الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الأشربة
الحديث الأول
395 -
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أنّ عمر قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا بعد ، أيّها النّاس ، إنّه نزل تحريمُ الْخمرِ وهي من خمسةٍ: من العنب والتّمر والعسل والحنطة والشّعير ، والخمر ما خامر العقل.
ثلاثٌ: ودِدْتُ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيها عهداً ننتهي إليه. الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا. (1)
قوله: (نزل تحريم الخمر) الذي يظهر أنّ تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان، لِمَا روى أحمد من طريق عبد الرّحمن بن وعلة قال: سألت ابن عبّاس عن بيع الخمر ، فقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديقٌ من ثقيف أو دوس ، فلقيه يوم الفتح براويةِ خمرٍ يهديها إليه، فقال: يا فلان. أما علمتَ أنّ الله حرّمها؟ فأقبل الرّجل على غلامه ، فقال: بعها. فقال: إنّ الذي حرّم شربها حرّم بيعها.
وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي وعلة نحوه، ولكن ليس فيه تعيين الوقت.
وروى أحمد من طريق نافع بن كيسان الثّقفيّ عن أبيه ، أنّه كان
(1) أخرجه البخاري (4343 ، 5259 ، 5266) ومسلم (3032) من طرق عن أبي حيان التيمي عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنه به.
وللبخاري (5267) من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي مختصراً. دون آخره.
يتّجر في الخمر، وأنّه أقبل من الشّام فقال: يا رسولَ الله: إنّي جئتك بشرابٍ جيّد، فقال: يا كيسان إنّها حُرّمت بعدك، قال: فأبيعها؟ قال: إنّها حرّمت وحرّم ثمنها.
وروى أحمد وأبو يعلى من حديث تميم الدّاريّ ، أنّه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ عام راوية خمر، فلمّا كان عام حرّمت جاء براويةٍ فقال: أشعرت أنّها قد حرّمت بعدك؟ قال: أفلا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فنهاه.
ويستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ابن عبّاس، ومن حديث تميم تأييد الوقت المذكور ، فإنّ إسلام تميم كان بعد الفتح.
تكميل: روى النّسائيّ والبيهقيّ من طريق ابن عبّاس قال: نزل تحريم الخمر في ناسٍ شربوا، فلمّا ثملوا عبثوا، فلمّا صحوا جعل بعضهم يرى الأثر بوجه الآخر فنزلت، فقال ناسٌ من المكلَّفين: هي رجس ، وهي في بطن فلان ، وقد قتل بأحدٍ، فنزلت {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصّالحات جناحٌ} إلى آخرها
وروى البزّار من حديث جابر ، أنّ الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود.
وروى أصحاب السّنن من طريق أبي ميسرة عن عمر ، أنّه قال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت الآية التي في البقرة {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ} فقُرِئت عليه، فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً
، فنزلت التي في النّساء {لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} فقُرِئت عليه، فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في المائدة {فاجتنبوه - إلى قوله - منتهون} فقال عمر: انتهينا انتهينا. وصحَّحه عليّ بن المدينيّ والتّرمذيّ.
وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة نحوه دون قصّة عمر، لكن قال عند نزول آية البقرة " فقال النّاس: ما حرم علينا، فكانوا يشربون، حتّى أمّ رجلٌ أصحابَه في المغرب فخلط في قراءته ، فنزلت الآية التي في النّساء، فكانوا يشربون ولا يقرب الرّجل الصّلاة حتّى يفيق، ثمّ نزلت آية المائدة ، فقالوا: يا رسولَ الله ناس قتلوا في سبيل الله ، وماتوا على فرشهم ، وكانوا يشربونها، فأنزل الله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصّالحات جناحٌ} الآية. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لو حرّم عليهم لتركوه كما تركتموه.
وفي مسند الطّيالسيّ من حديث ابن عمر نحوه، وقال في الآية الأولى: قيل حرّمت الخمر، فقالوا: دعنا يا رسولَ الله ننتفع بها، وفي الثّانية ، فقيل حرّمت الخمر، فقالوا: لا إنّا لا نشربها قرب الصّلاة، وقال في الثّالثة ، فقالوا: يا رسولَ الله حرّمت الخمر.
قوله: (أنّ عمر قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولهما من رواية أبي حيان التيمي عن الشعبي عن ابن عمر قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. زاد مسلم " فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد. أَلا وإن الخمر .. "
قوله: (أمّا بعد ، أيّها النّاس) وللبخاري عن مسدد عن يحيى عن أبي حيان " أمّا بعد نزل تحريم الخمر .. ".
قال ابن مالك: فيه جواز حذف الفاء في جواب " أمّا بعد ".
قلت: لا حجّة فيه، لأنّ هذه رواية مسدّد هنا، وللبخاري عن أحمد بن أبي رجاء عن يحيى القطّان بلفظ " خطب عمر على المنبر فقال: إنّه قد نزل تحريم الخمر " ليس فيه: أمّا بعد.
وأخرجه الإسماعيليّ هنا من طريق محمّد بن أبي بكر المقدّميّ عن يحيى بن سعيد القطّان - شيخ مسدّد - وفيه بلفظ " أمّا بعد ، فإنّ الخمر ".
فظهر أنّ حذف الفاء وإثباتها من تصرّف الرّواة.
قوله: (نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة) الجملة حاليّة ، أي: نزل تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خمسة.
ويجوز: أن تكون استئنافيّة أو معطوفة على ما قبلها، والمراد أنّ الخمر تصنع من هذه الأشياء لا أنّ ذلك يختصّ بوقت نزولها.
والأوّل أظهر ، لأنّه وقع في رواية مسلم بلفظ " أَلَا وإنّ الخمر نزل تحريمها يوم نزل ، وهي من خمسة أشياء ".
نعم. وقع في البخاري من وجه آخر " وإنّ الخمر تصنع من خمسة ".
قوله: (من العنب إلخ) هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة ، لأنّ له عندهم حكم الرّفع ، لأنّه خبر صحابيّ شهد التّنزيل أخبر عن سبب نزولها، وقد خطب به عمر
على المنبر بحضرة كبار الصّحابة وغيرهم ، فلم يُنقل عن أحدٍ منهم إنكاره.
وأراد عمر بنزول تحريم الخمر آية المائدة {يا أيّها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر} إلى آخرها. فأراد عمر التّنبيه على أنّ المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصّاً بالمتّخذ من العنب ، بل يتناول المتّخذ من غيرها.
ويوافقه حديث أنس (1) فإنّه يدلّ على أنّ الصّحابة فهموا من تحريم الخمر تحريم كلّ مسكر. سواء كان من العنب أم من غيرها.
وقد جاء هذا الذي قاله عمر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم صريحاً.
فأخرج أصحاب السّنن الأربعة. وصحَّحه ابن حبّان من وجهين عن الشّعبيّ ، أنّ النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(1) أخرجه البخاري (2332 ، 4342 ، 4344 ، 5258 ، 5260 ، 5262) ومواضع أخرى ، ومسلم (1980) من طرق عن أنس قال: كنتُ أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبيَّ بن كعب، من فضيخِ زهوٍ وتمرٍ، فجاءهم آت ، فقال: إنَّ الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها، فأهرقتها.
قال ابن حجر في " الفتح ": قوله (من فضيخ زهو وتمر) الفضيخ - بفاء وضاد معجمتين - وزن عظيم اسم للبسر إذا شدخ ونبذ ، وأما الزهو - فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو - وهو البسر الذي يحمرّ أو يصفرّ قبل أن يترطَّب ، وقد يُطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب كما يُطلق على خليط البسر والتمر. وكما يُطلق على البسر وحده ، وعلى التمر وحده. كما قال أنس في البخاري: أنَّ الخمر حُرّمت وهي يومئذ البسر والتمر ، وعند أحمد من طريق قتادة عن أنس: وما خمرهم يومئذ إلَّا البسر والتمر مخلوطين ، ووقع عند مسلم من طريق قتادة عن أنس: أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر. انتهى
إنّ الخمر من العصير والزّبيب والتّمر والحنطة والشّعير والذّرة، وإنّي أنهاكم عن كلّ مسكر. لفظ أبي داود، وكذا ابن حبّان، وزاد فيه: أنّ النّعمان خطب النّاس بالكوفة.
ولأبي داود من وجه آخر عن الشّعبيّ عن النّعمان بلفظ: إنّ من العنب خمراً، وإنّ من التّمر خمراً، وإنّ من العسل خمراً، وإنّ من البرّ خمراً، وإنّ من الشّعير خمراً، ومن هذا الوجه. أخرجها أصحاب السّنن، والتي قبلها فيها الزّبيب دون العسل.
ولأحمد من حديث أنس بسندٍ صحيح عنه قال: الخمر من العنب والتّمر والعسل والحنطة والشّعير ، وأخرجه أبو يعلى من هذا الوجه بلفظ: حرّمت الخمر يوم حرّمت وهي. فذكرها ، وزاد. الذّرة.
وأخرج الْخِلَعيّ (1) في " فوائده " من طريق خلاد بن السّائب عن أبيه رفعه ، مثل الرّواية الثّانية، ولكن ذكر الزّبيب بدل الشّعير، وسنده لا بأس به.
ويوافق ذلك ما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر: نزل تحريم الخمر ، وإنّ بالمدينة يومئذٍ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب.
قوله " الذّرة " بضمّ المعجمة وتخفيف الرّاء من الحبوب معروفة.
قوله: (والخمر ما خامر العقل) أي: غطّاه أو خالطه ، فلم يتركه
(1) هو أبو الحسن علي بن الحسين الموصلي. ولد بمصر سنة 405. وتوفي بها سنة 492.
قال ابن خلكان في " وفيات الأعيان "(3/ 318): والخلعي: بكسر الخاء المعجمة وفتح اللام وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى الخلع ، ونسب إليها أبو الحسن المذكور لأنَّه كان يبيع بمصر الْخلع لأملاك مصر، فاشتهر بذلك وعرف به. انتهى
على حاله وهو من مجاز التّشبيه.
والعقل هو آلة التّمييز ، فلذلك حرّم ما غطّاه أو غيَّره، لأنّ بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه.
قال الكرمانيّ: هذا تعريف بحسب اللّغة، وأمّا بحسب العرف ، فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصّة.
كذا قال ، وفيه نظرٌ ، لأنّ عمر ليس في مقام تعريف اللّغة ، بل هو في مقام تعريف الحكم الشّرعيّ، فكأنّه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشّرع هو ما خامر العقل. على أنّ عند أهل اللّغة اختلافاً في ذلك، ولو سلم أنّ الخمر في اللّغة يختصّ بالمتّخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشّرعيّة.
وقد تواردت الأحاديث على أنّ المسكر من المتّخذ من غير العنب يسمّى خمراً، والحقيقة الشّرعيّة مقدّمة على اللّغويّة.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول: الخمر من هاتين الشّجرتين النّخلة والعنبة.
قال البيهقيّ. ليس المراد الحصر فيهما ، لأنّه ثبت أنّ الخمر تتّخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنّما فيه الإشارة إلى أنّ الخمر شرعاً لا تختصّ بالمتّخذ من العنب.
قلت: وجعل الطّحاويُّ هذه الأحاديث متعارضة، وهي حديث أبي هريرة في أنّ الخمر من شيئين مع حديث عمر. ومن وافقه أنّ الخمر تتّخذ من غيرهما، وكذا حديث ابن عمر: لقد حرّمت الخمر
وما بالمدينة منها شيء (1).
وحديث أنس. واختلاف ألفاظه منها: إنّ الخمر حرّمت وشرابهم الفضيخ. وفي لفظ له: إنّا نعدّها يومئذٍ خمراً ، وفي لفظ له: إنّ الخمر يوم حرّمت البسر والتّمر. (2)
قال: فلمّا اختلف الصّحابة في ذلك ، ووجدنا اتّفاق الأمّة على أنّ عصير العنب إذا اشتدّ وغلى وقذف بالزّبد فهو خمر ، وأنّ مستحلّه كافر ، دلَّ على أنّهم لَم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفّروا مستحلّ نبيذ التّمر، فثبت أنّه لَم يدخل في الخمر غير المتّخذ من عصير العنب. انتهى
ولا يلزم من كونهم لَم يُكفّروا مُستحلّ نبيذ التّمر أن يمنعوا تسميته خمراً ، فقد يشترك الشّيئان في التّسمية ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أنّه هو يوافق على أنّ حكم المسكر من نبيذ التّمر حكم قليل العنب في التّحريم، فلم تبق المشاححة إلَّا في التّسمية.
والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره.
بحمل حديث أبي هريرة على الغالب؛ أي: أكثر ما يتّخذ الخمر من العنب والتّمر.
ويُحمل حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذكر ما عهد
(1) أخرجه البخاري (5257).
(2)
أخرجه البخاري (5262) عن بكر بن عبد الله، أنَّ أنس بن مالك حدَّثهم: أنَّ الخمر حُرِّمت، والخمر يومئذ البسر والتمر.
وانظر حديثه الآخر الذي تقدّم تخريجه قبل قليل.
حينئذٍ أنّه يتّخذ منه الخمر.
وأمّا قول ابن عمر. فعلى إرادة تثبيت أنّ الخمر يطلق على ما لا يتّخذ من العنب، لأنّ نزول تحريم الخمر لَم يصادف عند من خوطب بالتّحريم حينئذٍ إلَّا ما يتّخذ من غير العنب ، أو على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجودها بالمدينة. وإن كانت موجودة فيها بقلةٍ، فإنّ تلك القلة بالنّسبة لكثرة المتّخذ ممّا عداها كالعدم. فأطلق النفي كما يقال فلان ليس بشيء مبالغة.
ويؤيده. قول أنس عند البخاري: حرمت علينا الخمر حين حرمت، وما نجد - يعني بالمدينة - خمر الأعناب إلا قليلاً، وعامَّة خمرنا البسر والتمر.
ويحتمل: أن يكون مراد بن عمر وما بالمدينة منها شيء. أي يُعصر.
قال الرّاغب في " مفردات القرآن ": سُمِّي الخمر لكونه خامراً للعقل ، أي: ساتراً له، وهو عند بعض النّاس اسم لكل مسكر ، وعند بعضهم للمتّخذ من العنب خاصّة، وعند بعضهم للمتّخذ من العنب والتّمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ.
فرجّح أنّ كلّ شيء يستر العقل يسمّى خمراً حقيقة.
وكذا قال أبو نصر بن القشيريّ في " تفسيره ": سُمّيت الخمر خمراً لسترها العقل أو لاختمارها. وكذا قال غير واحد من أهل اللّغة. منهم أبو حنيفة الدّينوريّ وأبو نصر الجوهريّ.
ونقل عن ابن الأعرابيّ قال: سُمّيت الخمر لأنّها تركت حتّى
اختمرت، واختمارها تغيّر رائحتها.
وقيل: سُمّيت بذلك لمخامرتها العقل.
نعم. جزم ابن سيده في " المحكم " بأنّ الخمر حقيقة إنّما هي للعنب، وغيرها من المسكرات يسمّى خمراً مجازاً.
وقال صاحب " الفائق " في حديث " إيّاكم والغبيراء فإنّها خمر العالم "(1): هي نبيذ الحبشة متّخذة من الذّرة سُمِّيت الغبيراء لِمَا فيها من الغبرة. وقوله: " خمر العالم ". أي: هي مثل خمر العالم ، لا فرق بينها وبينها.
قلت: وليس تأويله هذا بأولى من تأويل مَن قال: أراد أنّها معظم خمر العالم.
وقال صاحب " الهداية " من الحنفيّة: الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتدّ، وهو المعروف عند أهل اللّغة وأهل العلم.
قال: وقيل: هو اسم لكل مسكر لقوله صلى الله عليه وسلم: كلّ مسكر خمر. (2)، وقوله: الخمر من هاتين الشّجرتين. ولأنّه من مخامرة العقل وذلك موجود في كلّ مسكر.
(1) أخرجه الإمام أحمد في " المسند "(15481) وابن أبي شيبة في " المصنف "(8/ 198) من طريق يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة عن قيس بن سعد بن عبادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن ربي حرم عليَّ الخمر والكوبة والقنين، وإياكم والغُبيراء، فإنها ثلث خمر العالم.
وسنده ضعيف لضعف عبيد الله بن زحر ، والانقطاع بين بكر بن سوادة وقيس بن سعد رضي الله عنه
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (2003) عن ابن عمر رضي الله عنه.
قال: ولنا إطباق أهل اللّغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأنّ تحريم الخمر قطعيّ وتحريم ما عدا المتّخذ من العنب ظنّيّ.
قال: وإنّما سُمِّي الخمر خمراً لتخمّره. لا لمخامرة العقل.
قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصّاً فيه، كما في النّجم فإنّه مشتقّ من الظّهور ثمّ هو خاصّ بالثّريّا. انتهى.
والجواب عن الحجّة الأولى: ثبوت النّقل عن بعض أهل اللّغة: بأنّ غير المتّخذ من العنب يسمّى خمراً.
وقال الخطّابيّ: زعم قوم أنّ العرب لا تعرف الخمر إلَّا من العنب، فيقال لهم: إنّ الصّحابة الذين سمّوا غير المتّخذ من العنب خمراً، عرب فصحاء، فلو لَم يكن هذا الاسم صحيحاً لَما أطلقوه.
وقال ابن عبد البرّ: قال الكوفيّون: إنّ الخمر من العنب لقوله تعالى: {أعصر خمراً} قال: فدلَّ على أنّ الخمر هو ما يعتصر لا ما ينتبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر.
وقال أهل المدينة وسائر الحجازيّين وأهل الحديث كلّهم: كلّ مسكر خمر ، وحكمه حكم ما اتّخذ من العنب.
ومن الحجّة لهم: أنّ القرآن لَمَّا نزل بتحريم الخمر ، فهم الصّحابة وهم أهل اللسان ، أنّ كلّ شيء يسمّى خمراً يدخل في النّهي ، فأراقوا المتّخذ من التّمر والرّطب ، ولَم يخصّوا ذلك بالمتّخذ من العنب.
وعلى تقدير التّسليم فإذا ثبت تسمية كلّ مسكر خمراً من الشّرع كان
حقيقة شرعيّة ، وهي مقدّمة على الحقيقة اللّغويّة.
والجواب عن الثّانية: أنّ اختلاف مشتركَين في الحكم في الغِلَظ لا يلزم منه افتراقهما في التّسمية، كالزّنا مثلاً ، فإنّه يصدق على من وطئ أجنبيّة وعلى من وطئ امرأة جاره، والثّاني أغلظ من الأوّل، وعلى من وطئ محرماً له وهو أغلظ، واسم الزّنا مع ذلك شامل للثّلاثة.
وأيضاً فالأحكام الفرعيّة لا يشترط فيها الأدلة القطعيّة، فلا يلزم من القطع بتحريم المتّخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتّخذ من غيره، أن لا يكون حراماً بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريقٍ ظنّيّ تحريمه، وكذا تسميته خمراً. والله أعلم.
الجواب عن الثّالثة: ثبوت النّقل عن أعلم النّاس بلسان العرب بما نفاه هو، وكيف يستجيز أن يقول لا لمخامرة العقل مع قول عمر بمحضر الصّحابة " الخمر ما خامر العقل "؟ كأنّ مستنده ما ادّعاه من اتّفاق أهل اللّغة. فيحمل قول عمر على المجاز.
لكن اختلف قول أهل اللّغة في سبب تسمية الخمر خمراً.
فقال أبو بكر بن الأنباريّ: سُمِّيت الخمر خمراً ، لأنّها تخامر العقل. أي: تخالطه، قال: ومنه قولهم: خامره الدّاء أي خالطه.
وقيل: لأنّها تخمّر العقل. أي: تستره.
ومنه حديث جابر في الصحيحين " خمّروا آنيتكم " ، ومنه خمار المرأة ، لأنّه يستر وجهها، وهذا أخصّ من التّفسير الأوّل ، لأنّه لا يلزم من المخالطة التّغطية.
وقيل: سُمِّيت خمراً ، لأنّها تُخمَّر حتّى تدرك كما يقال: خمّرت العجين فتخمّر. أي: تركته حتّى أدرك، ومنه خمّرت الرّأي ، أي: تركته حتّى ظهر وتحرّر.
وقيل: سُمِّيت خمراً لأنّها تغطّى حتّى تغلي.
ومنه حديث المختار بن فلفل ، قلت لأنسٍ: الخمر من العنب أو من غيرها؟ قال: ما خمّرت من ذلك فهو الخمر. أخرجه ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح.
ولا مانع من صحّة هذه الأقوال كلّها ، لثبوتها عن أهل اللّغة وأهل المعرفة باللسان. (1)
قال ابن عبد البرّ: الأوجه كلّها موجودة في الخمرة ، لأنّها تركت حتّى أدركت وسكنت، فإذا شربت خالطت العقل حتّى تغلب عليه وتغطّيه.
وقال القرطبيّ: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره - على صحّتها وكثرتها - تبطل مذهب الكوفيّين القائلين: بأنّ الخمر لا يكون إلَّا من العنب ، وما كان من غيره لا يسمّى خمراً ولا يتناوله اسم الخمر.
وهو قول مخالف للغة العرب وللسّنّة الصّحيحة وللصّحابة، لأنّهم لَمَّا نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كلّ مسكر، ولَم يفرّقوا بين ما يتّخذ من العنب وبين ما يتّخذ من غيره، بل سوّوا
(1) تقدَّم نقل كلام اللغويين فيه قبل قليل.
بينهما وحرّموا كلّ ما يسكر نوعه ولَم يتوقّفوا ولا استفصلوا، ولَم يشكل عليهم شيء من ذلك ، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردّد لتوقّفوا عن الإراقة حتّى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحقّقوا التّحريم لِما كان تقرّر عندهم من النّهي عن إضاعة المال، فلمّا لَم يفعلوا ذلك وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنّهم فهموا التّحريم نصّاً، فصار القائل بالتّفريق سالكاً غير سبيلهم، ثمّ انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك، وهو ممّن جعل الله الحقّ على لسانه وقلبه، وسمعه الصّحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحدٍ منهم إنكار ذلك. وإذا ثبت أنّ كلّ ذلك يسمّى خمراً لزم تحريم قليله وكثيره. وقد ثبتت الأحاديث الصّحيحة في ذلك. ثمّ ذكرها.
قال: وأمّا الأحاديث عن الصّحابة التي تمسّك بها المخالف ، فلا يصحّ منها شيء على ما قال عبد الله بن المبارك وأحمد وغيرهم، وعلى تقدير ثبوت شيء منها فهو محمول على نقيع الزّبيب أو التّمر من قبل أن يدخل حدّ الإسكار جمعاً بين الأحاديث.
قلت: ويؤيّده ثبوت مثل ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم (1)، ولا فرق في الحلّ
(1) أخرج البخاري (5176) باب الانتباذ في الأوعية والتور ، ومواضع أخرى ، ومسلم (2006) عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أُسيد الساعدي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عُرسه، وكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهي العروس، قال سهل: تدرون ما سَقَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعتْ له تمراتٍ من الليل، فلمَّا أَكَلَ، سقتْه إيّاه.
وللبخاري: بلّتْ تمرات في تورٍ من حجارة من الليل فلمَّا فرغَ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أماثَتْه (أي مرسته بيدها) له فسقته تُتحفه بذلك.
قال ابن حجر في " الفتح ": عبَّر البخاري في الترجمة بالانتباذ إشارةً إلى أن النقيع يُسمى نبيذاً، فيُحمل ما ورد في الأخبار بلفظ النبيذ على النقيع، وقد ترجم له بعد قليل " باب نقيع التمر ما لم يسكر ".
قال المهلب: النقيع حلالٌ ما لم يشتدّ فإذا اشتدَّ وغلى حرُم. وشرَطَ الحنفيةُ أنْ يقذف بالزبد، قال: وإذا نُقع من الليل وشُرب النهار أو بالعكس لم يشتدّ، وفيه حديث عائشة.
يشير إلى ما أخرجه مسلم عن عائشة " كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء توكي أعلاه فيشربه عشاء، وتنبذه عشاء فيشربه غدوة " وعند أبي داود من وجه آخر عن عائشة ، أنها كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان من العشي تعشَّى فشرب على عشائه، فإن فضلَ شيء صبته ثم تنبذ له بالليل، فإذا أصبح وتغدى شرب على غدائه، قالت نغسل السقاء غدوة وعشية "
وفي حديث عبد الله بن الديلمي عن أبيه ، قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نصنع بالزبيب؟ قال: انبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم " أخرجه أبو داود والنسائي.
فهذه الأحاديث فيها التقييد باليوم والليلة.
وأما ما أخرج مسلمٌ من حديث ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنبذ له الزبيب من الليل في السقاء، فإذا أصبح شربَه يومه وليلته ومن الغد، فإذا كان مساء شربه أو سقاه الخدم، فإنْ فضَلَ شيءٌ أراقه ".
وقال ابن المنذر: الشراب في المُدّة التي ذكرتها عائشة يشرب حلواً، وأما الصفة التي ذكرها ابن عباس فقد ينتهي إلى الشدَّة والغليان، لكن يُحمل ما ورد من أمر الخدَمِ بشربه على أنه لم يبلغ ذلك ، ولكن قرب منه، لأنه لو بلغ ذلك لأسكر. ولو أسكر لحرم تناوله مطلقاً. انتهى.
وقد تمسَّك بهذا الحديث من قال بجواز شرب قليل ما أسكر كثيره، ولا حجة فيه لأَنّه ثبت أنه بدا فيه بعضُ تغير في طعمه من حمض أو نحوه فسقاه الخدم، وإلى هذا أشار أبو داود فقال بعد أن أخرجه: قوله: " سقاه الخدم " يريد أنه تبادر به الفساد. انتهى.
ويحتمل: أن يكون " أو " في الخبر للتنويع لأنه قال: " سقاه الخدم أو أمر به فأهرق " أي إن كان بدا في طعمه بعض التغيّر ولم يشتد سقاه الخدم، وإن كان اشتد أمر بإهراقه.
وبهذا جزم النووي. فقال: هو اختلاف على حالين إن ظهر فيه شدّة صبّه وإن لم تظهر شدة سقاه الخدم لئلا تكون فيه إضاعة مال، وإنما يتركه هو تنزها. وجمع بين حديث ابن عباس وعائشة بأنَّ شرب النقيع في يومه لا يمنع شرب النقيع في أكثر من يوم.
ويحتمل: أن يكون باختلاف حال أو زمان يحمل الذي يشرب في يومه على ما إذا كان قليلا وذاك على ما إذا كان كثيرا فيفضل منه ما يشربه فيما بعد، وإما بأن يكون في شدة الحر مثلا فيسارع إليه الفساد، وذاك في شدة برد فلا يتسارع إليه. انتهى كلامه
بينه وبين عصير العنب أوّل ما يُعصر، وإنّما الخلاف فيما اشتدّ منهما. هل يفترق الحكم فيه أو لا؟
وقد ذهب بعض الشّافعيّة إلى موافقة الكوفيّين في دعواهم. أنّ اسم الخمر خاصّ بما يتّخذ من العنب ، مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم ، وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كلّ شراب.
فقال الرّافعيّ: ذهب أكثر الشّافعيّة ، إلى أنّ الخمر حقيقة فيما يتّخذ من العنب مجاز في غيره.
وخالفه ابن الرّفعة فنقل عن المزنيّ وابن أبي هريرة وأكثر الأصحاب ، أنّ الجميع يُسمّى خمراً حقيقة.
قال: وممّن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان أبو الطّيّب والرّويانيّ، وأشار ابن الرّفعة إلى أنّ النّقل الذي عزاه الرّافعيّ للأكثر لَم يجد نقله عن الأكثر إلَّا في كلام الرّافعيّ.
ولَم يتعقّبه النّوويّ في " الرّوضة "، لكنّ كلامه في " شرح مسلم " يوافقه وفي " تهذيب الأسماء " يخالفه.
وقد نقل ابن المنذر عن الشّافعيّ ما يوافق ما نقلوا عن المزنيّ ، فقال: قال إنّ الخمر من العنب ومن غير العنب. عمر وعليّ وسعيد وابن
عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عبّاس وعائشة، ومن التّابعين سعيد بن المسيّب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون، وهو قول مالك والأوزاعيّ والثّوريّ وابن المبارك والشّافعيّ وأحمد وإسحاق وعامّة أهل الحديث.
ويمكن الجمع: بأنّ من أطلق على غير المتّخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشّرعيّة، ومن نفى أراد الحقيقة اللّغويّة.
وقد أجاب بهذا ابن عبد البرّ ، وقال: إنّ الحكم إنّما يتعلق بالاسم الشّرعيّ دون اللّغويّ. والله أعلم.
ويلزم مَن قال بقول أهل الكوفة: إنّ الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره ، أن يجوّزوا إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأنّ الصّحابة لَمَّا بلغهم تحريم الخمر أراقوا كلّ ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازاً، وإذا لَم يجوّزوا ذلك صحّ أنّ الكلّ خمر حقيقة ولا انفكاك عن ذلك.
وعلى تقدير إرخاء العنان والتّسليم أنّ الخمر حقيقة في ماء العنب خاصّة ، فإنّما ذلك من حيث الحقيقة اللّغويّة، فأمّا من حيث الحقيقة الشّرعيّة فالكلّ خمر حقيقة لحديث " كلّ مسكر خمر " فكلّ ما اشتدّ كان خمراً، وكلّ خمر يحرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم. وبالله التّوفيق.
قوله: (وثلاث) هي صفة موصوف. أي: أمور أو أحكام.
قوله: (وددتُ) أي: تمنّيت، وإنّما تمنّى ذلك ، لأنّه أبعد من
محذور الاجتهاد وهو الخطأ فيه، فثبت على تقدير وقوعه، ولو كان مأجوراً عليه فإنّه يفوته بذلك الأجر الثّاني، والعمل بالنّصّ إصابة محضة.
قوله: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيها عهداً ننتهي إليه) وللبخاري " لَم يفارقنا حتّى يعهد إلينا عهداً " ، وهذا يدلّ على أنّه لَم يكن عنده عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نصٌّ فيها، ويشعر بأنّه كان عنده عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الخمر ما لَم يحتج معه إلى شيء غيره حتّى خطب بذلك جازماً به.
قوله: (الجدّ) الجدّ هنا من يكون من قِبَل الأب ، وقد انعقد الإجماع على أنّ الجدّ لا يرث مع وجود الأب. (1)
والمراد هنا قدر ما يرث مع الأخوة الأشقّاء ومن الأب ، لأنّ الصّحابة اختلفوا في ذلك اختلافاً كثيراً.
وعن عمر أنّه قضى فيه بقضايا مختلفة.
فأخرج الدّارميّ بسندٍ صحيحٍ عن الشّعبيّ قال: أوّل جدٍّ ورث في الإسلام عمر ، فأخذ ماله فأتاه عليٌّ وزيدٌ يعني ابن ثابتٍ ، فقالا: ليس لك ذلك ، إنّما أنت كأحد الأخوين ".
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الرّحمن بن غنمٍ مثله ، دون قوله " فأتاه .. إلخ ، لكن قال: فأراد عمر أن يحتاز المال ، فقلت له: يا أمير المؤمنين إنّهم شجرةٌ دونك يعني بني أبيه.
(1) تقدَّم الكلام على مسألة الجد مع الأخوة. انظر حديث ابن عباس (301).
وأخرج الدّارقطنيّ بسندٍ قويٍّ عن زيد بن ثابتٍ ، أنّ عمر أتاه فذكر قصّةً فيها أنّ مثل الجدّ كمثل شجرةٍ نبتت على ساقٍ واحدٍ ، فخرج منها غصنٌ ثمّ خرج من الغصن غصنٌ ، فإن قطعت الغصن رجع الماء إلى السّاق ، وإن قطعت الثّاني رجع الماء إلى الأوّل ، فخطب عمر النّاس ، فقال: إنّ زيداً قال في الجدّ قولاً وقد أمضيته.
وأخرج الدّارميّ من طريق إسماعيل بن أبي خالدٍ قال: قال عمر: خذ من الجدّ ما اجتمع عليه النّاس. وهذا منقطعٌ.
وأخرج الدّارميّ من طريق عيسى الخيّاط عن الشّعبيّ قال: كان عمر يقاسم الجدّ مع الأخ والأخوين ، فإذا زادوا أعطاه الثّلث ، وكان يعطيه مع الولد السّدس ".
وأخرج البيهقيّ بسندٍ صحيحٍ عن سعيد بن المسيّب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقبيصة بن ذؤيبٍ ، أنّ عمر قضى أنّ الجدّ يقاسم الإخوة للأب والأمّ والإخوة للأب ما كانت المقاسمة خيراً له من الثّلث ، فإن كثر الإخوة أعطي الجدّ الثّلث.
وأخرج يزيد بن هارون في " كتاب الفرائض " عن هشام بن حسّان عن محمّد بن سيرين عن عبيدة بن عمرٍو ، قال: إنّي لأحفظ عن عمر في الجدّ مائة قضيّةٍ كلّها ينقض بعضها بعضاً.
وروّينا في الجزء الحادي عشر من " فوائد أبي جعفرٍ الرّازيّ " بسند صحيح إلى ابن عونٍ عن محمّد بن سيرين. سألت عَبيدة عن الجدّ؟
فقال: قد حفظت عن عمر في الجدّ مائة قضيّةٍ مختلفةٍ.
وقد استبعد بعضهم هذا عن عمر ، وتأوّل البزّار صاحب المسند قوله " قضايا مختلفةٍ " على اختلاف حال من يرث مع الجدّ ، كأن يكون أخٌ واحدٌ أو أكثر أو أختٌ واحدةٌ أو أكثر.
ويدفع هذا التّأويل ، ما تقدّم من قول عبيدة بن عمرٍو: ينقض بعضها بعضاً. وروّينا في " كتاب الفرائض " لسفيان الثّوريّ من طريق النّخعيّ قال: كان عمر وعبد الله يكرهان أن يفضّلا أمّاً على جدٍّ.
وأخرج سعيد بن منصورٍ وأبو بكر بن أبي شيبة بسندٍ واحدٍ صحيحٍ إلى عبيد بن نضلة قال: كان عمر وابن مسعودٍ يقاسمان الجدّ مع الإخوة ما بينه وبين أن يكون السّدس خيراً له من مقاسمة الإخوة.
وأخرجه محمّد بن نصرٍ مثله سواءً ، وزاد " ثمّ إنّ عمر كتب إلى عبد الله: ما أرانا إلَّا قد أجحفنا بالجدّ ، فإذا جاءك كتابي هذا فقاسم به مع الإخوة ما بينه وبين أن يكون الثّلث خيراً له من مقاسمتهم ، فأخذ بذلك عبد الله ".
وأخرج محمّد بن نصرٍ بسندٍ صحيحٍ إلى عبيدة بن عمرٍو قال: كان يعطى الجدّ مع الإخوة الثّلث ، وكان عمر يعطيه السّدس ، ثمّ كتب عمر إلى عبد الله: إنّا نخاف أن نكون قد أجحفنا بالجدّ فأعطه الثّلث ، ثمّ قدم عليٌّ ها هنا يعني الكوفة فأعطاه السّدس ، قال عَبيدة: فرأيهما في الجماعة أحبّ إليّ من رأي أحدهما في الفرقة ".
ومن طريق عبيد بن نضيلة ، أنّ عليّاً كان يعطي الجدّ الثّلث ، ثمّ تحوّل إلى السّدس ، وأنّ عبد الله كان يعطيه السّدس ، ثمّ تحوّل إلى
الثّلث.
قوله: (والكلالة) الكلالة بفتح الكاف وتخفيف اللام ، وهو من لَم يرثه أبٌ ولا ابنٌ ، وهو قول أبي بكر الصّديق. أخرجه ابن أبي شيبة عنه. وجمهورِ العلماء من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم.
وروى عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل قال: ما رأيتهم إلَّا تواطئوا على ذلك.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ ، وعمرو بن شرحبيل - هو أبو ميسرة وهو من كبار التّابعين - مشهورٌ بكنيته أكثر من اسمه.
قال البخاري: وهو مصدرٌ من تكلّله النّسب ، أي: تعطّف النّسب عليه ، وزاد غيره: كأنّه أخذ طرفيه من جهة الولد والوالد ، وليس له منهما أحدٌ ، وهو قول البصريّين ، قالوا: هو مأخوذٌ من الإكليل ، كأنّ الورثة أحاطوا به ، وليس له أب ولا ابن.
وقيل: هو من كلَّ يكلّ يقال: كلت الرّحم إذا تباعدت وطال انتسابها.
وقيل: الكلالة مَن سوى الولد ، وزاد الدّاوديّ: وولد الولد.
وقيل: مَن سوى الوالد ، وقيل: هم الإخوة ، وقيل: من الأمّ.
وقال الأزهريّ: سُمِّي الميّت الذي لا والد له ولا ولد كلالةً ، وسُمّي الوارث كلالةً ، وسُمّي الإرث كلالةً.
وعن عطاءٍ الكلالة: هي المال ، وقيل: الفريضة ، وقيل: الورثة والمال ، وقيل: بنو العمّ ونحوهم ، وقيل: العصبات وإن بعدوا ،
وقيل: غير ذلك.
ولكثرة الاختلاف فيها صحّ عن عمر ، أنّه قال: لَم أقل في الكلالة شيئاً.
قوله: (وأبواب من أبواب الرّبا) لعلّه يشير إلى ربا الفضل ، لأنّ ربا النّسيئة متّفق عليه بين الصّحابة، وسياق عمر يدلّ على أنّه كان عنده نصٌّ في بعض من أبواب الرّبا دون بعض، فلهذا تمنّى معرفة البقيّة.
زاد البخاري قال أبو حيّان التّيميّ: يا أبا عمرو - هي كنية الشّعبيّ - فشيء يصنع بالسند من الأرز؟ قال: ذاك لَم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، أو قال: على عهد عمر. أي: اتّخاذ الخمر من الأرز لَم يكن على العهد النّبويّ. وفي رواية الإسماعيليّ: لَم يكن هذا على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو كان لنهى عنه، ألا ترى أنّه قد عمّ الأشربة كلّها فقال: الخمر ما خامر العقل.
قال الإسماعيليّ: هذا الكلام الأخير فيه دلالة على أنّ قوله " الخمر ما خامر العقل " من كلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الخطّابيّ: إنّما عدّ عمر الخمسة المذكورة لاشتهار أسمائها في زمانه، ولَم تكن كلّها توجد بالمدينة الوجود العامّ، فإنّ الحنطة كانت بها عزيزة، وكذا العسل بل كان أعزّ، فعدّ عمر ما عرف فيها، وجعل ما في معناها ممّا يتّخذ من الأرز وغيره خمراً إن كان ممّا يخامر العقل، وفي ذلك دليل على جواز إحداث الاسم بالقياس وأخذه من طريق
الاشتقاق. كذا قال.
وردّ بذلك ابن العربيّ في جواب من زعم ، أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: كلّ مسكر خمر. معناه مثل الخمر، لأنّ حذف مثل ذلك مسموع شائع.
قال: بل الأصل عدم التّقدير، ولا يصار إلى التّقدير إلَّا إلى الحاجة.
فإن قيل: احتجنا إليه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَم يبعث لبيان الأسماء ، قلنا: بل بيان الأسماء من جملة الأحكام لمن لا يعلمها. ولا سيّما ليقطع تعلّق القصد بها.
قال: وأيضاً لو لَم يكن الفضيخ خمراً ، ونادى المنادي حرّمت الخمر لَم يبادروا إلى إراقتها ولَم يفهموا أنّها داخلة في مسمّى الخمر، وهم الفصّح اللّسن.
فإن قيل: هذا إثبات اسم بقياسٍ، قلنا: إنّما هو إثبات اللّغة عن أهلها، فإنّ الصّحابة عرب فصحاء فهموا من الشّرع ما فهموه من اللّغة ومن اللّغة ما فهموه من الشّرع.
وذكر ابن حزم ، أنّ بعض الكوفيّين احتجّ بما أخرجه عبد الرّزّاق عن ابن عمر بسندٍ جيّد قال: أمّا الخمر فحرام لا سبيل إليها، وأمّا ما عداها من الأشربة فكلّ مسكر حرام.
قال: وجوابه ، أنّه ثبت عن ابن عمر أنّه قال: كلّ مسكر خمر. فلا يلزم من تسمية المتّخذ من العنب خمراً انحصار اسم الخمر فيه.
وكذا احتجّوا بحديث ابن عمر أيضاً: حرّمت الخمر وما بالمدينة منها شيء. مراده المتّخذ من العنب، ولَم يرد أنّ غيرها لا يسمّى خمراً.
بدليل حديثه الآخر في البخاري: نزل تحريم الخمر وإنَّ بالمدينة خمسة أشربة كلّها تدعى الخمر ، ما فيها خمر العنب.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. ذِكر الأحكام على المنبر لتشتهر بين السّامعين، وذكر أمّا بعد فيها، والتّنبيه بالنّداء، والتّنبيه على شرف العقل وفضله، وتمنّي الخير، وتمنّي البيان للأحكام، وعدم الاستثناء.