة.
واحتجّ من فصّل: بأنّ الذي علمه الحاكم قبل القضاء كان على طريق الشّهادة ، فلو حكم به لحكم بشهادة نفسه فصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره، وأيضاً فيكون كالحاكم بشاهدٍ واحد، وأمّا في حال القضاء ففي حديث أمّ سلمة " فإنّما أقضي له على نحو ما أسمع " ولَم يفرّق بين سماعه من شاهد أو مدّعٍ.
وقال ابن المنير: لَم يتعرّض ابن بطّال لمقصود الباب، وذلك أنّ البخاريّ احتجّ لجواز الحكم بالعلم بقصّة هند، فكان ينبغي للشّارح أن يتعقّب ذلك بأن لا دليل فيه ، لأنّه خرج مخرج الفتيا ، وكلام المفتي يتنزّل على تقدير صحّة إنهاء المستفتي، فكأنّه قال: إن ثبت أنّه يمنعك حقّك جاز لك استيفاؤه مع الإمكان.
قال: وقد أجاب بعضهم بأنّ الأغلب من أحوال النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحكم والإلزام، فيجب تنزيل لفظه " عليه " لكن يردّ عليه أنّه صلى الله عليه وسلم ما ذكر في قصّة هند أنّه يعلم صدقها، بل ظاهر الأمر أنّه لَم يسمع هذه القصّة إلَّا منها ، فكيف يصحّ الاستدلال به على حكم الحاكم بعلمه؟.
قلت: وما ادّعى نفيه بعيد، فإنّه لو لَم يعلم صدقها لَم يأمرها بالأخذ؛ واطّلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون من سواه فلا بدّ من سبق علم.
ويؤيّد اطّلاعه على حالها من قبل أن تذكر ما ذكرت من المصاهرة، ولأنّه قَبِل قولها إنّها زوجة أبي سفيان بغير بيّنة واكتفى فيه بالعلم، ولأنّه لو كانت فتيا لقال مثلاً تأخذ، فلمّا أتى بصيغة الأمر بقوله " خذي " دلَّ على الحكم.
ثمّ قال ابن المنير أيضاً: لو كان حكماً لاستدعى معرفة المحكوم به، والواقع أنّ المحكوم به غير معيّن، كذا قال. والله أعلم.
تنْبيهٌ: اتّفقوا على أنّه يقضي في قبول الشّاهد وردّه بما يعلمه منه من تجريح أو تزكية. ومحصّل الآراء في هذه المسألة سبعة (1).
ثالثها: في زمن قضائه خاصّةً.
رابعها: في مجلس حكمه.
خامسها: في الأموال دون غيرها.
سادسها: مثله وفي القذف أيضاً وهو عن بعض المالكيّة.
سابعها: في كلّ شيء إلَّا في الحدود ، وهذا هو الرّاجح عند الشّافعيّة.
وقال ابن العربيّ: لا يقضي الحاكم بعلمه، والأصل فيه عندنا الإجماع على أنّه لا يحكم بعلمه في الحدود، ثمّ أحدث بعض الشّافعيّة قولاً مخرّجاً أنّه يجوز فيها أيضاً حين رأوا أنّها لازمة لهم.
كذا قال ، فجرى على عادته في التّهويل والإقدام على نقل الإجماع
(1) ترك الشارح ذكر القولين الأولين كعادة أهل العلم في الاختصار ، وللعلم بهما ولو لَم يُذكرا ، والقولان هما المنع مطلقاً والجواز مطلقاً.
مع شهرة الاختلاف.
وفيه الإحالة على العرف فيما ليس فيه تحديدٌ شرعيٌّ لقوله " خذي من ماله ما يكفيك بالمعروف ".
قال ابن المنير وغيره: مقصود البخاري بهذه التّرجمة (1) إثبات الاعتماد على العرف، وأنّه يقضى به على ظواهر الألفاظ. ولو أنّ رجلاً وكّل رجلاً في بيع سلعةٍ فباعها بغير النّقد الذي عرف النّاس لَم يجز، وكذا لو باع موزوناً أو مكيلاً بغير الكيل أو الوزن المعتاد.
وذكر القاضي الحسين من الشّافعيّة. أنّ الرّجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه، فمنها الرّجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصّفات الإضافيّة كصغر ضبّة الفضّة وكبرها وغالب الكثافة في اللحية ونادرها وقرب منزله وبعده وكثرة فعلٍ أو كلامٍ وقلته في الصّلاة، ومقابلاً بعوضٍ في البيع وعيناً وثمن مثلٍ ومهر مثلٍ وكفء نكاحٍ ومؤنةٍ ونفقةٍ وكسوةٍ وسكنى وما يليق بحال الشّخص من ذلك.
ومنها الرّجوع إليه في المقادير كالحيض والطّهر وأكثر مدّة الحمل وسنّ اليأس.
ومنها الرّجوع إليه في فعل غير منضبطٍ يترتّب عليه الأحكام كإحياء الموات والإذن في الضّيافة ودخول بيت قريبٍ وتبسّطٍ مع
(1) بقوله (باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والكيل والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة)
صديقٍ ، وما يعدّ قبضاً وإيداعاً وهديّةً وغصباً وحفظ وديعةٍ وانتفاعاً بعاريةٍ.
ومنها الرّجوع إليه في أمرٍ مخصّصٍ كألفاظ الأيمان وفي الوقف والوصيّة والتّفويض ومقادير المكاييل والموازين والنّقود وغير ذلك.
وفي قصّة هند بنت عتبة أنّه أذن لها في أخذ نفقة بنيها من مال الأب فدلَّ على أنّها تجب عليه دونها.
فأراد البخاريّ أنّه لَمَّا لَم يلزم الأمّهات نفقة الأولاد في حياة الآباء. فالحكم بذلك مستمرّ بعد الآباء.
ويقوّيه قوله تعالى {وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ} أي: رزق الأمّهات وكسوتهنّ من أجل الرّضاع للأبناء، فكيف يجب لهنّ في أوّل الآية ، ويجب عليهنّ نفقة الأبناء في آخرها؟.