الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
382 -
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحُمر الأهليّة، وأَذِن في لحوم الخيل. (1)
ولمسلم وحده قال: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهليّ. (2)
قوله: (نهى عن لحوم الحمر الأهليّة) أخرج البخاري من طريق سفيان، قال عمرٌو: قلت لجابر بن زيدٍ: يزعمون ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حمر الأهليّة؟ فقال: قد كان يقول ذاك الحكم بن عمرٍو الغفاريّ عندنا بالبصرة ، ولكن أَبَى ذاك البحر ابن عبّاسٍ، وقرأ:{قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً} .
وفي رواية ابن مردويه وصحَّحه الحاكم من طريق محمّد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشّعثاء عن ابن عبّاس ، قال: كان أهل الجاهليّة يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذّراً ، فبعث الله نبيّه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرّم حرامه، فما أحلَّ فيه فهو حلال، وما حرّم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا هذه {قل لا أجد .... إلى آخرها} .
(1) أخرجه البخاري (3982 ، 5201 ، 5204) ومسلم (1941) من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (1941) من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله به.
والاستدلال بهذا للحلِّ إنّما يتمّ فيما لَم يأت فيه نصٌّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتحريمه، وقد تواردت الأخبار بذلك ، والتّنصيص على التّحريم مقدّم على عموم التّحليل وعلى القياس.
وعن ابن عبّاس ، أنّه توقّف في النّهي عن الحمر: هل كان لمعنىً خاصّ، أو للتّأييد؟. ففي البخاري عن الشّعبيّ عنه ، أنّه قال: لا أدري أَنَهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنّه كان حمولة النّاس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرّمها البتّة يوم خيبر؟.
وهذا التّردّد أصحّ من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة.
وكذا فيما أخرجه الطّبرانيّ وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة عن ابن عبّاس قال: إنّما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهليّة مخافة قلّة الظّهر. وسنده ضعيف.
وفي البخاري في حديث ابن أبي أوفى (1) قال: فتحدّثنا أنّه إنّما نهى عنها لأنّها لَم تخمّس ، وقال بعضهم: نَهى عنها لأنّها كانت تأكل العذرة.
قلت: وقد أزال هذه الاحتمالاتِ من كونها لَم تخمّس ، أو كانت جلالة ، أو كانت انتُهبت ، حديثُ أنس في الصحيحين ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاءٍ، فقال: أُكلت الحمر، ثمّ جاءه جاءٍ، فقال: أُكلت الحمر، ثمّ جاءه جاءٍ، فقال: أُفنيت الحمر، فأمر منادياً فنادى في النّاس: إنّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهليّة، فإنّها
(1) هذه إحدى روايات حديث ابن أبي أوفي رضي الله عنه الآتي بعد هذا الحديث من العمدة.
رجسٌ ، فأكفئت القدور، وإنّها لتفور باللحم. حيث قال " فإنها رجسٌ " وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة (1).
قال القرطبيّ: قوله: " فإنّها رجس " ظاهر في عود الضّمير على الحمر لأنّها المتحدّث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجّس، فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دالٌّ على تحريمها لعينها لا لمعنىً خارج.
وقال ابن دقيق العيد: الأمر بإكفاء القدر ظاهر أنّه سبب تحريم لحم الحمر، وقد وردت علل أخرى. إن صحَّ رفع شيء منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يُعلّل الحكم بأكثر من عِلَّة، وحديث أبي ثعلبة (2) صريح في التّحريم فلا معدل عنه.
وأمّا التّعليل بخشية قلة الظّهر. فأجاب عنه الطّحاويّ بالمعارضة بالخيل، فإنّ في حديث جابر النّهي عن الحمر والإذن في الخيل مقروناً، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزّتها وشدّة حاجتهم إليها.
والجواب عن آية الأنعام: أنّها مكّيّة ، وخبر التّحريم متأخّر جدّاً فهو مقدّم.
(1) أخرجه البخاري في " الصحيح "(5497) في كتاب المغازي عن سلمة بن الأكوع قال: لَمّا أمسوا يوم فتحوا خيبر أوقدوا النيران، قال النبي صلى الله عليه وسلم: علامَ أوقدتم هذه النيران؟ قالوا: لحوم الْحُمر الإنسية، قال: أهريقوا ما فيها، واكسروا قدورها ، فقام رجلٌ من القوم، فقال: نهريق ما فيها ونغسلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو ذاك.
(2)
حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه سيأتي شرحه إن شاء الله برقم (284).
وأيضاً: فنصّ الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنّه حينئذٍ لَم يكن نزل في تحريم المأكول إلَّا ما ذكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة، وفيها أيضاً تحريم ما أهلّ لغير الله به والمنخنقة إلى آخره، وكتحريم السّباع والحشرات.
قال النّوويّ: قال بتحريم الحمر الأهليّة أكثر العلماء من الصّحابة فمن بعدهم، ولَم نجد عن أحدٍ من الصّحابة في ذلك خلافاً لهم إلَّا عن ابن عبّاس، وعند المالكيّة ثلاث روايات. ثالثها الكراهة.
وأمّا الحديث الذي أخرجه أبو داود عن غالب بن أبجر ، قال: أصابتنا سنة (1)، فلم يكن في مالي ما أُطعم أهلي إلَّا سمان الْحُمُر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنّك حرّمت لحوم الحمر الأهليّة وقد أصابتنا سنة، قال: أطعم أهلك من سمين حُمرك، فإنّما حرّمتها من أجل جوالي القرية. يعني الجلالة.
وإسناده ضعيف، والمتن شاذّ مخالف للأحاديث الصّحيحة، فالاعتماد عليها.
وأمّا الحديث الذي أخرجه الطّبرانيّ عن أمّ نصر المحاربيّة ، أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهليّة ، فقال: أليس ترعى الكلأ وتأكل الشّجر؟ قال: نعم، قال: فأصب من لحومها.
(1) أي: الجدب والمجاعة.
وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرّة قال: سألت. فذكر نحوه، ففي السّندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التّحريم.
قال الطّحاويّ: لو تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الحمر الأهليّة لكان النّظر يقتضي حلّها ، لأنّ كلّ ما حرّم من الأهليّ أجمع على تحريمه إذا كان وحشيّاً كالخنزير، وقد أجمع العلماء على حلّ الحمار الوحشيّ فكان النّظر يقتضي حلّ الحمار الأهليّ.
قلت: ما ادّعاه من الإجماع مردودٌ، فإنّ كثيراً من الحيوان الأهليّ مختلف في نظيره من الحيوان الوحشيّ كالهرّ.
قوله: (وأذن في لحوم الخيل) وللبخاري " رخّص " بدل " أذن ".
ولمسلم في رواية ابن جريجٍ عن أبي الزبير عن جابر: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهليّ ، وفي حديث ابن عبّاس عند الدّارقطنيّ " أمر "
قال الطّحاويّ: وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجّوا بالأخبار المتواترة في حلّها، ولو كان ذلك مأخوذاً من طريق النّظر لَما كان بين الخيل والحمر الأهليّة فرق، ولكنّ الآثار إذا صحّت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال بها ممّا يوجبه النّظر، ولا سيّما وقد أخبر جابر أنّه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر، فدلَّ ذلك على اختلاف حكمهما.
قلت: وقد نقل الحلَّ بعضُ التّابعين عن الصّحابة من غير استثناء
أحدٍ، فأخرج ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح على شرط الشّيخين عن عطاء قال: لَم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريجٍ: قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم.
وأمّا ما نقل في ذلك عن ابن عبّاس من كراهتها ، فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرّزّاق بسندين ضعيفين.
ويدلّ على ضعف ذلك عنه ما تقدّم صحيحاً عنه أنّه استدل لإباحة الحمر الأهليّة بقوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً} فإنّ هذا - إن صلح مستمسكاً لحل الحمر - صلح للخيل ولا فرق.
وتقدّم فيه أيضاً أنّه توقّف في سبب المنع من أكل الحمر. هل كان تحريماً مؤبّداً. أو بسبب كونها كانت حمولة النّاس؟.
وهذا يأتي مثله من الخيل أيضاً ، فيبعد أن يثبت عنه القول بتحريم الخيل والقول بالتّوقّف في الحمر الأهليّة.
بل أخرج الدّارقطنيّ بسندٍ قويّ عن ابن عبّاس مرفوعاً مثل حديث جابر ، ولفظه: نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهليّة ، وأمر بلحوم الخيل.
وصحّ القول بالكراهة عن الحكم بن عتيبة ومالك وبعض الحنفيّة.
وعن بعض المالكيّة والحنفيّة التّحريم.
وقال الفاكهيّ: المشهور عند المالكيّة الكراهة، والصّحيح عند المحقّقين منهم التّحريم، وقال أبو حنيفة في " الجامع الصّغير ": أكره لحم الخيل. فحمله أبو بكر الرّازيّ على التّنزيه.
وقال: لَم يطلق أبو حنيفة فيه التّحريم ، وليس هو عنده كالحمار الأهليّ، وصحّح عنه أصحاب المحيط والهداية والذّخيرة التّحريم، وهو قول أكثرهم، وعن بعضهم: يأثم آكله ، ولا يسمّى حراماً، وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك المنع ، وأنّه احتجّ بالآية الآتي ذكرها، وأخرج محمّد بن الحسن في " الآثار " عن أبي حنيفة بسندٍ له عن ابن عبّاس نحو ذلك.
وقال القرطبيّ في " شرح مسلم ": مذهب مالك الكراهة، واستدلَّ له ابن بطّال بالآية.
وقال ابن المنيّر: الشّبه الخلقيّ بينها وبين البغال والحمير ممّا يؤكّد القول بالمنع، فمن ذلك هيئتها وزهومة لحمها، وغلظه، وصفة أرواثها، وأنّها لا تجترّ، قال: وإذا تأكّد الشّبه الخلقيّ التحق بنفي الفارق وبعد الشّبه بالأنعام المتّفق على أكلها. انتهى.
وقد تقدّم من كلام الطّحاويّ ما يؤخذ منه الجواب عن هذا.
وقال الشّيخ أبو محمّد بن أبي جمرة: الدّليل في الجواز مطلقاً واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالباً في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله ، ولو كثر لأدّى إلى قتلها فيفضي إلى فنائها فيئول إلى النّقص من إرهاب العدوّ الذي وقع الأمر به في قوله تعالى {ومن رباط الخيل} .
قلت: فعلى هذا فالكراهة لسببٍ خارجٍ وليس البحث فيه، فإنّ الحيوان المتّفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى
ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه، وكذا قوله إنّ وقوع أكلها في الزّمن النّبويّ كان نادراً، فإذا قيل بالكراهة قلَّ استعماله فيوافق ما وقع قبل. انتهى.
وهذا لا ينهض دليلاً للكراهة بل غايته أن يكون خلاف الأولى، ولا يلزم من كون أصل الحيوان حل أكله فناؤه بالأكل.
وأمّا قول بعض المانعين: لو كانت حلالاً لجازت الأضحيّة بها.
فمنتقض بحيوان البرّ ، فإنّه مأكول ولَم تشرع الأضحيّة به، ولعل السّبب في كون الخيل لا تشرع الأضحيّة بها استبقاؤها ، لأنّه لو شرع فيها جميع ما جاز في غيرها لفاتت المنفعة بها في أهمّ الأشياء منها ، وهو الجهاد.
وذكر الطّحاويّ وأبو بكر الرّازيّ وأبو محمّد بن حزم من طريق عكرمة بن عمّار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر والخيل والبغال.
قال الطّحاويّ: وأهل الحديث يضعّفون عكرمة بن عمّار.
قلت: لا سيّما في يحيى بن أبي كثير، فإنّ عكرمة - وإن كان مختلفاً في توثيقه - فقد أخرج له مسلم، لكن إنّما أخرج له من غير روايته عن يحيى بن أبي كثير.
وقد قال يحيى بن سعيد الّقطّان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة.
وقال البخاريّ حديثه عن يحيى مضطرب. وقال النّسائيّ: ليس به
بأس إلَّا في يحيى.
وقال أحمد: حديثه عن غير إياس بن سلمة مضطرب، وهذا أشدّ ممّا قبله، ودخل في عمومه يحيى بن أبي كثير أيضاً.
وعلى تقدير صحّة هذه الطّريق فقد اختلف عن عكرمة فيها، فإنّ الحديث عند أحمد والتّرمذيّ من طريقه ليس فيه للخيل ذكرٌ، وعلى تقدير أن يكون الذي زاده حفظه فالرّوايات المتنوّعة عن جابر المفصّلة بين لحوم الخيل والحمر في الحكم أظهر اتّصالاً ، وأتقن رجالاً ، وأكثر عدداً.
وأعلَّ بعض الحنفيّة حديث جابر. بما نقله عن ابن إسحاق ، أنّه لَم يشهد خيبر. وليس بعلةٍ ، لأنّ غايته أن يكون مرسل صحابيّ.
ومن حُجج من منع أكل الخيل. حديث خالد بن الوليد المخرّج في السّنن ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل.
وتعقّب: بأنّه شاذّ منكر، لأنّ في سياقه أنّه شهد خيبر، وهو خطأ. فإنّه لَم يُسلم إلَّا بعدها على الصّحيح، والذي جزم به الأكثر. أنّ إسلامه كان سنة الفتح.
والعمدة في ذلك على ما قال مصعب الزّبيريّ ، وهو أعلم النّاس بقريشٍ قال: كتب الوليد بن الوليد إلى خالد حين فرّ من مكّة في عمرة القضيّة حتّى لا يرى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمكّة ، فذكر القصّة في سبب إسلام خالد، وكانت عمرة القضيّة بعد خيبر جزماً.
وأُعلّ أيضاً بأنّ في السّند راوياً مجهولاً، لكن قد أخرج الطّبريّ من
طريق يحيى بن أبي كثير عن رجل من أهل حمص قال: كنّا مع خالد، فذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم لحوم الحمر الأهليّة وخيلها وبغالها.
وأُعل بتدليس يحيى وإبهام الرّجل.
وادّعى أبو داود: أنّ حديث خالد بن الوليد منسوخ.
ولَم يبيّن ناسخه. وكذا قال النّسائيّ: الأحاديث في الإباحة أصحّ، وهذا - إن صحّ - كان منسوخاً.
وكأنّه لَمَّا تعارض عنده الخبران ، ورأى في حديث خالد " نهى " ، وفي حديث جابر " أَذِن " حمل الإذن على نسخ التّحريم.
وفيه نظرٌ ، لأنّه لا يلزم من كون النّهي سابقاً على الإذن أن يكون إسلام خالد سابقاً على فتح خيبر، والأكثر على خلافه ، والنّسخ لا يثبت بالاحتمال.
وقد قرّر الحازميّ النّسخ بعد أن ذكر حديث خالد ، وقال:
هو شاميّ المخرج، جاء من غير وجه بما ورد في حديث جابر من " رخّص " و " أذن " ، لأنّه من ذلك يظهر أنّ المنع كان سابقاً والإذن متأخّراً فيتعيّن المصير إليه.
قال: ولو لَم ترد هذه اللفظة لكانت دعوى النّسخ مردودة لعدم معرفة التّاريخ. انتهى.
وليس في لفظ رخّص وأذن ما يتعيّن معه المصير إلى النّسخ، بل الذي يظهر أنّ الحكم في الخيل والبغال والحمير كان على البراءة الأصليّة، فلمّا نهاهم الشّارع يوم خيبر عن الحمر والبغال خشي أن
يظنّوا أنّ الخيل كذلك لشبهها بها فأذن في أكلها دون الحمير والبغال.
والرّاجح. أنّ الأشياء قبل بيان حكمها في الشّرع لا توصف لا بحلٍّ ولا حرمة. فلا يثبت النّسخ في هذا.
ونقل الحازميّ أيضاً تقرير النّسخ بطريقٍ أخرى ، فقال: إنّ النّهي عن أكل الخيل والحمير كان عامّاً من أجل أخذهم لها قبل القسمة والتّخميس، ولذلك أمر بإكفاء القدور، ثمّ بيّن بندائه بأنّ لحوم الحمر رجس أنّ تحريمها لذاتها، وأنّ النّهي عن الخيل إنّما كان بسبب ترك القسمة خاصّة.
ويعكّر عليه: أنّ الأمر بإكفاء القدور إنّما كان بطبخهم فيها الحمر كما هو مصرّح به في الصّحيح لا الخيل ، فلا يتمّ مراده.
والحقّ: أنّ حديث خالد - ولو سُلِّم أنّه ثابت - لا ينهض معارضاً لحديث جابر الدّالّ على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء. (1)
وقد ضعّف حديثَ خالدٍ أحمدُ والبخاريّ وموسى بن هارون والدّارقطنيّ والخطّابيّ وابن عبد البرّ وعبد الحقّ وآخرون.
وجمع بعضهم بين حديث جابر وخالد: بأنّ حديث جابر دالٌّ على الجواز في الجملة. وحديث خالد دالٌّ على المنع في حالة دون حالة، لأنّ الخيل في خيبر كانت عزيزة ، وكانوا محتاجين إليها للجهاد، فلا يعارض النّهي المذكور، ولا يلزم وصف أكل الخيل بالكراهة المطلقة فضلاً عن التّحريم.
(1) أي: الذي تقدّم في العمدة قبله.
وقد وقع عند الدّارقطنيّ في حديث أسماء " كانت لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها ".
وأجاب عن حديث أسماء: بأنّها واقعة عين. فلعلَّ تلك الفرس كانت كبرت بحيث صارت لا ينتفع بها في الجهاد ، فيكون النّهي عن الخيل لمعنىً خارجٍ لا لذاتها، وهو جمع جيّد.
وزعم بعضهم: أنّ حديث جابر في الباب دالٌّ على التّحريم لقوله " رخّص " لأنّ الرّخصة استباحة المخطور مع قيام المانع، فدلَّ على أنّه رخّص لهم فيها بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر، فلا يدلّ ذلك على الحلّ المطلق.
وأجيب: بأنّ أكثر الرّوايات جاء بلفظ الإذن ، وبعضها بالأمر ، فدلَّ على أنّ المراد بقوله " رخّص " أذِنَ. لا خصوص الرّخصة باصطلاح من تأخّر عن عهد الصّحابة.
ونوقض أيضاً: بأنّ الإذن في أكل الخيل لو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهليّة أولى بذلك لكثرتها وعزّة الخيل حينئذٍ.
ولأنّ الخيل يُنتفع بها فيما يُنتفع بالحمير من الحمل وغيره، والحمير لا ينتفع بها فيما ينتفع بالخيل من القتال عليها.
والواقع كما سيأتي صريحاً في الحديث الذي يليه (1) ، أنّه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة القدور التي طبخت فيها الْحُمُر مع ما كان بهم من الحاجة ، فدلَّ ذلك على أنّ الإذن في أكل الخيل إنّما كان للإباحة العامّة لا
(1) انظر حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه الآتي.
لخصوص الضّرورة.
وأمّا ما نقل عن ابن عبّاس ومالك وغيرهما من الاحتجاج للمنع بقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} فقد تمسّك بها أكثر القائلين بالتّحريم.
وقرّروا ذلك بأوجهٍ:
أحدها: أنّ اللام للتّعليل. فدلَّ على أنّها لَم تخلق لغير ذلك، لأنّ العلة المنصوصة تفيد الحصر ، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية.
ثانيها: عطَفَ البغال والحمير فدلَّ على اشتراكها معها في حكم التّحريم ، فيحتاج من أفرد حكمها عن حكم ما عطفت عليه إلى دليل.
ثالثها: أنّ الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كانت ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم ، لأنّه يتعلق به بقاء البنية بغير واسطة، والحكيم لا يمتنّ بأدنى النّعم ويترك أعلاها، ولا سيّما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها.
رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الرّكوب والزّينة.
هذا ملخّص ما تمسّكوا به من هذه الآية.
والجواب على سبيل الإجمال
الجواب الأول: أنّ آية النّحل مكّيّة اتّفاقاً ، والإذن في أكل الخيل
كان بعد الهجرة من مكّة بأكثر من ستّ سنين، فلو فهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لَما أذن في الأكل.
الجواب الثاني: آية النّحل ليست نصّاً في منع الأكل، والحديث صريح في جوازه.
الجواب الثالث: على سبيل التّنزّل ، فإنّما يدلّ ما ذكر على ترك الأكل، والتّرك أعمّ من أن يكون للتّحريم أو للتّنزيه أو خلاف الأولى، وإذا لَم يتعيّن واحد منها بقي التّمسّك بالأدلة المصرّحة بالجواز.
وعلى سبيل التّفصيل.
أوّلاً: فلو سلَّمنا أنّ اللام للتّعليل لَم نسلِّم إفادة الحصر في الرّكوب والزّينة، فإنّه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتّفاقاً، وإنّما ذكر الرّكوب والزّينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل.
ونظيره حديث البقرة المذكور في الصّحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: إنّا لَم نخلق لهذا ، إنّما خلقنا للحرث. فإنّه مع كونه أصرح في الحصر لَم يقصد به الأغلب، وإلَّا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتّفاقاً.
وأيضاً فلو سلّم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير، ولا قائل به.
ثانياً: دلالة العطف إنّما هي دلالة اقتران، وهي ضعيفة.
ثالثاً: الامتنان إنّما قصد به غالباً ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل ، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولَم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزّتها في
بلادهم، بخلاف الأنعام فإنّ أكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل فاقتصر في كلّ من الصّنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشّقّ للزم مثله في الشّقّ الآخر.
رابعاً: لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى. للزم مثله في البقر وغيرها ممّا أبيح أكله ووقع الامتنان بمنفعةٍ له أخرى. والله أعلم.