الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي عشر
371 -
عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنه ، أنه قال: استفتَى سعدُ بنُ عبادة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كان على أُمّه، توفّيت قبل أن تقضيَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقضه عنها. (1)
قوله: (عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنّه قال: استفتى سعدُ بنُ عبادة) كذا رواه مالك ، وتابعه الليث وبكر بن وائل وغيرهما عن الزّهريّ عن عبيد الله بن عبد الله. وقال سليمان بن كثير عن الزّهريّ عن عبيد الله: عن ابن عبّاس عن سعد بن عبادة ، أنّه استفتى. جعله من مسند سعد. أخرج جميع ذلك النّسائيّ.
وأخرجه أيضاً من رواية الأوزاعيّ ، ومن رواية سفيان بن عيينة كلاهما عن الزّهريّ على الوجهين.
وابن عبّاس لَم يدرك القصّة كما سيأتي، فتعيّن ترجيح رواية من زاد فيه " عن سعد بن عبادة " ويكون ابن عبّاس قد أخذه عنه.
ويحتمل: أن يكون أخذه عن غيره ، ويكون قول مَن قال " عن سعد بن عبادة " لَم يقصد به الرّواية، وإنّما أراد عن قصّة سعدِ بن
(1) أخرجه البخاري (2610) عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم (1638) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي عتبة عن ابن عباس رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (6320، 6558) ومسلم (1738) من طرق أخرى عن الزهري به.
عبادة فتتّحد الرّوايتان.
قوله: (استفتى سعد بن عبادة) أي: ابن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة يكنى أبا ثابت، وهو والد قيس بن سعد أحد مشاهير الصحابة.
وكان سعدٌ كبيرَ الخزرج ، وأحد المشهورين بالجود، ومات بحوران من أرض الشام سنة أربع عشرة ، أو خمس عشرة في خلافة عمر.
قوله: (في نذرٍ كان على أمّه) هي عمرة بنت مسعود. وقيل: سعد بن قيس بن عمرو. أنصاريّة خزرجيّة.
ذكر ابن سعد ، أنّها أسلمت وبايعت وماتت سنة خمس والنّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل وابنها سعد بن عبادة معه، قال: فلمّا رجعوا جاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فصلَّى على قبرها.
وعلى هذا فهذا الحديث مرسل صحابيّ ، لأنّ ابن عبّاس كان حينئذٍ مع أبويه بمكّة؛ والذي يظهر أنّه سمعه من سعد بن عبادة.
قوله: (توفّيت قبل أن تقضيه) وللبخاري " إنّ أمّي ماتت وعليها نذر " ، وفي رواية قتيبة عن مالك " لَم تقضه "(1).
وفي رواية سليمان بن كثير المذكورة " أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟
(1) لَم أجد هذه الرواية عن قتيبة عن مالك ، وإنما أخرجها أبو داود (3307) عن القعنبي ، والبغوي في " شرح السنة "(10/ 38) من طريق أبي مصعب كلاهما عن مالك. بهذا اللفظ. ولعلّ الشارح أراد القعنبي. أمَّا رواية قتيبة فقد أخرجها الشيخان عنه عن الليث عن الزهري. وهو لفظ رواية العمدة.
قال: أعتق عن أمّك " فأفادت هذه الرّواية بيان ما هو النّذر المذكور، وهو أنّها نذرت أن تعتق رقبة فماتت قبل أن تفعل.
ويحتمل: أن تكون نذرت نذراً مطلقاً غير معيّن. فيكون في الحديث حجّة لمن أفتى في النّذر المطلق بكفّارة يمين، والعتق أعلى كفّارات الأيمان، فلذلك أمره أن يعتق عنها.
وحكى ابن عبد البرّ عن بعضهم: أنّ النّذر الذي كان على والدة سعد صيام، واستند إلى حديث ابن عبّاس في البخاري ، أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله إنّ أمّي ماتت وعليها صوم. الحديث، ثمّ ردّه بأنّ في بعض الرّوايات عن ابن عبّاس: جاءت امرأة فقالت: إنّ أختي ماتت.
قلت: والحقّ أنّها قصّة أخرى، وقد أوضحت ذلك في كتاب الصّيام (1).
تكملة: أخرج البخاري من وجه آخر عن ابن عبّاس ، أنَّ سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إنّ أمّي توفّيت وأنا غائب عنها. فهل ينفعها شيء إن تصدّقت به عنها؟. قال: نعم. الحديث.
ولا تنافي بينه وبين قوله " إنّ أمّي ماتت وعليها نذر ". لاحتمال أن يكون سأل عن النّذر وعن الصّدقة عنها.
(1) تقدّم الكلام على حديث ابن عبّاس رضي الله عنه في كتاب الصيام في العمدة برقم (196) وسيأتي كلام الشارح عن تعيين النذر بعد قليل. بأبسط من ذلك.
وبيّن النّسائيّ من وجه آخر الصّدقة المذكورة. فأخرج من طريق سعيد بن المسيّب عن سعد بن عبادة قال: قلت: يا رسولَ الله إنّ أمّي ماتت، أفأتصدّق عنها؟ قال: نعم. قلت: فأيّ الصّدقة أفضل؟ قال: سقي الماء.
وأخرجه الدّارقطنيّ في " غرائب مالك " من طريق حمّاد بن خالد عنه بإسناد الحديث ، لكن بلفظ ، إنّ سعداً قال: يا رسولَ الله. أتنتفع أمّي إن تصدّقت عنها. وقد ماتت؟ قال: نعم. قال: فما تأمرني؟ قال: اسق الماء.
والمحفوظ عن مالك ما وقع في هذا الباب. والله أعلم.
قوله: (فاقضه عنها) زاد البخاري " فأفتاه أن يقضيه عنها ، فكانت سُنّة بعدُ " أي: صار قضاء الوارث ما على المورث طريقةً شرعيّةً أعمّ من أن يكون وجوباً أو ندباً.
ولَم أر هذه الزّيادة في غير رواية شعيب عن الزّهريّ.
فقد أخرج الحديث الشّيخان من رواية مالك والليث ، وأخرجه مسلم أيضاً من رواية ابن عيينة ويونس ومعمر وبكر بن وائل، والنّسائيّ من رواية الأوزاعيّ، والإسماعيليّ من رواية موسى بن عقبة وابن أبي عتيق وصالح بن كيسان كلّهم عن الزّهريّ بدونها، وأظنّها من كلام الزّهريّ.
ويحتمل: من شيخه.
وفيها تعقّب على ما نُقل عن مالك: لا يحجّ أحدٌ عن أحدٍ.
واحتجّ: بأنّه لَم يبلغه عن أحد من أهل دار الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه حجّ عن أحد، ولا أمر به، ولا أذن فيه.
فيقال لمن قلَّد: قد بلغ ذلك غيرَه؛ وهذا الزّهريّ معدود في فقهاء أهل المدينة، وكان شيخه في هذا الحديث.
وقد استدل بهذه الزّيادة ابن حزم للظّاهريّة ومن وافقهم في أنّ الوارث يلزمه قضاء النّذر عن مورثه في جميع الحالات.
قال: وقد وقع نظير ذلك في حديث الزّهريّ عن سهيل في اللعان لَمَّا فارقها الرّجل قبل أن يأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم بفراقها ، قال: فكانت سنّة.
واختلف في تعيين نذر أمّ سعد.
فقيل: كان صوماً. لِما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، جاء رجل فقال: يا رسولَ الله إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر. أفأقضيه عنها؟ قال: نعم الحديث.
وتعقّب: بأنّه لَم يتعيّن أنّ الرّجل المذكور هو سعد بن عبادة.
وقيل: كان عتقاً. قاله ابن عبد البرّ. واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمّد ، أنّ سعد بن عبادة قال: يا رسولَ الله إنّ أمّي هلكت. فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم.
وتعقّب: بأنّه مع إرساله. ليس فيه التّصريح بأنّها كانت نذرت ذلك.
وقيل: كان نذرها صدقة، ودليله في " الموطّأ " وغيره من وجه آخر عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة عن
أبيه عن جده ، أنّ سعداً خرج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه وحضرت أمَّه الوفاةُ في المدينة ، فقيل لأُمِّه: أوصي، قالت: المال مال سعدٍ؛ فتوفّيت قبل أن يقدم ، فقال: يا رسولَ الله. هل ينفعها أن أتصدّق عنها؟ قال: نعم. وعند أبي داود من وجه آخر نحوه. وزاد: فأيّ الصّدقة أفضل؟ قال: الماء. الحديث.
وليس في شيء من ذلك التّصريح بأنّها نذرت ذلك.
قال عياض: والذي يظهر أنّه كان نذرها في المال أو مبهماً.
قلت: بل ظاهر حديث الباب أنّه كان معيّناً عند سعد، والله أعلم.
وفي الحديث قضاء الحقوق الواجبة عن الميّت.
وقد ذهب الجمهور إلى أنّ من مات، وعليه نذرٌ ماليٌّ أنّه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لَم يوص ، إلَّا إن وقع النّذر في مرض الموت فيكون من الثّلث.
وشرط المالكيّة والحنفيّة. أن يوصي بذلك مطلقاً.
واستدل للجمهور بقصّة أمّ سعد هذه، وقول الزّهريّ: إنّها صارت سنّةً بعدُ، ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها أو تبرّع به.
وفيه استفتاء الأعلم، وفيه فضل برّ الوالدين بعد الوفاة والتّوصّل إلى براءة ما في ذمّتهم.
وقد اختلف أهل الأصول في الأمر بعد الاستئذان. هل يكون كالأمر بعد الحظر أو لا؟.
فرجّح صاحب " المحصول " أنّه مثله، والرّاجح عند غيره أنّه للإباحة كما رجّح جماعةٌ في الأمر بعد الحظر أنّه للاستحباب.
وفيه أنّ ترك الوصيّة جائز ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لَم يذمّ أمّ سعد على ترك الوصيّة ، قاله ابن المنذر.
وتعقّب: بأنّ الإنكار عليها قد تعذّر لموتها وسقط عنها التّكليف.
وأجيب: بأنّ فائدة إنكار ذلك لو كان منكراً ليتّعظ غيرها ممّن سمعه، فلمّا أقرّ على ذلك دلَّ على الجواز.
وفيه ما كان الصّحابة عليه من استشارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أمور الدّين.
وفيه الجهاد في حياة الأمّ وهو محمول على أنّه استأذنها.
وفيه السّؤال عن التّحمّل والمسارعة إلى عمل البرّ ، والمبادرة إلى برّ الوالدين.
تكميل: قال البخاري: وأمر ابن عمر امرأةً جعلت أمُّها على نفسها صلاة بقباءٍ - يعني فماتت - فقال: صلّي عنها. (1)
وأخرج مالك عن عبد الله بن أبي بكر. أي: ابن محمّد بن عمرو بن حزم عن عمّته ، أنّها حدّثته عن جدّته ، أنّها كانت جعلت على نفسها مشياً إلى مسجد قباءٍ فماتت ولَم تقضه ، فأفتى عبد الله بن عبّاس ابنتها أن تمشي عنها.
وأخرجه ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ عن سعيد بن جبير. قال مرّة:
(1) لَم يذكر الشارح رحمه الله مَن وَصَل هذا التعليق عن ابن عمر رضي الله عنه ، لا في الفتح ولا في كتابه " تغليق التعليق "
عن ابن عبّاس قال: إذا مات وعليه نذر قضى عنه وليّه.
ومن طريق عون بن عبد الله بن عتبة ، أنّ امرأة نذرت أن تعتكف عشرة أيّام فماتت ولَم تعتكف ، فقال ابن عبّاس: اعتكف عن أمّك.
وجاء عن ابن عمر وابن عبّاس خلاف ذلك.
فقال مالك في " الموطّأ ": إنّه بلغه ، أنّ عبد الله بن عمر كان يقول: لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ ، ولا يصوم أحدٌ عن أحد.
وأخرج النّسائيّ من طريق أيّوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس. قال: لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ ، ولا يصوم أحد عن أحد.
أورده ابن عبد البرّ من طريقه موقوفاً ، ثمّ قال: والنّقل في هذا عن ابن عبّاس مضطرب.
قلت: ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حقّ من مات ، والنّفي في حقّ الحيّ.
ثمّ وجدت عنه ما يدلّ على تخصيصه في حقّ الميّت بما إذا مات وعليه شيء واجب ، فعند ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ: سئل ابن عبّاس عن رجل مات وعليه نذر. فقال: يصام عنه النّذر.
وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله " صلي عنها ". العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث. فعدّ منها الولد ، لأنّ الولد من كسبه فأعماله الصّالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره، فمعنى صلي عنها أنّ صلاتك مكتتبةٌ لها ولو
كنت إنّما تنوي عن نفسك.
كذا قال ، ولا يخفى تكلّفه. وحاصل كلامه تخصيص الجواز بالولد، وإلى ذلك جنح ابن وهب وأبو مصعب من أصحاب الإمام مالك.
وفيه تعقّب على ابن بطّال حيث نقل الإجماع ، أنّه لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ لا فرضاً ولا سنّة. لا عن حيّ ولا عن ميّت.
ونقل عن المُهلَّب ، أنّ ذلك لو جاز لجاز في جميع العبادات البدنيّة ، ولكان الشّارع أحقّ بذلك أن يفعله عن أبويه، ولما نهي عن الاستغفار لعمّه، ولبطل معنى قوله {ولا تكسب كلّ نفسٍ إلَّا عليها} . انتهى
وجميع ما قال لا يخفى وجه تعقّبه. خصوصاً ما ذكره في حقّ الشّارع، وأمّا الآية فعمومها مخصوص اتّفاقاً. والله أعلم.
تنْبيهٌ: ذكر الكرمانيّ أنّه وقع في بعض النّسخ. قال: صلي عليها. وجّه بأنّ " على " بمعنى " عن " على رأيٍ.
قال: أو الضّمير راجعٌ إلى قباءٍ.