الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع
367 -
عن ثابت بن الضّحّاك الأنصاريّ رضي الله عنه ، أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: من حلف على يمينٍ بملةٍ غير الإسلام، كاذباً متعمداً، فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيءٍ عذّب به يوم القيامة، وليس على رجلٍ نذرٌ فيما لا يملك.
وفي رواية: ولعن المؤمن كقتله. (1)
وفي رواية: ومن ادعى دعوى كاذبةً، ليتكثّر بها، لَم يزده الله إلَّا قلةً. (2)
(1) أخرجه البخاري (1297 ، 3938 ، 4562 ، 5700 ، 5754 ، 6276) ومسلم (110) من طرق عن أبي قلابة عن ثابت رضي الله عنه.
قال في " الإصابة "(1/ 507): ثابت بن الضحاك بن خليفة بن ثعلبة الأنصاريّ الأشهليّ. شهد بيعة الرضوان، كما ثبت في صحيح مسلم من رواية أبي قلابة أنه حدثه بذلك ، وذكر ابن مندة ، أن البخاريّ ذكر أنه شهد بدراً ، وتعقّبه أبو نعيم فقال: إنما ذكر البخاريّ أنه شهد الحديبيّة.
قلت: وذكر التّرمذيّ أيضاً أنه شهد بدراً.
وقال ابن شاهين: عن ابن أبي داود وابن السّكن من طريق أبي بكر بن أبي الأسود: كان ثابت بن الضّحاك الأشهلي رديفَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، ودليله إلى حمراء الأسد، وكان ممن بايع تحت الشّجرة.
وقال البغويّ، عن أبي موسى هارون بن عبد اللَّه: يكنى أبا زيد، مات في أيام ابن الزبير. وكذا أرّخه الطّبريّ وابن سعد وأبو أحمد الحاكم ، وزاد بعضهم سنة 64.
وقال عمرو بن عليّ: مات سنة 54. ولعله تبِع الواقديّ. انتهى.
(2)
هذه الرواية تفرّد بها مسلم (110) من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة به.
قال النووي في " شرحه لمسلم "(2/ 121): قوله (دعوى كاذبة) هذه هي اللغة الفصيحة ، يقال: دعوى باطل وباطلة وكاذب وكاذبة. حكاهما صاحب المحكم ، والتأنيث أفصح.
قال القاضي عياض: هو عامٌ في كل دعوى يتشبّع بها المرء بما لَم يعط. مِن مال يختال في التجمل به من غيره ، أو نسب ينتمي إليه ، أو علم يتحلى به. وليس هو من حملته ، أو دين يظهره. وليس هو من أهله ، فقد أعلمَ صلى الله عليه وسلم أنه غير مبارك له في دعواه ، ولا زاك ما اكتسبه بها ، ومثله الحديث الآخر اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب. انتهى
قوله: (بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة) أي: التي كانت بيعة الرضوان تحتها ، وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: أنتم خير أهل الأرض ، وكنا ألفا وأربع مائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة ".
وهذا صريحٌ في فضل أصحاب الشّجرة ، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعةٌ بمكّة وبالمدينة وبغيرهما.
وعند أحمد بإسنادٍ حسنٍ عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: لَمَّا كان بالحديبية ، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لا توقدوا ناراً بليلٍ ، فلمّا كان بعد ذلك ، قال: أوقدوا واصطنعوا ، فإنّه لا يدرك قومٌ بعدكم صاعكم ولا مدّكم.
وعند مسلمٍ من حديث جابرٍ مرفوعاً: لا يدخل النّارَ من شهد بدراً والحديبية. وروى مسلمٌ أيضاً من حديث أمّ مبشّرٍ ، أنّها سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل النّار أحدٌ من أصحاب الشّجرة.
وكان السّبب في البيعة تحت الشّجرة. ما ذكر ابن إسحاق قال: حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزمٍ ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أنّ عثمان قد قتل فقال: لئن كانوا قتلوه لأناجزنّهم، فدعا النّاس إلى البيعة
فبايعوه على القتال على أن لا يفرّوا. قال: فبلغهم بعد ذلك أنّ الخبر باطلٌ ، ورجع عثمان.
وذكر أبو الأسود في " المغازي " عن عروة السّبب في ذلك مطوّلاً قال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نزل بالحديبية أحبّ أن يبعث إلى قريشٍ رجلاً يخبرهم بأنّه إنّما جاء معتمراً، فدعا عمر ليبعثه ، فقال: والله لا آمنهم على نفسي، فدعا عثمان فأرسله ، وأمره أن يبشّر المستضعفين من المؤمنين بالفتح قريباً، وأنّ الله سيظهر دينه. فتوجّه عثمان فوجد قريشاً نازلين ببلدحٍ، قد اتّفقوا على أن يمنعوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم من دخول مكّة، فأجاره أبان بن سعيد بن العاص قال: وبعثتْ قريشٌ بديلَ بن ورقاء وسهيلَ بن عمرو إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم " فذكر القصّة المطوّلة في البخاري (1).
قال: وأَمِن النّاس بعضهم بعضاً، وهم في انتظار الصّلح، إذ رمى رجل من الفريقين رجلاً من الفريق الآخر فكانت معاركة، وتراموا بالنّبل والحجارة. فارتهن كلّ فريقٍ من عندهم، ودعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، فجاءه المسلمون وهو نازل تحت الشّجرة التي كان يستظلّ بها، فبايعوه على أن لا يفرّوا، وألقى الله الرّعب في قلوب الكفّار فأذعنوا إلى المصالحة ".
وروى البيهقيّ في " الدّلائل " من مرسل الشّعبيّ. قال: كان أوّل من انتهى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دعا النّاس إلى البيعة تحت الشّجرة أبو سنان الأزديّ.
(1) أخرجها البخاري (2731) في كتاب الشروط. باب " الشروط في الجهاد .. "
وروى مسلم في حديث سلمة بن الأكوع قال: ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة فبايعه أوّل النّاس .. فذكر الحديث.
وقول جابر: لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشّجرة. فهذا يدلّ على أنّه كان يضبط مكانها بعينه، وإذا كان في آخر عمره بعد الزّمان الطّويل يضبط موضعها. ففيه دلالةٌ على أنّه كان يعرفها بعينها ، لأنّ الظّاهر أنّها حين مقالته تلك كانت هلكت إمّا بجفافٍ أو بغيره، واستمرّ هو يعرف موضعها بعينه.
ثمّ وجدت عند ابن سعد بإسنادٍ صحيحٍ عن نافعٍ ، أنّ عمر بلغه ، أنّ قوماً يأتون الشّجرة فيصلّون عندها فتوعّدهم، ثمّ أمر بقطعها فقُطِعت.
قوله: (من حلف على يمينٍ بملةٍ غير الإسلام) الْمِلة - بكسر الميم وتشديد اللام - الدّين والشّريعة، وهي نكرة في سياق الشّرط فتعمّ جميع الْمِلَلِ من أهل الكتاب كاليهوديّة والنّصرانيّة ومَن لَحِق بهم من المجوسيّة والصّابئة وأهل الأوثان والدّهريّة والمعطّلة وعبدة الشّياطين والملائكة وغيرهم.
ولَم يجزم البخاري (1) بالحكم. هل يكفُرُ الحالف بذلك أو لا.؟.
لكنّ تصرّفه يقتضي أن لا يكفُر بذلك ، لأنّه علَّق حديث " من
(1) بوَّب على الحديث بقوله (باب من حلف بملة سوى ملة الإسلام. وقال النبى صلى الله عليه وسلم: من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلَّا الله. ولَم ينسبه إلى الكفر.
حلف باللات والعزّى فليقل لا إله إلَّا الله " (1). ثم قال: ولَم ينسبه إلى الكفر.
وتمام الاحتجاج أن يقول: لكونه اقتصر على الأمر بقول لا إله إلَّا الله، ولو كان ذلك يقتضي الكفر لأمره بتمام الشّهادتين، والتّحقيق في المسألة التّفصيل الآتي.
قال ابن المنذر: اختلف فيمَن قال: أكفر بالله ونحو ذلك إنْ فعلتُ ثمّ فعل.
القول الأول: قال ابن عبّاس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار: لا كفّارة عليه ، ولا يكون كافراً إلَّا إن أضمر ذلك بقلبه.
القول الثاني: قال الأوزاعيّ والثّوريّ والحنفيّة وأحمد وإسحاق: هو يمين، وعليه الكفّارة.
قال ابن المنذر: والأوّل أصحّ لقوله " من حلف باللاّت والعزّى فليقل لا إله إلَّا الله " ولَم يذكر كفّارة، زاد غيره: ولذا قال: من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال. فأراد التّغليظ في ذلك حتّى لا يجترئ أحدٌ عليه.
ونقل أبو الحسن بن القصّار من المالكيّة عن الحنفيّة أنّهم احتجّوا لإيجاب الكفّارة: بأنّ في اليمين الامتناع من الفعل وتضمّن كلامه بما ذكر تعظيماً للإسلام.
(1) أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وتعقّب ذلك: بأنّهم قالوا فيمَن قال: وحقّ الإسلام إذا حنث ، لا تجب عليه كفّارة فأسقطوا الكفّارة إذا صرّح بتعظيم الإسلام وأثبتوها إذا لَم يصرّح.
قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشّيء حقيقةً هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله واللهِ والرّحمنِ، وقد يطلق على التّعليق بالشّيء يمينٌ كقولهم من حلف بالطّلاق فالمراد تعليق الطّلاق ، وأُطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحنث والمنع.
وإذا تقرّر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثّاني لقوله " كاذباً متعمّداً " والكذب يدخل القضيّة الإخباريّة التي يقع مقتضاها تارة، ولا يقع أخرى.
وهذا بخلاف قولنا: والله وما أشهد فليس الإخبار بها عن أمر خارجيّ بل هي لإنشاء القسم فتكون صورة الحلف هنا على وجهين:
أحدهما: أن يتعلق بالمستقبل كقوله: إن فعل كذا فهو يهوديٌّ.
الثّاني: يتعلق بالماضي كقوله: إن كان فعل كذا فهو يهوديٌّ، وقد يتعلق بهذا من لَم ير فيه الكفّارة لكونه لَم يذكر فيه كفّارةً ، بل جعل المرتّب على كذبه قوله " فهو كما قال "
قال ابن دقيق العيد: ولا يكفر في صورة الماضي إلَّا إن قصد التّعظيم، وفيه خلاف عند الحنفيّة. لكونه يتخيّر معنىً فصار كما لو قال: هو يهوديّ.
ومنهم مَن قال: إن كان لا يعلم أنّه يمين لَم يكُفر ، وإن كان يعلم
أنّه يكُفر بالحنث به كَفَر ، لكونه رضي بالكُفر حين أقدم على الفعل.
وقال بعض الشّافعيّة: ظاهر الحديث أنّه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذباً.
والتّحقيق التّفصيل: فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر.
وإن قصد حقيقة التّعليق فينظر: فإن كان أراد أن يكون متّصفاً بذلك كفر؛ لأنّ إرادة الكفر كفرٌ، وإن أراد البعد عن ذلك لَم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيهاً؟.
الثّاني هو المشهور.
قال ابن بطّال: كنت أسأل المُهلَّب كثيراً عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبني بأجوبةٍ مختلفة والمعنى واحد ، قال قوله " فهو كما قال ": يعني فهو كاذب لا كافر، إلَّا أنّه لَمَّا تعمّد الكذب الذي حلف عليه والتزم الملة التي حلف بها ، قال صلى الله عليه وسلم: فهو كما قال. منِ التزام تلك الْمِلّة - إن صحّ قصده بكذبه إلى التزامها في تلك الحالة - لا في وقت ثانٍ إذا كان على سبيل الخديعة للمحلوف له.
قلت: وحاصله أنّه لا يصير بذلك كافراً ، وإنّما يكون كالكافر في حال حلفه بذلك خاصّة.
وتقدّم أنّ غيره حمل الحديث على الزّجر والتّغليظ، وأنّ ظاهره غير مراد، وفيه غير ذلك من التّأويلات.
قوله: (كاذباً متعمّداً) قال عياض: تفرّد بزيادتها سفيان الثّوريّ ، وهي زيادةٌ حسنةٌ يستفاد منها أنّ الحالف المتعمّد إن كان مطمئنّ
القلب بالإيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لَم يكفر، وإن قاله معتقداً لليمين بتلك الملة لكونها حقّاً كفر، وإن قالها لمجرّد التّعظيم لها احتمل.
قلت: وينقدح بأن يقال: إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النّسخ لَم يكفر أيضاً.
ودعواه أنّ سفيان تفرّد بها. إن أراد بالنّسبة لرواية مُسلم فعسى. فإنّه أخرجه من طريق شعبة عن أيّوب وسفيان عن خالد الحذّاء جميعاً عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك. وبيّن أنّ لفظ " متعمّداً " لسفيان.
ولَم ينفرد بها سفيان. فقد أخرجه البخاري من طريق يزيد بن زريع عن خالد، وكذا أخرجها النّسائيّ من طريق محمّد بن أبي عديّ عن خالد.
ولهذه الخصلة في حديث ثابت بن الضّحّاك شاهد من حديث بريدة. أخرجه النّسائيّ ، وصحَّحه من طريق الحسين عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه: مَن قال: إنّي بريءٌ من الإسلام. فإنْ كان كاذباً فهو كما قال، وإنْ كان صادقاً لَم يعد إلى الإسلام سالِماً.
يعني: إذا حلف بذلك، وهو يؤيّد التّفصيل الماضي، ويخصّص بهذا عموم الحديث الماضي.
ويحتمل: أن يكون المراد بهذا الكلام التّهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم، وكأنّه قال: فهو مستحقٌّ مثل عذاب من اعتقد ما قال.
ونظيره " من ترك الصّلاة فقد كفر " أي: استوجب عقوبة من كفر.
وقال ابن المنذر: قوله " فهو كما قال " ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر ، بل المراد أنّه كاذب ككذب المعظّم لتلك الجهة.
قوله: (ومن قتل نفسه بشيءٍ عذّب به يوم القيامة) في رواية لهما " في نار جهنّم " ، وقوله " بشيءٍ " أعمّ ممّا وقع في رواية مسلم " بحديدةٍ "(1).
ولمسلمٍ من حديث أبي هريرة: ومن تحسّى سُمّاً.
قال ابن دقيق العيد: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخرويّة للجنايات الدّنيويّة، ويؤخذ منه أنّ جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم ، لأنّ نفسه ليست ملكاً له مطلقاً بل هي لله تعالى فلا يتصرّف فيها إلَّا بما أذن له فيه. انتهى
قيل: وفيه حجّةٌ لمن أوجب المماثلة في القصاص خلافاً لمن خصّصه بالمحدّد.
وردّه ابن دقيق العيد: بأنّ أحكام الله لا تقاس بأفعاله، فليس كلّ ما ذكر أنّه يفعله في الآخرة يشرع لعباده في الدّنيا كالتّحريق بالنّار مثلاً وسقي الحَمِيم الذي يقطّع به الأمعاء.
(1) وأخرجها البخاري أيضاً من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه (1297) في كتاب الجنائز " باب ما جاء في قاتل النفس ".
وكذا حديث أبي هريرة الذي بعده ، فقد أخرجه البخاري في الطب برقم (5442)
وحاصله أنّه يستدلّ للمماثلة في القصاص بغير هذا الحديث ، وقد استدلّوا بقوله تعالى {وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها} .
قوله: (وليس على رجلٍ نذرٌ فيما لا يملك) وللبخاري بلفظ " وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك " وقد أخرجه التّرمذيّ مقتصراً على هذا القدر من الحديث.
وأخرج أبو داود سبب هذا الحديث مقتصراً عليه أيضاً. ولفظه: نذر رجل على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينحر ببوانة - يعني موضعاً - وهو بفتح الموحّدة وتخفيف الواو وبنونٍ - فذكر الحديث.
وأخرجه مسلم من حديث عمران بن حصينٍ. في قصّة المرأة التي كانت أسيرة فهربت على ناقة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنّ الذين أسروا المرأة انتهبوها. فنذرت إن سلِمتْ أن تنحرها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لا نذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم.
وأخرجه النّسائيّ من حديث عبد الرّحمن بن سمرة ، مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي ثعلبة. الحديث دون القصّة بنحوه.
وأخرجه أبو داود من حديث عمر بلفظ " لا يمين عليك ، ولا نذر في معصية الرّبّ ، ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك ".
وأخرجه أبو داود والنّسائيّ من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مثله، ورواته لا بأس بهم ، لكن اختلف في سنده على عمرٍو.
واختلف فيمن وقع منه النّذر في ذلك. هل تجب فيه كفّارة؟
القول الأول: قال الجمهور: لا.
القول الثاني: عن أحمد والثّوريّ وإسحاق وبعض الشّافعيّة والحنفيّة. نعم.
ونقل التّرمذيّ اختلاف الصّحابة في ذلك كالقولين.
واتّفقوا على تحريم النّذر في المعصية، واختلافهم إنّما هو في وجوب الكفّارة.
واحتجّ من أوجبها بحديث عائشة: لا نذر في معصية وكفّارته كفّارة يمين. أخرجه أصحاب السّنن ورواته ثقات، لكنّه معلولٌ؛ فإنّ الزّهريّ رواه عن أبي سلمة ، ثمّ بيّن أنّه حمله عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. فدلَّسه بإسقاط اثنين، وحسّن الظّنّ بسليمان ، وهو عند غيره ضعيف باتّفاقهم.
وحكى التّرمذيّ عن البخاريّ ، أنّه قال: لا يصحّ.
ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه النّسائيّ. وضعّفه وشواهد أخرى ذكرتها آنفاً، وأخرج الدّارقطنيّ من حديث عديّ بن حاتم نحوه.
وفي الباب أيضاً عموم حديث عقبة بن عامر: كفّارة النّذر كفّارة اليمين. أخرجه مسلم.
وقد حمله الجمهور على نذر اللجاج والغضب.
وبعضهم على النّذر المطلق.
لكن أخرج التّرمذيّ وابن ماجه حديث عقبة بلفظ: كفّارة النّذر إذا لَم يُسمّ كفّارة يمين. ولفظ ابن ماجه " من نذر نذراً لَم يسمّه " الحديث.
وفي الباب حديث ابن عبّاس رفعه: من نذر نذراً لَم يسمّه فكفّارته كفّارة يمين. أخرجه أبو داود، وفيه " ومن نذر في معصية فكفّارته كفّارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفّارته كفّارة يمين " ورواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفاً. وهو أشبه، وأخرجه الدّارقطنيّ من حديث عائشة.
وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه ، لكن قالوا: إنّ النّاذر مخيّر بين الوفاء بما التزمه وكفّارة اليمين، وفي حديث عائشة في البخاري: من نَذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه. وهو بمعنى حديث: لا نذر في معصية. ولو ثبتت الزّيادة لكانت مبينة لِما أُجمل فيه.
واحتجّ بعض الحنابلة: بأنّه ثبت عن جماعة من الصّحابة ، ولا يُحفظ عن صحابيّ خلافه ، قال: والقياس يقتضيه، لأنّ النّذر يمين كما وقع في حديث عقبة (1) لَمَّا نذرت أخته أن تحجّ ماشيةً لتكفّر عن يمينها. فسمّى النّذر يميناً.
ومن حيث النّظر: هو عقده لله تعالى بالتزام شيء، والحالف عقد يمينه بالله ملتزماً بشيء ثمّ بين أنّ النّذر آكدّ من اليمين ، ورتّب عليه
(1) سيأتي في العمدة إن شاء الله برقم (370).
أنّه لو نذر معصية ففعلها لَم تسقط عنه الكفّارة بخلاف الحالف، وهو وجه للحنابلة، واحتجّ له بأنّ الشّارع نهى عن المعصية وأمر بالكفّارة فتعيّنت.
فائدة: استدل بحديث " لا نذر في معصية " لصحّة النّذر في المباح ، لأنّ فيه نفي النّذر في المعصية فبقي ما عداه ثابتاً.
واحتجّ مَن قال: إنّه يشرع في المباح. بما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، وأخرجه أحمد والتّرمذيّ من حديث بريدة ، أنّ امرأة قالت: يا رسولَ الله إنّي نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ، فقال: أوف بنذرك.
وزاد في حديث بريدة ، أنّ ذلك وقت خروجه في غزوة. فنذرت إنْ ردّه الله تعالى سالماً.
قال البيهقيّ: يُشبه أن يكون أذن لها في ذلك لِما فيه من إظهار الفرح بالسّلامة، ولا يلزم من ذلك القول بانعقاد النّذر به.
ويدلّ على أنّ النّذر لا ينعقد في المباح حديث ابن عبّاس في البخاري ، فإنّه أمر النّاذر بأن يقوم ولا يقعد ولا يتكلم ولا يستظلّ ويصوم ولا يفطر بأن يتمّ صومه ويتكلم ويستظلّ ويقعد " فأمره بفعل الطّاعة وأسقط عنه المباح.
وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أيضاً: إنّما النّذر ما يُبتغى به وجه الله.
والجواب عن قصّة التي نذرت الضّرب بالدّفّ: ما أشار إليه
البيهقيّ.
ويمكن أن يقال: إنّ من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوباً كالنّوم في القائلة للتّقوّي على قيام الليل وأكلة السّحر للتّقوّي على صيام النّهار.
فيمكن أن يقال: إنّ إظهار الفرح بعود النّبيّ صلى الله عليه وسلم سالماً معنى مقصود يحصل به الثّواب.
قوله: (ولعن المؤمن كقتله) وللبخاري " ومن لعن مؤمناً فهو كقتله ". واللعن الدّعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى.
وقد أخرج أبو داود عن أبي الدّرداء بسندٍ جيّد رفعه " إنّ العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السّماء، فتغلق أبواب السّماء دونها، ثمّ تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لَم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها ".
وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسندٍ حسن.
وآخر عند أبي داود والتّرمذيّ عن ابن عبّاس. ورواته ثقات، ولكنّه أُعلَّ بالإرسال.